المهمة الخطيرة!

ألقى المهندس «حلمي» نظرةً إلى طفلَيه واحتضنهما بقوة كأنه يخشى من الذهاب بلا عودة، وراقبَته زوجتُه، فأجابها في ثقة: تعرفين أنه من واجبي أن أُرافقَ هذه الشحنة بالذات وألَّا أدعَها تغيب عن عيني أبدًا.

قالت في خوف: ولكن … ربما يحاولون قتلك مرة أخرى!

ربَّت «حلمي» فوق كتف زوجته مطَمْئنًا وهو يقول لها: لا تخشَي شيئًا بإذن الله … فمن أجل وطني أنا مستعد لتقديم حياتي فداءً له عن طيب خاطر!

وأكمل حديثه بابتسامة هادئة: وأظن أنهم لن يستطيعوا اقتناصي هذه المرة، خاصة وهناك ثلاثة حراس مدججين بالسلاح ينتظرون أمام باب الشقة، وسيرافقونني خلال هذه الرحلة.

ولكن قلب الزوجة دقَّ في عنف شديد … كانت تعرف أن زوجها في خطر شديد … وكان لهذا الخطر أسباب عديدة.

فهو من أمهر علماء بلاده في مجال الطاقة النووية وتحديثها … وهو عقلٌ فذٌّ أوشك أن يحصل على جائزة «نوبل» … لولا بعض الأصابع المعادية التي حجبَت الجائزة عنه لاعتبارات خاصة … كما أنه المسئول عن مشروع أمني ضخم عهدَت إليه بلاده به … وبدونه يتوقف هذا المشروع وتفقد بلادُه سلاحًا هامًّا في صراعها الدائم ضد أعدائها!

لذلك كلِّه كانت الزوجة تنتفض خوفًا ورعبًا وهي تعرف أن كل خطوة لزوجها محفوفة بالمخاطر والموت.

ثلاث مرات من قبل حاولت الأصابع القذرة أن تغتال زوجها … ولكنه كان ينجو كل مرة بطريقة أشبه بالمعجزة! وها هي مهمته أوشكت أن تتم، فهل تتركه أصابع الخيانة والحقد لكي يعود إلى وطنه ظافرًا؟

أحكم المهندس «حلمي» سُتْرتَه الثقيلة حول كتفَيه، واحتضن طفلَيه في وداع أخير قبل أن يغادر مسكنه متجهًا إلى الميناء مع حرَّاسِه الثلاثة.

كان يبدو واثقًا مطمئنًا … ولكنَّ شعورًا مخيفًا داهم زوجته … إحساس بالخطر كان يطوقها ويكاد يُزهق أنفاسها.

كانت حاستها السادسة تعمل بقوة … ولم يحدث أن خانتها من قبل … وأحسَّت أن زوجها في خطر داهم … فانفجرت في بكاء مرير!

انطلقَت السيارة الدبلوماسية المصفحة تجاه الميناء وقد جلس المهندس «حلمي» في مقعدها الخلفي وهو يراجع ملفات الشحن … كان يبدو هادئًا متماسكًا بعكس حراسه القلقين، وقد راحت عيونهم تلتهم الطريق في تأهب، وأيديهم تلامس أزندة أسلحتهم لاستعمالها في أية لحظة.

كان الطريق ملبدًا بضباب خفيف لا يُتيح الرؤية لمسافة بعيدة … وقد بدأت الأمطار تتساقط صانعة حجابًا وستارًا يعوق الرؤية الجيدة، مما ضاعف من توتُّر الحراس، كأنما القدر يعاندهم ويصعِّب من مهمتهم.

وألقى المهندس «حلمي» نظرة إلى ساعته والسيارة تشقُّ طريقها تحت الأمطار والضباب …

تبقَّت خمس دقائق فقط ويصل إلى الميناء … بعدها تنتهي ساعات القلق والتوتر التي عاشها خلال أسابيع طويلة في تلك العاصمة الأوروبية الحافلة بأصناف شتى من المجرمين والأوغاد والقتلة المحترفين … والجواسيس!

لكن لا شيء كان يمكن أن يُعيقَه عن مهمته التي أقسم على إتمامها مهما كان الثمن.

ولاح الميناء من بعيد أخيرًا … ترسو إلى أرصفته أعدادٌ كبيرة من السفن مختلفة الأحجام والأنواع.

ولكن أعين الحراس أخذت تفحص كلَّ شبر … فخلف كل ركن ووراء كل زاوية يمكن أن تنطلق رصاصة واحدة لتؤديَ المهمة القذرة.

وكان من الضروري أن يعود «حلمي» إلى بلاده سالمًا … فبدونه يستحيل أن يتمَّ المشروع الذي بدأته بلادُه لتطوير قدرتها النووية. رصاصة واحدة كانت كفيلةً بإجهاض أحلام وآمال دولة لا تسعى إلا لحماية نفسها من العدوان … لا للشر والدمار.

