لحن الحرية والصمت

الشعر الألماني في القرن العشرين

(١) تمهيد الأرض

تتميَّز الحياة الأدبية في مَرحلةٍ زمنية مُعينة وفي ظلِّ الظروف السوية، بأن إنتاج الجيل السابق يَبلغ ذروته الناضجة، فلا يكون على الجيل اللاحق إلا أن يُواصِل السير على طريقه، أو يرفع في وجهه راية العصيان، ولكن الأوقات التي تشتعل فيها الأزمات قد تُؤدِّي بالصراع الطبيعي بين الأجيال إلى القطيعة والحرب المُهلكة، والأدب الألماني بعد الحرب العالمية الأولى شاهدٌ على هذا؛ إذ اندفع أصحاب الحركات التعبيرية — التي ازدهرت وانطفأت في حوالي عشر سنين١ — في هجومهم على الأجيال السابقة، وأصبح أدبهم بأجمعه صرخة حارَّة في سبيل أدبٍ جديد يُعبِّر عن إنسانٍ جديد وقيَم جديدة تُحقِّق العدل والحرية والكرامة والإخاء البشري.

أما بعد الحرب العالمية الثانية، فإن المَوقِف مختلف تمام الاختلاف، لقد انشقَّ الجيل السابق على نفسه بسبب الطغيان النازي الذي اضطرَّ أنبل الأصوات إلى الهجرة أو النفي أو الصمت، كان هناك الأدب الذي أنتجه المُهاجرون، ولا يَزال قسمٌ كبير منه مجهولًا، وما عرف منه لم يتغلَّل بعدُ في وعي القراء والأدباء، وكان هناك أدب الكتَّاب الذين فضلوا البقاء في بلادهم أو اضطرُّوا إليه، ونشروا كتبهم في ظلِّ الطغيان (ولا يعني هذا بطبيعة الحال أنهم انضووا تحت لوائه القذر).

تسبب هذا الصدع في تشويه الصراع الطبيعي بين الأجيال على أنحاءٍ مختلفة، وجاءت الأجيال الشابة فبدأت الحساب الشامل مع الأجيال السابقة على سنة الكارثة (١٩٤٥م)، ثم أخذت تتطلَّع لحوارٍ آخر مع أدب المُهاجِرين الذي بدأ يعود بالتدرُّج إلى وطنه الأصلي، وتبين للأجيال الشابة أن جيل المهاجرين جيلٌ مُختلِف عنهم، وأن أصحابه الذين قاوموا الطغيان وتنبئوا بسقوطه ليسوا رفاقهم في السلاح، وتعذر على الشباب أن يجدوا نقطة الالتقاء مع الجيل الذي سبق الكارثة، فكان عليهم أن يبدءوا من نقطة الصفر المخيفة،٢ ولكنهم من ناحيةٍ أخرى لم يُعدموا فرصة اللقاء مع أدبٍ عظيم آخر كانت بلادهم قد فقدت الصلة به تمامًا؛ ألا وهو الأدب الأوروبي والأمريكي، ونشطت حركة الترجمة عن الإنجليزية والفرنسية بوجهٍ خاص، وشارك فيها أدباء ما بعد الحرب بنصيبٍ موفورٍ، وتعرَّف القُرَّاء على أسماءٍ كبيرة ولامعة في الرواية، مثل: جويس وبروست، وهنري جيمز وفرجينيا وولف، وهمنجواي وشتينبك وتوماس وولف فوكنر، بالإضافة إلى كافكا الذي كان مجهولًا لهم حتى كتب عنه توماس مان ونشر أعماله ماكس برود، كما عرَفُوا أشعار باوند وإليوت وأودن وديلان توماس، وإنجاريتي ومونتاله وخيمينث ولوركا وجين وألبرتي ونيرودا، وبريتون وميشو وإلوار ورينيه شار وغيرهم وغيرهم من الشعراء والكتاب الذين استوعبتْهم القارة، وبقيَ على الأديب الألماني أن يقرأهم ويتأثَّر بهم ويتحاور معهم، ولقد أقبل الأديب الألماني على هذا الزاد الوافد بشهيةٍ مفتوحةٍ أوشكَت أن تُفسدَ معدته! ولم يستطع في البداية أن يتمثلهم ويبرأ من تأثيرهم، فكاد أن يفقد شخصيته ويُضيع فرديتَه، وجديرٌ بالذكر أن بعض الشباب ترجموا للشعراء الأوروبيين أو الأمريكيين، نذكر منهم على سبيل المثال: إنجبورج باخمان التي ترجمت إنجاريتي، وباول رسلان الذي ترجم رامبو وكوكتو ورينيه شار وإلكسندر بلوك وسرجي إيزينين وأوسيب باندلستام، واريش فريد الذي ترجم ديلان توماس وكارل كرولوف الذي ترجم عن الشِّعر الفرنسي والإسباني، إلى جانب عددٍ من النقاد والدارسين الذين أسهموا في هذه الحركة النشيطة.

وهنا نجد مَلمحًا يسري على الشِّعر كما يسري على الرواية، على اختلاف الأسلوب والموضوع والرؤية، وهو محاكمة الماضي، وتعرية أوهام الأجيال السابقة وآمالها الكاذبة في المستقبل، ومواجَهة قيم الواقع والحضارة والمدنية والتقدم … إلخ، على ضوء الكارثة البَشِعة والمستقبل الضائع والماضي الذاهب بلا عَودة، تلاشى الأمل الساذج في مستقبلٍ إنساني ومثالي، واختفى الإيمان الطيب بماضٍ يُرجى إحياؤه وبعثه، وبقي على الأديب أن يحدق في هوةٍ واقع خرب بغيض لا يحتمل!

وليس معنى هذا أن الأدب صار محدودًا بالواقع، بل معناه أنه اكتشف آفاقه اللامتناهية التي يحقِّق فيها إمكانياته المحدودة، بعد أن أغلق باب المستقبل في وجهه، ونفض يديه من ماضٍ ثبت خداعه، صحيحٌ أنه عزف عن رسم صورة الإنسان في المستقبل أو استلهام صورته من الماضي، ولكنه — وهذا هو سرُّ اتِّصال التراث الذي لا يستطيع أحدٌ أن يُنكِره مهما تنصَّل منه — قد استأنف التجربة العظيمة التي يتميَّز بها الأدب الألماني منذ أجيال: كيف يربى الإنسان؟ أو بالأحرى: كيف يستطيع الإنسان أن يحقق نفسه في هذا العالم؟ وسواء أجاب عليه — كما فعل بعد الحرب — باتهام المجتمع والبيئة أو القول بأن الإنسان حصيلة ظروفه ووضعه، فإنه لم يَستطِع في الحالين أن يكف عن إلقاء هذا السؤال الذي شغل به أدبه على مر العصور، ولم يستطع أن يعفي نفسه من مسئولية هذه الأمانة التي تقتضي منه الوعي بواقعه، والشهادة على عصره الذي يحاصره من كل ناحية، وليس عجيبًا بعد هذا أن يغلب الطابع الأخلاقي بوجهٍ عام على أدب ما بعد الحرب، وأن يذهب الشعر والقصة والمسرحية والمقال والتمثيلية الإذاعية في حساب الضمير كل مذهب، وهذا يؤكد صدق عبارة الفيلسوف الإسباني أورتيجا جاسيت، حين قال: «إنَّ الإنسان يضطرُّ إلى الفعل بوحيٍ من ضميره وشعوره بالمسئولية، حين يُعجزه الوهم والخيال عن التحليق …»

لعل الدهشة أن تكون هي الدليل المُقنع على جودة عددٍ كبير من القصائد التي كتبت بعد الحرب، الدَّهشة من قدرة الأديب الألماني على الكتابة والإبداع على الرغم من كل شيء … على الرغم من كل ما كابده وكابدته بلاده — في ساعة الصفر المُخيفة — من جوعٍ وشقاء وذلٍّ وخراب، ولن تكفيَنا الصفحات الطوال للحديث عن كل ما تَنطوي عليه عبارة «على الرغم من …» وقد يكون أول ما يردُ على الخاطر أن الشعر استطاع أن يعري الواقع من أقنعته الزائفة، وأن يَصمد له ويتحدَّاه وجهًا لوجه، ويطرح كلمات وتعبيرات كانت عزيزة على المعجم الشعري الموروث، فأصبحت أكاذيب تُثير الضحك والسخرية! ومن الصعب أن نؤلف بين أشعار ما بعد الحرب في نسقٍ معين؛ لأن معنى هذا أن نتسرع بفرض النظام على واقعٍ متفجر مضطرب لم يعرف النظام.

وقد تُساعدُنا النظرة العاجلة إلى المجموعات التي توالت في الظهور على تبيُّن بعض الخصائص التي يُمكن — مع الحذر الواجب! — أن تَهدينا إلى خيطٍ أو خيوطٍ مشتركة بينها، ففي سنة ١٩٤٨م ظهرت مجموعةٌ شعرية لجنتر آيش٣ (١٩٠٧–١٩٧٢م) بعنوان «أحواش نائية» Abgelegene Gehöfet، وظهرت معها بعض «العلامات» الدالة على طابع الشِّعر المعاصر: الصور التي لم تأتِ من الأفكار، بل ألَّفت بينها مجموعة من التركيبات اللفظية والصوتية، الاقتصار على «الهنا» و«الآن»، «تعقيل» اللغة إلى الحد الذي أصبحت معه قادرة على استيعاب الواقع الجديد بلا صيغٍ مسبقة أو كليشهات محفوظة، التشكُّك في العواطف والمشاعر التقليدية المتجانسة إزاء واقعٍ قاسٍ مجرد من كل عاطفة وتجانس، تجريد الشعر من عاداته القديمة وكأنه مريض يعالجه الطبيب من أدوائه المزمنة، واحتفاظه مع ذلك بنبض الشعر وعصبه الحي، على الرغم من مبضع الجراح وأدواته الحادة! ولا نُبالغ إذا قلنا: إن عذاب الأسر والاعتقال والجوع والحيرة المطلقة أمام الأسئلة المصيرية «من أين؟ وإلى أين؟» التي أصبحت تُغرَز في جلد البشر بعد أن كانت من نوع القلق الفلسفي والميتافيزيقي الذي علاه الصدأ — كل هذا جعل الشعر ضرورة ملحَّة كالخبز والماء والعلب المحفوظة، التي كان يعيش عليها الشُّعراء بعد المِحنة!
وبدأ الحوار النقدي مع الأسلاف، وسؤال النفس وحسابها، وبحث الشاعر عن اتجاهه وطريقه في ديوانٍ لاحق لنفس الشاعر هو «رسائل المطر Botschaften des Regens»، أو في قصائد كارل كرولوف Karl Krolow (١٩١٥م–…)، تحوَّلت القصيدة إلى أداةٍ لا غنى عنها، سكين أو فتاحة علب محفوظة، إنها تستخدم في غرضٍ حيوي أو يومي، دون أن يَكترث الشاعر في كثيرٍ أو قليل بقيمة ما ينتجه، بل دون أن يسأل نفسه إن كانت له قيمة على الإطلاق، فالشاعر الذي تألم وجاع وأُهين في مُعسكرات الأسر والاعتقال والسُّخرة، وراح يَلتقط أعواد القش أو أدوات التعذيب والعِصيِّ التي ضُرب بها ليصنع منها آلة موسيقية يَعزف عليها، أو زخرفة تُعزِّيه عن الجمال الذي حُرم منه؛ هذا الشاعر لن يُبالي بقيمة ما يَكتب، لقد تخلَّى عن طموح سلفه القديم ودعاواه العريضة وأحلامه الضخمة، وردَّ الشِّعر إلى وظيفته البدائية عندما كان مُرتبطًا بضرورات الحياة الأولية ارتباط الأخ بإخوته، وعندما كان ينشر رموزه وعلاماته السحرية في حقل التجربة البشرية الضيق المحدود، إنه لا يَحلُم بإنشاء أسطورة أو سرد حكاية؛ لأنه يعي الأخطار المحدقة به من كل ناحية، أقصى ما يتطلَّع إليه أن يتمتم لنفسه بتعاويذه السحرية؛ ليحميها من الخطر المباشر الذي يتهدَّده، إنها ليست حكايات أو أساطير يرويها الآخرين، ولا هو يُضني نفسه بالتماس الكلمة العذبة الرنين أو اللحن الموسيقي الصافي — كما كان يفعل آباؤه من الرومانتيكيِّين الجدد أو الرمزيين مثل: رلكه وجورجه وهسه … إلخ — وليسَت القصيدة التي يفزع إليها من قبيل السحر؛ لأنه لا يبالي إن خرجت تعاويذه وتَمتماته لنفسه، كما تخرج همهماته الآلات الصاخبة أو نشيج الأطفال الجياع، أو أصوات الأطلال المتداعية في المدينة المحتضرة …
ومع هذا، فإن الشاعر إذا كان لا «يسحر» ولا «يُطرب»، فهو لا يحرم نفسه من حرية اللعب، ها هو ذا واحدٌ من أشعر أبناء الجيل القديم — وهو كرستيان مورجنشتيرن (١٨٧١–١٩١٤م) Christian Morgenstern يستنكر على بني وطنه ما اتهمهم به نيتشه من «الجد الوحشي»، فيبعث بنَماذجه العجيبة في «أغاني المشنقة» (١٩٠٥م) Galgenlieder عبثه البريء العميق الساخر، وها هو ذا يواخيم رنجلنتز (١٨٨٣–١٩٣٤م) Joachim Ringelnatz يَستسلِم لخواطره العذبة الضاحكة التي تنبعث من حياته الشريدة البائسة، فإذا بالجدد على لسان جنتر جراس (١٩٢٧م–…) Gunther Grass وفولفجانج فايراوخ (١٩٠٧م–…) Wolfgang Weyrauch وهانز ماجنوس إنسنز برجر (١٩٢٩م–…) Hans Magnus Enzensberger، وفالتر هولرر (١٩٢٢م–…) Walter Hollerer، وغيرهم يصلون بالمغامرة إلى مداها، ويلجئون للصور والمعاني القديمة لإبراز تفاهتها وعدم جدواها، ويلعبون أو بالأحرى يعبثون بالحيل والأساليب الفنية الموروثة؛ ليَزيدوا التأثير حدةً والوعي يقظةً وتوترًا.
ولعلَّ أهم ألوان هذه المخاطرة أو هذا العبث أو هذا التجريب، أن يكون هو اكتشاف «الدادية» التي تأسَّست أثناء الحرب الأولى وبعدها بقليل، أو بالأحرى إعادة اكتشافها من جديد، مع التخلي عما كان فيها من تهويلاتٍ وبهلوانيات وفرقعاتٍ لفظية، والحرص على ما يُمكِن أن تقدمه من طاقاتٍ تجريبية هائلة، والتفتَت الأنظار إلى الشاعر والرسام والنحات هانز آرب Hans Arp. (١٨٨٧م–…)، الذي كان من أوائل مؤسِّسي الحركة، وبدأ الشباب يتأثَّرون به في قصائدهم التجريبية وبزميله كورت شفيترز Kurt Schwitters (١٨٨٧– ١٩٤٨م)، وما زالت هذه التجارب تَجري اليوم على قدمٍ وساق، وتُهدِّد بكسر رقبة الشعر وإلغاء الشاعر نفسه من القصيدة؛ ولهذا فسوف نقف عندها بعد قليلٍ وقفةً قصيرة.
ولا يُمكننا أن نتحدث عن الشاعر الألماني بعد الحرب الثانية، بغير أن نلفت نظر القارئ إلى جوهر هذا الشِّعر نفسه وطبيعته في هذا القرن، وما بقيَ منه بعد الحرب أو بعد ساعة الصفر، إن الشعر الألماني — كما يقول الشاعر الكبير كارل كرولوف ٤ — كان دائمًا من وحي الساعة، وعكس على طريقته الجانب الموقوت المحدود بالظروف السياسية والاجتماعية، فبدا بدَورِه موقوتًا ومرهونًا بظروفه — ولم يكن الاتصال من طابع القصيدة الألمانية فيما مضى من تاريخها، ولا أظنُّ أنه كان طابعها في أي أدبٍ من الآداب، لقد كان دائمًا شعرًا يتَّسم بالجهد والعناء، ولا يطفر طفرةً حتى تستهلك، ولا يتصل بالتراث حتى يعلن عليه القطيعة — أي إنه كان مَرهونًا بظروف بلده ومُبدعه في أغلب الأحوال؛ لهذا فقد الهدوء والاستقرار اللازمين لتطوُّره في مرحلةٍ معيَّنة من تاريخه — ولهذا أيضًا يتحتم علينا أن نرصد موقفه وردود فعله على الأزمات التي هزت وطنه في سنوات ١٩١٤ و١٩١٨ و١٩٣٣م.

كانت القصيدة تهرب من مواجهة الأزمة، أو تنقل رد الفعل إلى عالمٍ جمالي مُنعزِل، ربما لأنها تعوَّدت على أنماطٍ معيَّنة من ردود الفعل، لم تستطع أن تخرج عليها أو تتخلَّص منها، فلم تلبث في كل أزمةٍ واجهتها أن عادتْ إلى نفسها ولاذت بوحدتها، يؤكد هذا أنها عندما حاولت أن تخرج من عزلتها التقليدية — كما حدث مثلًا في بداية الحرب العالمية الأولى — تفجَّرت لفترةٍ محدودة، فبدت محمومة، مُسرفة في الشطط والجموح، وشوهت نفسها بنفسها، وشعر التعبيريين الذين أشرنا إليهم إشارة عابرة فيما سبق، مثل واضح على هذه الهزة المفاجئة التي استنفدت إمكانياتها، وكشفت عن عجزها، فانطفأت شعلتها المَشبوبة في فترةٍ قصيرة كعمر الزهور، لقد عبرت قصيدتهم عن صرخةٍ نبيلة متأجِّجة بالعاطفة الصادقة — ولكن لم يَلبث الشلل أو الموت أن ران عليها وأخمد أنفاسها، وكأن نجاحها السريع كان السبب في إخفاقها السريع.

ولعلَّ هنا سببًا آخر لهذا التوقف المفاجئ الذي يعتري الشعر الألماني في معظم مراحل تطوره، ذلك أنه — شأن الشعر في كل الآداب — يصدر عن أناسٍ متوحدين مع أنفسهم، عن طاقاتٍ متفرقة تميل إلى التصادم والتصارع أكثر مما تميل إلى الانضواء تحت لواء حركة أو مدرسة متجانسة (وما أكثر الحركات والمدارس في تاريخ الأدب الألماني بوجهٍ عام، وما أكثر ما كانت تلتئم لتفترق، وتتحد لتنفصم!)؛ ولهذا فقد يكون من الأنسب أن نتحدث مثلًا — في سياق الكلام عن تطور هذا الشعر حتى أواخر الثلاثينيات — عن شُعراءٍ تعبيريين مثل: تراكل وهايم وبن٥ وبرشت في المرحلة الأولى من تطورهم، بدلًا من الحديث عن حركةٍ تعبيرية عامة تنكر لها معظمهم أو فقد الصلة بها، أو لجأ إلى أحضان القصيدة السياسية مثل: يوهانيس بيشر (١٨٩١–١٩٥٨م) Johannes Becher، أو مات أو لاذ بالصمت أو آثر الانتحار.

ولكن إصابة القصيدة بالشلل بعد انطفاء الحركة التعبيرية لا يعني أنها توقفت، لقد ظلت باقية، وإن كان البقاء لا يعني الحياة، أخذت تجترُّ أيامها أو تَحملها على ظهرها، ولم تجد القدرة أو الشَّجاعة على التجربة والمغامرة، وسقط مُعظَم أصحابها الذين لم يُهاجِرُوا من وطنهم ضحية الفاشية، والتيار الوحيد الذي نجا من هذا المصير وتشبث بالراية بعد احتضار التعبيرية هو شعر الطبيعة — (وقد كان التغنِّي بالطبيعة الجليلة الغامضة من أبرز ملامح الشِّعر الألماني فتاريخه يرجع إلى أكثر من مائتي عام، منذ أيام البرشت فون هالر (١٧٠٨–١٧٧٧م)، بل منذ أيام بروكيس (١٦٨٠–١٧٤٧م)، حتى أيام جوته (١٧٤٩–١٨٣٢م) وهلدرلين (١٧٧٨–١٨٤٢م) وأيشندورف (١٧٨٨–١٨٥٧م)، والشاعرة العظيمة أنيته دروسته – هيلز هوف (١٧٩٧–١٨٤٨م))، هرب الشاعر إذن من جبروت السُّلطة أو تعاسة الواقع إلى معبد الطبيعة، وراح يُداوي جراحه أو يَلتمِس النجاة من الرعب والوحشية، أو يتزود منها بالإيمان والعزاء، ولا شك أن شعر الطبيعة هو الشعر الوحيد الذي استطاع أن ينقذ نفسه من الكارثة الشاملة، فبقي وحده في الميدان، وتلقَّفَه المُحافظون العظام فنوعوا فيه ووسعوا آفاقه.

والمحافظون يتمتَّعون دائمًا بطول العمر، ويُجيدون «المحافظة» على أنفسهم في أسوأ الأحوال، لقد لجئوا إلى عُزلتهم أمام الضرورة القاسية، وعكفوا على شعر الطبيعة الذي لم تُفكِّر يد الإرهاب في مصادرته أو إحراقه، وبذلوا جهدهم في الإبقاء على قصيدة الطبيعة فلم يطمحوا إلى تغييرها وتجديدها، واعتصمُوا بسطح الماء، بينما كان طوفان التجديدات الثورية يزحف على الأبواب!

