الفصل السادس عشر

التفاوض

لنقتسم الفارق! فهذا عادل!

عندما كنت في مراكش بالمغرب، أردت شراء جلباب، وهو أحد الأردية الطويلة ذات القلنسوة التي يرتديها المغاربة، وفي طريقي إلى السوق، وجدت متجرًا خافت الإضاءة ويخلو من الحياة، لديه ما أردت. وعندما سألت عن السعر، قال لي صاحب المتجر المضجَر: ٢٠٠ درهم، أي حوالي ٢٤ دولارًا، ولمعرفتي أن بإمكاني التفاوض على الأسعار في المغرب، عرضت عليه ١٥٠ درهمًا (١٨ دولارًا)، فقال: ١٨٥ درهمًا (٢١ دولارًا)، وإما أقبله أو أرحل، فقبلت به. هل كان ذلك عادلًا؟ بالقطع كان عادلًا! لقد اقتسمنا الفارق، وهذا عادل.

أرادت رفيقتي في السفر جلبابًا هي الأخرى، لكنها أرادته أسود اللون، وهو لم يكن بهذا المتجر، فتوغلنا في السوق، وهناك وجدنا متجر ملابس جميل الإضاءة، به جلباب أسود في نافذة العرض، وكان يشبه جلبابي تمامًا. قال صاحب المتجر عذب الحديث: إن سعره ٩٠٠ درهم (١٠٧ دولارات)، فانصعقت لما سمعت، أما رفيقتي فابتسمت وعرضت عليه ٢٠٠ درهم (٢٤ دولارًا)، وبعد طول دلال وضحك، وأخذ ورَدٍّ، في جو مشبوب بالعواطف، أقنعته بالنزول إلى ٤٠٠ درهم (٤٨ دولارًا)، وهو المبلغ الذي دفعَته في انتصار. لم أنبس بِبِنْتِ شَفَة. لقد دفعت لتوِّها أكثر من ضعف ما دفعت! هل كان ذلك عادلًا؟ بالقطع كان عادلًا.

كانت المساومة تحت سيطرتها الكاملة، وكان بوسعها المغادرة في أي وقت شاءت. كانت هي والبائع شريكين راغبين في عقد الصفقة بملء إرادتهما. بالطبع عندما تتأتى لأحد الطرفين معلومات يجهلها الطرف الآخر، فمن الممكن أن يكون السعر الذي توصَّلا إليه من خلال مساومة حرة سعرًا جائرًا مع ذلك. لكن في حالة صديقتي، علمت أن الجلباب موجود بسعر أقل، لكنها اختارت أن تدفع السعر الأعلى؛ ومن ثَمَّ كان ذلك عادلًا.

الاعتقاد في أن السعر المُتفاوَض عليه سعر عادل فكرة قديمة، فوفقًا لكلٍّ من أرسطو والقانون الروماني؛ فالسعر المحدد من خلال المساومة الحرة — دون قسر أو مكر — سعر عادل.1 وفي حالة السعر المتفاوَض عليه، يتمتع طرفا المعاملة بالسيطرة على النتيجة، كما يتمتع كلٌّ منهما بالحق في التعبير عن رأيه، وهذا عادل.

يتضح شاغل العدالة في كثير من المفاوضات بين الشركات. بعضها بالطبع أحادية الجانب، حيث يقول المفاوِض الأقوى: «فلتقبَّل عرضي أو لا اتفاق!» لكن تكتنف مفاوضات الشركات الأخرى مقايضات مكثفة، بحيث يكون السعر اعتبارًا واحدًا من بين اعتبارات أخرى كثيرة، والهدف هو أن يربح الطرفان، أن يُجريا ما يُطلق عليه «المفاوضات المربحة للطرفين».

غالبًا ما تجري هذه المفاوضات بين الشركات مرارًا وتكرارًا، عامًا بعد عام، وكثيرًا ما تكون على يد الأشخاص أنفسهم، فاتحادات العمال تتفاوض على العقود ثم تعيد التفاوض عليها، ويتفاوض مصنِّعو السيارات على العقود مع العملاء أنفسهم بمرور الوقت. وللحفاظ على علاقات طيبة في المفاوضات المستقبلية، على كلا الطرفين أن يُعرفا بعدالتهما في المعاملات، وبذلك، يتوافر لديهما الحافز لاتباع معيار العدالة الاجتماعي.

