المقدمة

لما كان السبب الحامل على الشيء متقدمًا عليه طبعًا، ناسبَ أن نقدمه وضعًا، ولم نكتفِ بالإيماء في الخطبة إلى ما دعانا لجمع هذا التأليف، بل رأينا من المهم أن نعود إلى إيضاحه هنا ونبني عليه ما أردنا إيراده في المقدمة، فنقول:

إن الباعث الأصلي على ذلك أمران آيلان إلى مقصد واحد؛ أحدهما: إغراءُ ذوي الغَيرة والحزم من رجال السياسة والعلم، بالتماس ما يمكنهم من الوسائل الموصلة إلى حسن حال الأمة الإسلامية، وتنمية أسباب تمدنها بمثل توسيع دوائر العلوم والعرفان، وتمهيد طرق الثروة من الزراعة والتجارة، وترويج سائر الصناعات ونفي أسباب البطالة، وأساس جميع ذلك حسن الإمارة، المتولد منه الأمن، المتولد منه الأمل، المتولد منه إتقان العمل المشاهد في الممالك الأوروباوية بالعيان وليس بعده بيان. ثانيهما: تحذير ذوي الغفلات من عوام المسلمين عن تماديهم في الإعراض عما يُحمد من سيرةِ الغَيْرِ، الموافقةِ لشرعنا، بمجرد ما انتُقش في عقولهم من أن جميع ما عليه غير المسلم من السِّيَر والتراتيب ينبغي أن يُهجر، وتآليفهم في ذلك يجب أن تنبذ ولا تذكر، حتى إنهم يشددون الإنكار على مَن يستحسن شيئا منها. وهذا على إطلاقه خطأ محض؛ فإن الأمر إذا كان صادرًا من غيرنا وكان صوابًا موافقًا للأدلة، لا سيما إذا كنا عليه وأُخذ من أيدينا، فلا وجه لإنكاره وإهماله، بل الواجب الحرص على استرجاعه واستعماله. وكل متمسك بديانة وإن كان يرى غيره ضالًّا في ديانته، فذلك لا يمنعه من الاقتداءِ به فيما يستحسن في نفسه من أعماله المتعلقة بالمصالح الدنيوية، كما تفعله الأمة الإفرنجية، فإنهم ما زالوا يقتدون بغيرهم في كل ما يرونه حسنًا من أعماله، حتى بلغوا في استقامة نظام دنياهم إلى ما هو مشاهد.

وشأن الناقد البصير تمييز الحق بمسبار النظر في الشيء المعروض عليه قولًا كان أو فعلًا، فإن وجده صوابًا قَبِله واتَّبعه، سواءٌ كان صاحبه من أهل الحق أو من غيرهم، فليس بالرجال يُعرف الحق بل بالحق تعرف الرجال، والحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها.

ولما أشار سلمان الفارسي رضي الله عنه على رسول الله بأن عادة الفرس أن يطوقوا مدنهم بخندق حين يحاصرهم العدو؛ اتقاءً من هجومه عليهم، أخذ رسول الله برأيه، وحفر خندقًا للمدينة في غزوة الأحزاب، عمل فيه بنفسه ترغيبًا للمسلمين. وقال سيدنا علي كرم الله وجهه: «لا تنظر إلى مَن قال، وانظر إلى ما قال.» وإذا ساغ للسلف الصالح أخذُ مثل المنطق من غير أهل ملتهم وترجمته من لغة اليونان لما رأوه من الآلات النافعة، حتى قال الغزالي: «مَن لا معرفة له بالمنطق لا يوثق بعلمه.» فأي مانع لنا اليوم من أخذ بعض المعارف التي نرى أنفسنا محتاجين إليها غاية الاحتياج في دفع المكائد وجلب الفوائد؟

وفي «سنن المهتدين» للعلَّامة الشيخ المواق المالكي ما نصه: «إن ما نُهينا عنه من أعمال غيرنا هو ما كان على خلاف مقتضى شرعنا، أما ما فعلوه على وفق الندب أو الإيجاب أو الإباحة، فإنَّا لا نتركه لأجل تعاطيهم إياه؛ لأن الشرع لم يَنْهَ عن التشبه بمَن يفعل ما أذن الله فيه.» وفي «حاشية الدر المختار» للعلَّامة الشيخ محمد بن عابدين الحنفي ما نصه: «إن صورة المشابهة فيما تعلق به صلاح العباد لا تضر.»