والعجيب أن الذين بدءوا بعد سنة ١٩٤٥م في إرساء القصيدة الألمانية على أساسٍ جديد كانوا من الأسماء المعروفة التي تتمتَّع بالاحترام والتقدير، وقد حظيت مجموعاتهم التي صدرت بعد الحرب بنجاحٍ كبير، وأقبل عليها القراء أيما إقبال، نذكر من بينها «يوم الغضب» Dies Trae للكاتب القدير المتديِّن فيرنر برجنجرين (١٨٩٢–١٩٦٤م) Werner Bergengruen، و«عقيدة البندقية» Venezianisches Credot لرودلف فون هاجلشتنجه Rudolf Hagelstange (١٩١٢م–…)، وكان في ذلك الحين موهبةً شابة تسعى على الدرب المحافظ، وإن قدمت شهادةً نادرة على قدرة الشعر على المقاومة، (وقد صدرت المجموعتان الأخيرتان في سنة ١٩٤٥م).
وبينما كان شعر الطبيعة عند المحافظين والمجدِّدين يمضي في طريقه إلى التطور، وكان شعر «المحنة والأطلال» — وهو رد فعل عاطفي مباشر للحيرة واليأس والفوضى والذهول الذي جاء في أعقاب الحرب — قد خبَأ وانطفأ في حوالي سنة ١٩٤٨م، طرأت على القصيدة الألمانية بعد سنة ١٩٥٠م تغيُّرات شاملة، كانت في مجموعها أقرب إلى روح المغامرة الجسورة، كان بعض هذه التغيُّرات من وحي الساعة، وكان بعضه الآخر تأثُّرًا ومحاكاة للشعر الأوروبي الزاحف، سواء منه الشعر الأبوللي أو العقلي المحض، أو الشعر الديونيزي٦ الذي يغترف من ينابيع الخيال وغياهب العقل الباطن والأحلام والكوابيس، أو الشعر السياسي الملتزم.
ولعلَّ أول مَنْ يخطر على البال في هذا المقام شاعران كبيران، كان لهما تأثيرٌ ضخم على مجموعةٍ من الشعراء الذين يمارسون نشاطهم في هذه الأيام، وهما: جوتفريد بن (١٨٨٦–١٩٥٦م) Gottfried Benn، وبرتولد برشت (١٨٩٨–١٩٥٦م) Berthold Brecht، أما جوتفريد بن — الذي وُلد ومات في برلين، وكان طبيبًا للأمراض الجلدية والتناسُلية — فقد سطع نجمه وتوهج في سماء الشعر الألماني المعاصر حتى أوشك أن يُطفئ كل مَنْ عداه، وأثَّر بقصائده ومحاضراته ومقالاته تأثير السحر، أو تأثير المُخدِّر على الأجيال الشابة والمخضرمة جميعًا، وبدا لفترةٍ طويلةٍ وكأنه قد احتلَّ مكان الشاعر العظيم رلكه، كان بن قد رحَّب بالنظام النازي في بدايته، وتوهم أنه سيخلص بلاده من الجمود والعقم والعدمية، فلما تبيَّن خطأه الرهيب لزم الصمت اثنتَي عشرة سنة، بعد صدور «قصائده المختارة» Ausgewählte Gedichte سنة ١٩٣٦م، ثم ظهرت «قصائد الساكنة» Statische Gedichte في سويسرا سنة ١٩٤٨م، مُعلنةً عن عودته إلى الأدب بعد غيبةٍ طويلة.
واختتم بن نشيده أو بالأحرى نشيجه الشِّعري العظيم في الفترة الواقعة بين سنة ١٩٤٩م — حين أصدر ديوانه الطوفان النشوان — Trunkene Flut، وسنة ١٩٥٤م عندما ظهرت مجموعته «لحن ختامي» Apreslude قبل موتِه بسنتين، وقصائده «الأيام الأولى» Primare Tage التي ظهرت سنة ١٩٥٨م بعد وفاته.

ولعلَّ المجد الذي حظي به «بن» في هذه السنوات المتأخرة التي وصفها بالمرحلة التعبيرية الثانية في حياته كان نتيجة نوع من سوء الفهم … فقد خلتْ قصائده الأخيرة من ذلك الوهج الشاذ، الذي تميَّزت به أشعار رجل كتب قبل ذلك بثلاثين أو أربعين سنة، أدق وأغرب شعر عرفه ذلك العصر.

كانت قصائده التي ظهرت بعد الحرب قد فقدت كثيرًا من العنف والتحدِّي الذي تَميَّز به؛ الكلمات ذات المعاني المتعددة الطبقات والمستويات، والاصطلاحات العِلمية والحضارية المختارة من بحرٍ ثقافي فياض، والأساطير والرموز المستمدة من رُوح البحر الأبيض المتوسط.

سحر «بن» القراءة فترة طويلة، ولكن السحر عمره قصير، فلم تلبث الأجيال الشابة أن تحررت من موهبته الخطرة، وطغت عليه أسماء أخرى أخذت تُقدم للقارئ صدق التعبير وشجاعته، ولا تبهره بسحر الألفاظ الغريبة المُخدِّرة، ولعلها أيضًا أن تكون قد انصرفت عن كثيرٍ من القيم الفنية والروحية التي تَنتمي للقرن التاسع عشر، والتي كانت لا تزال باقية في أعمال «بن».

أما برشت٧ فكانت شُهرته أكثر إصرارًا وأشد عنادًا من «بن»، الذي مات قبله بأسابيعَ قليلةٍ في برلين، ولم تأتِ هذه الشهرة وحسب من أعماله المسرحية التي غزت مسارح العالم في الشرق والغرب، ولا مِن نظريته عن المسرح الملحمي التي دعمها بكتاباته النقدية العديدة، بل جاءت كذلك من قصائده التي كتب لها طول العمر؛ لأنها ارتبطت بموقفٍ فكري وأخلاقي صُلْب لا يلين، وهذا هو الذي يجعله الشاعر الوحيد بين شعراء وطنه، الذي لم يضعف إنتاجه ولم يتغير أو ينقطع منذ أن هاجر منه سنة ١٩٣٣، وراح على حدِّ قوله: «يغير بلدًا ببلدٍ كما يغير حذاء بحذاء» … كان قبل هجرته قد بلغ مكانةً مرموقة في الأدب، ثم أنضجته سنوات التجوال والعذاب، وصارت لغته أكثر اقتصادًا وإيجازًا، وتوارت لهجته التعليمية أو كادت، واكتسب وجهه الأدبي قناع الحكيم الشَّرقي الماكر الحزين، وشغلت الحياة الأدبية بمسرحه كما شغلت بقصائده الملتزمة الهادئة، ولعلَّها ستظلُّ مشغولة به بعد أن تضاءل تأثير «بن»، وخبت هالة السِّحر التي شعت من صنعته الفنية الباهرة.

وشعر «برشت» يخلو من الكلمات الضخمة، حتى ليوشك أن يُحذرنا من الشعر نفسه بمعناه التقليدي (أو بالأحرى بكل أمراضه البرجوازية!)، ونحن نظلم برشت إن قلنا أن شعره سياسي، وقد ننصفه لو قلنا أنه في مجموعة شعر نقدي أو موضوعي أو عقلاني، نضرب لهذا مثالًا بإحدى قصائده التي يتحدث فيها أحد سكان الغرف المؤجرة في المدينة الكبيرة، إلى إحدى الأشجار التي تنمو في فناء البيت الذي يسكن فيه، إنه يخاطبها كما لو كانت تمثل نظامًا يستبعده ويَنبذه ويَنفيه، فالشجرة هنا «ملك» صاحب البيت، والشاعر يكلمها ويتذكَّر أسلافه الذين عاشوا مع الطبيعة في مودةٍ وألفة، واستطاعوا أن يتحدَّثوا عنها أو معها حديث الحبيب للحبيب، أما هو فتَفصله عنها مسافة البعد — ولا بدَّ أن يخاطبها باحترام! ومعنى هذا أن الواقع الذي يَحيا فيه الشاعر يحدث فيه شيء أهم، شيءٌ يعنيه أكثر مما تعنيه كل العواطف التقليدية التي نُسميها شعرًا، إن مجرد اعتبار صاحب البيت أن الشجرة ملكٌ له، وإثبات حقه المطلق في التصرُّف فيها يغضبه ويستفزه للهجوم عليه، وموقفه هو موقف مَنْ يرفض أن يغمض عينيه على الفظائع التي ترتكب أمامه، ويأبى السكوت على نظامٍ فاسدٍ أو الهرب منه إلى نظامٍ آخر لا يقلُّ عنه فسادًا وزيفًا، فليواجه إذن هذا النظام ويُمسك الثور من قرونه، بدلًا من الفرار إلى نظامٍ لغوي أو فني متضخم بالكلمات الطنانة والعواطف الكاذبة، وليكن شعره أداة النظر الموضوعي والعقلي البارد المصقول كالسيف، وليجتثَّ به أدغال المبالغة والعُذوبة المسمومة والزيف!

و«برشت» في الحقيقة يُمثل مشكلة بالنسبة للنقد الحديث، فالحكم الموضوعي عليه في هذه المرحلة التاريخية يكاد يكون مُستحيلًا؛ لأن أعماله التي تركها بعد وفاته لم تنشر كلها بعد؛ ولأنَّ موجة التحمس له أو السخط عليه لم تَنحسِر إلى اليوم، كما أن موقفه من التطبيق العملي للاشتراكية في النظام الذي عاش سنواته الأخيرة في ظله وموقف هذا النظام منه لم يتضحا كل الوضوح، هذا إلى أن الموضوعية التامة المطلقة (وهي فيما أظنُّ تكاد تكون مستحيلة في الأدب أو في غيره من الفنون والعلوم) تتنافى مع صميم إنتاجه والغاية منه، فنحن إن اعتبرنا الشقاق بين مذهبه النظري وبين الممارسة العملية، وحاولنا أن نحسب له أو عليه ظلمناه في الحالين؛ لأنه سيكون في الحالة الأولى مثاليًّا أو «يوتوبيًّا» بغير نزاع، وسيكون في الحالة الثانية مُروِّجًا أو داعية لمذهبٍ أو نظرية، تجمَّدت في مرحلةٍ معينة من مراحل تطورها، واعترفت هي نفسها بضرورة تجدُّدها وإذابة ثلوجها، ونحن مضطرُّون في الوقت الحاضر على كل حالٍ إلى التفرقة بين القيمة الفنية التي تنطوي عليها أعماله، وهي قيمة لا شك فيها، وبين النظرية أو المذهب الذي دافع عنه، وليس من حقنا على أية حال أن نتشكَّك في إخلاصه الدائم للاشتراكية، وجموع الكادحين والفقراء والمضطهدين في كل مكانٍ وزمانٍ.

كان من الطبيعي أن يؤثر شعر «برشت» الملتزم على المواهب الشابة، أصبحت القصيدة عنده دعوة سياسية تهمُّ الرأي العام، سلاحًا للكفاح في سبيل العدل والتقدم والسلام، أداة للفعل والثورة والتغيير، واستقبل الناس في الشرق والغرب نموذجه المستفز المتحدي بالغضب أو الترحيب، وتلقف الشباب منه الكرة فساروا في موكبه، وإن تحرَّر معظمهم من «أيديولوجيته»، وجدَّدوا مصطلحه ومقصده إلى حدٍّ كبير، ولكنه ظل في نظرهم قدوة رفيعة للفعل والكفاح، نذكر من بين الذين تأثَّروا به فولفجانج فايراوخ (ولد سنة ١٩٠٧م) الذي سبقت الإشارة إليه، وهو شاعرٌ وكاتب تمثيليات إذاعية، اتَّسم كل إنتاجه بالالتزام الواعي والنقد العنيف للعصر، والنظر للقصيدة كسكينٍ تقطع وتحسم وتغير! ٨ تلمس هذا في كل مجموعاته الشعرية ابتداءً من «رحمة الحظ» (١٩٤٦م) و«قبَّرة وصقر» (١٩٤٨م)، و«نهاية وبداية» (١٩٤٩م) إلى «مكتوب على الحائط» (١٩٥٠م)، و«غناء لكي لا نموت» (١٩٥٦م)،٩ ولنذكر له على سبيل المثال إحدى قصائده التي تعبر عن تيار القصيدة الملتزمة، وعنوان القصيدة هو «شكوى»:
لأني أشعر بالخوف، أريد يا سادة هذه الأرض،
أن أقدم إليكم هذه الشكوى:
أنا رجلٌ صغير، وأنا غبي،
لهذا أرجوكم، آه، ألا تُسيئوا بي الظن،
لأني أسألكم، ماذا تفعلون بنا؟
هل فكرتم في سعادتنا جميعًا؟
السعادة، أيها السادة، شيءٌ ضئيل،
إنها صيحة ديك، إنها فراشة.
السعادة هي الليل بأغانيه،
عندما يردد الرجل والمرأة صرخته.
إنها النهار، عندما يلعب أطفالنا،
وهي الصبي، والعجوز التي يُضنيها العمل إلى حدِّ الموت.
السعادة هي الذهاب إلى المدرسة، هي التجوال،
هي شذى العسل، وعفونة السماد.
أيها السادة، السعادة هي مرور الأعوام،
هي دخان الغليون وصيد الأسماك.
السعادة يا أيها السادة فوق العروش البعيدة،
هي كذلك عذابنا نحن الملايين،
عندما تلد نساؤنا المساكين الأطفال،
وعندما نرقد على الفراش ساعة الاحتضار،
ويُرسلنا الموت الناعم للشيطان.
السعادة أيها السادة هي العالم كله
والعالم، أيها السادة، رائع الجمال،
أتوسل إليكم أن تتسلقوا إحدى القمم،
وتهبطوا إلى أعمق الوديان،
تطلعوا للسماء في شهر مارس وهي في شدة الشحوب،
للسماء في شهر مايو وهي صافية خضراء،
انظروا النحلة والدب، إلى آخر ما هناك،
فكل ما ترونه، وإن يكن هو التراب،
فهو، إن أذنتم، ترابنا، يا أيها السادة العظام.١٠
وكل ما كتبه الشاعر النابه هانز ماجنوس إنسنز برجر (١٩٢٩م–…)، وتأثر فيه تأثرًا واضحًا ببرشت ينبع من نفس الإحساس برسالة الشعر الذي يجب أن يكون عونًا على الفعل، كما تقول عبارة الوار، صحيحٌ إنه لا يلتزم بنظامٍ فكري (أو أيديولوجية) معينة، أو حزب سياسي محدد، ولكنه لا يزال يتحدى المجتمع — والبرجوازي البليد العنيد بنوعٍ خاصٍّ! — ويثيره ويستفزه ويحركه، ولا تزال القصيدة في أغلب الأحوال أشبه بمنشورٍ ثوري، أو خطاب مهرب من غياهب السجون، أو كتابة على الحائط (لنذكر قصيدة لبرشت بهذا العنوان: هم يطلبون الحرب، والذي كتبها، قد سقط صريعًا!)، وقد شاع هذا النوع من القصائد من منتصف الستينيات عند شعراء مثل: فولفديتريش شنوره (١٩٢٠–…) Wolfdietrich Schnurre، الذي عرف كذلك بقصصه القصيرة الناجحة، والشاعرة كريستا راينج، والشاعر النمسوي أريش فريد (١٩٢١–…) Erich Fried (الذي ترجم اليوت وديلان توماس)، والشاعر ستيفان هرملين (١٩١٥–…) Stephan Hermlin، الذي تأثر بالتيار السياسي في الحركة السيريالية الفرنسية، وبخاصة الوار، كما عُني بترجمة شعر الزنوج الأمريكيين، وجورج ماورر Georg Maurer (١٩٠٧–١٩٧١) وفرانز فيمان (١٩٢٢–…) Franz Fuhmann، وغيرهم من الشعراء الذين يعيشون في ألمانيا الديمقراطية.
ولنقف وقفةً قصيرة عند الشاعر أريش فريد، بقدر ما تسمح المادة الشحيحة التي بين يدي عنه، وهو يعبر عن الشعراء الذين يواصلون تراث برشت، ويجندون فنهم من أجل الحرية والسلام، وأحد دواوينه المتأخرة الذي سمعت عنه، ولم يُتَحْ لي الاطلاع عليه عنوانه «وفيتنام و…» ويتميز بلغةٍ جريئة تعتمد على تداعي الكلمات والإيقاعات والتلاعب بها، كما تتميز بالإيجاز الشديد الذي يجعل البيت الواحد أقرب إلى الإشارة الموحية أو المثل المركز، وقد وقع في يدي بمحض الصدفة منذ سنواتٍ قليلة أحد أعداد مجلة اشتراكية،١١ يحررها الأدباء التقدميون الساخطون، الذين يجمعون بين الالتزام السياسي والتجريب المستمر في لغة القصيدة، وسأنقل إليك قصيدتين تعرفنا إحداهما بهذا الاتجاه العام، وتقدم لنا الثانية شهادة حق وإنصاف من شاعرٍ لم «تمنعه الدعاية المغرضة» من إدانة الوحشية الإسرائيلية، وإليك القصيدة الأولى بعنوان «نادي الصحافة»، وستلاحظ اللهجة التعليمية الواضحة، والفكرة المنطقية التي تتحول إلى شعرٍ رقيق، والسخرية المرة التي تؤثر بالهمس أكثر من الضجيج:
ابحث عن الأصدقاء
يشاركونك
رأيك
إن الأمر يستحق هذا
ولو وجدت
أنهم ليسوا
من رأيك تمامًا
وأن الأمر يستحق
أن تضحي بشيء
من رأيك
لكي تتفق معهم
ستكون الصداقة
أمتن وأوثق
عن طريق
هذا التقارب
إن التسلط بالرأي
أضعف
وأقل نفعًا
من الاتحاد
هل كان لك
رأي
في يومٍ من الأيام؟
أما القصيدة الثانية، فعنوانها «اسمعي يا إسرائيل»،١٢ ويبدو أن الشاعر تابع أخبار العدوان وشاهَدَ بعض صوره، ورأى كيف تباهى أعداؤنا من اللصوص المسلحين «بشجاعتهم»، فتحرك ضميره الأدبي والإنساني، وكتب هذه الأبيات:
عندما كنا مضطهدين،
كنت واحدًا منكم،
كيف أظل كذلك،
بعد أن اضطهدتم غيركم؟
كانت أمنيتكم،
أن تصبحوا شعبًا بين الشعوب،
واليوم أصبحتُم،
كالشعب الذي سفك دماءكم،
ذهب الذين قسوا عليكم،
وبقيتُم،
أو ما زالت قسوتهم،
تعيش اليوم فيكم؟
صحتم بالمهزومين:
«اخلعوا أحذيتكم.»
كمثل كبش الفداء،
طاردتموهم في الصحراء،
في جامع الموت الكبير،
كانت صنادلهم رمالًا،
لكنهم لم ينحنوا،
لم يركعوا مثل الضحايا،
أثر الأقدام العارية،
على رمال الصحاري،
سيبقى بعد أن تمحى،
آثار قنابكم ودباباتكم.

ولعل من الأفضل الآن أن ننتقل من هذا الحديث الذي لا يخلو من التعميم إلى القصائد نفسها، إن الشعر في حركةٍ دائمة وتحول لا يعرف الراحة ولا الاستقرار، والكلام عن المدارس والحركات والاتجاهات أمرٌ نضطرُّ إليه من باب التبسيط والتنسيق، ومن أصعب الأمور أن نفرض على الشعر في عصر أو مرحلة معينة شكلًا ثابتًا أو قالبًا جامدًا؛ ولذلك يحسن أن نتحدث عن «القصيدة» بدلًا من الحديث عن «الشعر»، وأن نعرض في أثناء ذلك لبعض الشعراء البارزين بشيءٍ من التفصيل؛ ولهذا سنتناول قصيدة الطبيعة والحب، والقصيدة التي تميل إلى التجريب أو اللعب؛ لكي نتأمل في النهاية ظلال الصمت التي خيمت عليها …

(٢) الطبيعة

كان أوسكار ليركه (١٨٨٤–١٩٤١م) Oskar Loerke هو النبع النقي الذي تدفَّقَ منه شعر الطبيعة الذي بلغ ذروته في مُنتصَف هذا القرن، ولقد صدر ديوانه الأول «تجوال» Wanderschaft في سنة ١٩١١م، ثم ظهر ديوانه الثاني «موسيقى بان»١٣ إبان الحرب العالمية الأولى سنة ١٩١٦م (وقد صدر أولًا بعنوان «قصائد»، ثم ظهر بالعنوان المذكور سنة ١٩٢٩م)، ولم يلبث النقاد أن احتفوا به وقدروا رعايته لتراثٍ شعري عريق، بل لقد قال أحدهم: إنَّ الطبيعة تثبت وجودها في شعره، وهو قولٌ يصدق عليه وعلى كثيرين ممَّن ساروا على دربه — ومن أهمهم صديقه المقرب فيلهلم ليمان Wilhelm Lehmann (١٨٨٢م–…)، الذي وصفه بأنه «طبيعة عظيمة …»
وأخص ما يميز شعر الطبيعة عند «ليركه» أنه أبعد عنه شخصيته الفردية، وأراح الوجود من تدخل ذاتية الشاعر ومُثُله وأحزانه وأفراحه، وترك هذا الوجود يتحدث مع نفسه ويحاور نفسه، وقد كان أبعاد الفردية عن الشعر شيئًا جديدًا في ذلك الحين، وبخاصة بعد التعبيرية التي جعلت العالم يبدأ من الفرد (كما قال أحد أقطابها وهو فرانز فيرفل Franz Werfel)، وهذا ما عبر عنه «ليركه» نفسه، عندما قال: إنه يهتم بالاستماع إلى «غناء الأشياء» أكثر مما يهتم بسماع صوته.

هكذا أصبحت «التجربة» طبيعية، وتحررت الذات من المبالغات التي كانت تخنق أنفاسها، وعكفت الطبيعة على نفسها، وأصبح الإنسان جزءًا يستمد الحياة منها، واتجهت الأبعاد المكانية والزمانية نحو مركزٍ حسِّي واحد، تُحاول القصيدة أن تُثبته وتكثفه.

صار للطبيعة وجودٌ سحري، وأصبح هم الشاعر أن يجمع المكان والزمان والأشياء في لحظة الحضور الأزلي، وأن يضمَّ الإنسان في نسيج المخلوقات الطبيعية؛ ولهذا سميت هذه الحركة الشعرية باسم «الطبيعة السحرية»، وتميزت كما قلت بتجرُّدها من الفردية والذاتية، بحيث أصبح واجب الإنسان أن يصمت «لكي يترك الكون يخلق نفسه»، ولعل هذه الأبيات التي كتبها «ليمان» أن تعبر عما نريده بالطبيعة السحرية:

كلِّمني كما تُكلم الشجرة النحيلة،
غنِّ أنت عنِّي يا سرب الزرازير!
القدم والذراع ترف رفيف الأوراق،
وتحلُم بها أحلام العصافير.
ولنضرب مثلًا لشعر الطبيعة السِّحرية من قصائد «ليركه» نفسه، لنلمس بأنفسنا كيف حاول بكل جهده أن يتخلَّص من عبث «العواطف الغبية»، وكيف ازدحمت قصائده بالتفاصيل النباتية والحيوانية والمعدنية المُرهقة، وران عليها هدوء وصمت واتزان يوشك ألا يجعل فيه مكانًا للإنسان — يقول في قصيدته «الجبال تنمو» من ديوانه «نفس الأرض» Atem der Erde (١٩٣٠م):
لكن غير بعيد ترف الغابة بأجنحتِها الكثيرة،
كأنها مَوكب الملائكة، وقد حجبتها غابة أقدم عمرًا،
ومن تحت أجنحتها السُّفلى،
تحرك غابة الغد جناحيها.
ما أعجب الأزمنة هنا، طبقةٌ فوق طبقة،
آهلة بالنبات والحيوان، وهي تتحصَّن في الحيوان والنبات!
وتعرف نفسها فيَّ، وأنا لا أسأل.
مملكة الحيوان والنبات.
ورقةٌ تهوى،
صقرٌ يرتفع من بين أشجار البلوط:
ما هي بعلامة شر يُمكن تأويلها.
بل هي شعوري الأخير الصريح،
الذي حرم النطق كما حرم الحب،
في الألسن١٤ يتردَّد نغم الصخر الأجرد،
أنا لا أسأل، لكن الجواب تُعطيه،
مملكة المعادن التي فيَّ.

هنا يتكدَّس صمت الحيوانات فوق صمت المعادن والنباتات، وتسود الدهشة التي يَغترب فيها الإنسان ويعجز عن الحوار ويكاد يفنى فيما حوله، صحيحٌ أن «الأنا» لا تختفي تمامًا من القصيدة، ولكن طبقات الطبيعة الخارجية تكتم أنفاسها أو تجعلها طبيعةً أخرى، انظر إليه وهو يتحدَّث في ديوانه «موسيقى بان» عن اكتئاب الجسد في الليل، فيَصفه بأنه ليلٌ يذوب في البرودة، ولا يقوى على تحريك الظلمة، ولا على تحريك دمه الفاتر الثقيل، ثم يسأل:

ما هي الأنا إذن؟
القدمان كالجبال التي ترى من بعيد،
شديدتا الغُربة والثِّقَل، لا أستطيع تحريكهما،
القلب كالوعاء الوحيد،١٥
تفصله عني أميالٌ كثيرة موحشة.
أعرف:
أن اليد تغوص في غابةٍ من الفحم،
الجبين يحمل عاصمةً باهرة الأضواء،
فوق قدمي يَنام ثلج القطبين،
وتحتهما يبتلع البحر الدوامات.
سوف لا أخشى شيئًا ولا أفقد شيئًا،
وسأرقد بلا ألمٍ ولا جوع،
وسأعرف ما تعرفه الأجنحة العظيمة،
وارف على نجمٍ مع سائر النجوم.