أما مساومات المستهلك فتختلف عن المفاوضات بين الشركات؛ لأنها لا تكتنف سوى السعر، فمكسب أحدهما خسارة للآخر، فمن يبيع سيارته يريد الحصول على أكبر مبلغ ممكن، ومن يشتري السيارة يريد أن يدفع أقل مبلغ ممكن. وهذه «مفاوضات المكسب والخسارة».

كما تختلف مفاوضات المستهلكين عن المفاوضات بين الشركات في أنها غالبًا ما تكون صفقات لمرة واحدة. ربما يساوم المستهلك خدمات السباكة بصفة متكررة، لكن أغلب مساومات المستهلك لا تجري بهذه الصورة. فالمرء يشتري منزلًا من شخص آخر مرة واحدة فحسب؛ والمرء يبيع سيارة لشخص آخر مرة واحدة فقط. لا يوجد حافز لحفاظ الفرد على سمعته كشخصٍ عادل. لكن الملاحظ أنه حتى في مساومات المستهلك، لا تزال للسمعة الطيبة أهميتها، ولا تزال العدالة مسألة مهمة.

العدالة الشخصية في المفاوضات

كما هو الحال تمامًا مع أي سعر، يحدد المفاوضون العدالة الشخصية للسعر بمقارنته بالسعر المرجعي الذي يحتكمون إليه، كما شرحنا في الفصل السادس. إذا توفرت لديهم معلومات حديثة بخصوص ما دفعه الآخرون مقابل السلعة نفسها، فسيستخدمونها كمحكٍّ (باستثناء صديقتي في المغرب)، ثم يكوِّنون فكرة عن نطاق السعر العادل.

يجلس كلٌّ من المشترين والباعة إلى طاولة التفاوض وفي أذهانهم نطاق من الأسعار. يمتد هذا النطاق مما يودون دفعه أكثر من غيره إلى ما سيرفضونه جملةً وتفصيلًا، من الأكثر عدلًا إلى الأشد ظلمًا. والبديهي أن أي تسوية ستكون بين أعلى سعر سيدفعه المشتري وأدنى سعر سيقبله البائع؛ أي ما يُطلق عليه «مساحة الاتفاق»،2 وهذا عادل لكلٍّ من المشتري والبائع.

عندما ندخل في عملية تفاوض، يكون خوفنا الأكبر من أن ندفع سعرًا جائرًا عن جهل منا. نقلق من أن نتعرض للاستغلال أو الخداع، أو الاحتيال أو النصب، أو التدليس أو السلب، أو السرقة أو الغش. العدد الضخم للكلمات سيئة السمعة التي تعني دفع سعر جائر يوضح مقدار الخوف منه.

بالإضافة إلى السعر نفسه، تقوم العدالة الشخصية أيضًا على المعايير الوصفية لعملية التفاوض، وتُرسي هذه المعايير الأسعار التي يجري مساومتها والأسعار التي لا يجري التفاوض عليها، فمثلًا: المعيار السائد هو التفاوض على سعر السيارات أو الأثاث المستعمل أو الإصلاحات المنزلية، لكن ليس على الكُلى أو الأحذية أو تذاكر القطار، كما تُرسي المعايير الوصفية الأخرى كيف ينبغي مباشرة عملية المساومة.3

حسب معايير «سيناريو التفاوض»، يقدِّم شخص عرضًا، ويردُّ الآخر بعرضٍ مقابل. يعلم الجميع أن العرض المبدئي هو رغبة فحسب، مجرد وسيلة لجس نبض الطرف الآخر؛ فالجميع ينتظر من البائع أن يخفض السعر، ومن المشتري أن يزيد عرضه حتى يصلا إلى تسوية، وعندما لا يتم استيفاء هذه التوقعات، فهذا جائر. يرد المفاوضون بتقديم عروض مقابلة شحيحة، فيستشيطون غضبًا، وتوغل صدورهم، فيعتزلون المساومة أو يهددون باعتزالها.

على سبيل المثال: هبْ أنك توجهت إلى سوق السلع المستعملة لتشتري إناءً، ويقول لك التاجر: إن سعره ١٠ دولارات، فترد عليه بأنك تريده بسعر ٥ دولارات، فيقول التاجر: «لا! الآن أريد ١٢ دولارًا مقابله»، فتتضايق وتغادر المتجر؛ لأنه ليس من المفترض أن يسير السيناريو على هذا النحو. «أغلب المفاوضين يلتزمون بالميثاق الذي ينص على أنه ما إن يتم تقديم عرض فإنه لا ينبغي أبدًا سحبه.»4 فالنكوث بالتزام سابقٍ أمر جائرٌ!