ومما زاد العبء على رجال الحراسة الثلاثة أن المهندس «حلمي» كان يرفض ارتداء السترة الواقية من الرصاص، وكانت إجابته الهادئة أن العمر واحد والرب واحد … ثم بماذا تفيد سترة الرصاص إذا كان الهدف رأسه؟!

توقفت السيارة المصفحة أخيرًا في موقف الانتظار أمام الميناء … وقفز الحراس الثلاثة المدججون بالسلاح ليكونوا ساترًا لرفيقهم … وأحاطوا به من الخلف والجانبَين وأعينهم كعينَي الصقر.

كانت المسافة قصيرة إلى السفينة الراسية في مدخل الميناء … وعَلَمها يرفرف فوق ساريتها بألوانه المميزة والنسر الذي يتوسط ألوانها الثلاثة … «علم مصر»!

وفوق السفينة كانت ثمة استعدادات تُجرَى للإقلاع المباشر مهما كانت حالة الطقس سيئة … ولكن الرزاز الخفيف والرياح الباردة لم تكن أسوأ ما يشهده ذلك الميناء الأوروبي … وقد وقف ربان السفينة وقبطانها على الرصيف في انتظار وصول ضيفه.

ومدَّ المهندس «حلمي» يدَه مصافحًا، فشدَّ القبطان على يده في قوة هامسًا: حمدًا لله على سلامتك … إننا مستعدون للإقلاع حالًا.

أجابه «حلمي» في هدوء: على بركة الله.

وخطَا الاثنان وخلفهما الحراس الثلاثة صاعدين إلى السفينة المصرية … وأصدر الربان تعليماته … وفي الحال رفعت المرساة الكبيرة … ثم شرعت السفينة تتهادَى إلى عرض البحر.

والتقط الحراس الثلاثة أنفاسهم في ارتياح أخير … وكأنهم لا يصدقون أن مهمتهم قد انتهت على خير ولم يواجهوا أيَّ خطر.

كان الأمان في البحر … ووسط عشرين من عمال ومهندسي السفينة … الذين كان نصفهم من المقاتلين المهرة المختصين بمثل تلك المهام … والذين على استعداد للعمل والقتال في اللحظة المناسبة.

ولكن … وعلى أطراف الميناء كان يجري مشهد آخر.

كان ثمة نظارة مقربة قد وجهت عدساتها إلى السفينة التي تبتعد كثيرًا … وقد راح صاحب النظارة يراقب ما يجري على سطح السفينة في صمت وتقطيب … وأخيرًا أزاح النظارة عن عينَيه الرماديتَين وقد تجلَّت فيهما نظرة قاسية … شريرة!

والتقط صاحب النظارة جهازًا لاسلكيًّا صغيرًا تحدَّث خلاله ببضع كلمات قليلة … كانت كلماته موجزة ولكنها حاسمة باترة في أمر لا يحتمل أيَّ تأجيل.

وهكذا بدأت المهمة … المهمة القذرة!

•••

تساءل المهندس «حلمي» وهو يُثبت نظارته فوق عينيه: هل تم تخزين الصناديق بالطريقة التي طلبتُها؟

أجابه الربان: يمكنك أن تتفقد الصناديق بنفسك. وهبطَا إلى قلب السفينة وعبرَا ممرًّا قصيرًا انتهى بمخزن عريض يفتح إلكترونيًّا … وعندما انزاحَت أبوابُه الفولاذية ظهر خلفها عددٌ من الصناديق النحاسية السميكة التي رُصَّت بطريقة معينة تُتيح لها أقصى معامل الأمان وعدم الاحتكاك فيما بينها، وقد كُتبت عبارة واحدة فوق كلِّ الصناديق: «مواد خطرة».

هزَّ «حلمي» رأسه في ارتياح قائلًا: هذا جيد!

وأكمل في تثاؤب: إنني بحاجة إلى نوم عميق، فمنذ أيام طويلة لم أَذُق طعمًا للنوم.

أجابه الربان: تستطيع أن تحصل على كفايتك من النوم هنا … ويمكنك ألَّا تستيقظ إلا بعد وصولنا إلى «الإسكندرية».

ابتسم «حلمي» قائلًا: لكَم اشتقتُ إلى «الإسكندرية» … وإلى قريتي الصغيرة في «المنصورة» … وإلى كل شبر في «مصر».

تساءل الربان: وزوجتك وأطفالك … هل سيلحقون بك إلى «مصر» قريبًا؟

أجابه «حلمي»: هناك مقاعدُ محجوزةٌ لهم في الطائرة المغادرة إلى «القاهرة» هذا المساء. لكَم تمنيتُ أن يسافروا قبلي لأطمئنَّ عليهم … ولكنني لم أجد لهم أماكنَ قبل هذا المساء.

والتفت إلى الربان مضيفًا: إنني لم أسألهم أن يصاحبوني هذه الرحلة أيضًا.

تساءل الربان في صوت عميق: هل تتوقع أن نتعرض لخطر ما ونحن في عرض البحر؟

حدَّق فيه «حلمي» للحظة، ثم أجاب مغمغمًا: إن كلَّ شيء جائز.