هنا نجد ما عبَّر عنه «ليركه» في قصيدةٍ أخرى بقوله: «بعيدًا تنام مني القدم واليدان، على صدر شبحي ترقدان.» فالأنا الفردية أصبحت شبحًا تجثم الكائنات الطبيعية فوق صدره، إنها لا تعبر عن نفسها من خلال الشجر والصخر، والنجم والنهر، وإنما تذوب فيها، تصبح لحظةً من تاريخ الغابة والصخرة والنهر، والعناصر والنبات والمعدن والحيوان، وهي تُعبر عن نفسها حقًّا، ولكنها توشك في نفس الوقت أن تتلاشى وتفنى وتذوب.

ولنقرأ قصيدةً أخرى من أجمل وأشهر قصائد «ليركه»، لنرى كيف يغوص الإنسان أو الكون الصغير في الكون الأكبر، إنها قصيدة «قبر الشاعر»، وهي إحدى «قصائده المختارة» التي ظهرت في برلين سنة ١٩٥٤م:

في الصباح الباكر رأيت أمامي على عتبة الباب،
حيث يجتث الفلاح في الظل الرطيب الأعشاب،
رأيت أشواك الصباح النارية،
تشتد وتغدو أضواء بغير حدود.
الرب ينعم بالفراغ.
أما الآخرون فكتب عليهم أن يمضوا إلى تعب النهار،
وكتب عليَّ الرقاد،
تحت أقدام الريح الحزين الثرثار.
عندما تعود الكرمة العجوز،
الكرمة السوداء مُتربة ودافئة،
يوقظني هذا الإيمان على الدوام:
إياك والنشيج، فالفقر لن يُصيب الإله.
هذا شعرٌ يظلُّ — إن جاز التعبير — فوق الأرض أو تحتها، إنه يعيش في طبقاتها، وينبض مع كل كائنٍ يتنفَّس أو لا يتنفَّس فيها، غير أن هذه النظرة الكونية ستَختفي بالتدريج من قصيدة الطبيعة، وبخاصة عند «فيلهلم ليمان»، الذي يمكن أن نقول: إنه يعيش على الأرض بعينين مفتوحتين تدركانها وتَستوعبانها، وسيزداد هذا عند غيره من الشعراء فيتسع الأفق، وتنطلق المغامرة محلقة في الفضاء، ويمعن الشاعر في التخلي عن ذاته، ويكثر من الحديث غير المباشر، برموزه وعلاماته وإشاراته الهامسة، التي تُوشك أن تُصبح نوعًا من الكتابة الهيروغليفية عند «جنتر آيش» Gunther Eich، الذي سنتحدَّث عنه بشيءٍ من التفصيل.
حدث إذن نوعٌ من التطور بعد «ليركه»، وارتفعت أصوات المواهب الجديدة فدفعته إلى منطقة الظل، وانتهى الانبهار السحري بالطبيعة النباتية والحيوانية، ليحلَّ محلَّه الإغراق في التفاصيل الجزئية والواقعية — حذر الإغراق في الكلمات «الشعرية» والعواطف الذاتية! أصبح الشاعر هو «حافظ الواقع» و«مدير التفاصيل»، وأصبح الشعر تصويرًا لأعراس المادة وأفراحها … وراح «ليمان» يدعو إلى هذا الشعر المعني بالتفاصيل الموضوعية والواقعية، ويبين أنه هو طريق الخلاص من أعباء الفردية وأمراض الذاتية، ويُؤكد على سبيل المثال في إحدى محاضراته أن «سلسلة صغيرة من العلامات يمكنها أن تتحكَّم في قوة امتصاص بعض التفاصيل الدقيقة، لكي تعي ظواهر أخرى متعددة الأبعاد والمستويات، هذا الاقتصاد والإيجاز في القصيدة الناجحة هو دليل العمق والنظام.»١٦
ورؤية «ليمان» للشعر والحياة قريبة من رؤية «ليركه» صديق عُمرِه، وقد عبر عن هذه الرؤية بتعبيرٍ أخذه عن جوته وهو «النظام المتحرِّك» أو «النظام المرن» Bewegliche Ordung، وليس هذا النظام شيئًا محدَّدًا، ولا هو شيء يُثبت الظواهر أو يقيدها، وإنما يشير إلى قانونها الباطن الذي يتجلَّى في علاقتها المتبادلة مع غيرها من الظواهر، والشاعر يعكس هذا النظام المرن في مجالٍ مشابه هو مجال اللغة، فلو تصورنا سربًا من البط البري يطير على هيئة شكل مخروطي، فلن يكون هذا شكلًا مجرَّدًا منعزلًا عما حوله، وإنما يتحدَّد بمقاومة الهواء، وحركة الأجنحة التي تجدف في الرياح، وتجانس اتجاه الطيران، هذه الصورة المعبرة عن النظام المتحرِّك المرن الذي يَسري على كل الظواهر الطبيعية تستدعي صورًا أخرى شبيهة بها، من حركة السفينة في البحر إلى زحف الجيش في ميدان الحرب، وهي كذلك شبيهة بالنظام الذي يتجلَّى في اللغة والصور والاستعارات، وما على الشاعر إلا أن يُحاكي ذلك النظام الطبيعي محاكاةً أمينة، ويعكسه في قصيدته التي ينبغي بدورها أن تكون نظامًا نابضًا بالمرونة والحياة …
ويتجلَّى التوافُق الأمثل بين مرونة الظواهر الطبيعية ومرونة اللغة في الأسطورة والحكاية الخرافية (أو الحدوتة!)، فليست هذه صورًا تعكس نظامًا ثابتًا جامدًا، بل تعبر عن نظامٍ يتحرَّك ويتغير ويتحقَّق باستمرار، والقصيدة فيما يرى ليمان تعكس الأسطورة كما تعكس القطرة البحر، ولكنَّها لا تكتفي بهذا، وإنما تسعى على الدوام إلى التكامل والكمال، ولما كانت حركتها تتم في مجال اللغة، فإن العلاقات تدقُّ وتُرهف، والروابط تشفُّ وتَلطف، ونقاط التماس تتباعَد وتخف.١٧

تخلص الشاعر إذن أو حاول على الأقل أن يتخلَّص من نفسه ومن الشعر بمفهومه التقليدي، ولكنه كتم أنفاسه بيديه، وطرد نفسه بنفسه من القصيدة، وتضخمت قائمة التفصيلات فاختنقت القصيدة في غابة الألفاظ الخضراء … لننظر في شيءٍ من شعر ليمان لنرى فرحة الحواس ونشوة القرب من الأشياء، ومُعظم قصائده لا يقدر على فهمها أو نقلها إلى عالم في النبات، أو ضليع في مصطلحاته وفنونه، ولما كنت لا أدعي شيئًا من هذا، فقد تخيرت لك قصيدتين من شعره، لم تكونا في حاجةٍ إلى علمٍ لا أملكُه أو معاجم متخصِّصة لا تقع تحت يدي! إليك أولًا قصيدته «فرحة القمر»:

الغسق يُقرب مطلع القمر،
العالم يبزغ من الاكتئاب،
ويخاطر بمحاولةٍ أخرى،
بعدما أوهنه النهار.
الحياة التي ضاعت قديمًا،
توهب لي من جديد،
بعدما استحمت في النور الوديع،
مع جسد ديانا،١٨ الشاب
أعضاؤها رطبة كالأوراق،
إن حاولت أن أدنو للعناق،
لا تسمح لي غير أشجار الحور،
أن أمسها كأنفاس الليل والظلام.
لكنها تشكر اللقاء،
وترف على جنبي.
ارتفع القمر في الأعالي،
وأنا لا أخشى الانتهاء!

وهذه قصيدة أخرى بعنوان «وصية صيف»، تعبر عما يتحلى به الشاعر من الحكمة والتقوى والاطمئنان:

اجعلني جميلًا، قبل أن أغيب،
هكذا قال نهار الصيف.
لتنثر الوردة الحرير،
وليكن زخرفها الأخير.
ومثل هذا الكفن،
حكه بخيطٍ نحيل.
ولتدع دودة قزٍّ،
لغزل هذا النسيج.
إن بددتني الرياح،
فما تجوز الشكاة،
دع شاعرًا مجهولًا،
يُردِّد الأبيات!
هكذا راح «ليمان» يتغنَّى في دواوينه المختلفة١٩ بالحياة الطبيعية والنباتية، وازدحمت قصائده بالتفاصيل الجزئية المرهقة، حتى أوشكت الطبيعة أن تَثأر لنفسها فتطرد الشاعر نفسه من القصيدة!
كذلك فعلت الشاعرة «إليزابيث لانجيسر» Elisabeth Langgässer في قصائد أبراج النجوم Die Tierkreisgedichte (١٩٣٥م)، فأصبح شعرها أشبه بدغلٍ كثيف تشابكت فيه الزهور والأشجار والنباتات التي لا حصر لها، والتفَّ حول القصيدة حتى خنقها، وتحوَّلت القصيدة إلى فهرسٍ مفصل من أسماءٍ لا آخر لها، وغلب عليها التكرار والملل والإسراف الشديد، ووقع الشاعران تحت إغراء التجريد من الذات، حتى استقلَّت الطبيعة بنفسها وجثمت بحيواناتها ونباتاتها على أنفاس الشاعر!
ولكن هذا لم يقضِ على قصيدة الطبيعة، فقد كانت من القوة والأصالة والغنى بالمرئي والمسموع والمحسوس بحيث تعمر طويلًا، وحاولت الشاعرة لانجيسر أن تجد لقصيدة الطبيعة مخرجًا، فحولتها إلى قصيدةٍ مسيحية أو كاثوليكية، ونشرت مجموعةً منها في ديوانها الأخير «رجل الخضرة والوردة» Der Laubmann und die Rose، الذي ظهر في خريف سنة ١٩٤٧م؛ أي قبل موتها بثلاث سنوات، ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل، وعانت القصائد الطويلة المُضنية من إرهاق الخيال وزحام التفاصيل، حتى باتت الطبيعة أشبه شيء بميدان حرب تكدست فيه الجثث والأشلاء!

هكذا وصلت قصيدة الطبيعة إلى طريقٍ مسدود، وأصبح عليها أن تُجدِّد نفسها أو تلوذ بعزلتها أو تخلد إلى الصمت، لقد استطاعت أن تملأ فراغ الشعر الموحش أو أرضه الحرام المهجورة بعد انتهاء الحرب، كما استطاعت أن تتغنَّى بالطبيعة الساحرة، وتنثر في سماء الشعر «أقواس قزح» مفعمة بالصور والألوان والأنغام الصافية والأشكال النقية، وتحافظ على التوازن بين الموضوع والأداء، وتكفكفت من غلواء الفردية وإسراف «العواطف الغبية»، وتقتصد في اللفظ وتبعده عن المبالغة والتهويل — ولكنها استسلمت من ناحيةٍ أخرى لإغراء التفاصيل الطبيعية المضنية، حتى انتقمت الطبيعة لنفسها كما قلت، وطردت الإنسان من القصيدة، أي طردت الشاعر منها!

وفقدت القصيدة التوازُن الذي وجدناه عند «ليركه» بين الإنسان والطبيعة، وتحول التناسب الهادئ بين الموضوع والشكل إلى برنامجٍ أدبي جامد، ومنهج صارم مُتزمِّت، وبدا الشاعر كالسادر في متاهة نباتاته وأدغاله وغاباته، وتعذر عليه أن يرجع للواقع والإنسان، أو يلتقي بالشعر العالمي الذي بدأ يطرق الأبواب بعنفٍ، ويطلب الدخول بعد طول حرمان! أضف إلى هذا أن صدمة الكارثة المفجعة كانت أقوى من هذا التيار الهادئ المتواضع، كما كانت المشكلات الجديدة أعنف من أن تقنع بالقيم الجمالية الصافية، والأشكال الفنية المحكمة، والأساليب الكلاسيكية الوقورة.

استمرت قصيدة الطبيعة التي جددها ليمان وإليزابيث لانجيسر حتى ماتت هذه الأخيرة سنة ١٩٥٠م، واستمر أصحابها القدامى في السير على الدرب كلٌّ حسب قدرته وطاقته، ولكن الأصوات الشابة لم تلبث أن أدركت ضرورة إعادة النظر في شعر الطبيعة والريف والغابة وفصول السنة، وصمد أصحاب هذه الأصوات في الدفاع عن قصيدة الطبيعة، واستطاعوا أن يَبقوا بعيدًا عن الأعين طوال اثني عشر عامًا من الإرهاب، كان منهم: جورج فون دير فرينج Georg Von der Vring (١٨٨٩م–…)، وجورج بريتنج Georg Britting (١٨٩١م–…) وريتشارد بيلنجر Richard Billinger (١٨٩٣م–…) — الذي تطفل عليه شعراء «الدم والأرض» النازيون وأفسدوا شعره وشوَّهوا مقصده — وكان منهم أيضًا جنتر آيش Gunther Eich (١٩٠٧–١٩٧٢م) — الذي سبقت الإشارة إليه، وسنتحدَّث بعد قليلٍ بشيء من التفصيل — وكارل كرولوف Karl Krolow (١٩١٥م–…) وبيتر هوخل Peter Huchel (١٩٠٣م–…) وأودا شيفر Oda Schaefer (١٩٠٠–…)، ثم جاء بعدهم جيلٌ أصغر سنًّا نذكر من أهم وجوهه هينز بيونتيك Heinz Piontek (١٩٢٥–…) الذي كان ديوانه «المعبر» Die Furt (١٩٥٢م) أول ما ظهر من دواوين الشباب وأهمها، وتلته مجموعةٌ أخرى «علامات الماء» Wassermarken (١٩٥٧م)، ومجموعةٌ ثالثة لشاعرٍ سويسري هو رينيه برامباخ R. Brambach (١٩١٧م–…) بعنوان «عمل اليوم» (١٩٦٠م)، ثم فوجئت الحياة الأدبية بموهبةٍ خارقة جاءت من الشرق؛ إذ ظهر للشاعر القاص «يوهانيس بويروفسكي» Johannes Bobrowski (١٩١٧–١٩٦٥م) مجموعتان رائعتان هما «زمن زرماتي» Sarmatische Zeit (نسبة إلى منطقة زرماتيا في بروسيا الشرقية) (١٩٦٠م) و«بلد الظلال، أنهار» Schattenland Strome (١٩٦٢م) جلبتا المجد والشهرة، وأعادتا قصيدة الطبيعة التي استهلكتها الصنعة الفنية والمبالغة المُضنية إلى أصالتها الريفية الساحرة، فاكتسبت ملامح الوطن الذي نبعت منه وعذاباته، وعبرت عن موهبةٍ نضيرة لم ترها تعقيدات المذاهب والبرامج الفنية، وابتعد شعر الطبيعة الجديد عما يُمكن أن نسميه شعر الطبيعة المطلق، ونفض عنه سأم «الطبيعة الساحرة»، واتجه إلى الالتزام بالواقع الحي والإنسان المخرب المعذب، بل لقد نفذت إليه بعض أفانين الهوس السيريالي والعبث الدادي (كما نرى مثلًا عند جنتر زويرن في «بيانو شتوي للكلاب»، وديتر هوفمان في «أيروس في الشجر الحجري».)
لن يمكننا بطبيعة الحال أن نقف عند هؤلاء الشعراء كلٍّ على حدة، وإن كانوا يستحقون دراسات مستقلة لا يتسع لها المجال، ولكن لا بد من وقفةٍ قصيرة عند واحدٍ منهم يعد اليوم من أعلام الشعر المعاصر في بلاده، ومن وجوه الأدب البارزة التي أصلت «التمثيلية الإذاعية» كنوعٍ أدبي مُعترف به، والشاعر الكاتب الذي نعنيه هو جنتر آيش،٢٠ الذي استطاع مع غير من أبناء جيله الذين ذكرت لك أسماءهم، أن يستفيدوا من خير ما قدمته قصيدة الطبيعة على يدي ليركه وليمان، وأن يتجنَّبوا الوقوع في عيوبها وأخطائها، وكان أول ما تعلَّموه منها هو الاقتصاد في اللفظ، والبُعد عن العواطف المسرفة، وتجريد القصيدة بقدر الإمكان من الأنا الفردية للشاعر، والقرب الحميم من الموضوع المحسوس، وتنقية التجربة، وصفاء الشكل.

وإذا نظرنا في شعر «آيش» وجدناه يميل إلى الإيجاز في اللفظ إلى حدِّ الاكتفاء بالإشارة وإيراد العبارات المأثورة، ولمسنا روح الحكمة الصينية التي تفيض على كل أعماله (وقد كانت أنفاس هذه الروح الحكيمة المقتصدة تتردد أيضًا في قصائد ليركه وليمان، حتى لقد صرح هذا الأخير بأنه كان دائمًا من المُعجبين بشعراء الصين الكبار، وأنه تعلَّم منهم واستلهمهم، وتمنى يومًا لو قدر له أن يعيش في الصين في عهد حضارتها الزاهية!)

غير أن الطابع الذي يُميز شعر آيش عن سابقيه هو أنه بدأ يدخل ذاته في القصيدة، وإن وجب الاحتراس في هذا القول، والتنبيه إلى أنها في الحقيقة ذات محايدة أو غير شخصية، انظر إلى هذه القصيدة التي جعل عنوانها «نهاية صيف»:

مَنْ ذا الذي يحب أن يعيش بغير عزاء الأشجار!
ما أطيب أن تشارك في الموت.
حصد الخوخ، وثمار البرقوق اكتست ألوانها،
بينما يسمع خرير الزمن تحت أقواس الجسور،
أسر يأسى لموكب الطيور،
إنه يحسب نصيبه من الأبد في هدوء،
المسافات التي يقطعها،
ترى على أوراق الشجر كالقهر المظلم،
حركة الأجنحة تلون الثمار،
معنى هذا أن نتعلم الصبر.
قريبًا تنزع الأختام عن كتابة الطيور،
تحت اللسان يستعذب طعم الفينيج.٢١
هنا نجد القصيدة مقتصدة في التعبير، شديدة الميل إلى الاحتراس في اللغة إلى حد الخوف من تسمية الأشياء! وهذا هو أسلوب آيش في شعره وتمثيلياته الإذاعية وخواطره: الإشارة المركزة، والرمز الذي يَحتمل عدة تأويلات، والعبارة التي تكاد أن تتحوَّل إلى نقشٍ مختصر أو رسالة مكتوبة على جناح طائر، والصورة المكثَّفة البسيطة التي تشير إلى واقعٍ خفي وراء الواقع المرئي والملموس، والعناية بالمسائل الفلسفية والدينية والأخلاقية التي تورق إنسان العصر، لم يكن أبدًا من الشعراء الثرثارين، بل حَرَصَ كل الحرص في شعره ونثره على أكبر قدرٍ من الدقة والإحكام والتعقل والزهد، تجد هذه في واحدةٍ من أولى قصائده وأشهرها؛ إذ أصبحت نموذجًا «كلاسيكيًّا» لما يُسمى بأدب ساعة الصفر أو أدب الخراب والأطلال، الذي قلنا أنه جاء في أعقاب الحرب مباشرة، لنقرأ هذه القصيدة التي كتبها آيش سنة ١٩٤٥م، ووضع لها هذا العنوان الدال «جرد»:٢٢
هذه هي قبعتي،
هذا معطفي،
هنا أدوات حلاقتي،
في كيسٍ من القماش!

•••

علبٌ محفوظة:
طبقي، كوبي،
في الصفيح الأبيض،
حفرت اسمي!

•••

حفرتُه هنا،
بهذا المسمار الثمين،
الذي أخفيه،
عن العيون النهمة!

•••

في كيس الخبز،
جوربٌ من الصوف،
وأشياء أخرى،
لا أبوح بسرها لأحد!

•••

أجعل منه مخدة،
بالليل تحت رأسي،
لوح الورق هنا،
بيني وبين الأرض،

•••

أحب الأشياء إليَّ:
أنبوبة القلم الرصاص،
بالنهار تكتب لي أبياتًا،
فكرت فيها بالليل!

•••

هذه مُفكرتي،
هذه خيمتي،
هذا منديلي،
هذا خيطي.

سار (آيش) في هذا الطريق من دواوينه الأولى مثل: «أحواش نائية» (١٩٤٨م)، و«رسائل المطر» (١٩٥٥م)، إلى مجموعاته الأخيرة مثل: «الرجوع للوثائق» (١٩٦٤م)، و«مناسباتٌ وحدائق حجرية» (١٩٦٦م)، وازدادت لغته كما قلت إيجازًا وتركيزًا حتى أوشكت الكلمات أن تتحوَّل إلى إشاراتٍ وعلامات، ولكنه مع هذا لا يَنتهي إلى التجريد ولا يقف عنده، بل سرعان ما تتحوَّل القصيدة فجأة من الرمز والصور السيريالية إلى الواقع الملموس — هل معنى هذا أن شاعرنا نسي قصيدة الطبيعة، التي نهلَ منها وعرف بها وجرى وراء البدع الجديدة الغريبة؟ الواقع أن هذا غير صحيح، فلم يزل «آيش» هو شاعر الطبيعة، ولكن بعينٍ جديدة ومفهوم مُختلف عن الجيل السابق، ولم تزل اللغة الحقة في نظره هي التي يلتقي فيها الشيء والكلمة، ولكنها في نفس الوقت لغة تريد أن تنفذ إلى سر العالم الذي تأتي منه «رسائل المطر»، وتتمُّ فيه «القرارات الحاسمة في تحليق الحمام»، والشعر هو تجربة الاقتراب من هذا العالم، وتطويق أسراره بالكلمات؛ ولهذا نجد الغضب يثور به في إحدى قصائده فيقول:

احملوا أخيرًا هذا الطعام،
الذي لا وجود له،
وانزعوا السدادات عن المعجزات!
وليس هذا بالطبع هروبًا من الواقع، بل مُحاولة للاقتراب من سرِّه في هذا العالم الأرضي الذي نحيا فيه؛ لهذا أصبح شعر الطبيعة عنده مُلتزمًا إلى أبعد حد، إن جاز لنا أن نستخدم هذه الكلمة بأشمل معانيها، لا بالمعنى المحدود المتزمِّت الذي تُردِّده بعض الألسنة عندنا دون علمٍ ولا إحساس، إنه شعر إنسان يشارك معاصريه آلامهم، وهو على حد قوله في خطبته التي ألقاها عندما احتفل بمنحه جائزة «بوشنر» الأدبية المرموقة: «شعرٌ مكتوب لأولئك الذين لا يَسمحون بترتيبهم في نظامٍ معين، للمُتوحِّدين وغير المنتمين، للمجدفين في أمور السياسة والعقيدة، للساخطين لأعداء الحكمة، للمحاربين في معارك خاسرة، للحمقى والخائبين، للحالمين التعساء، للمزعجين، لكل الذين لا يمكنهم أن ينسوا بؤس العالم حينما يكونون سعداء.»٢٣

وقد عبَّر «آيش» عن هذا الالتزام في أعماله الأولى بلهجةٍ خطابية أو تعليمية، تذكرنا «ببرشت» في مسرحياته الأولى المعروفة بالمسرحيات التعليمية، ويمكننا أن نستشهد على هذا ببضعة أبياتٍ ينثرها بين الفصول الخمسة، التي تتألف منها تمثيليته الإذاعية الشهيرة «أحلام» (١٩٥٣م)، وهي أبيات أريد بها أن تقلق المستمعين وتُنبههم إلى «الكوابيس» المتربصة بهم، حتى لا يستسلموا للأحلام الغبية السعيدة، تبدأ القصيدة التي تمهد للحلم الأول (وهو يصور مجموعةً من الناس حشروا في عربةٍ مظلمة مُقفرة، يحسون بالأصوات التي تأتيهم من الخارج، ولكنهم لا يعلمون إلى أين المصير) بهذه الأبيات:

إنني أحسد كل القادرين على النسيان،
الذين ينامون نومًا هادئًا ولا يحلمون.