أو هبْ أنك تريد شراء كرسيٍّ، وأخبرك التاجر أن سعره ٥٠ دولارًا، فترد بأنك تريده مقابل ٣٠ دولارًا، فيرد البائع بدوره ٤٠ دولارًا، فتقول أنت ٣٥ دولارًا، لكن عندها يقول البائع: «لا! الكرسيُّ ليس للبيع!» ليس هذا هو الرد المتوقع؛ فالرد المتوقع هو: «لنقتسم الفارق»، فهذا عادل، فاقتطاع سلسلة من العروض المتبادلة ببساطة ليس جزءًا من السيناريو، فهذا جائر!

إلا أن السيناريوهات يمكن أن تتغير؛ فمنذ حوالي ١٠ سنوات، أردت شراء المنزل الذي أقيم فيه حاليًّا. حفظت سيناريو التفاوض على أسعار المنازل: يحدد البائع السعر، فيعرض المشتري المحتمل سعرًا أقل بنسبة ١٥ في المائة، ثم يتفاوضان. ولأنني رغبت في المنزل بشدة، فقد وافقت بحماقة على المبلغ الذي طلبه البائع كله، وتوقعت تسوية سريعة ودِّية.

لم تكن لديَّ فكرة أن سوق العقارات كان بصدد التحوُّل من سوق للمشتري إلى سوق للبائع، وهو سوق له سيناريو مختلف. رأى المالك أن السيناريو القديم لا ينطبق عليه، فلِمَ يُعتبر السعر ثابتًا؟ لم تكن لديه أي نية للتفاوض، وظن أنها مزايدة؛ ولذا، انسحب في تثاقل، وانتظر ورود عروض أخرى، لكن لم يأته غير عرضي، فحصلت على المنزل. لكني شعرت أن عملية البيع جائرة؛ لأن المالك لم يمارس اللعبة وفق ما ظننت أنها القواعد.

العدالة الاجتماعية للنتائج المستخلصة من المساومة

العدالة الشخصية للمساومة ليست صعبة التحقق ما دام كلا الطرفين يعرفان القواعد نفسها ويتَّبعانها. لكن العدالة الاجتماعية للنتائج المستخلصة من المساومة عسيرة التحقق؛ لأن النتائج من الممكن أن تكون غير متكافئة، وكذا غير منصفة.

نتيجة أي مساومة على السعر من الممكن أن تكون غير متكافئة؛ لأن أي طرف من طرفي المقايضة لا يريد المساواة حقًّا، فكلٌّ منهما يريد عائدًا أفضل من الآخر، فيتنافسان على الحصول على أفضل صفقة لنفسيهما، وأفكارهما عما هو عادل عرضة للانحياز الشديد لخدمة مصلحتهما الذاتية.5
يجلس كلٌّ من المشتري والبائع إلى الطاولة ولدى كلٍّ منهما أفكار غير واقعية عن النتيجة، ويتأثران بما يتصادف أن يتذكراه، وبسبب انحيازهما لمصلحتهما الذاتية فعادة ما لا يتذكران أو يسترجعان من ذاكرتهما سوى المعلومات التي تؤيد مصلحتهما الخاصة؛6 ومن ثَمَّ تتولد لديهما توقعات متحيزة لما سيشكل النتيجة العادلة،7 وهما مستعدان لخوض معركة من أجل ما يظنان أنه عائدهما العادل.

كما أن الأسعار المتفاوَض عليها من الممكن أن تكون غير متكافئة؛ لأن النتيجة تعتمد على مهارات ودافع المتفاوضين. ولأنني مساومة فاشلة، دفعت بالكامل سعر منزلٍ لو كنتَ أنت مكاني لتفاوضت بلا شك على سعره، رغم أننا كنا سنحظى بفرصة متكافئة للتفاوض؛ ومن ثَمَّ لا يزال ذلك عادلًا!

الأمر الجائر بحق هو استهداف مجموعة من المستهلكين بعينهم بمعاملة غير متكافئة. في دراستين شملتا أكثر من ٥٠٠ مفاوضة لشراء سيارة، اكتشف الباحثون أن الرجال البيض عادةً ما يحصلون على صفقة أفضل من الأمريكيين من أصول أفريقية أو من النساء،8 وهذه معاملة غير متكافئة إلى حد صارخ، فهذا جائر بدرجة فادحة!