وقد كان على حقٍّ! فما كاد يغادر مخزن البضائع متجهًا إلى قمرته، حتى شاهد أحد حراسه مهرولًا وهو يصيح في غضب: هناك زوارق حربية تُحيط بنا من كل جانب … وهم يطلبون منَّا في اللاسلكي التوقف عن الإبحار!

هتف الربان في دهشة: ماذا تقول؟!

واندفع صاعدًا لسطح السفينة والمهندس «حلمي» في أثره … كان هناك ما يزيد على ستة زوارق حربية حكومية لخفر السواحل تُحيط بالسفينة من الخلف والجانبَين، وحلَّقت طائرة هليكوبتر حربية بأعلى، وعلا صوت من ميكروفون بداخلها يقول: توقَّفوا عن الإبحار … هذا أمرٌ وإلا أطلقنا عليكم النار!

التفت الربان إلى رجاله صائحًا: أوقفوا محركات السفينة في الحال.

اعترض أحد الحراس في توتر قائلًا: إنه فخ … أشعر أنه فخ … لماذا يريدون إيقاف السفينة في عرض البحر؟!

أجابه الربان في هدوء: إنها قوات حكومية كما ترى، وهم ليسوا من أصحاب الأصابع القذرة، ومن حقهم إيقافنا لأي سبب ما دمنا لم نغادر المياه الدولية، كما أننا لا نخشى شيئًا، أما عدم انصياعنا للأوامر فقد يُساء فهمُه ويُعرِّضنا لمخاطر نحن في غنًى عنها.

توقفت محركات السفينة وقد أحاطَت بها الزوارق الحربية، واندفع عشرات الجنود المسلحين بالبنادق ورجال العمليات الخاصة شاهرين أسلحتهم.

وهبطت الطائرة الهليكوبتر فوق مقدمة السفينة، وغادرها ضابط برتبة كبيرة … وتقدَّم نحو الربان الذي حدَّق فيه بنظرة مندهشة قائلًا: الجنرال «مولوثوف» قائد حراس السواحل … لا شك أن الأمر بالغ الأهمية استدعى وجودك يا سيدي فوق سفينتنا.

حدق فيه الجنرال بنظرة باردة وأجاب: هذا صحيح تمامًا!

وأشار لرجاله قائلًا: فتشوا السفينة.

فاندفع الجنود لتفتيش السفينة، والتفت الربان محتجًّا للكولونيل: إننا لا نحمل أي شحنة ممنوعة، لماذا تقومون بتفتيش سفينتنا؟!

أجابه الجنرال بنفس اللهجة الباردة: ستعرف حالًا.

والتفت إلى «حلمي» مضيفًا: هل أنت صاحب الشحنة التي تحملها هذه السفينة؟

أجابه «حلمي»: هذا صحيح … إن أوراق الشحن باسمي! وأوراق الشحن كلها سليمة وعليها أختام رجال الجمارك ومسئولي الميناء.

غمغم الجنرال: سنرى حالًا.

واندفع بعض الجنود يحملون أحد الصناديق التي كانت بالمخزن وصاح أحدهم: هذا الصندوق عليه ما تحمله السفينة.

أشار الجنرال إلى الربان قائلًا: افتح هذا الصندوق.

أجابه «حلمي»: ليس هناك ما نخفيه من مواد غير مشروعة داخل هذه الصناديق يا سيدي، وسأثبت لك ذلك حالًا.

وأخرج من جيبه مفتاحًا خاصًّا دسَّه في فتحةِ قفلٍ بركن الصندوق وأداره ثم أزاح غطاء الصندوق … وحدق الجنرال في محتويات الصندوق بنظرة ضيقة، ثم انحنى يتفحصها، والتفت إلى «حلمي» قائلًا في لهجة ساخرة … هذه هي ألياف الكربون … أليس كذلك؟!

أجاب «حلمي»: هذا صحيح … وهي مواد ليس ممنوعًا تصديرها ومعنا الموافقات اللازمة من سلطات بلادك على استيرادها.

قال الجنرال: لقد أُلغيت هذه الموافقة … وتم اعتبار هذه المواد من المواد الممنوعة من التصدير … ومحظور التعامل فيها … فهي مواد خطرة … خطرة جدًّا … لأنها تُستخدم في صناعة رءوس الصواريخ النووية … أليس كذلك يا عزيزي؟!

تلاقَت عينَا المهندس «حلمي» والربان في دهشة بالغة … ولكنهما أفاقَا على صوت الكولونيل وهو يُشير لرجاله قائلًا: اقبضوا على هذا الرجل.

فاندفع الجنود يحيطون بالمهندس «حلمي» شاهرين أسلحتهم، فصاح بهم غاضبًا بأية تهمة تُلقون القبض عليَّ؟!

أجابه الجنرال «مولوثوف» بابتسامة ذئب: إن تهمتك يا عزيزي هي تصدير مواد حربية محظور تصديرها … وهذه التهمة عقابها السجن المؤبد!

وأضاف في لهجة ساخرة: وهناك تهمة أخرى عقوبتها هي الإعدام … وهي تهمة التجسس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