وتختتم بهذه الأبيات:

انظروا إلى الواقع: سجنٌ وتعذيب،
عمى وشلل، موتٌ من أشكالٍ عديدة،
الألم الذي لا شأن له بالجسد، والقلق الذي ينصب على الحياة.
الأرض تجمع التنهيدات المنبعثة من أفواهٍ كثيرة،
ومن عيون الناس الذين تحبُّهم يطلُّ الذهول،
كل ما يجري يُهمك أمره ويعنيك.

وتقول القصيدة التي تسبق الحلم الثاني (الذي يصور عجوزًا صينيًّا يشتري طفلًا من أبويه، ليمتصَّ دمه ويستعيد الشباب!):

تذكر أنَّ الإنسان عدوٌّ للإنسان،
وأنه يفكر في الخراب،
تذكر أن كوريا وبيكيني لا توجدان على الخريطة،
بل في قلبك.
تذكر أنك مسئول عن كل الفظائع،
التي تحدث بعيدًا عنك.

ولكن لهجة «لا تناموا» و«استيقظوا لأنَّ أحلامكم سيئة» و«لا تكونوا مريحين بل كونوا رملًا لا زيتًا في زحام العالم!» — هذه اللهجة اختفت وحلَّت محلها لغةٌ خالية من علامات التعجب، وإن كانت أقدر على التأثير والنفاذ، إنه يتحدَّث الآن عن «تنهدات أولئك الذين يموتون جوعًا، وعن الصرخة التي تهدم كل النظم، والآمال الكاذبة في أن صرخات المعذبين يمكن أن تجعل المستقبل أخف»، إنه يلتزم بالمعنى الإنساني الشامل كما قلت، بنفس «الحكمة الصينية» التي نكشف عنها قصيدة كهذه عن «الرجل ذي السترة الزرقاء» أو الفلاح البائس الذي يعمل — في كل البلاد وكل العصور — في صمتٍ خالد:

الرجل ذو السترة الزرقاء،
العائد إلى بيته، والفأس على كتفه،
أراه خلف سور الحديقة!

•••

هكذا كانوا يَمشُون مساءً في أرض كنعان،
هكذا يرجعون إلى بيوتهم من مزارع الأرز في بورما،
من حقوق البطاطس في مكلنبرج،٢٤
من جبال الكروم في بورجند،٢٥
ومن بساتين كاليفورنيا!

•••

عندما يضيء المصباح خلف ستار النوافذ،
أحسدهم على حظهم، الذي لا أستطيع أن أشارك فيه،
على الأمسية العائلية،
بدخان المدفأة، والقناعة، وغسيل الأطفال.

•••

الرجل ذو السترة الزرقاء يرجع إلى بيته،
فأسه التي وضعها فوق كتفِه،
تشبه في الشفق الهابط بندقية.

قد تسأل مرةً أخرى على «آيش» شاعرٌ ملتزم؟ — لقد حير النقاد بالفعل في أمر هذا الالتزام غير المألوف، الذي يحتمل تأويلات عديدة، والسؤال على هذه الصورة يبدو غليظًا وسخيفًا، ولا يمكن أن يصلَ إلى حقيقة فنِّه الذي يفلت من كل تأويلٍ صريح، إن كل شيء في شعره يبدو واضحًا ملموسًا، ولكنه ملفوفٌ في غلالةٍ شفافة من الرموز والأسرار، لقد ابتعد عن الانفعال الكاذب، والكلمات الطنانة، واكتست أبياته مسحةً من الحزن والزهد والمرارة التي تكسو وجه حكيم صيني طيب، إنه في أعماقه إنسانٌ واحيد، مُتواضع، حبيس داخل ذاته، يحب الحقيقة أكثر مما يحب الجمال أو يَثِق به، ويخفي احتجاجه على نظام العالم أو بالأحرى على فوضاه وبؤسه وراء الحزن والاكتئاب الذي يغلب على أشعاره الأخيرة، وهو في النهاية حزنٌ يوجهه العقل الناصع والوعي الدقيق.

هل معنى هذا أنه لم يعد شاعر الطبيعة الذي تغنى به في بداية عهده بالشعر — الجواب بالنفي، فما زال هو نفسه شاعر الطبيعة الذي يرقبها الآن من فوق قمة جبلٍ عالٍ، إنه لا يكتب «أدبًا» أو ينفث سحرًا أو يدبج نظريةً أو مذهبًا لإصلاحها، وإنما يحاول أن يكتشف حقيقتها، هكذا تكون قصيدة الطبيعة قد تطورت على يديه إلى الالتزام الشامل بالعالم والإنسان، وخرجت عن حدودها الجمالية (أو بالأحرى الاستطيقية!) القديمة إلى الصدق بمعناه الفني الرحب.

•••

وتغيرت قصيدة الطبيعة مرةً أخرى عند شعراء الجيل الجديد، فأدخلوا عليها عناصر سريالية، ومالوا إلى التخفُّف والعبث واللعب باللغة والصور والرموز، مما سنجد أمثلةً له عند الكلام عن القصيدة التجريبية أو قصيدة اللعب والتركيب، ولكنها ابتعدت على كل حال عن قيود القصيدة القديمة، وقيمها وطموحها وشطحاتها المسرفة، ولا بد من التريث قبل الحكم على هذا التطور أو له (فالصبر — لو علمنا — هو أب كل فكرة أو فن أو شعر جدير بهذا الاسم!)

فهل سيتَّجه هذا التطور المذهل بالقصيدة إلى التحلل والتمزق، أم سيصلها بتراثٍ غني من شعر الطبيعة، يصعب أن نجد له مثيلًا في أي آدبٍ آخر؟

لا بد من الانتظار!

(٣) الحب

الحب … ماذا بقي من العاطفة الأليمة الخالدة في عالمٍ خربٍ منهار؟ ماذا يفعل الشاعر الذي يأكل الجوع ويسكن بين الأنقاض بالحمامة الذهبية التي ترفرف بين ضلوعه؟ بأيِّ عينٍ ينظر إلى عروس السماء الرائعة البائسة، التي تزف إليه كل لحظةً وتهجره وتُعذِّبه كل لحظة؟ ألا يزال في قدرته أن يغني لها غناءه الحلو العذب كما فعل آباؤه وأجداده، أم امتلأت قصيدته بالنشاز والأشواك، وانعكست عليها صورة العصر الذي لم يعد عصر القلوب الخفاقة والعواطف الدافئة؟

حدثتك عن مبدأ هامٍّ يَصدُق على الشعر الحديث منذ عهد بودلير ورامبو ومالارميه إلى كبار المجددين في القصيدة الأوربية المعاصرة، وأعني به إلغاء «الأنا» واستبعاد النزعات الشخصية والعواطف الفردية، وطردها من القصيدة بكل سبيل! فماذا يبقى من قصيدة الحب بعد أن طردت الذات من بيتها الطبيعي، وزال «الشخص» في مجتمع الجماهير والزحام، وتحطمت القدرة على التوحد مع العاطفة، التي كانت تُعبر عنها قصيدة الحب التقليدية؟ كيف يمكنها أن تواصل الحياة وتثبت قدرتها على البقاء؟

أثبتت قصيدة الحب بالفعل قدرتها على الحياة، والنماذج العديدة التي نجدها في أية مجموعةٍ شعرية مختارة أو النماذج القليلة التي ستَقرؤها بعد قليل تؤكد ما نقوله، غير أنها اضطرت أن تغير طبيعتها، وتحيا في حدود الإمكانيات المتاحة لها، والضرورات والواجبات الملقاة على عاتقها.

وأول ما يخطر على البال أنها تجد في البحث عن المحبوب، والتماس الطريق إلى الحب المستحيل! إنه يفلت منها في الزحام، وهي تخفي خصوصيتها الحميمة فتكتسي بأكثر من قناع، وتقاوم حياءها وحساسيتها باللجوء إلى «الموضوعية»، والتخلِّي عن العواطف الكاذبة والانفعالات الصارخة، والخضوع لقوانين التفتَت والتغير والتشوه والآلية التي تطبع حياتنا العادية، بحيث تبدو في معظم الأحيان كأنها تُؤكِّد عداءها لهذه العاطفة القديمة الغالية، أو تجاهد للتنفيس عن إحساسها الفردي الذي لا تُريد أن تبوح به حتى لا تتهم بالسذاجة؛ ولهذا تعكس قصيدة الحب قلق الشاعر الحديث وتناقض وجوده، وتبدو أشبه بمسرحٍ داخلي تتصارَع عليه الأشباح، ولعل بعض النماذج تمكننا من توضيح ما نُحاول الإشارة إليه، وتسمعنا بعض الألحان التي تطلقها هذه القصيدة، وتطلعنا على قبسٍ ضئيل من جمالها القاسي الأخاذ، ونبدأ بإحدى قصائد «جو تفريد بن» المتأخرة — وقد سبقت الإشارة إليه — وعنوانها «ساعةٌ زرقاء»، ترف عليها ظلال من الحب بمعناه القديم، لمحاتٌ من الجمال الساحر الغابر، من تنهدات ترستان لحبيبته إيزولده، وشكوى أورفيوس لمعبودته الضائعة في ظلام العالم السُّفلي:

أخطو في الساعة الزرقاء المُظلمة،
ها هو ذا المدخل، الرتاج ينغلق،
وفي الحجرة (تبدو الآن) حمرة على فم،
ووعاء ورود أخيرة — أنت!
كلانا يَعلم أن تلك الكلمات،
التي كثيرًا ما قلناها للغير وحملناها إليه،
هي بيننا الآن كالعدم، وليس لها مِن مكان.
هذا هو كل شيء، وهو كذلك الملمح الأخير.
نما الصمت بينَنا وانتشر،
وأخذ يملأ المكان ويتفكَّر مع نفسه،
— لم يأمل شيئًا ولم يتعذب بشيء — في الساعة (الزرقاء)،
ووعاء الورود المتأخِّرة — أنت.
رأسك يتبدد، أبيض ويُريد أن يحمي نفسه،
بينما تتجمَّع البهجة كلها على فمك،
والأرجوان والأزاهير،
التي تتدفق عليك من نبع الأسلاف،
ما أشد بياضك، تبدين كأنك ستنهارين،
كأنك ثلجٌ خالص، وقد تجردت من كل الأزهار،
أعضاؤك وردات في بياض الموت — المرجان،
فوق الشفاه وحدها، ثقيلٌ وكبيرٌ كالجراح.
ما أشد شحوبك، تتكلمين عن شيءٍ ما،
عن سعادة السقوط والأخطار،
في ساعةٍ زرقاء، مظلمة زرقاء،
وعندما مرَّت، لم يدرِ أحدٌ أنها كانت.
أسألك، وأنت ملك إنسان آخر،
لم حملت إليَّ الورود الأخيرة؟
تقولين الأحلام تنقضي، الساعات تمر،
ما معنى هذا كله: هو وأنا وأنت؟
كل ما يبدأ، يريد كذلك أن ينتهي من جديد،
كل ما نجرب — من ذا الذي يعلم على وجه التحديد،
الرتاج يغلق، ونصمت بين هذه الجدران،
وهناك الفضاء البعيد، عالٍ وفي زرقة السماء.

القصيدة تفيض بالاكتئاب والتعب والحنين المظلم الذي يكسو قصيدة «بن» الأخيرة، إن عاطفة الحب فيها متأججة دافئة، ولكنه حبٌّ يسعى ثقيلًا بين النور والظل، أشبه بالوردة التي تروي الأساطير اليونانية أنها تزدهر في العالم السفلي، وتزيد الثقافة الحلوة — التي تعجز الترجمة للأسف عن نقلها — من الحزن الهادئ الكسير، كما تَزيده الورود المتأخِّرة التي تجيء بعد موسمها، وبياض الشعر، وألوان الأزرق الغامق والأبيض والأرجوان والأزهار التي يلفها صمتٌ توحي به الكلمات والإيقاع، وكأنها تُحاول أن تُعيد ماضيًا ذهب، أو تُحيي مشهد وداع لم يوجد إلا في ضمير الشاعر …

في القصيدة عاطفة لا تخطئ الأذن ولا القلب موسيقاها، ولكنها تعرف كيف تَنتصِر على نفسها بالزهد والكتمان، والأنا المعذبة حاضرة بغير شك، ولكنها توشك أن تفنى وتذوب في أنا أخرى غير شخصية، أو في «جوٍّ عام» يشع من القصيدة كلها إشعاعات عديدة، ولو فتَّشنا عن الأنغام المتنافرة لسمعنا منها الكثير، ولو بحثنا عن العاطفة لوجدناها وراء غلالة من الهدوء والبرود واللامبالاة، التي تُعبر عن نفسها «بسعادة السقوط والأخطار».

ومع هذا، فالقصيدة غنية بالشجى والحسرة والشعور بالفقدان والحرمان، بعاطفةٍ تنتمي إلى زمانٍ ذهب وانقضى، ولكنها تُحاول أن تنهض من جديدٍ في عالمٍ أشبه بجبانةٍ هائلة، وهي تختلف بغير شكٍّ عن قصائد الحب التي كتبها جيلٌ آخر بعد «بن»، حاول أن يتحرَّر من العاطفة ويبين استحالتها، وأتى بالعديد من عناصر الإغراب والاغتراب والبعد والصدود، إنه جيلٌ يؤكِّد العجز المرير عن الاتصال بالمحبوب، ويطرق باب الحب في حياءٍ لكي يرتد عنه في الحال! والشاعر يدخل العشاق والمحبين في أفقٍ أوسع وأكبر، ويقوم بعملية «موضعة» — إن صحت هذه الكلمة — أو تجريدٍ ذهني للعواطف الفردية والكلمات التقليدية ليُخلص نفسه ويخلصهم منها.

وتخطر على البال في هذا المقام شاعرةٌ أصيلة هي «إنجبورك باخمان» Ingeborg Bachmann٢٦ (ولدت سنة ١٩٢٦م في كلاجنفورت بالنمسا)، إنَّ الحرية التي أتاحتها المغامرة الجريئة المتناهية في الصدق والأمانة، قد سمحت لشعرها أن ينطلق في رحلته اليائسة إلى أرض الخيال ورحاب الكون الواسعة، والمجال الذي يرفرف فيه ليس هو المُمكن بل المستحيل، أصبح من العسير أن نضع حدًّا فاصلًا بين استحالة الحياة واستحالة الشعر، فبقدر ما تتداعى القيم الاجتماعية المُلزمة، بقدر ما يكتسب الحب قيمةً مطلقة، أهي الرغبة في التعويض عن عالمٍ موحش لا قيمة فيه ولا معيار؟ — وإلى أين يفزع الشاعر الذي يتداعى فوقه الحطام، إن لم يفزع إلى الحب يستغيث به ويستجير؟ أليس هذا شيئًا إنسانيًّا مفهومًا بعد كل كارثةٍ تلم بالفرد أو الجماعة؟ ألا نجد شاعرنا العربي بعد النكبة يفزع إلى صدر الحبيبة ليبكي زمنًا بلا أبطال، وأيامًا بلا أعمال؟

الحب المطلق إذن ولا شيء سواه، الحب الذي يَعتصِم بقلعته ويصر على حقه، وبهذا يثبت من جديد استحالته، إن القمة التي يرقى إليها تكشف عمق الهوة التي يتردَّى فيها، هبوطه إلى الجحيم يعلمه أن اللعنة الأبدية هي الصورة الوحيدة المقابلة للمُطلق، وقد عرفت اللغة الشعرية هذا على يدِ كهنة الرمزية وأئمتها — وبالأخص مالارميه — فحاولت أن تبلغ الصفاء والنقاء الخالص من كل شيءٍ وكل مادةٍ لعلها تلمس المطلق، ولكنها انتهت إلى الصمت والعدم!

هذا هو حصاد المغامرة الأمينة اليائسة التي انطلقَت فيها الشاعرة العظيمة إنجبورج باخمان، لقد زهدت في كل الإمكانيات المتاحة، فلم تَكشِف كواكبها الشعرية المتلألئة بالكلمات الشجية الناصعة إلا عن الفراغ والعدم والمحال، وغاصت بشعرها الجليل المثقل بالرموز والأسرار في الهاوية، فلم تجد في العدم والفراق والعري والعذاب سوى إشارات كطلاسم العرافين، إلى تلك اللانهاية التي لا تقوى الكلمات على التشبث بها أو التعبير عنها، ولعل هذا هو الذي يجعلنا نحسُّ عند قراءة شعرها كأننا نستمع إلى بكائيةٍ رتيبة لا تنقطع، لكنها بكائية على لسان نبي يقرع أجراس الخطر، وإن عرف أن صوته سيضيع في صحراء القلوب المقفرة من الحكمة والمحبة والإيمان، نبيٌّ يريد للعالم أن يبدأ من البداية، بعد أن غارت نجومه وفسدت ثماره، لكن نهاية العالم أو بدايته ليست في الحقيقة إلا خفقة قلب أو غمضة جفن، إذا قيست بالصوت الخالد الآتي من وراء الزمن، الصوت الذي يتردَّد منذ الأزل وسوف يتردَّد إلى الأبد؛ لأن لغة الشعرب تتجاوب به دائمًا في أوقات المحن والنكبات.

لتنطلق الشاعرة إذن في مغامرتها الجسورة، لا تبالي إن هوت إلى الدوامة المظلمة، أو جذبتها الكواكب والأفلاك إلى دائرة الدب الأكبر!٢٧

لنقرأ إحدى قصائدها الرائعة لنرى كيف يتم التحرُّر والتجريد اللذان أشرت إليهما — في لغةٍ نقية كلاسيكية الإيقاع والجلال، بعيدة عن البدع و«المودات» والرغبة في التجديد للتجديد، تقول الشاعرة في هذه القصيدة التي سمَّتها «اشرح لي، يا حب»:

قبَّعتك تهتز بهدوء، تحيي، ترفُّ في الريح،
السحب تحب أن تلمس رأسك العارية،
قلبك مشغول بشيءٍ آخر،
فمك يحصل لغات جديدة،
العشب المرتعش على الشاطئ ينمو بكثافة،
الزهور النجمية يلفحها الصيف هنا وهناك،
تعميك الندف المتطايرة فترفع وجهك.
تضحك وتبكي وتنهار،
ما عسى أن يحدث لك أيضًا؟
اشرح لي، يا حب!

•••

الطاووس يُحرِّك ذيله بدهشةٍ مهيبة،
الحمامة ترفع ياقتها المصنوعة من الريش،
الهواء يفعم بالهديل فيتمدد،
البط يزعق، والأرض كلها،
تتزوَّد من العسل البري، وفي البستان الهادئ،
أحاط الغبار الذهبي بكل أحواض الزهور.
السمكة يحمرُّ لونها، تسبق السرب،
وتندفع من الكهوف إلى حوض المرجان.
العقرب يرقص في حياءٍ على نغم الرمل الذهبي.
الجعران يشمُّ رائحة المحبوبة الفاتنة من بعيد،
أو لديَّ إحساس واحد لشعرت أيضًا،
بأنَّ الأجنحة تلمع تحت ترسها،
ولتوجهت إلى شجيرات التوت البعيدة!
اشرح لي، يا حب!

•••

الماء يجيد الكلام،
الموجة تسحب الموجة من يدها،
في الكرمة يَنتفخ العنقود ويثب ويسقط،
ما أطيب الحلزون وهو يغادر بيته!
الحجر يعرف كيف يلين حجرًا آخر!
اشرح لي، يا حب، ما لا أستطيع شرحه:
أحتم عليَّ أن أقضي الأجل القصير المخيف،
وحيدةٌ مع الأفكار وحدها،
لا أعرف شيئًا يحب ولا أقوم بعملٍ محبوب؟
أحتِّم على الإنسان أن يفكر، أليس هناك من يفتقده؟

•••

تقول: إنَّ روحًا أخرى تعول عليه.
لا تشرح لي شيئًا، أرى السمندر،٢٨
ينفذ في النيران،
لا خوف يطارده، ولا شيء يؤلمه.

حبٌّ مر يعلنه العاشق بشفتين مضمومتَين، عبارات تقريرية مُتجاورة تقول كل شيء ولا تقول شيئًا، ثناءٌ على الحب، لكنه منبعث من فؤادٍ جريح كتوم، حسابٌ مع النفس يبتعد جهده عن التحسر والندم، حقائقُ مُتتالية تستعصي على كل تفسير، جهدٌ عنيد يُحاذر من الاقتراب من الأنا ويكتفي بلمسها من بعيد، جهدٌ يمكنك أن تقول إنه كلاسيكيٌّ أصيل.