بالإضافة إلى غياب التكافؤ، يمكن للمفاوضات أن تكون مجحفة بسهولة، والإنصاف — بمعنى أن يكون السعر مكافئًا للقيمة المتحصل عليها — صعب التحديد في المفاوضات؛ حيث إن البائع وحده في الغالب هو من يعلم القيمة الحقيقية لما يُباع. فعندما يبيع منزلًا، ربما يعلم البائع أن مياه الفيضان تغمر القبو كل ربيع لكنه قد يختار ألَّا يُطلع المشتري على ذلك، وهذا يعطي البائع أفضلية جائرة!

بالتأكيد توجد قوانين تنظيم مشاركة المعلومات، على سبيل المثال: على بائع المنزل أن يُطلع المشتري المحتمل على أية مشاكل في بناء المنزل، لكن القوانين قليلة. وإن غمرت مياه الفيضان القبو في الربيع المقبل، فبإمكان البائع السابق أن يدعي أنها أول مرة وأن ذلك لم يحدث من قبل، وهذه مشكلة. وربما يكون جائرًا لأنه ينتهك معيار الإنصاف.

ومن ثَمَّ، فمن المدهش إلى حد ما، أنه رغم الجانب العدائي من التفاوض على سعر البيع للمستهلك، فإنه لا يزال بإمكان المتفاوضين على الأسعار إبداء قدر من الانشغال بالعدالة،9 فللعدالة — كما هو واضح — منفعة لهم.10 يطلعنا الباحثون على أن «إتيان الصواب هو بوضوح دافع لكثير من الناس.»11
كثيرًا ما يبدو أن كلًّا من البائع والمشتري يرغبان في بلوغ تسوية تكون عادلةً، وكذلك تخدم مصلحتهما الذاتية. لديهما هما الاثنين دافع تنافسي للحصول على أفضل ما بالمساومة، وحافز تشاركي لبلوغ نهاية عادلة. وهذه الفكرة، التي اتخذت شكل ما يُطلق عليه «نموذج الشاغل المزدوج»،12 تدعمها أبحاث مستفيضة.13

والكيفية التي يعمل بها نموذج الشاغل المزدوج موضحة في لعبة الديكتاتور التي ناقشناها في الفصول السابقة، فرغم أن الديكتاتور يتصرف من منطلق المصلحة الذاتية، فإنه أيضًا على وعي بمعيار التكافؤ الاجتماعي: إنه ينبغي للناس أن يحصلوا على نتائج متكافئة، فيتقمص الطرف الآخر في اللعبة عاطفيًّا.

والمتفاوض، شأنه شأن الديكتاتور، يتعاطف أيضًا مع الطرف الآخر، فعندما يحدد عرضه، يضع نفسه مكان الطرف الآخر، ويفكر كيف سيقيِّم الطرف الآخر عدالة إجرائه، هل سيعتبره عادلًا؟ هل سيغضب بسببه؟ هل سينفض الطرف الآخر يديه من المفاوضة؟

لدى المتفاوضين الدافعية للتصرف بعدالة؛ لأنهم يدركون أن خصومهم يمكن أن يعاقبوهم بالانسحاب. إنهم محاصرون بين الرغبة في عقد أفضل صفقة والخوف من إغضاب خصومهم خشية أن تضيع الصفقة برمتها،14 فهذا هو شاغلهم المزدوج!

العدالة الاجتماعية لعملية المساومة

كما هو الحال مع العدالة الشخصية، تعتمد عدالة السعر المتفاوَض عليه على عدالة العملية، بالقدر نفسه الذي تعتمد به على عدالة الناتج. ويمكن أن تتأثر أهمية عدالة العملية في المفاوضات بفعل «التهيئة»، والتهيئة هي سبيل لتشجيع أفكار معينة، لاستحضار اهتمامات بعينها إلى الذهن، وتتحقق من خلال قوة الإيحاء.

عندما يتهيأ المفاوض لمحبة خصمه ولأخذ وجهة نظره في الاعتبار، يقل الانحياز للمصلحة الذاتية.15 عندما يتهيأ للتفكير في العدالة، فإن نطاق الأسعار الذي يعتبره سعر تسوية عادلًا يتحوَّل إلى البائع؛ مما يشير إلى الاهتمام بالمقدار الذي يجنيه البائع من الصفقة.16
المفاوض المهيأ للعدالة يساوم بنحو أكثر تعاونية؛ أي يقدِّم تنازلات أكبر، ويبلغ التسوية على نحو أسرع، ويشعر برضًا أكبر حيال النتائج،17 ويتصرف عامة على نحو أكثر عدالة. وعندما يتصرف المرء نفسه بصورة أكثر عدالة، فإنه يقيِّم النتيجة ويقيِّم خصمه على أنهما أكثر عدلًا،18 فيبدو أنه يعمِّم عدالته على الطرف الآخر.
واستراتيجية التفاوض التي تُعتبر الأعدل بوجه عام هي استراتيجية تعاونية؛ حيث يقدِّم المفاوض تنازلات كبيرة إلى الطرف الآخر.19 تفضي الاستراتيجية التعاونية إلى إقفال عاجل دون تعطيل، لكن المتفاوض المتعاون يخاطر بالتعرض «للاستغلال»،20 وفي المقابل، فالاستراتيجية التنافسية؛ حيث يتسم أحد المتفاوضين بالتعنت، تُعتبر جائرة، وغالبًا ما تفضي إلى وصول المتفاوضين إلى طريق مسدود.
يُكتب الفشل لبعض المفاوضات، حتى من قبل أن تبدأ؛ لأن أحد المساومَين أو كليهما يبدأ بافتراض أن الطرف الآخر يسلك سلوكًا تنافسيًّا،21 فيرى الطرف الآخر عدوًّا، وليس بشرًا،22 ويتصرف «بعدائية وقسوة»، فيصر على موقفه ويجبر الآخر على الإذعان له.23 وإذا كان هذا الأسلوب العدائي متبادلًا، كما هو الحال غالبًا، تزداد النزعة التنافسية بين الطرفين أكثر وأكثر،24 وعندها تنهار المفاوضات.
أكثر الاستراتيجيات فاعلية هي الاستراتيجية التبادلية؛ أي رد الصاع بالصاع؛ الرد بكرم عندما يتنازل لك خصمك تنازلًا كبيرًا، والاستجابة بشح عندما يقدِّم لك تنازلًا زهيدًا.25 وقد اكتشف الباحثون أن «الشخص المتَّبِع لاستراتيجية الصاع بالصاع يُعتَبَر عادلًا وأمينًا، كالشخص الذي يتَّبِع استراتيجية تعاونية، ويُنظَر إليه على أنه أكثر ذكاءً وقوةً من الأفراد الذين يتبعون استراتيجية تعاونية من طرف واحد.»26
يتَّبِع أغلب المساومين استراتيجية تبادلية،27 وهي تؤتي أطيب ثمارها، لا في التوصل إلى تسوية مُرضية فحسب، وإنما في تكوين صورة عادلة. لكن يجب رد هذه الاستراتيجية على النحو نفسه، فإن لم يردَّ الطرف الآخر من المفاوضة بنفس هذا الأسلوب التبادلي، فإن الطرف الأول يقتص منه.28
يتوقف استخدام الاستراتيجية، أيًّا كانت، على قدر من الخداع. في المفاوضات ليس المعيار القائم أن تكون صريحًا ومكشوفًا، فقد تكررت الإشارة إلى الحاجة إلى الخداع؛ «إن إخفاء موقف المرء الحقيقي، وتضليل الخصم بشأن حد التسوية الحقيقي الذي يرغبه المرء هما جوهر التفاوض.»29 «الحد الأدنى من الصدق ضروري لعقد اتفاق سارٍ، لكن الصراحة المطلقة ليست كذلك.»30

إن المفاوضات أشبه بلعبة البوكر؛ حيث تُبقي أوراقك بعيدًا عن أنظار اللاعبين. لا تبتسم أبدًا عندما تجد بأوراقك سلسلة منتظمة. الخداع متوقع، لكن له حدوده. ومثل اللاعبين في لعبة البوكر، لا يتسنَّى للمتفاوضين الغش، فلا يمكنهم إخفاء ورقة لعب في أكمامهم، أو استخدام مرآة لرؤية أوراق الخصم، عليهم أن يلعبوا بعدالة. أما في المفاوضات، فالمعيار السائد هو أنه يجب توضيح المشاكل الكبرى، كما هو الحال مع القانون الذي ينص بوجوب التبليغ عن مشاكل البناء في المنزل.