هكذا تعبر الشاعرة عن إحساسها بالحب — ونخطئ لو تصورنا أنها لا تصدر عن عاطفةٍ صادقة، على الرغم من تحاشيها الإغراق في العاطفة! — بحيث يُصبح هذا الإحساس في النهاية قوة عليا غير شخصية، تسيطر على كل شيءٍ وتهيمن على كل حي، إنها ترسم لوحاتٍ متتابعة في صورةٍ تقريرية ومحايدة كما قلت، وتروح تعدد معجزات الحب وتشيد به في أشكاله المختلفة، على نحو ما تعود الشعراء من أقدم العهود، تبدأ بالتجوال في بستان الحب، وتقدم أعاجيبه واحدةً بعد الأخرى، وتنتهي بالشكوى الصامتة والحزن المتوحِّد، غير أنه حزنٌ غير شخصي كما قدمت، سواء في شعورها به أو تعبيرها عنه، صادرةٌ عن قوةٍ شعرية مُستقلة تخلق الصور والرموز، وتبدع في الاستعارات والتشبيهات التي تنوب عن العواطف التقليدية المألوفة في قصائد الحب؛ ولهذا فليس غريبًا أن تنتهي بهذه الأبيات المفعمة بالبعد والزهد والكتمان:

أحتمٌ عليَّ أن أقضي الأجل القصير المخيف.
وحيدة مع الأفكار وحدها.
لا أعرف شيئًا يحب ولا أقوم بعملٍ محبوب؟

هكذا تنجح الشاعرة في تقديم نموذج بديع لقصيدة الحب الجديدة، التي تشهد على استحالة الحب في هذا الزمن المعقد الجريح، قصيدةٌ من أجمل ما يمكن أن يقدمه الشعر الحديث، كتبتها شاعرةٌ تعيش عصرها بوجدانٍ كلاسيكي جليل، وتترفع عن البدع، و«المودات» التي يبدو أنها لا تنتشر وتستفحل إلا إذا غابت الأصالة الحقة، وكثرت الببغاوات والطفيليات التي لا تقول شيئًا — إذ ليس لديها شيءٌ يُقال …

•••

ولنقرأ الآن قصيدةً أخرى تضارع القصيدة السابقة في قوة إقناعها واعتمادها على الصورة والتشبيه، وإن جاءت من قلم شاعرٍ مختلف كل الاختلاف في المزاج والعقيدة والغاية، وهو الشاعر والكاتب الأشهر برتولت برشت، تلك هي قصيدة «المحبين» التي تعد من قصائد الحب النادرة التي كتبها برشت:

انظروا إلى طائري الكركي وهما يُحلِّقان في دائرةٍ واسعة!
السحُب التي ترافقهما،
بدأت السفر معهما، عندما طارا،
من حياةٍ إلى حياةٍ أخرى،
على ارتفاعٍ واحد وبسرعةٍ واحدة،
يبدو كلاهما شيئًا ضئيلًا،
بحيث يتقاسم الكركي مع السحاب،
السماء الجميلة التي يحلقان فيها،
بحيث لا يَبقى أحدهما فترةً أطول من صاحبه،
ولا يرى غير اختلاجه مع الريح،
التي يشعران بلمساتها وهما راقدان معًا على مخدع الهواء،
قد تغويهما الريح وتُلقي بهما في العدم،
لكن لم يمسَّهما السوء،
ما لم يتغير أحدهما أو ينوي الفراق،
ولن يبعدهما أحدٌ عن كل مكان،
تهدده الأمطار أو تدوي فيه الطلقات،
هكذا يرفرفان بعيدًا، غارقين في الحب والهيام،
تحت وجهي الشمس والقمر المختلفين،
إلى أين تذهبان؟ إلى غير مكان!
ممَّن تهربان؟ من كل إنسان.
تسألون: منذ متى وهما معًا يطيران؟
منذ وقتٍ قصير، ومتى يفترقان؟
سريعًا.
كذلك يبدو الحب سندًا للعشاق والأحباب.٢٩

في هذه القصيدة — التي أضاعت الترجمة إيقاعها وقافيتها الجميلة! — يَعمد الشاعر إلى الهروب من واقعه وحاضره المؤلم، إلى قناعٍ أو ستارٍ يتخفَّى وراءه، ويسقط عليه تصوره للحب أو رجاءه فيه أو رأيه في الدور الذي يُمكن أن يؤديه، إن خيبة الأمل في الحب الأرضي ظاهرة، ولكنها ليست خيبة الأمل اليائسة المُتعبة التي سلمت باستحالته بين البشر، وإنما هو حبٌّ أقرب إلى المثل الأعلى، وهو لا يخلو من نزعة التوجيه والتعليم، وقد يصعب على القارئ الذي لا يعرف شيئًا عن «برشت»، أن يتصوَّر أنها لرجلٍ نذر حياته وقلمه للدفاع عن عقيدةٍ سياسية واجتماعية، التزم بها وعبَّر عنها في كل ما كتب، وقد لا يُصدق القارئ الذي يعرفه أنها له … ولكن القراءة المُتأنية تكشف ولو من بعيدٍ عن تصور الشاعر لرسالة الحب، وإيمانه بأنَّ تضامن المحبين هو الذي يعينهم على مواجهة العقبات، وتحدي الفظائع والأمطار والطلقات!

•••

ولكن قصيدة الحب عند الشعراء الجدد لا تقوم على هذا البناء العقلي المنسجم، ولا تكتفي بالتحرر من الذات الفردية أو اللجوء إلى الأقنعة والتشبيهات، وإنما تبتعد كل الابتعاد عن المفهوم القديم للقصيدة العاطفية كنوعٍ أدبي، بحيث ينبغي علينا أن نتردَّد كثيرًا قبل أن نسمي قصائدهم قصائد حب! نلمس هذا عند «جنتر آيش» وكرال كرولوف وباول سلان (١٩٢٠–١٩٧٠م)، كما نلمسه عند شعراء أقل منهم سنًّا مثل: هانز ماجنوس انسنز برجر (١٩٢٩م–…)، وهلموت هيسنبوتل (١٩٢١م–…) وجنتر جراس (١٩٢٧م–…).

لنقرأ أولًا هذه القصيدة من شعر آيش وهي بعنوان «حاضر» (عن ديوانه رسائل المطر الذي سبقت الإشارة إليه):

أشجار الحور في شوارع ليوبولد،
ترى في أيامٍ مختلفة،
لكنها خريفية دائمًا،
دائمًا أشباح شمس ضبابية،
أو من نسج المطر،

•••

أين أنت، عندما تَمشين بجواري؟

•••

دائمًا أشباح من أزمنةٍ بعيدة،
في الماضي والمستقبل:
سكنى الكهوف،
عصر الكهوف الأبدي،
المذاق المر أمام أعمدة اليجابال،٣٠
وفنادق سان موريتز،
الكهوف الكئيبة والأكواخ،
حيث تبدأ السعادة،
السعادة الكئيبة،
ضغطة ذراعك، الذي يستجيب لي،
الأرخبيل، سلسلة الجزر، وأخيرًا اليم والأغوار،
مجرد بقايا لا تكاد تحس،
من عذوبة الاتحاد،
(لكنك من دمي،
فوق هذه الأحجار، بجوار شجيرات الحديقة.
والعجائز الممدَّدين فوق المقاعد المتناثِرة.
وهدير الترام رقم ستة،
شقائق النعمان، حاضرة،
مع قوة الماء في العين،
ورطوبة الشفة.)

•••

ودائمًا أشباح، تنسج لنا الأوهام،
إلغاء الحاضر،
الحب الباطل،
الدليل على أننا زائلون،
أوراقٌ قليلة على أشجار الحور،
حسبتها بلدية المدينة،
خريفٌ في البالوعات،
والأسئلة المجابة عن السعادة.

كلماتٌ موجزة وإشارات مقتضبة، لا أقنعة ولا أستار ولا هروب إلى عالم التشبيهات «الشاعرية» البعيدة، بل مشاهد مُتكرِّرة في حياة كلٍّ منَّا: «أين أنت، عندما تمشين بجواري؟» ولكنها تضعنا على الفور في «الجو» الروحي، الذي تريد القصيدة أن تُوحي به: المصاعب التي تواجه الحب والمحبين، استحالة الاتصال بين الإنسان والإنسان، بطلان الأمل وزيفه، وكل هذا في لغةٍ طبيعية تجري على سجيتها، وتتحرك قلقة بين لغة الشعر ولغة النثر، تحولت الأنا إلى صوتٍ يتحدث بلسان إنسانٍ آخر، يتحدَّث لنفسه ولكل من يهمه أن يصل إليه صوته، أو لعله لا يقصد بحديثه أي إنسان، وإنما يبدو كمَن يقرأ من تقريرٍ محايد، دون انفعالٍ ولا اهتزازٍ ولا رغبةٍ في التعبير عن عاطفةٍ أو تجربة خاصة، ولهجته هادئة جافة، ولكنها مرة قاسية، إنها تُبدِّد الأوهام الغالية، وتعري وجه الحياة الباطلة والحب المستحيل، لقد خنق عاطفته بإرادته، وسجن ذاته بيديه فلم يفرج عنها إلا في لحظاتٍ خاطفة كالبرق، إنه يعرف سلفًا ولا يخدع نفسه، يعرف أن الحب وهو أخص علاقات الناس، شيءٌ يوجهه غيرنا ويرتبونه لنا، من الماضي السحيق إلى الحاضر الراهن، الذي دخل في تخطيط بلدية المدينة! وكل هذا في صورٍ متجاورة وإن كانت لا تجمع بينها علاقة الجوار، هدير خط الترام إلى جانب أزهار شقائق النعمان، أوراق أشجار الحوار إلى جوار بلدية المدينة، كأنما يُريد الشاعر أن يضعف ويعترف، ثم لا يلبث أن يتراجع ويعمد إلى الخشونة والمرارة — يحمله على ذلك شكُّه وزهدُه وقلقُه، وإن شئت حكمته الصينية، وفي النهاية يمنعه الحياء من الظهور بمظهر الشاعر الرومانتيكي المزهو بتعذيب نفسه وعرض جراحه!

هكذا تؤكِّد «قصيدة الحب» — إن كان من الممكن أن تظلَّ محتفظة بهذا الاسم! — استحالة الاتصال بين الناس، والملل والآلية التي تُهيمن على الحياة، وسخف العلاقات والتجارب الإنسانية من حبٍّ ولقاء وفراق.

وقريبٌ من هذا العالم الذي عشنا فيه قليلًا مع «آيش» نجد عالم «كارل كرولوف» الذي يميل إلى المزيد من التجريد والتجريب، ويكثر من الصور والاستعارات الغريبة على دنيا المنطق والواقع، ويحافظ على موسيقى اللغة وشفافيتها ونقائها، ولن يخفى عليك تأثره الواضح بشاعري الطبيعة الذين تحدثنا عنهما في الصفحات السابقة (ليركه وليمان) من ناحية، وبالسرياليين الفرنسيين وبعض الشعراء الإسبان المعاصرين — خصوصًا البرتي وجين — الذين ترجم لهم جميعًا، ولن يخفى عليك كذلك الاقتصاد في اللفظ إلى حدِّ الاقتراب من الرموز الرياضية، والصور الرقيقة التي يلتقطها الشاعر كيفما اتفق، وإن كان يُزيل بها الأوهام والصور التقليدية في لغة الحب، إلى جانب الحنان الغامر الذي يسري في القصيدة على لسان إنسانٍ حرم الحنان والاتصال بالمحبوب، لنقرأ معًا «قصيدة حب»:

بصوتٍ خافت أُكلمك،
هل ستَسمعينني،
خلف الوجه العشبي المر،
للقمر الذي يتفتت؟
تحت الجمال السماوي للهواء،
عندما يطلع النهار،
ويكون الفجر سمكة محمرة بزعانف مُرتعشة؟
أنت جميلة،
أقولها للحقول المليئة بالنباتات الخيمية،٣١
جلدك رطب وجاف،
أقولها بين مكعبات البيوت في هذه المدينة التي أعيش فيها.
نظرتك ناعمة وواثقة كنظرة طائر،
أقولها للريح الرفيفة،
عنقك — أتسمعين — من هواء،
يشبه حمامةً تندس بين شباك الشجر الأزرق،
ترفعين وجهك،
يبدو مرةً أخرى على الجدار الحجري كظل.
جميلةٌ أنت، أنت جميلة.
رطبًا كالماء كان نومي بجانبك،
بصوتٍ خافت أُكلمك.
والليل يتكسر كالصودا، أسود وأزرق.
ونأتي إلى أجمل قصائد الحب التي عرفها الشِّعر الألماني في السنوات الأخيرة، فنقرأ قصيدتين للشاعر الكبير باول سلان،٣٢ (١٩٢٠–١٩٧٠م)، الذي انتحر منذ حوالي ثلاث سنوات في مياه نهر السين، هل قلت: «قصائد الحب»؟ لا شك أنني تسرَّعت قليلًا، فلنقرأ أولًا هذه القصيدة التي سماها «أغنيات سيدة في الظل» (لاحظ تقطيع الجملة إلى كلماتٍ مُفردة، وترتيبها على الصفحة):
عندما تأتي الصامتة وتقطع أزهار الخزامى:
من يكسب؟
مَن يخسر؟
مَن يقترب من الشباك؟
من يذكر اسمها أولًا؟
إنه واحد، يَحمل شعري.
يحمله، كما يحمل الموتى على الأيدي.
يحمله كما حملت السماء شعري في السنة التي،
أحببت فيها.
يحمله عن زهوٍ وغرور.
يكسب،
لا يخسر.
لا يقترب من الشباك.
لا يذكر اسمها.
هو واحد، يملك عيني.
يملكها، منذ إغلاق البوابات.
يحملها في إصبعه كالخواتم،
يحملها — كأنهما شقفٌ من لذةٍ ولازورد:
كان شقيقي في الخريف
وهو يُحصي الأيام والليالي.
يكسب.
لا يخسر،
لا يقترب من الشباك.
يذكر اسمها آخر الأمر.
هو واحدٌ، يملك ما قلت.
يحمله كحزمةٍ تحت إبطه.
يحمله كما تحمل الساعة أسوأ لحظاتها.
يحمله من عتبةٍ إلى عتبة، لا يلقى به.
لا يكسب.
يخسر،
يقترب من الشباك.
يذكر اسمها أولًا.
تقطع الخزامي.

هل هذه قصيدة حب؟ هل تذكر الكلمات الهامسة شيئًا عنه؟

لا ريب في أن هذا الوصف لن يُساعدنا على تذوقها، ولن يُقرِّبنا منها خطوةً واحدة، بل ربما لم يبقَ من الحب شيء في هذه الأبيات الجنائزية الرقيقة الشاحبة، كالظلال التي تتحرَّك في مكانٍ لا وجود له على سطح الأرض؛ لأنه مكان باطني خالص، بل إنها في الحقيقة لا تتحرك وإنما ترقص رقصة باليه، وتَقترب من الموضوع لكي تفلت منه،٣٣ حركة مد وجزر، شهيقٌ وزفير، لا يَنبغي أن تتوقف وإلا توقف النفس الشعري وتحول إلى حجر، وهي تشير وتومئ، وتحاول أن توجد علاقةً بين أنا وأنت لا نتبين ملامحهما؛ لأن كل إنسان وكل شيء في هذه الأبيات، يبدو كالشبح الغائم الذي يتنقل بين النور والظل، إنها لا تحدِّد شيئًا ولا تلمسه، بل سرعان ما تسحبه إلى عالمٍ باطن كالحلم، ثم تخرجه منه لتلتقطه من جديد، في دورةٍ زمنية رتيبة وحزينة، وهي تثبت ثم تنفي، وتنفي لتثبت من جديد، لا تقف عند شيءٍ بعينه ولا تستقر، اللهم إلا في جوار الصمت، وما أشبهها ببعض قصائد «مالارميه» التي تَستحي من لمس الأشياء، بل تكاد أن تستحي من الكلمات فتحولها إلى موسيقى خافتة، تقترب من السكون أو من العدم، والواقع أن السكون والصمت هو الجو العام الذي تتحرَّك فيه قصائد «سلان»، فه تكشف عن ارتباكٍ دائم أمام اللغة، وهي لهذا تَبتعِد وتتكتَّم، وتحاذر من الأنا الشعرية فتنأى عنها بقدر الإمكان، ولكن مَنْ يدري؟ لعلها بهذا البعد والكتمان والصمت الوديع الكسير، تكشف لنا عن عمقٍ جديد في تجربة الحب في هذا الزمان: الحب المُستحيل، هذا الصمت الذي نحسه ونلمسه في القصيدة السابقة وفي معظم قصائد «سلان» الأخرى، يشبه صراطًا رفيعًا كحد السيف يفصل بين صمتٍ مفعم بالمعاني وصمت فارغ من كل معنى، إنه وليد حساسية مفرطة بالكلمة، وشك متصل في اللغة ودلالاتها الأدبية العتيقة، وهو أقرب إلى الابتعاد والكتمان منه إلى الصمت الثقيل، الذي بدأ يزحف على تجارب القصيدة المعاصرة، التي تحاول أن تلغي وجود الكلمة أصلًا، عن طريق تفتيتها إلى حروفٍ أو وحداتٍ خرساء.
وهو إذا كان يبتعد عن الأنا الفردية — شأنه في هذا شأن أغلب الشعر المعاصر كما رأينا — فلا يزال مفعمًا بالشوق والحنين إلى «الأنت»، ولا يزال مُستعدًّا للقائها المفاجئ، إنه يتحرك كما قلت على حدود الصمت، ولكنه لا يُضحي بوجود الأشياء ولا الكلمات، ولا يصل به الأمر إلى التجريب المتعمد على الشكل والبناء اللغوي على نحو ما يُحاول بعض المعاصرين، ولعله أن يكون الشاعر الوحيد الذي استفاد من الرمزيين والسرياليِّين الفرنسيين، واستطاع أن يحمي نفسه من تأثيرهم المُهلك، فلم تُقوِّه التجارب الجمالية، ولم يستخفَّه العبث الطائش، ولم يُحاصره العدم الخانق والصمت الأخرس، إن شعره غني بالصور الحية، والرؤى الجسورة، والحساسية اللغوية النادرة، والإيقاع الموسيقي القريب من موسيقى الشعر المحض، ولكنه كذلك يُفيض بالنغم الموحي واللحن الشجي، ويعبر عن وجدانٍ قلق غني بالعاطفة — مهما حاول أن يكتمها ويَبتعِد عنها، أتراه هوى باختياره إلى الصمت الأخير قبل أن يلتفَّ حول شعره ويُخرسه؟ هل جذبته الهاوية بعد أن ظل يحوم حولها في جوار الصمت؟ ما من أحدٍ يملك الجواب، لكن يبدو أن قوس الشعر — الذي توتر حتى تمزَّق، وظل يعزف لحن الموت حتى أطبق عليه الموت — لم ينتهِ إلى اليأس المطلق، فهناك أمل تعبر عنه آخر كلمات ديوانه قبل الأخير: «تحول النفس» Atemwende (١٩٦٧م):

«النور كان: النجاة.»

كما تعبر عنه واحدة من أهم قصائده (في ديوانٍ سابق «شباكٌ لغوية» ١٩٥٩م) Sprachgitter، حاولت أن تجد الكلمة في الصمت، أن تَستخرج الحرف من التراب والليل، أن تعثر على «الأنا» بين أناسٍ لا اسم لهم:
رماد،
رماد، رماد،
ليل،
وليل وليل،
اذهب للعين،
العين الرطبة.

وعلى الرغم من هذا فقد استطاعت أن تهلل للنور، وتثبت مرساة الأمل في أرضٍ لا أحد، وتختم لحن الموت والصمت بهذه الأبيات:

هكذا،
لا تزال المعابد باقية،
نجم،
لا زال يشع ضوءُه،
لا شيء،
لا شيء ضياع.

نفيٌ للنفي، فما زلنا موجودين، ما زال الوجود حاضرًا، ما زال الكل على الرغم من كل الجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية، ضد الحب …

•••

هكذا تجنب الشاعر المعاصر الإغراق في العاطفية المسرفة، وكذلك فعل الموسيقي والفنان التشكيلي، لقد أخفى ذاتيتَه خلف قناع، فبدت العلاقة الخالدة بين الأنا والعالم، وقد لفها الظلام والضباب، إنه يحسُّ الخجل أو الخوف والارتباك أمام الآخر كما يحسُّه أمام الكون، فيرجع إلى مملكته الخاصة ويلوذ بوحدته مع الكلمات التي لم يبقَ له سواها، ولقد عبر الروائي الأشهر «إميل زولا» عن هذا الإحساس في قصته «رجون ماكار» أو التاريخ الطبيعي والاجتماعي لعائلةٍ عاشت في عهد الإمبراطورية الثانية، نرى فتاةً تبهرها السماء الساطعة النجوم فتهتف: «النجوم، ما أجمل هذا!» فيجيبها الحبيب خائفًا مذعورًا: «أنا لا أحب النظر إليها … إنها تُخيفني!»٣٤
ونظرةٌ واحدة إلى قصيدة «بن» السابقة أو بعض قصائده الأخرى،٣٥ تجعلنا نتأكد من هذا الخوف، إنه الآن — إن صح هذا التعبير — إحساسٌ عقلي، يواجه قوة الحب بقوة العقل وقسوته وصرامته، وإذا كنا قد لمسنا الروح الحزينة والألم الفاجع في قصيدته السابقة، فإن معظم الشعراء الذين جاءوا بعده من الجيل الحاضر، قد تطرفوا في نزعتهم العقلية إلى حد السخرية والتهكم، ومن أوضح الأمثلة على هذا قصيدة للروائي الشهير «جنتر جراس»٣٦ (١٩٢٧م–…)، سماها قصيدة حب، وإن لم يبقَ فيها من الحب بمعناه التقليدي شيءٌ يذكر، والقصيدة تتحدث من وراء قناعٍ عن إحدى راقصات الباليه أو إحدى الفنانات على المسرح (ولعلها هي زوجة الشاعر نفسه التي تشتغل بالرقص وتعليمه) أو بالأحرى عن إحدى كرياتها الدموية، التي يريد أن يبتكر لها رقصةً تُناسبها:
ولكنك تُثيرين شفقتي،
وأنت عارية هكذا،
ولا وجود لك إلا في النِّسَب والمقاييس.
وأحاول أن أصحح وضع ركبتَيك،
مشيتك المتصلبة تجعلني أستغرق في التفكير.
لست أدري، لم كنت قبيحة إلى هذا الحد،
ولا لماذا لا تقدر عينِي أن تتحوَّل عنك،
إلى الحقول الخضراء مثلًا أو على امتداد النهر،
وهو طبيعة كله،
وليست له عظمة ترقوة،
أحبك،
بقدر الإمكان.
أريد أن أبتكِر رقصة باليه،
لكرياتك الدموية البيضاء والحمراء.
وعندما تسدل الستار،
سأبحث عن نبضِك لأتأكَّد،
إن كان الجهد المبذول،
قد حقَّق نتيجته.

والقصيدة غامضة بعض الشيء، ولكنها تحرص على الإغراب والبعد عن كل حديثٍ مباشر، حرصها على المحافظة على التعارض بين العالم الباطن والعالم الخارجي بحيث لا يلتقيان.

ونجد بين أشعار «هلموت هيسنبوتل» Helmut Heissenbuttel (١٩٢١م–…) قصيدة تعكس هذا الجو نفسه، وإن تعمدت الإيجاز والإحكام الشكلي، وتطرفت في الإغراب واللامبالاة، والبعد عن النزعة الشخصية والاستهتار بالعاطفة الخالدة … والقصيدة تبدأ ببيتَين مقتبستين من أحد شعراء عصر الباروك، وهو يوهان نيقولاس جوتس (١٧٢١–١٧٨١م):
كانت في زيِّها غنية بالجمال،
أما في عريها فشبيهة بالجمال،
الشعر سخام،٣٧ والعنق مزرق بالعروق،
رجلٌ يتفتت في عيني امرأة وينهار.
مصراع النافذة الذي يرمز لليل،
يربع احتكار النجوم للشوق.٣٨
عدم المبالاة بالحياة البرجوازية،
يخفي ميلًا إلى السعادة العائلية.
أغنية المثل الأعلى للغرفة المزدوجة،٣٩
تقول ربما تحين الفرصة مرةً ثانية.