وقد وضع توما الأكويني يده على الخداع المقوِّض للمعيار في القرن الثالث عشر؛ إذ قال: «لا حاجة إلى الاستعانة بمنادي البلدة للإعلان سابقًا عن عيوب البضاعة التي يعرضها المرء للبيع»،31 لكنه قال إنه من الضروري توضيح أي عيب قد يكون خطيرًا أو يفضي إلى خسارة جسيمة، وقد عرَّف الخسارة الجسيمة التي يتكبَّدها البائع بأنها سعر أقل من نصف السعر «المنصِف». وهكذا، أتاح فعليًّا مساحة معقولة يجب توفير المعلومات في إطارها؛ ومن ثَمَّ، فمن المتوقع حدوث قدر من الخداع في المفاوضات، وإمكانية الخداع تولي الثقة أهمية كبرى.

الثقة والسلطة في المفاوضات

ولما كانت عملية التفاوض تتضمن تكرار العروض والعروض المقابلة، فثمة وقت كافٍ لتنشأ أواصر الثقة حتى بين الغرباء. عندما يتصرف المتفاوض بعدالة — على نحو متوقع، ولا سيما على نحو يقدِّم فيه تنازلات — تتوطد الثقة. وما إن تتوطد الثقة، فإنها تؤدي إلى المخاطرة، وإلى تقديم تنازلات أكبر.32 ومن ثَمَّ يبلغ المتفاوضون الواثقون التسوية على نحو أسرع، ويُفترض أن يكونوا أكثر عدالة.33

وتكون الثقة ضرورية بشكل خاص عندما تجري المفاوضة على السعر قبل تسليم المنتج أو الخدمة، مثلًا، عند التفاوض على إصلاحات السقف. حينها يعتمد المشتري على عامل التصليحات كي يسلمه السقف كما وعده.

هبْ أن مالك المنزل قد تفاوض بشكل عدائي جدًّا مع عامل التصليحات، وفاصل معه حتى وصل إلى سعر زهيد، فإن عدم الثقة المتولدة في مثل هذه المفاوضة المحفوفة بالضغائن قد ترتد وتطارد المالك، فقد يجازي العامل مالك المنزل بعمل رديء الجودة، وحينها سيستشيط مالك المنزل غضبًا.

لكي يحمي المشتري نفسه من عمال التصليحات معدومي الضمير وغيرهم من البائعين، فإنه يعتمد على السمعة؛ فعلى مقاول البناء أن يكون معروفًا بالوفاء بالوعود؛ وعلى سمسار العقارات أن يتمتع بسمعة طيبة في عرض المنازل بأمانة. ولهذا السبب كثيرًا ما يسأل المشتري أكثر من مصدر ليعرف ما إذا كان البائع قد تصرَّف بعدالة في الماضي أم لا. ويتحقق من مكتب تحسين الأعمال التجارية ليرى إذا كانت هناك شكاوى مقدمة ضده، وإذا كان قد رد على الشكاوى؛ ومن ثَمَّ، فللسمعة الطيبة أهميتها حتى في المفاوضة لمرة واحدة.

إضافة إلى الثقة، للسلطة تأثير واضح على المفاوضات على السعر، فهي تؤثِّر على الطريقة التي يتفاوض بها المرء على السعر، والمتفاوضون الذين يتمتعون بسلطة أكبر يقدِّمون تنازلات أقل، ويجبرون الخصم الأقل سلطة على تقديم تنازلات أكبر.34 من ثَمَّ يحصل المتفاوضون الأعلى سلطة على صفقة أفضل من خصومهم، ويحكمون على الصفقة بأنها أكثر عدالة.35
في بعض الحالات، يتمتع البائع بسلطة أكبر لأنه يكون مفاوضًا أعلى خبرة وفي جعبته معلومات أفضل.36 وفي حالات أخرى، يتمتع المشتري بالسلطة لأن باستطاعته الحصول على بدائل.
عندما تكون السلطة متعادلة، يحصل المشتري على نتيجة أفضل، ويرى المشتري أنه يتمتع بسلطة أكبر من البائع بغض النظر عن الموقف الفعلي؛37 ومن ثَمَّ فعادة ما تكون التسويات في صف المشتري.
وكما خلص الباحثون: «تُفيد إحدى النتائج المتسقة والثابتة والمثيرة للاهتمام بأن المشتري عادة ما يتفوق على البائع في تجارب التفاوض المتماثلة.»38 ويبدو أن معيار التكافؤ — على الأقل في المفاوضات — متحيز، بحيث ترجح المفاوضات كفة المشتري في العادة (مرة أخرى، باستثناء صديقتي في المغرب).

موجز الفصل

السعر المُتفاوَض عليه عادل؛ لأن كلا الطرفين له رأي في تحديده، ويتمتعان بالسيطرة على العملية والنتيجة، فبوسع أيهما الانسحاب مما يظن أنه سعر جائر أو أسلوب مساومة جائر من جانب الطرف الآخر.

في الوقت نفسه، يكون السعر المُتفاوَض عليه جائرًا إذا لم يلتزم المتفاوضون بالسيناريو الصحيح، ويكون جائرًا حين لا تتكافأ النتائج، ويحصل أحد الأطراف على أفضل ما في الصفقة. يكون السعر المُتفاوَض عليه جائرًا عندما تكون المقايضة مجحفة؛ لأن البائع قد أخفى معلومات، ويكون جائرًا أيضًا عندما يفرض المتفاوض الأقوى سيطرة تنازلات.

تحدُّ المعايير الاجتماعية من درجة عدم تكافؤ النتائج، ومن مقدار الخداع المقبول، ومن مستوى السلطة الذي يمكن أن يُفرض. بالامتثال للمعايير الاجتماعية، يقلل المتفاوضون من احتمال انسحاب خصومهم في المساومة، وستكون التسوية أسرع وأكثر استدامة، وستكون عادلة.

تعريفات

مفاوضات مربحة للطرفين: التفاوض على السعر والمنتج والخدمة بحيث يربح كلا المساومَين.
مفاوضات المكسب والخسارة: مساومة يكون فيها المكسب لشخص هو خسارة لشخص آخر، كما في التفاوض على الأسعار.
مساحة الاتفاق: نطاق الأسعار بين أعلى سعر سيدفعه المشتري وأدنى سعر سيقبله البائع، ويُتوقع أن تكون التسوية في إطار هذه المساحة.
سيناريو المساومة: التسلسل المتوقع لسلوك كلٍّ من المشتري والبائع عندما يُجريان المساومة.
نموذج الشاغل المزدوج: نموذج تفاوض ينشغل فيه كلا الطرفين لا بمصلحتهما الذاتية وحدها، وإنما بمصلحة الطرف الآخر أيضًا.
التهيئة: غرس فكرة بحيث تصبح مهمة عند اتخاذ القرارات.
استراتيجية التفاوض التعاوني: استخدام أساليب تفاوض استرضائية؛ أي تقديم تنازلات كبيرة، وعدم تضليل الطرف الآخر بتهديدات الانسحاب.
استراتيجية التفاوض التنافسي: استخدام أساليب تفاوض عدائية؛ أي تقديم تنازلات بسيطة وتضليل الطرف الآخر بتهديدات الانسحاب.
استراتيجية التفاوض التبادلي: تقليد ما يقوم به الطرف الآخر — أيًّا كان — عند المساومة؛ أي تقديم تنازلات كبيرة عندما يقدِّمها الطرف الآخر، وتقديم تنازلات هزيلة عندما يقدِّمها الطرف الآخر، ومقابلة التضليل بالتضليل عندما يضلِّل الطرف الآخر.

ما هو السعر «العادل»؟

ما لم يوجد إكراه فالسعر العادل هو أي سعر يتفق عليه مشترٍ راغب في الشراء وبائع راغب في البيع. دعوني أوضح لكم بمثال:

هب أنني اشتغلت في مجال المياه المعبأة، ولمعرفتي أن الناس يحبون شراء المياه المعبأة عندما يكون الجو حارًّا ويشعرون بالحر، تواصلت مع مسئولي مضمار «تور ١٨ جولف كورس» في فلاور ماونت بتكساس. تفاوضت على صفقة معهم بحيث يمكنني السير عبر المضمار وبيع زجاجات المياه، معطيًا إياهم حصة من المبيعات. وفي أحد الأيام الحارَّة التي سار بها العمل على ما يرام، لم يتبقَّ لديَّ سوى زجاجتين، فقررت أن أعود أدراجي إلى المنزل.