لا ريب أن الترجمة قد جنت على القافية المتسقة؛ ففي كل ترجمةٍ جناية لا مفر منها! ولكن لا ريب أيضًا أن القارئ يلمس الإهمال والبرود المحسوب الذي يتناول به الشاعر عاطفة الحب، ويكفي أنه صبها في أغنية تُشبه «الطقطوقة» التي نعرفها اليوم، ويتألَّف كل مقطعٍ فيها من سطرين ينتهيان بروي عذب الرنين، ولكن لعلَّ القارئ قد أحس أيضًا بشيءٍ من الحزن الذي يزيد قليلًا عن مجرد عدم الاكتراث، وهو في الحقيقة حزنٌ صلب، أقرب ما يكون إلى الغضب والسخط، إن العاشق الذي كان يقطع الصحاري والبحار، ويُبارز الوحوش والأخطار في سبيل محبوبته، قد أصبح الآن لا يحس نحوها إلا بالرغبات المكبوتة في «الليبيدو» والحلم بغرفة بسريرين! وهو في سبيل هذا يقترب من الأسلوب التعليمي، فيشرح ويستخدم أمثالًا وألفاظًا عامية شائعة، ويبتعد بنفسه بقدر الإمكان عن الموضوع الذي يُعذبه، فيعرضه «في السوق» على الرأي العام ليتخلَّص منه! فهل يمكننا أن نصف مثل هذه القصيدة بأنها قصيدة حب؟ لعلَّ الشاعر لا يزال يحن إلى مثال الحب القديم؛ إذ قدم لقصيدته بيتين مأثورين لا شك في جمالهما، أم تراه قد صنع هذا من قبيل اللامبالاة وإثبات استحالة الحب، وهو الموضوع الذي يدور حوله عددٍ كبير من مُعاصِريه، على اختلاف طريقتهم في التصور والتعبير والأداء.

مثل هذه القصيدة التي تصلح أن تكون إعلانًا أو كتابة على الحائط، نجدها أيضًا عند شاعرٍ آخر تعلم كثيرًا من «برشت» — وإن لم يَلتزم بفكره وعقيدته — وحقق وظيفة الشعر في الاحتجاج والتغيير وتعرية الأوهام، وإيقاظ الضمائر المستغرقة في أكذوبة الرخاء والمُعجزة الاقتصادية، ذلك هو الشاعر الشاب هانز ماجنوس إنسنز برجر (١٩٢٩م–…)، هنا نجد القصيدة تتعمد الابتعاد عن الأنا الفردية، وتنطق على لسان شخصيةٍ جمعية مُحايدة، قد تكون أنت أو أنا أو سوانا، ها هو ذا يلجأ إلى الشرح والعرض والتعليم في قصيدةٍ جعل لها عنوانًا بالإنجليزية: «سمه حبًّا» Call it love، يقول فيها (لاحظ تفريق السطور على الصفحة!):
الآن تطنُّ السلال في البيوت العارية،
صاعدةٌ هابطة،
تشتعل اللمبات،
ينفذ أبريل خلال أوراق الشجر الزجاجية،
ويصم الآذان،
ينتفش الفرو (على ظهور) النساء في الحديقة،
أجل وفوق أسطح البيوت يثني اللصوص على المساء،
وكأن حمامةً من الباتستة البيضاء،
وكأن البيضاء المتلألئة التي اختفَت فجأة،
وراء الجبال، وراء الصيغ المحفوظة،
الطريدة فوق النجوم المتهرئة،
المنفية بلا ذاكرة،
بلا جواز سفر بلا حذاء،
(كأنها) قد حطت فوق صياديها المريرين،
المتعبين حتى الموت،
جميلٌ هو المساء.
نرى الشاعر في هذه «القصيدة» يلتزم الصمت التام، فلا يتحدَّث عن الموضوع صراحة — اللهم إلا في العنوان! — ومع هذا فكلُّ شيء فيها يشير إليه، وكأنما يشير إلى سرٍّ أو معجزة أو خرافة أو أمرٍ خارق بعيد عن التصديق، ويستمر التوتر في التصاعد والحدة، حتى نصل إلى العبارة الأخيرة التي تُفاجئنا ببساطتها: جميلٌ هو المساء، فنشعر بالراحة ونلتقط الأنفاس بعد رحلةٍ طويلة، طفنا فيها بين البيوت والأشجار واللصوص والحمامة البيضاء المنفية خلف الجبال وفوق النجوم، الحمامة التي تحطُّ فجأةً فوق صياديها المُتعبين المريرين … إنها أشبه بحكايةٍ ساحرة من حكايات «الحواديث»، تروى عن الذين خرجوا من بيوتهم وديارهم ليكتشفوا الحب ويَعرفوه، فإذا به يهبط عليهم فجأة، بعد أن أشرفوا على الموت، والحمامة مطرودة ومنفية، بلا ذاكرة ولا جواز سفر ولا حذاء، وكأن الشاعر يستحي أن يصرح باسمها، بل يترك لنا مهمة اكتشافه، ويضع للقصيدة عنوانًا يصلح لإحدى الاغنيات المبتذلة — ولكنها في النهاية حكاية خرافية عجيبة، تنذر كل مَنْ يحاول السير على أرضها بكسر رقبته!٤٠

هذا الشعر يسير إذن في طريق التجريد من الموضوع أو المضمون إلى أبعد مدى ممكن، ويتعمد البعد عن ذات الشاعر بعده عن الموضوع، ويصطنع في سبيل ذلك مختلف الحيل والأساليب، كالتخفي وراء الأقنعة أو تعرية كل الأقنعة، والتشتت المقصود وتجميع الصور المتنافرة والعناصر المتباينة والمواقف والأعمال اليومية المُبتذلة، وتضمين الاصطلاحات العِلمية المتخصصة أو الأمثلة الشعبية الجارية، أو العبارات المكتوبة على اللافتات والإعلانات وأعمدة الصحف، وعرض القيم المقدَّسة والمشاعر المحترمة في صورةٍ تافهة أو شائهة، وتفتيت النظام العقلي والواقعي المألوف، وكأنه لوحٌ من الزجاج يكسره الشاعر ليفحصه من جديد.

ويَنعكِس هذا التفتيت والتشويه واللعب على البنية اللغوية، فتُختزَل الجملة وتحطم العبارة ويُعتدى على القواعد المحفوظة، ويُغير ترتيب الطباعة وشكلها، ويبلغ هذا مداه في قصيدة «حب»، يقول فيها الشاعر السويسري أويجن جومر ينجر Eugen Gomringer في مجموعته «كوكبات»:٤١
أنت زرقاء،
أنت حمراء،
أنت صفراء،
أنت سوداء،
أنت بيضاء،
أنت،

ماذا جرى للقصيدة؟ ماذا بقي منها؟

تمَّ اختزال النص الشعري إلى أقصى درجةٍ ممكنة، بلغ تجريد «المادة» أبعد حد، بحيث لم يبقَ منها سوى «هيكل عظمي» ضئيل من العلامات والإشارات والأسماء الدالة على مجموعةٍ من الألوان، تحوَّلت الجملة، بل تحوَّلت الكلمة نفسها في بعض الأحيان، إلى ما يشبه نواة الذرة التي انشطرت إلى جزئياتٍ وجسيماتٍ أخرى أصبح لها وجود مستقل، وهذا شيء بدأه الشاعر التعبيري أوجست شترام (١٨٧٤–١٩١٥م)،٤٢ ولكن لم يتطرَّف فيه أحد — بقدر علمي — كما تطرف جومرنجر وطائفة من الشعراء الذين يكتُبون في هذه الأيام مثل: فرانز مون، وأرنست ياندل، وبيتر هيرتلنج وكونراد باير وجرهاردروم،٤٣ وغيرهم ممَّن سنتحدَّث عن بعضهم بعد قليل، ويعد جومر ينجر أول مَنْ نادى بما يوصف اليوم بالشعر المجسم أو الشعر الملموس Poesie Concrete الذي يُحاول أن يُعيد للكلمة المفردة أهميتها ووزنها وفاعليتها واستقلالها، بحيث تُصبح هذه الكلمة — فيما يقول أحد رواد هذا التيار — كالزنزانة المُنفردة التي تحمل كل إمكانيات تأثيرها، وهناك تجارب عديدة من هذا النوع نرجو أن نعرض لشيءٍ منها في القسم التالي من هذا الحديث، وما أوردنا «القصيدة» السابقة في هذا السياق إلا لأنها قد ظلمت نفسها، أو ظلمتنا وظلمت الأحباب والعشاق، حين سمت نفسها قصيدة حب …

(٤) اللعب

الشعر نهرٌ حي، حركةٌ دائمة لا تتوقف، وقد لمحنا بعض المقومات التي تميز القصيدة الحديثة، وتترك أثرها على معظم ما يكتب من الشعر منذ أن أتمَّ نسيجه، وأحكم بناءه الرواد الثلاثة الكبار، كما أشرنا إلى ما يبذل في الشعر الألماني منذ سنواتٍ قليلة من جهودٍ في سبيل مزيدٍ من التجريد، والتجريب، والموضوعية، والبُعد عن الفردية، والنزعة العاطفية، والتأثر بالأنظار والتصورات الجديدة في العلوم والفنون المختلفة، إلى جانب محاولاتٍ جديدة يائسة مع اللغة — وهي محاولاتٍ مخيفة حقًّا، ولكنها تلمس القلب بأمانتها وإخلاصها، وتأسر العقل بذكائها وسعة اطلاع أصحابها.

أتكون هذه التجارب والمحاولات صادرة عن نزعة اللعب التي تُميِّز الإنسان منذ أن بدأ ينتج فنًّا، وتجعله إنسانًا بحقٍّ كما قال الشاعر الكبير فريدريش شيلر (١٧٥٩–١٨٠٥م)؟ أليست التجربة والمغامرة في الأدب أو في غيره نوعًا من اللعب الفطري الكامن في نفوس الأطفال الكبار الذين نُسمِّيهم فنانين وشعراء؟

إنَّ ما أقصده باللعب مُرتبطٌ باتجاه الشعر الحديث والمعاصر إلى المزيد من التجريد والتخلي عن الذات، فهو يساعدها من ناحيةٍ على حماية نفسها من القوى الخارجية، التي تُريد أن تدمرها وتلغيها؛ ولهذا يُصبح محاولةً للاحتجاج والنجاة في آنٍ واحد، الاحتجاج على عوامل القهر والظلم والإحباط المُحيطة بها، والسخط على «غابة» العواطف والانفعالات، التي فتحت عينَيها فوجدتها تتكاثَف في أرض الشعر، وتهدد بالالتفاف حول الشاعر وخنق أنفاسه — ومن الطبيعي أن يفزع الشاعر إلى اللعب والتجربة، لينجو من الأدغال القديمة والطوفان الموروث، الذي يغرق ذاته بأمواج العواطف والأحزان والآلام … وأن يَميل إلى «العبث» بالألفاظ والتراكيب والصور والاستعارات والرموز والأساطير، ليُنقذ نفسه من المحنة التي توشك أن تُطبق عليه، ويتخفف من أعباء التراث الذي يشعر أنه لا يستطيع أن يستمرَّ فيه … ليَلعب إذن لعله أن يجد مخرجًا من المحنة، أو يجد البهجة في الفرحة البريئة التي تُصاحب اللعب، وليحذر كذلك من المُجازفة التي تلازمه!

ويصف هانز آرب Hans Arp. — (وهو كما تقدم شاعرٌ ورسَّام ونحات تجريدي كتب قصائده بالفرنسية والألمانية، وأسهم في تأسيس الحركة الدادية والسيريالية في سويسرا وفرنسا) — يَصف هذه الحالة بأبياتٍ يقول فيها عن الشاعر الذي تهيَّأ للعب الحر:
بعد أن انتزع الورقة والريشة والورقة،
صمَّم على أن يغادر،
مملكة الأرض الثابتة إلى الأبد،
ويُواصِل عمله،
عاليًا عاليًا في الآفاق الرفيفة،

ولكن أليس اللعب في الفن وثيق الصلة بالعودة إلى الطفولة البريئة؛ أي إلى بُستان الحلم والحكاية الخرافية (أو «الحدوتة»)؟

إن الحياة والانطلاق في الآفاق الرفافة هو ما فعله هذا اللاعب الماهر «هانز آرب» منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، ولعله كان أجرأ مَنْ حاول التحليق فوق مملكة الأرض الثابتة — أي أرض المعاني التقليدية والوصايا والقواعد المُتواضِع عليها — والتحرُّر من الأنا الفردية وإطلاق طاقات الكلمة المُفرَدة، وقد ساعدته الدادية والسيريالية على القيام بقفزاته البهلوانية الخطيرة، وأمدَّته بعددٍ لا حصر له من الصور والاستعارات المستقلة بنفسها عن كل سياقٍ أو معنى.

ولكن السقوط إلى الهاوية السحيقة يُهدِّد دائمًا مَنْ يحلق إلى الذرى العالية؛ ولهذا كان من الطبيعي أن تخسر القصيدة السيريالية العابثة عند «آرب» أو غيره أكثر مما كسبت، وأن تغرق في ألعابٍ لفظية ولغوية صادرة عن رغبةٍ في العبث والإغراب والدعابة، ومُعظم قصائد «آرب» الأولى التي نشرها في مجموعته «رداء الأهرام» Pyramiden rock (١٩٢٤م)، يصعب بل يستحيل ترجمتها؛ لأنها تتلاعب بكلمات اللغة الألمانية وتستخرج كلمةً من كلمة وصورةً من صورة، وتمعن في هذا بلذَّةٍ عجيبة، كأنما تعبر عن ذاتٍ أضاعت نفسها وأضاعت العالم الواقعي المعقول، فلم تجد ما تفعله إلا العبث بصندوق اللغة، وتركيب قطعة وتوزيعها من جديد! إنه يلعب بالألفاظ، وينشئ منها تركيبات غريبة، ويشتق من الأسماء أفعالًا لا تعرفها اللغة، ويعيد تشكيل أبيات مشهورة من التراث القديم أو الحديث، ويقتبس كلماتٍ وتعبيرات مختلفة من إعلانات الشوارع والجرائد، ويتسمَّع أصوات الأشياء وهمساتها وتنهداتها ورقصاتها، ويستوحي حكايات الأطفال وأغاني العشاق المشاهير والرعاة والمغنين المتجولين … إلخ، ولكن يبدو أن الشاعر قد حدث له ما حدث لصبي الساحر في قصيدةٍ معروفة بهذا الاسم٤٤ لشاعر الألمان الأكبر «جوته»؛ فقد انتهز هذا الصبي فرصة غياب معلمه العجوز، ونطق بالكلمة السحرية التي حركت المكانس، فأخذت تحمل الأوعية وتجلب الماء من النهر القريب، حتى فاضت به حجرات البيت وقاعاته، ونسيَ التعويذة التي توقفها، إلى أن جاء المعلم فأبطل سحرها …

هذا هو ما حدث للشاعر «آرب» في تجاربه الأولى مع اللغة — وذلك باعترافه هو نفسه في كتابه «أحلام الكلمات والنجوم السوداء» (١٩٥٣م)؛ إذ أطلق سحر الكلمات ولم يَستطع بعد ذلك أن يبطله! وقد انعكس هذا على عناوين مجموعاته نفسها: «مضخة السحب» (١٩٢٠م)، «رداء الأهرام» (١٩٢٤م)، «تبيض تسود» (١٩٣٠م)، «أصدافٌ ومظلات» (١٩٣٩م)، «أشعار بلا ضمائر» (بالفرنسية ١٩٤١م)، «ضحكة القوقعة» (بالفرنسية ١٩٤٤م)، «أحلامٌ ومشروعات» (بالإنجليزية ١٩٥٢م)، «قلوبٌ كثيفة الشعر»، «ملوك قبل الطوفان» (١٩٥٣م)، «أحلام الكلمات والنجوم السوداء» (١٩٥٣م)، «على ساقٍ واحدة» (١٩٥٥م)، «حلمنا اليومي» (١٩٥٥م)، «كلماتٌ بمرساة وبغير مرساة» (١٩٥٧م)، «رمال القمر» (١٩٦٠م)، «شعلات تشدو بالغناء» (١٩٦١م)، — وقد استمرَّ تأثير المرحلة الدادية الأولى على إنتاجه المُتأخر، فأخذ يكتب قصائد مُؤلِّفة من عددٍ محدود من الكلمات، تظهر بفعل الصدفة في تأليفاتٍ أو «كوكبات» مختلفة، وتكشف ببساطتها عن ثراءٍ لا حدَّ له في تنويع الكلمات وتوزيعها، بحيث أصبحت القصيدة وحدةً حية أو لعبة أطفال، تتداعى كلماتها وصورها ومعانيها دون أي تدخل من جانب المؤلف، وأصبحت العلاقة بين الشاعر والقصيدة أشبه بلعبة القط والفأر!

ونضرب مثلًا لهذا التركيب والتشكيل والتنويع الهائل للكلمات والأسماء والأشياء بإحدى قصائد «آرب»، التي وضع لها عنوانًا يدل عليها ويعبر عن إعجابه الشديد بمجموعةٍ من القصائد الشعبية الشهيرة، التي جمعها وأعاد كتابتها الشاعران الرومانتيكيان «أخيم فون أرنيم» (١٧٨١–١٨٣١م) و«كليمنس برنتانو» (١٧٧٨–١٨٤٢م) بين سنتي ١٨٠٥و١٨٠٨م، ونشراها تحت هذا العنوان المعروف «بوق الصبي العجيب» Des Knaben Wunderhorn، وعنوان هذه القصيدة الطويلة هو «تشكيلة البوق العجيب»:
الصِّبية المُتعانقون يَنفُخون في البوق العجيب،
ملائكةٌ بأحذيةٍ ذهبية يفرغون أكياسًا مملوءة بالأحجار الحمراء،
في كل أعضائها،
وها هي ذي الصواري والكوكبات تتشكَّل،
الراهبات،٤٥ يعرضن آثار قصور هوائية وأكياس نقود،
ولقطاء وبقرات بخارية وأرانب مسرجة،
وأسودًا منجدة حديثًا،
من أسلاك العجلات المُلتهبة تتدحرج الطيور إلى السماء،
النجوم تعطس من أنوفها الشمعية من باقات الزهور،
الرجال والفيران سكارى ويسبحون على الأصابع الطرية،
الأسود المُشتعلة تركض فوق أشجار التامول المُرتعشة،
وكل من له ذيل يعلق فيه فانوسًا،
الليلة كلها توقف على رأسها وترقص رقص الخيالة على ظهر تنين.
التسلق على العصي ومباريات المُصارعة تملأ الليل بواو واو …

•••

الطيور الحمراء ملك الصبية أو الرجال،
القصور الحمراء ملك الراهبات،
النجوم الحمراء ملك الملائكة،
الليل ذو صواري من شمعٍ وأزهار من ذهب،
المعجزة تَتدحرج في الليل على أسلاكٍ مُشتعِلة،
الليل له أقدام من الشمع وأكياس مملوءة بالنجوم على أصابع لينة،
السماء المملوءة بباقات اللهب تتسلَّق العصا المُشتعلة،
وتصعد إلى الزهرة،
الأنوف الذهبية تعطس نقودًا،
أفراد التنِّين تَسبح في النقود،
النجوم تسبح في السماء حاملة أكياسًا ممتلئة بالأطفال،
الأزهار المُشتعِلة تسبح على الأصابع اللينة،
الفيران تُعلِّق فوانيس في ذيولها،
أكياس النقود تعلق فوانيس في ذيولها،
البقرات البخارية تعلق فوانيس في ذيولها،
الأرانب المُسرجة تُعلِّق فوانيس في ذيولها،
الأسود المُنجدة تعلق فوانيس في ذيولها،
الفوانيس لا يجوز أن تعلق إلا بالذيول،
الذيول تكفي لتعليق عددٍ من الأسود المُشتعلة بحيث يُصبح الليل ذهبيًّا،
ذيول الطيور أزهار،
الفيران تصنع قطةً من الشمع وترقُص عليها رقصة الخيالة،
الهواء ينزل عن سرجه وبعض البخار في أنفه،
الأزهار السَّكرى تتحكَّم في الأزهار الندية،
الأحذية المتعانقة الأعضاء الأنوف الأصابع الذيول،
تدلُّ على المعجزة دلالةً كافية،

٤

هكذا يمدُّ القصر الهوائي يده إلى كيس النقود،
وكيس النقود قدمه للقيط،
واللقيط أذنه للبقرة البخارية،
والبقرة البُخارية فاها للأرنب المسرج،
والأرنب المسرج خده للأسد المنجد،

٥

الصبية يتسلَّقون أشجار التامول إلى السماء،
أفراد التنِّين المُشتعِلون والأسود المُشتعِلة ينزلون الصاري المشتعل،
الأنوف الشمعية تتسلَّق العصي السَّكرى،
مباراة المصارعة بين النجوم تسقط الفانوس المَملوء بالأزهار،
الأسود المنجدة تركض بجانب الأصابع الطرية،
الملائكة يَلتهمون الأصابع الطرية كأنها أزهارٌ مُستأنَسة،
أشجار التامول ترتعش أمام الراهبات،
العصي والصواري السَّكرى ترقص مع أفراد التنِّين السكارى،
النجوم تَمتطي ظهور الأسود كالخيالة،
الليلة تقف على رأسها وتعطس،
الأحذية تشتعل بالنيران،
الرجال والصبية يُطفئون فوانيس الأرانب.

لعبةٌ رشيقة مجنونة، تَعبث بقطعٍ لا حصر لها وتجمعها وتفكُّها كما تشاء الصدفة أو يشاء التداعي الحر: صبيةٌ ورجال وملائكة وراهبات، نجومٌ وفيران وأرانب وأسود، وحوش وأزهارٌ وفوانيس وأكياس نقود … إلى آخر هذا البستان الخُرافي أو هذه المتاهة العجيبة التي تتشابك دروبها وتختلط معالمها، إنَّ اللعبة كلها أشبه بساعةٍ أوتوماتيكية تعمل دون تدخل المؤلف، أو بتمثيلية عرائس تدور على مسرحٍ كَوني هائل، والشاعر يقف بعيدًا عنه أو فوقه، ويكتفي بتحريك الخيوط والأسلاك أو التفرُّج على تشكيلات الكلمات والمعاني وتنويعاتها، التي تتَّسع وتنداح أمواجها كالدوامات المائية إلى ما لا نهاية.

لا شك أن هذه الألعاب قد صدمت القصيدة الألمانية وساعدتها على التخلص من كثيرٍ من أعبائها القديمة، من النزعة الصوفية الغامضة، والتعقيد باسم التعمُّق، وأدغال الاستعارات والصور المتشابكة الكثيفة، ولا شك أنها قصرت وجودها على الوجود اللغوي أو اللفظي البحت، وجعلتها تَبتعِد عن نفسها وعن صاحبها في وقتٍ واحد، وتنطلِق رشيقة خفيفة كدُميةٍ صمَّمت على العبث وحسب!