اتخذت طريقًا مختصرًا عبر الغابة، ولاحظت سبَّاكًا أيرلنديًّا يرفع فروع الأشجار محاولًا العثور على كرة الجولف الخاصة به. كان جبينه يتصبب عرقًا. حسنًا إذن، أعتقد أنه بوسعي بيع زجاجة مياه أخرى.

وسألته: «هل تريد شراء زجاجة مياه؟»

فسألني السبَّاك الأيرلندي: «بكم الزجاجة؟ يُفضل ألا تغالي في ثمنها، فأنا أيرلندي وأعمل لدى تاجر جملة، ولكل قرش أهميته عندي.»

بعدها مباشرة، سقط راندي هيلتون من فوق شجرة كان قد تسلقها في محاولة منه للبحث بصورة أفضل في الأنحاء عن كرته. شممت العرق المتصبب منه قبل أن أراه. عظيم! يمكنني أن أبيع آخر زجاجة مياه!

قال لي راندي: «سأعطيك دولارين مقابل الزجاجة! هذا كل ما لدي!»

فقلت له وأنا ألقي له بالزجاجة: «بيعت لك!»

ناولني راندي ورقتين من فئة الدولار غارقتين في عرقه، وعبَّ شربة كبيرة من زجاجته وهو يقول: «يا لها من صفقة رابحة!»

نظر إليَّ الأيرلندي نظرة ماكرة وقال: «ليس لديَّ سوى دولار واحد.»

فكرت في الأمر وقلت في نفسي: لا مشكلة، إنها زجاجتي الأخيرة.

فقال راندي هيلتون: «مهلًا! لقد أخذت مني دولارين، إن بعت الزجاجة إلى السباك الأيرلندي مقابل دولار فأنا أريد الدولار الزائد.»

فرددت: «لقد قلت لتوِّك إن دولارين مقابل الزجاجة صفقة رابحة!»

فقال ساخطًا: «كان ذلك من قبل.»

فكان ردِّي: «ماذا إذن لو قلت لك إنني في المعتاد أبيع زجاجة المياه مقابل ثلاثة دولارات، وإنني خصمت لك بالفعل دولارًا!»

وبينما كان راندي يحكُّ رأسه مفكرًا، ويسيل لعاب الأيرلندي أمام زجاجة المياه، خرج علينا فرانك بلاو من بين الأجمات وقال: «هل ستلعبون الجولف أم أن لكم خططًا أخرى؟ هيا لنبدأ!»

فرد الأيرلندي: «إننا نشتري مياهًا.»

فسأل فرانك: «فكرة طيبة! بكم الزجاجة؟»

فسألته: «كم قيمتها لك؟»

فأجاب: «خمسة دولارات!»

فعقب الأيرلندي: «مهلًا! لقد عثرت على ورقة بخمسة دولارات في جيبي، سأعطيك ستة دولارات مقابل آخر زجاجة.»

فرد فرانك: «لن يزايد سباك أيرلندي عليَّ، سأشتريها بعشرة دولارات!»

فقال الأيرلندي: «أحد عشر دولارًا!»

فرد فرانك: «عشرون دولارًا! سأضيفها إلى النفقات العامة وأتربَّح منها. من سيبالي؟»

فقال الأيرلندي: «واحد وعشرون دولارًا!»

وهنالك تدخل راندي هيلتون وقال: «سأبيع ما تبقي من المياه بزجاجتي مقابل عشرة دولارات.»

فقال لي فرانك: «سأعطيك خمسة دولارات مقابل الزجاجة!»

فسألته: «ماذا عن العشرين دولارًا؟!»

فرد عليَّ: «هل تريد الخمسة دولارات أم لا؟»

فقال راندي: «سأعطيك عشرة دولارات.»

فسارعت قبل أن ينخفض السعر مجددًا: «بيعت لك!»

عبَّ راندي شربة كبيرة من الزجاجة، ثم ناول الباقي إلى فرانك وهو يقول: «مقابل عشرة دولارات يا فرانك، مثلما دفع الأيرلندي، هذا هو سعري الثابت!»

حوار في غاية السُّخف! أليس كذلك؟ وسواء كان سخيفًا أم لا، متى كان السعر جائرًا؟ لم يكن جائرًا على الإطلاق، فأينما يوجد مشترٍ راغب في الشراء وبائع راغب في البيع، فمن المستحيل البيع بسعر جائر. هذا مستحيل!

إعداد مات ميكال،39 منقول بتصريح من مجلة «بي إم ماجازين»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