وقد كتب «آرب» مجموعةً من القصائد عن الدُّمى والعرائس، أقدم لك من إحداها هذه الأبيات، التي يقول فيها مخاطبًا نفسه على لسان هذه الدمى البائسة:

رضعَتْ مني،
لوتْ أعضائي،
وقبَّلتني وعادت تَرضع مني،
وتلعب معي لعبة القُرود،
وقُبلاتي تناثَرت،
أزهاري انطَفَأت،
ينابيعي خرست واحدةً بعد الأخرى.
أنا الآن متعبٌ، ذابلٌ، فارغٌ،
مثل كأس أفرغها الشاربون،
الأرض كذلك كأس فارغة،
لست كبيرًا ولا صغيرًا …
جئت من أفقٍ بلا حُدود.
هناك لا يَعبق عبير الشفاه،
هناك لا تسطع النجوم الحية،
في وجه الحلم الحبيب،
ألعب تحت سماءٍ عمياء،
بثمراتٍ زجاجية،
وأتركها تسقط في حذرٍ إلى الأعماق،
لست صاعقة،
لست دمية،
لست شعلة،
إنني دمية،
غير أنني أتمنى دائمًا،
أن أبرق كالصاعقة وأشتعل كالنار،
وكذلك يُسعدني لو كانت لي رُوح،
لم لم أكن أغنية؟
لم لا تكون لي أجنحة؟
قبعةٌ من الصيني على رأسي،
لن تكون كثيرة عليَّ،
نعم، وستكون ضرورية لي،
كالصليب على قمة برج الكنيسة،
أنا فقيرة،
أنا عارية،
أهناك شيء،
لم يعدني به الناس؟

يبدو أن هذه اللعبة الساحرة قد انتهَت إلى الآلية الميتة، وفقدت السحر والحياة فأصبحت الكلمات والمعاني والأشياء أشبه بالعرائس الجامدة الباردة، وخيَّم عليها الحزن والاكتئاب، فراحت تدور في فراغ الصمت الموحش، وكأنها لا تحيا ولا تموت …

وقد جاء شعراء وأدباء آخرون فواصلوا السير على هذا الدرب الذي شقه هانز آرب، وبالغوا في حرية اللعب البريء — أو المقصود — والحركة المُطلقة من كل قيدٍ ففقدُوا طريق العودة، وأسرفوا في التركيب والتنويع والتجريب والإغراب في الصور والاستعارات، واختزال الكلمات وتفتيتها وترتيب رسومها على الصفحات بغير نظام، كما تنتشر النجوم على صفحة السماء (وقد سبق أن حاول «مالارميه» هذا في نصٍّ محير يتحدث عن إنسان غريب يتأرجح بين المطلق والعدم، ويجاهد للتخلي عن كل وجودٍ مادي أو تجريبي خاضع للصدفة).٤٦

يتزايد اليوم عدد الشعراء المُتأثِّرين بهذا التيار أو المتطوِّرين به على صورٍ مختلفة، ومن الصعب أن نتكلَّم عن اتجاهاتهم أو نُقدِّم نماذج لهم جميعًا، فبعضُهم يَميل إلى التحليل الاجتماعي ونقد العصر والسخط والغضب والاحتجاج السياسي، وبعضهم يتَّجه للأسلوب العلمي والعقلاني، ويقترب كثيرًا من مجال العلماء المتخصصين ومصطلحاتهم العويصة، ويطبق مناهجهم على بناء الجملة وإيقاع الكلمات وترتيبها، وينهل بعضهم من ينابيع الأسطورة والحكاية الشعبية، والطقوس البدائية والعقل الباطن والرؤى والأحلام والكوابيس، ويُمكننا أن نذكر من أسمائهم: هلموت هيسنبوتل (١٩٢١م–…) وجنتر كونرت (١٩٢٩م–…) وأويجن جومر ينجر (١٩٢٤م–…)، وأ. أ. شول (١٩٢٦–…) وأرنست ياندل (١٩٢٥–…) وفريدريكه مايروكر (١٩٢٤–…) وهانز كارل أرتمان (١٩٢١–…) وفرانزمون (١٩٢٦–…) الذين أشرت إلى معظمهم من قبل.

أسرف هؤلاء جميعًا وغيرهم كثير في التركيب والتشكيل والتنويع …

فهل انتهى بهم اللعب إلى الصمت؟

أم ليس من حقنا أن نتسرع بإلقاء هذا السؤال؟

(٥) الصمت

هل يزحف الصمت في السنين الأخيرة — كما يقول الشاعر الكبير كارل كرولوف٤٧ — على القصيدة الألمانية؟

ليس من السهل أن نقطع بهذا، وليس من السهل أيضًا أن نُعمِّم الحكم على الشعراء — وحتى لو ثبت صحة هذا الرأي في حالاتٍ كثيرة، فلا يُمكن أن نقصره على شعراء بلاده وحدهم، ولكننا نستطيع أن نقول إنهم في الغالب — وبقدر ما تسمح النماذج القليلة التي بين أيدينا بالحكم عليهم — يَزدادون حرصًا وحذرًا في استخدام الكلمة، وكأنهم يُحاولون أن ينتزعوها من هوة الصمت أو يُعيدوها إليه، وربما استطاعت بضعة أبيات للشاعر السويسري «أويجن جومر ينجر» الذي سبقت الإشارة إليه أن تُمهِّد لنا الدخول في هذا الجو المُشبع بالظل والصمت والكتمان:

الكلمات ظلال،
الظلال تصير كلمات،
الكلمات ألعاب،
الألعاب تصير كلمات،
حين تكون الظلال كلمات،
تصير الكلمات ظلالًا،
حين تكون الكلمات ظلالًا،
تصير الكلمات ألعابًا،
حين تكون الكلمات ألعابًا،
تصير الظلال كلمات.
ربما تتردَّد كثيرًا — وأنا معك — قبل أن تُسمِّيَ هذا شعرًا، ولكن النص المركز يوضح الظاهرة التي نتحدَّث عنها؛ فالكلمات والألعاب والظلال تتداخل في بعضها البعض، وتكون تركيبةً لغوية أو كوكبة لفظية، تصور الحالة النفسية التي يحسها الشاعر، وهو يتعامَل مع الكلمات ويتأملها، ويرصد حركتها واتجاهها وهدفها — أو بالأحرى يتركها تُحدِّد لنفسها الحركة والهدف والاتجاه، وليس هذا أمرًا مُستغربًا من الشاعر المعاصر، الذي ورث قدرًا كبيرًا من التأمل في «فن الشعر»، ووظيفته وماهيته عن أجداده من الرمزيين وأصحاب الشعر «الأبولي»، أو العقلي المحض وأصحاب الشعر «الديونيزي»، أو الشعر السادر في غياهب الحلم وأعماق العقل الباطن،٤٨ لقد استقرَّ في ضميره أن العمل الشعري مغامرة من مغامرات العقل، الذي يعمل ويتأمل عمله في وقتٍ واحد، وإذا كان يُحاول الآن أن ينشئ تركيبات شعرية عجيبة، تختلط فيها الصور الشعرية العريقة كالنجوم والرياح والبحار والظلال والأزهار، بصور الحضارة الآلية والعقلية واصطلاحات العلم ودقة الرياضة والحساب، فهو إنما يعبر عن احتجاجه على العصر وتأثره به في وقتٍ واحد … وهل نفهم عصرنا إن لم نَفهم أنه عصر المُحاولة والتجربة والمغامرة والحرية التي لا تقف عند حد؟

ومهما يكن رأينا في النص السابق فهو شاهدٌ على الميل إلى الاختزال والتركيز، والرغبة في التشكيل والتركيب والتعديل في مادة البناء الشعري عن شغفٍ باللعب الحر أو عن تعمدٍ ذهني مقصود، ويجب ألا يَغيب عن بالنا على كل حال، أن مثل هذه «القصائد» لا تخلو تمامًا من العاطفة ولا من التنغيم والإيقاع، بل لقد تكون هذه التركيبة التي تَنفِر منها لأول وهلةٍ، هي الوسيلة لتحقيقها في عالمٍ يبدو أنه أقفر من فيض العاطفة وعذب الأنغام.

ولكن هذه الظلال التي تحدَّث عنها «جومر ينجر» يرين عليها صمتٌ أليم عند شاعرٍ حساس عميق جاد، وهو «باول سلان» الذي التقينا به في سياق الكلام عن قصيدة الحب، ويكفي أن نقرأ هذه الأبيات من قصيدة «تكلم أنت أيضًا» التي نشرت في مجموعته الشعرية «من عتبةٍ إلى عتبة» (١٩٥٥م):

تكلم أنت أيضًا،
تكلم كآخر إنسان،
قل كلمتك،
تكلَّم،
لكن لا تَفصل اللا عن النَّعَم،
أضف المعنى إلى كلمتك،
أعطها الظل،
أعطها ما يكفي من الظلال،
أعطها بقدر ما ترى نفسك،
مُوزعًا بين منتصَف الليل والظهيرة ومُنتصَف الليل.
تطلع حولك:
انظر كيف تدبُّ الحياة من حولك،
بحق الموت! الحياة!
ينطق بالحق مَنْ ينطق بالظلال!
أما الآن فيَنكمِش المكان الذي تقف فيه:
إلى أين تمضي الآن، أيها العاري من الظلال،
إلى أين؟
اصعد وتحسَّس (طريقك) إلى أعلى.
ستزداد هزالًا، سيَصعُب التعرُّف عليك، ستكون أرق!
أرق: خيطًا.
يودُّ النجم أن يهبط عليه:
ليسبح في الأعماق، الأعماق،
حيث يرى نفسه وهو يَسبح:
على أمواج الكلمات المسافرة.

ها هي ذي الظلال تزحف على الكلمة، والكلمة تحيا وسط الأخطار المميتة المحدقة بها (أهي أخطار العصر نفسه؟)، والشاعر لا يستطيع أن يخفي فجيعته وقلقه من هذا المصير، والقارئ لا يستطيع أيضًا أن يمنع نفسه من المشاركة فيه، بل إن الشاعر نفسه يطالبه بهذا:

أما الآن فينكمش المكان الذي تقف فيه:
إلى أين تمضي الآن، يا من تعريت من الظلال،
إلى أين؟
اصعد، تحسس طريقك إلى أعلى … إلخ.
وأشعار «سلان» غنية بهذه المشاعر والمخاوف والأفكار، التي تعبر عن أزمةٍ حقيقية مع اللغة والواقع، أزمةٌ بلغت به إلى حدود ما لا يقال أو ما يستعصي على التعبير، وظلت تلح عليه وتعذبه حتى أنهى حياته اليائسة بالانتحار،٤٩ ويبدو أن الكلمة أخذت تُراوغه وتصر على إغلاق فمها حتى وصفها (في مجموعته شباك لغوية) بأنها: «صمتٌ صغير لا سبيل إليه» أو بقوله:
هذه كلمة، مشت بجانب الكلمات،
كلمةً على صورة الصمت.

ويبدو أيضًا أن الصمت ازداد إلحاحًا عليه فتحول أو كاد إلى خرسٍ أو بكم:

بكم، من جديد، متَّسع، بيت:
تعالَ، عليك أن تسكن فيه.

ويبلغ التعبير عن أزمة الكلمة التي تغرق في الصمت أو الصمت الذي يغرق الكلمة أقصى مداه في هذه الأبيات الرقيقة المؤلمة التي نقرأها في إحدى قصائد ديوانه «شباك لغوية» (١٩٥٩م):

جاءت، جاءت.
جاءت كلمة، جاءت،
جاءت عبر الليل،
ودَّت لو تسطع، تسطع.
رماد.
رماد، رماد.
ليل.
ليلٌ معه ليل.
اذهب للعين،
العين المُبتلة.

ماذا بقي لهذا الشاعر؟ هل يبقى غير الصمت الأخرس وسط حفيف الألفاظ؟ هل يبقى غير سكون يرجو عبثًا أن يهمس؟ ألمٌ مُختنق يلجأ للكتمان؟ قدر، عكاز أعمى وأصم، يسعى في الليل المُظلم:

كلمة، أنت الأدرى:
جثة.
دعنا نغسلها،
ونمشطها،
دعنا نَلفت عينيها
نحو سماءٍ عالية السمت.

هكذا يكون «سلان» أول شاعر اتجه إلى تلك الأرض التي رفعت فوقها رايات الصمت السوداء، ولكن عواطفه الحساسة كانت أقوى من أن تخفي فرديته، وحذره الشديد من الكلمة كان أضعف من أن يترك لها الحق في الاستقلال بنفسها، بيد أنه اقترب على كل حال من تلك الحدود اللغوية التي عبرها غيره من بعده، فراحوا يكتبون «قصيدة» هي في الحقيقة تركيبة لغوية خالصة، أو بالأحرى كلمات مفردة محسوبة تذكرنا في بعض الأحيان بجداول الكلمات المتقاطعة التي تفتن عددًا كبيرًا من قراء صحفنا اليومية ومجلاتنا الأسبوعية!

كان «هلموت هيسنبوتل» من أوائل الشعراء الذين لفتوا الأنظار بمثل هذه «النصوص» أو التدريبات المَحسوبة، وقد سار في تجريد الكلمة وتعريتها إلى الحد الذي بدت معه «قصائده»، كالأبنية الهندسية أو الحسابية بالقياس إلى القصائد التي ذكرناها لهانز آرب أو باول سلان! لنقرأ معًا هذه السطور التي كتبها «هيسنبوتل»، لنرى كيف زحفت صحراء الصمت على الكلمات، وكيف ازدحمت بما يُسمِّيه المناطقة قضايا «تحصيل حاصل»:

الظل الذي ألقيه هو الظل الذي أُلقيه،
الحالة التي وصلت إليها هي الحالة التي وصلت إليها،
الحالة التي وصلت إليها هي لا ونعم،
الموقف موقفي موقفي الخاص،
مجموعات مجموعات تتحرَّك فوق سطوحٍ فارغة،
مجموعات مجموعات تتحرك فوق ألوان فارغة،
مجموعات مجموعات تتحرك فوق الظل الذي أُلقيه،
الظل الذي أُلقيه هو الظل الذي ألقيه،
مجموعات مجموعات تتحرَّك فوق الظل،
الذي ألقيه وتختفي،

و«تحصيل الحاصل» هو التعبير عن نفس الفكرة بكلماتٍ مختلفة؛ أي إنه كلامٌ لا يُفيدنا شيئًا ولا يزيدنا علمًا بشيءٍ جديد.

وهيسنبوتل يُحاول في السطور السابقة أن يجعل الكلمة البسيطة قادرة على التنوع والتكرار، وهو يقلبها على وجوهٍ مختلفة وبطريقةٍ منطقية محكمة، تذكرنا بطرائق المنطق الرياضي أو الرمزي، أيريد هذا الشاعر وأصحابه أن يحموا القصيدة من التردِّي في هوة الفراغ والصمت الذي كان يتهدَّدها؟ وهل تراهم حقَّقوا هذا التوازن العسير عن طريق المبالغة في التركيز والاختزال والحساب الدقيق والتكرار وتكرار التكرار إلى ما لا نهاية؟

يقول «هيسنبوتل» في قصيدةٍ بعنوان «قصيدةٌ تعليمية عن التاريخ» (١٩٥٤م):

ما يَقبل التكرار.
ما يقبل التكرار هذا هو موضوعي،
ما يقبل التكرار هذا هو موضوعي،
ما يقبل التكرار هذا هو موضوعي،
ما لا يقبل التكرار،

وهناك نصوصٌ أخرى لنفس المؤلف يصعب بل يَستحيل نقلها إلى العربية؛ لأنها تَعتمِد على الاشتقاق من الكلمات الأصلية وتشريحها، والتنويع على مقاطعها وأجزائها.

أهو تجديدٌ عن طريق «التصعيد» والمبالغة في تأكيد الكلمة أو معناها بالتكرار الصوتي، أم هي تمارين عقلية يُمكن أن تخرج من معمل صوتيات أو حاسب إلكتروني؟ وماذا يبقى للشاعر أو للقارئ من هذه الصحراء اللغوية التي يصفها أصحابها بأنها كوكبات Konstellationen أو تأليفات أو تركيبات Kombinatorik – Kombinationen (والكلمة تتردد بالفعل في عناوين بعض المجموعات التي تضم أمثال هذه النصوص).
لعل الشاعر السويسري «إويجن جومر ينجر» الذي أشرت إليه من قبل أن يكون قد سبق «هيسنبوتل» إلى هذا النوع من التركيبات أو الكوكبات كما يحب أن يُسميها، وإن كان يفوق الأخير خفةً وطلاقة وتحررًا، ها هو ذا يصف منهجه بقوله: «أقصد بالكوكبات تجميع كلمات قليلة مختلفة، بحيث لا تنشأ العلاقة المتبادلة بينها بالدرجة الأولى عن طريق الوسائل المتبعة في تركيب الجمل وإعرابها، بل عن طريق حضورها المادي والحسي الملموس في نفس المكان، بهذا تنشأ علاقات متعددة في اتجاهاتٍ متباينة بدلًا من علاقةٍ واحدة؛ بحيث يتيح هذا للقارئ أن يتقبل ويجرب تفسيرات معنوية عديدة، من خلال البناء الذي يحدده الشاعر (عن طريق اختيار الكلمات)، ويكون موقف القارئ الذي يطلع على الكوكبات هو موقف المشارك في اللعبة، وموقف الشاعر ومُصمِّم اللعبة.»٥٠
ويُمكن أن نوضح ما يقوله «جومر ينجر»، بقصيدةٍ مشهورة كتبها أ. أ. شول (١٩٢٦م–…)، ووضع لها عنوانًا لا يخلو من المفارقة وهو «شعر»،٥١ وهي تُعبر عما يُسمِّيه بالشعر البنائي أو التركيبي Strukturlyrik، وأرجو أن يلاحظ القارئ ترتيب أبياتها على مساحة الصفحة بحيث يَتقابل الطرفان باستمرار:

الشعر

يبدأ حيث ينتهي المضمون،
الوردة الصوفية تتفتَّح،
وراء الكلمات الذهبية،
خارج أسوار المدينة،
وراء الأشكال العقلية،
خارج النظم الفِكرية،
في توهج الصقيع،
في نموذج الحصان الأبيض المرسوم على السجاد،
على الحائط الخلفي للمذابح المقدَّسة،
في بؤرة الأشياء،
التي لا تتحدَّث،

القصيدة٥٢

نموذج جزئ مؤلَّف من صوتيات،
نافذة كنيسة مُركَّبة من أسماء،
شبكة عنكبوت منسوجة من ذكريات،
منشور من٥٣ يوتوبيات
كوكبٌ من محذوفات،
نظام شمسي،
وراء النظام الشَّمسي،
فانٍ لهذا فهو غير فانٍ،
مؤقَّت لهذا فهو نهائي،
زمني لهذا فهو بغير زمان،
مؤلَّف من شذرات لهذا فهو كامل،
عاجز لهذا فهو قوي،
قابل للمحاكاة لهذا فهو لا يقبل التكرار،
لا منطقي لهذا فهو منطقي،
غير واقعي لهذا فهو واقعي،
غير ملموس لهذا فهو ملموس،
قريب لهذا لا تَبلغه سفن الفضاء،
قابل للجرح؛ لهذا فالأسلحة التكتيكية والاستراتيجية لا تجرحه،
يحمله الإنسان،
في سلسلةٍ ضئيلة،
تحت القميص،
على الجدار العاري.٥٤

هذه التجارب البنائية لا تخلو من سحرٍ أخاذ؛ فالكلمة، بل الحرف، ينسلخ عن التعبير العضوي الحي ويستقلُّ بنفسه، وليس من الضروري أن يذهب بنا الخيال إلى الألعاب العبثية والتهريجية التي صورها «أندريه بريتون» وأصحابه من السيرياليين، ولا إلى الأدباء الذين يتعمَّدون التكلف والتصنع والإثارة بأي سبيل، بل يكفي أن نقلب مجموعةً شعرية مختارة لشاعرٍ كبير كان له — كما رأينا — أكبر الأثر على الأجيال المعاصرة، قبل أن تُزحزحه الموجات الأخيرة إلى منطقة الظل، والمجموعة الشهيرة التي أقصدها هي «قصائد ساكنة» (١٩٤٨م)، والشاعر هو جو تفريد بن (١٨٨٦–١٩٥٦م)، والقصيدة التي سنختارها هي «الأنا الضائعة»، وسبب اختيارها أنك ستلمس فيها أصول النظرة الجديدة للمكان والزمان، كما تعثر على مفاتيح اللغة الجديدة التي تشهد على الاتجاه إلى التفتيت والتقطيع، والتجريد من الشخصية الفردية، واللجوء إلى المصطلحات والمناهج العلمية والفنية المعقَّدة، ولعلَّك ستُلاحظ أيضًا تردُّد بعض الكلمات التي تدل على المعجم الشعري المألوف في السنوات الأخيرة كالضياع، والتفجر، والتفتت، والجزيء، والمجال، وأشعة جاما، ودالة اللانهاية … إلخ:

«أنا ضائعة»٥٥

أنا ضائعة، تفجَّرت من الغلاف الهوائي،
ضحية الأيون: أشعة جاما — لا —
جزيء ومجال: أوهام لا نهاية،
على حجرك المعتم في نوتردام،
الأيام تمضي بك بلا ليلٍ ولا صباح،
السنوات تتوقَّف بلا ثلجٍ ولا ثمر،
تنذر وتُهدد واللانهائي خفي،
العالم هروب،
أين تنتهي، أين تقيم،
أين تمتد أفلاكك؟ خسارة، مكسب،
لعبة وحوش، أبد وأزل،
تفر إلى قضبانها.
نظرة الوحوش: النجوم تبدو كأمعاء حيوانات،
الموت في الأدغال كأنه أصل الخلق والوجود،
بشر، مجازر شعوب، حقول كروم،
تهوى إلى حلوق الوحوش.
العالم فتته الفكر، والمكان والأزمان،
وما نسجت البشرية وأبدعت،
ليس إلا دالة اللانهائية،
الأسطورة كذبت …
من أين، إلى أين، لا ليل، لا صباح،
لا تهليل ولا قداس،
تود أن تقترض شعارًا،
لكن ممن؟
آه، لما انعطفوا جميعًا نحو مركزٍ واحد،
ولم يفكر المفكرون إلا في الله،
توزعوا بين الرعاة والحمل،
عندما طهرهم الدم المنساب من الكأس،
واندفق الكل من الجرح الواحد،
كسروا الرغيف، الذي تذوَّقه كل من شاء،
آه أيتها اللحظة البعيدة القاهرة المُمتلئة؟
التي عانقتها الأنا الضائعة أيضًا ذات يوم.

•••

أطلالٌ على أطلال، وأنقاضٌ فوق أنقاض!

قصيدةٌ لا شك في أنها تُعدُّ قمة ما وُصف بأدب الخرائب، الذي كان رد فعل لكارثة الحرب، وإن كانت تفوقه عمقًا ونفاذًا ووعيًا، وإذا كان أدب الأنقاض والخرائب قد انقضى وذهبَت أيامه، فلا شكَّ أنه لا يَزال يؤثر بصورةٍ أو بأخرى على وجدان المعاصرين وعقولهم، حتى ولو لم يشهد بعضهم هذه الخرائب والأنقاض بنفسه، لقد أصبح الأمر الآن برامج ومناهج يقوم فيها العقل والمنطق والحساب بالدور الأكبر، تحولت اللغة إلى أنقاضٍ مُتناثرة من جمل مفتتة وكلمات ممزقة، وأصبح الشاعر هو مهندس الكلمة الذي ينظم التعبير الشعري أو بالأحرى ينظم اللغة نفسها.

وقصائد «هلموت هيسنبوتل» العديدة تُوضِّح لنا كيف تتولد الكلمة من الكلمة، والفكرة من الفكرة، وكيف يبلغ الاقتصاد في القول مداه، وتتداخل الجملة من الناحية النحوية في جملةٍ أخرى أو تخرج على قواعد النحو، ومن الصعب كما سنرى من المثال القادم أن نصف هذه التكوينات اللغوية بأنها قصائد، فهي خالية من البداية والنهاية والمعنى والسياق الذي يميز القصيدة التقليدية، ولعل أفضل وصف لها هو الذي أطلقه عليها «مهندسو الكلمات» وفي مقدمتهم هيسنبوتل، الذي سيُوضح ما نقول بهذه السطور التي جعل عنوانها:

تركيبية ٧

(١) الزمن مرير!

لكن في ثقب السحاب يحترق حجر التحول الأخضر.
سطوحٌ ملوَّنة تنساب خلال هياكل مجرَّدة.

(٢) حنينٌ للوطن.

حقول الكلمات تكشف عن تركيباتٍ،
مُستمَدة من الاختراع.

(٣) حياةٌ عجيبة!

شذرات نصٍّ تضمَن فيها باستمرار،
شذرات أخرى.
ولكن أيها هو النص الصحيح؟

(٤) أيادي الخريف ورقَّة الشتاء.

الأيام الجميلة مجهزة (كعينات) الفراشات.

(٥) وتسقط أوراق الشجر.

على الأرض المظلمة،
فتقدم لها جميعًا،
فمها المفتوح!

ولكن ألا يُمكن أن تتحوَّل القصيدة مع هذا التطور إلى مجرَّد مادةٍ لغوية أو حشو لفظي جامد رتيب؟ ألم تتحوَّل عند هيسنبوتل إلى ما يشبه أن يكون جدولًا رياضيًّا يتألف من كلماتٍ مفردة ذات قيمة مطلقة؟ أليس في هذا قضاء على النص الشعري ككائنٍ عقلي أو روحي حي؟ هل تصبح القصيدة كالعقرب الذي يُسمِّم نفسه بنفسه؟ وهل يصل الأمر بها إلى الانتحار على يد بعض هؤلاء المجدِّدين والمجرِّبين؟

لنعتصم بالصبر، ولنتوقف عن الحكم حتى نقرأ إحدى هذه «القصائد»، على يد أحد مجربيها وأشدهم تطرفًا، وهو الشاعر النمسوي «أرنست ياندل» الذي سبقت الإشارة إليه، وأرجو أن يلاحظ القارئ أن القصيدة مجرَّد تنويع على أربع كلماتٍ هي: الحب والباب والكرسي والبطن، وأن الحب قد كتبت في الأصل بالفرنسية، والباب بالألمانية، والكرسي بالإنجليزية، والبطن بالألمانية … وحجة ياندل هي أن هذه الأغنية (!) التي ستقرؤها الآن هي المحاولة الوحيدة الممكنة لخلق لغة يستطيع المجتمع الأوروبي بأسره أن يَفهمها! طموحٌ ضخم … ولكن لنقرأ القسم الأول من هذه الأغنية؛ لأن القسم الثاني منها يعتمد على عملية تباديل وتوافيق، وقص ولصق تتم بين حروف الكلمات المختلفة ومقاطعها، وإضافة أدوات التعريف لبعض الكلمات من لغةٍ أخرى، ممَّا يستحيل بالطبع نقله إلى العربية:

الحب.
الباب.
الكرسي.
البطن.

•••

الكرسي.
الباب.
الحب.
البطن.

•••

البطن.
الباب.
الكرسي.
الحب.

•••

الحب.
الباب.
الكرسي.

•••

الباب.
الحب.
الكرسي.
البطن.

ثم تنتقل أدوات التعريف لكلمةٍ فرنسية مثلًا إلى كلمةٍ إنجليزية أو ألمانية، ويتكرَّر هذا التداخل بين الكلمات وأدوات التعريف إلى حدٍّ محير، وطبيعي أن هؤلاء الشعراء ليسوا مجانين، بل أناس يُجربون ويثيرون السخط أو الضحك والابتسام … (وياندل نفسه مدرس في إحدى المدارس الثانوية بفينا، وصدرت له عدة مجموعات من «القصائد المضادة للقصيدة»، كما ترجم إلى الألمانية رواية الجزيرة للشاعر الأمريكي روبرت كريلي)، وهم يُجربون القصيدة الصوتية أو قصيدة الحروف التي تعتمد على التكرار الصوتي لنفس الكلمات أو نفس الحروف، وأحداث تشكيلية موسيقية عجيبة هدفها الوحيد هو الإيقاع والتلوين الصوتي، مُتأثرين في ذلك بما وصل إليه التعبيريون والداديُّون، وبنية العبارة في اللهجة العامية، والاقتصاد والإيجاز إلى أبعد مما حقَّقه شعراء مثل: برشت وجاك بريفير وساند بورج، والتلذُّذ بمُتعة اللعب بالألفاظ بصرف النظر عن المعنى أو اللامعنى، وليس هذا في الحقيقة عجزًا بل هو رغبة في التجريب وفتح آفاق جديدة للقصيدة، وهناك قصائد عديدة «لياندل» يُمكن فهمها بل تذوقها، وهناك عددٌ آخر يُسميه «قصائد لغوية» كل همها أن تُحدث صدًى معينًا، اقرأ من النوع الأول هذه الأبيات التي وضعها تحت عنوان «علامات»، وأراد بها أن عصر البطولة الكلاسيكية قد انقضى دون أن يمنع هذا من الاستمرار في التجارب الأدبية والشعرية:

انكسرت الجرار المُنسجمة،
والأطباق التي رُسم عليها وجه إغريقي،
ورءوس الكلاسيكيين المذهبة،
لكن الطين والماء لا يزالان يدوران،
في أكواخ صانعي الفخار.

أما النوع الثاني فتوضحه قصيدةٌ من أربع مقطوعات، لا تختلف عن بعضها إلا في الحرف الأول لكل كلمة تتكرَّر فيها، ومن رأي المؤلف أن هذه المقطوعات الأربع تمثل العنصر الشعري الغنائي، ثم التراجيدي ثم الشيطاني ثم بقرة الفن على الترتيب!

رش …
رش …
رش …
رش …
لي إي إي إي إي إي …
والمقطع الثاني يُغير الكلمة فتصبح جيش وتنتهي بالصوت ترا آ آ آ آ … وفي الثالث تصبح فليش وتنتهي تو و و و إي ي ي ي، وفي الرابع تتكرَّر سيش أربع مرات وتنتهي بالصوت المحدود مو و و و و … إلخ، هذا إلى جانب قصائد أخرى تقدم ما يُسمِّيه «ياندل» بالأشكال «الفارغة»، ومنها قصيدة عن السوناتة تسير على نفس ترتيب السوناتة إلى أربعة عشر سطرًا، مقسمة إلى مقاطع ٤، ٤، ٣، ٣، والغريب أن قصيدته لا تفعل شيئًا في كل هذه السطور إلا أن تكرِّر كلمة «سونيت» نفسها بحسب النظام المعروف!٥٦

وهناك كما قلت شعراء عديدون ذكرت لك أسماءهم من قبل يسيرون في هذا الطريق، ولا يمكن الحكم عليهم لقلة المادة التي بين يدي عنهم، والتريث في الحكم لا يمنعنا من إلقاء بعض الأسئلة حول هذه التجارب التي سيفصل المستقبل وحده في أمرها: أيكون الهدف من هذه المحاولات هو إعطاء الكلمة المفردة، بل الحرف الصغير، حقه في الوجود والحياة؟ أتكون الكلمات أشبه بقطع النرد أو الزهر التي يلقي بها الشاعر كيفما اتفق وبطريق الصدفة، أم تكون عودة إلى لغة الطفولة أو بالأحرى أصواتها إلى هذه اللغة الأم؟ وماذا يريد هؤلاء الشعراء من تحويل القصيدة في بعض نماذجهم إلى أصواتٍ تُسمع أو رسوم تُرى مُتناثِرة على الصفحات البيضاء، بعيدًا عن أي دلالة أو معنى؟ هل يريد «ياندل» وأصحابه النمسويون والألمان أن يتركوا خيول الكلمات تسوق عربة الشعر كما تشاء، أم أنهم في الحقيقة أعداء الشعر على الإطلاق أو على الأقل بمفهومه التقليدي؟

لا شك أن القصيدة كانت دائمًا تقاوم الشاعر وتراوغه ولا شك أيضًا أن أمثال هذه التجارب تنطوي على شيءٍ غير قليل من الظرف والذكاء والتشويق والدعابة … ولو تتبَّعنا شجرة نسبها — لوجدنا أنها هي الحفيدة الشرعية لمحاولاتٍ مختلفة سبقتها على يدي رامبو ومالارميه وبعدهم عددٌ كبير من التعبيريين والسيرياليين والداديين الذين أطلقوا — كما رأينا — حرية الكلمة، أو بالأحرى إيقاعها ونبر حروفها، في استدعاء كلماتٍ أو أصواتٍ أخرى دون اعتبار للسياق أو المعنى أو البناء اللغوي والنحوي.

ما مصير هذه المحاولات؟

هل يمكن أن تُؤدِّي إلا إلى الصمت والفراغ؟

وما مصير الكلمات التي أصبحت عندهم أشبه بالعرائس البائسة أو الطيور المحنطة المحبوسة في أقفاصٍ وحيدة تتأرجَح في فضاء الكون؟

أتكون في النهاية نزعةٌ صوفية جديدة تُواصِل ما بدأه «الرمزيون»، من تطهير الكلمة وتجريدها من كل أثرٍ مادِّي أو معنوي؟

أسئلةٌ مُتهوِّرة كما ترى، خارجة بطبيعتها عن مجال العلم الذي لا يتنبأ بالمستقبل، بل يعني نفسه بالظواهر الحاضرة بين يدَيه، فلنقِ أنفسنا شر التعميم وشر الظلم، ولنتريث في الحكم عليهم أو لهم، فربما لم يحن الوقت بعد للتمييز بين الأصالة والسخف، والصدق والزيف، ولا يزال هؤلاء «المتطرِّفون» لحسن الحظ قلة ضئيلة، ولا يزال هناك شعراء يتغنون بالطبيعة أو الحب أو يرفعون أصواتهم بالاحتجاج والالتزام بقيمة الإنسان، صحيحٌ أن بناء الشعر قد تغير على أيديهم واختلف كثيرًا عن شعر آبائهم وأجدادهم، كما اختلف عما كنا نفهمه من الشعر أو نرجوه منه، ولكنه ظل في أفضل نماذجه محتفظًا بصوت الشعر الخالد وروح الغناء، وفي هذا عزاء لأحباب الشعر أي عزاء.

١  راجع إن شئت مزيدًا من التفصيل في كتابي عن التعبيرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٧١م.
٢  راجع لكارل أوجست هورست: أبنية وتيارات، الأدب الألماني في القرن العشرين، ميونيخ، دار نشر نيمفينبرج، ١٩٦٣م، ص١١٢ وما بعدها حتى صفحة ١٢٩.
Karl August Horst; Strukturen Und Stromungen. Deutschsprachige Iiteratur in 20. Jahrhundert. Munchen, Nymphenburger Verlagshandlung, 1963–S, 112–129.
٣  بلَغني بعد إتمام هذا المقال أن آيش قد تُوفيَ في الأيام الأخيرة من العام المنصرم، والذين يَعرفون آيش سيُقدِّرون الخسارة الفادحة التي أصابت الأدب الألماني والعالَمي بموتِه المُبكر، وإني لأستأذن القُرَّاء والأدباء العرب في تعزية أحبابه وعارفي فضله ومنزلته تعزيةً قلبية صادقة.
٤  كارل كرولوف، الشعر الألماني بين سنتي ١٩٤٥، ١٩٦٥م (مطبوعة على الآلة الكاتبة، مؤسسة بين الأمم، دون تاريخ).
Karl Krolow; Deutsche Lyrik 1945–1965 s. 1 (Inter– Nationes O. J).
٥  راجع مزيدًا من التفصيل عن هذين الشاعرين الكبيرين في كتابي السابق عن التعبيرية.
٦  راجع عنهما ص٢٤٤ إلى ص٢٤٨ من كتابي عن الشعر الحديث.
٧  أودُّ أن أحيلَ القارئ إلى كتابي «قصائد من برتولت برخت» دار الكاتب العربي بالقاهرة ١٩٦٧م، وبه دراسة عن حياته وشعره وعدد كبير من عيون قصائده، وإلى مقالي عن المسرح المَلحمي المنشود في مجلة الآداب البيروتية، عدد نوفمبر ١٩٧٢م.
٨  كما يشهد على هذا عنوان المجموعة الشعرية «قصيدتي هي سكيني»، وقد استعارت منه هذا العنوان الذي لا يُنسى.
٩  وهي على الترتيب:
Lerche und Sperber
Von des G. luckes Barmherzigkeit
Gesang und nicht zu sterben Ende und Anfang An die Wand Geschrieben.
١٠  عن ديوانه «مكتوبٌ على الحائط»، هامبورج، دار نشر روفولت، وقد أخذت القصيدة عن مجموعةٍ مُنتخَبةٍ من الشعر الألماني في العصر الحاضر، اختارها الشاعر فيللي فيزه وقدَّم لها، وظهرت ضمن مجموعة كتب ركلام المشهورة سنة ١٩٥٧م، ص٢٣٩–٢٤٠.
Deutsche Lyrik der Gegenwart, eine Anthologie. Zweite Auflage . Herausgegeben und eingeleitet von Willi Fehse. Stuttgart, Reclam, 1957. S. 239–240.
١١  عنوان المجلة التي يحررها ميخائيل كروجر وكلاوس فاجنباخ وهو:
Tintenfisch, Jahrbuch fur Literatur, Berlin 1968, Number 1.
١٢  نُشرت القصيدة في العدد الثامن، لسنة ١٩٦٩م، من مجلة «الأدب» القاهرة المُحتجبة، ولم أجد بأسًا من إعادة نشرها في هذا السياق.
١٣  Pansmusik وبأنَّ هو إله الرُّعاة في الأساطير اليونانية القديمة، ثم أصبح بعد ذلك إلهَ الكَون بأَسرِه (والكلمة في اليونانية تعني الكُل). هذا وقد وُلد «ليركه» في بروسيا الغربية، ومات في برلين، بعد أن عمل سنوات طويلة قارئًا أو فاحصًا للإنتاج الأدبي لدى الناشر فيشر، مما أتاح له رعاية عددٍ كبيرٍ من الشعراء والكُتَّاب وتشجيع الحياة الأدبية.
١٤  الألسن هنا جمع لسان، والمقصود به: اللسان الصَّخري الذي يمتدُّ في البحر.
١٥  المقصود هو الوعاء الذي يستقبل ماء المطر.
١٦  انظر للشاعر الكبير كارل كرولوف كتابه القيم «جوانب من الشعر الألماني المعاصر»، ميونيخ، سلسلة كتب «لست»، ١٩٦٣م، ص٤٠، وهو يضمُّ المحاضرات الست التي ألقاها بجامعة فرانكفورت (على الماين) سنة ١٩٦١م بدعوةٍ من كرسي فن الشعر بها؛ إذ تعوَّدت هذه الجامعة أن تدعو أحد الكتاب أو الشعراء المشاهير لإلقاء بعض المحاضرات على طلابها عن الفن الذي عاش له وأبدع فيه، وأودُّ أن أسجل عرفاني وديني الكبير نحو هذا الكتاب، الذي استعنت به في كثيرٍ من أجزاء هذا البحث.
Karl Krolow; Aspekte Zeitgenossischer deutscher Lyrik.
Munchen, List Bucher, 1963, S. 40 ff.
١٧  انظر الكتاب الذي سبقت الإشارة إليه لكارل أوجست هورست: الأدب الألماني في القرن العشرين، ص١٢٠–١٢٢.
١٨  ربة الصيد عند الرومان، وتقابل أرتيميس في الأساطير اليونانية.
١٩  وهي على الترتيب:
«جواب الصمت» (١٩٣٥م) Antwort des Schweigens
و«الرب الأخضر» (١٩٤٢م Der Grune Gott
و«الغبار النشوان» (١٩٤٦م) Entzuckter Staub
ولم يكف بعد (١٩٥٠م) Noch nicht genug Abschiedslust ومتعة الوداع (١٩٦٢م).
٢٠  وُلد جنتر آيش سنة ١٩٠٧م في ليبوس على نهر الأودر، ودرس القانون والآداب الصينية في جامعات برلين وليبزج وباريس، ثم تفرَّغ للتأليف والكتابة الحرة منذ سنة ١٩٣٢م، واشترك في الحرب العالمية الثانية وقضى فترةً في معسكرات الأسر الأمريكية، وهو مُتزوجٌ من القصاصة اللامعة الزه أيشنجر Ilse Aichinger، وقد توفي في الأيام القليلة الماضية قبل أن يبدأ العام الجديد، وتعدُّ تمثيليتُه الإذاعية «أحلام» Traume (١٩٥٢م) ساعة ميلاد هذا الفن الأدبي، الذي أسهم الكاتب في تأصيله، وأصبح الآن من أحب الفنون إلى قلوب الناس وأكثرها انتشارًا، وقد ترجمها صديقي الدكتور عوني عبد الرءوف إلى العربية، ولم يتمكَّن من نشرها بعد.
٢١  عملةٌ ألمانية تساوي المليم عندنا Pfennig.
٢٢  Inventur.
٢٣  انظر في هذا مقال يورجن ب. فالمان عن جنتر آيش وأدبه: التمثيلية الإذاعية والشعر والنثر، المنشور في مجلة «الجامعة» عدد نوفمبر ١٩٦٩م ص١١٧٧ إلى ص١١٨٨.
Jurgen P. Wallmann; Gunther Eich Und Seine. Dichtung–Horspiel Lyrik, Prosa in: Universitas Nov. 1969. S. 1177-1188.
٢٤  مقاطعةٌ ألمانية على بحر الشمال.
٢٥  منطقةٌ في شرق فرنسا تشتهر بزراعة الكروم.
٢٦  راجع إن شئت مقالًا عنها ومزيدًا من قصائدها الرائعة في كتابي: «البلد البعيد» في فصلٍ بعنوان «نداء الدب الأكبر» (وهو عنوان أهم دواوينها)، القاهرة، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ١٩٦٨م، ص٢٦٢–٢٧٢.
٢٧  إشارة إلى ديوان الشاعرة الذي صدر سنة ١٩٥٦م بعنوان «نداء الدب الأكبر» Anrufung des Grossen Baren، أما ديوانها السابق فهو «المهلة» (١٩٥٣م) Die Gestundete Zeit.
٢٨  عظاية خرافية يقال: إنها تَنفذ في النار ولا تحترق.
٢٩  تجد القصيدة في مجموعةٍ مختارة من أشعار برشت بعنوان «قصائد وأغاني»، صدرت عن مكتبة زور كامب، برلين وفرنكفورت، ١٩٦٥م، ص١٤٩.
B. Brecht; Gedichte und Lieder, Bibliothek Suhrkamp, 1965, S. 149.
٣٠  إمبراطور روماني (٢٠٤–٢٢٢م) حكم من سنة ٢١٨م إلى سنة٢٢٢م، وُلد بمدينة حمص، وأدخل عبادة الشمس التي كانت مُنتشرة في سوريا إلى روما، أسرف في المجون ومات مقتولًا.
٣١  فصيلةٌ من الخضروات الخيمية الشكل، أو ذوات الفلقتَين كالجزر والكسبرة.
٣٢  Paul Celan ونذكر من دواوينه: «الرمل عن الجرار» (١٩٤٨م)، «خشخاش وذاكرة» (١٩٥٢م)، و«من عتبةٍ إلى عتبة» (١٩٥٥م)، و«شباك لغوية» (١٩٥٩م) و«وردة لا أحد» (١٩٦٣م)، «تحوُّل النفس» (١٩٦٧م)، «شموس الخيوط» (١٩٦٨م).
٣٣  يواخيم موللر، باول سيلان وإنتاجه الشعري، مجلة الجامعة، أكتوبر ١٩٧٠م، ص١٠١٥–١٠٢٩.
Joachim Muller; Paul Celan und sein lyrisches Lebenswerk in: Universitas, Oktober 1970 S. 1015–1029.
٣٤  أوجست كلوس، المرجع السابق، ص٩٦٢.
٣٥  مثل قصيدتَيه: «لم تكن أشد وحدة منك في أغسطس» و«ساعة التحقُّق»، وقد نقلتهما إلى العربية في الجزء الثاني من كتاب ثورة الشعر الذي لم يظهر بعد.
٣٦  انظر مزيدًا من التفاصيل عنه في مقال الزميل الكريم الدكتور مصطفى ماهر عن الرواية الألمانية في القرن العشرين، المنشور في عدد أكتوبر– نوفمبر – ديسمبر ١٩٧٢م من هذه المجلة، ص٢١٣–٢١٧.
٣٧  السخام: هو سواد القدر، ويقال: ليل سخام أي أسود، والسخم والسخمة السواد.
٣٨  التربيع هنا هو العملية الرياضية المعروفة، فالنجوم هي رمز احتكار (أومونوبول) الأشواق، والنافذة تزيده وتُضاعفه — والسخرية ظاهرة.
٣٩  أي الغرفة بسريرين.
٤٠  كارل كرولوف، جوانب من الشعر الألماني المعاصر، ص٦٨.
٤١  Konstellationen (مطبعة تشودي، سان جالين).
٤٢  August Stramm انظر شيئًا عنه في كتابي السابق الذكر عن التعبيرية، ص٣١–٣٥.
٤٣  إليك أسماءَهم على الترتيب:
Ernst Jandl – Franz Mon – Gerhard Ruhm – Konrad Bayer – Peter Harling.
٤٤  Der Zauberlehrling وإن شئت أن تقرأ شيئًا عن شعر جوته، فارجع إلى الفصول الخمسة الأولى من كتابي «البلد البعيد» الذي سبقت الإشارة إليه.
٤٥  الكلمة الأصلية تفيد الأخوات، والمشرفات على الخدمات الطبية في المستشفيات، أو الراهبات والسياق لا يحدد معنى الكلمة.
٤٦  عنوان هذا النص الغامض هو Igitur وهي لاتينية معناها بالتالي أو على هذا، وتجده في طبعة «البلياد» الكاملة لأعمال مالارميه (ص٤٣٩)، كما تجد بضع صفحات عنه في كتابي عن ثورة الشعر الحديث ص٢٠٧–٢٠٩.
٤٧  انظر الكتاب الذي سبقت الإشارة إليه: جوانب من الشعر الألماني المُعاصر، ص١٣٢ وما بعدها.
٤٨  انظر تفصيل هذا في «ثورة الشعر الحديث»، ص٢٣٦ وما بعدها.
٤٩  وكان ذلك بالموت غرقًا في نهر السين في اليوم الخامس من شهر مايو سنة ١٩٧٠م.
٥٠  نشر هذا البيان في مجلة «ماتيريال Material» الأدبية التي تصدرها جماعةٌ من الأدباء في مدينة دارشتات بإشراف الناقد والفيلسوف ماكس بنزه Max Bense، وقد أخذت النص عن كتاب كارل كرولوف السابق الذكر.
٥١  في الأصل بحروفٍ كبيرة: A. A. Scholl (x) Poesie.
٥٢  في الأصل بحروفٍ كبيرة.
٥٣  أو موشور Prisma.
٥٤  النص مأخوذٌ عن مقال الأستاذ أوجست كلوس الذي أشرتُ إليه في هامشٍ سابق — مجلة الجامعة، سبتمبر ١٩٦٣م، ص٩٥٨–٩٥٩.
٥٥  Statische Gedichte (أو قصائد استاتيكية) — أما القصيدة نفسها فتجدها في معظم المجموعات المُختارة من الشعر الألماني المُعاصر تحت عنوان Verlorenes Ich.
٥٦  راجع الكتاب الذي سبقت الإشارة إليه: «القصيدة ومؤلفها»، وستجد فيه فصلًا عن ياندل (من ص٢٥٤ إلى ص٢٦٥) وغيره من المجدِّدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