على أنَّا إذا تأمَّلنا في حالة هؤلاء المنكرين لما يُستحسن من أعمال الإفرنج نجدهم يمتنعون من مجاراتهم فيما ينفع من التنظيمات ونتائجها، ولا يمتنعون منها فيما يضرهم؛ وذلك أنَّا نراهم يتنافسون في الملابس وأثاث المساكن ونحوها من الضروريات، وكذا الأسلحة وسائر اللوازم الحربية، والحال أن جميع ذلك من أعمال الإفرنج. ولا يخفى ما يلحق الأمة بذلك من الشَّيْن والخلل في العمران وفي السياسة؛ أما الشين فبالاحتياج للغير في غالب الضروريات الدال على تأخر الأمة في المعارف، وأما خلل العمران فبعدم انتفاع صناع البلاد باصطناع نتائجها الذي هو أصل مهمٌّ من أصول المكاسب. ومصداق ذلك ما نشاهده من أن صاحب الغنم منا، ومستولد الحرير وزارع القطن مثلًا يقتحم تعب ذلك سنة كاملة، ويبيع ما ينتجه عمله للإفرنجي بثمن يسير، ثم يشتريه منه بعد اصطناعه في مدة يسيرة بأضعاف ما باعه به. وبالجملة، فليس لنا الآن من نتائج أرضنا إلَّا قيمة موادها المجردة دون التطويرات العملية التي هي منشأ توفر الرغبات منَّا ومن غيرنا، ثم إذا نظرنا إلى مجموع ما يخرج من المملكة، وقايسناه بما يدخلها، فإن وجدناهما متقاربين خف الضرر، وأما إذا زادت قيمة الداخل على قيمة الخارج فحينئذٍ يُتَوقَّع الخراب لا محالة. وأما الخلل السياسي فإن احتياج المملكة لغيرها مانع لاستقلالها وموهن لقوتها، لا سيما إذا كان متعلق الاحتياج، الضروريات الحربية التي لو يتيسر شراؤها زمن الصلح لا يتيسر ذلك وقت الحرب ولو بأضعاف القيمة. ولا سبب لما ذكرناه إلَّا تقدم الإفرنج في المعارف الناتجة عن التنظيمات المؤسسة على العدل والحرية، فكيف يسوغ للعاقل حرمان نفسه مما هو مستحسن في ذاته، ويستسهل الامتناع عما به قوام نفعه بمجرد أوهام خيالية، واحتياط في غير محله؟!

ومما يحسن سوقه هنا قول بعض المؤلفين من الأوروباويين في السياسات الحربية: إن الممالك التي لا تنسج على منوال مجاوريها فيما يستحدثونه من الآلات الحربية والتراتيب العسكرية، يوشك أن تكون غنيمة لهم ولو بعد حين. وخص التراتيب الحربية لأنها موضوع كتابه، وإلَّا فالواجب مجاراة الجار في كل ما هو مظنة لتقدمه، سواء كان من الأمور العسكرية أو من غيرها. ومما يؤيد ما قررناه قوله لعاصم بن ثابت من حديث: «مَن قاتل فليقاتل كما يقاتل.» ويوضح معناه ما تضمنته وصية الصدِّيق لخالد بن الوليد — رضي الله عنهما — حين بعثه لقتال المرتدين، فقال: «يا خالد، عليك بتقوى الله والرفق بمَن معك …» إلى أن قال: «والخوف عند أهل اليمامة، فإذا دخلت بلادهم فالحذر الحذر! ثم إذا لاقيت القوم فقاتلهم بالسلاح الذي يقاتلونك به، السهم للسهم والرمح للرمح والسيف للسيف.» قلتُ: ولو أدرك هذا الزمان لأبدل ذلك بمدفع الششخان، ومكحلة الإبرة والسفينة المدرعة، ونحوها من المخترعات التي تتوقف عليها المقاومة، ولا يحصل بدونها الاستعداد الواجب شرعًا، الذي يستلزم معرفة قوة المستعد له، والسعي في تهيئة مثلها أو خير منها، ومعرفة الأسباب المحصلة له.

وبناءً على ذلك يُقال هنا: هل يمكننا اليوم الحصول على الاستعداد المشار إليه بدون تقدم في المعارف وأسباب العمران المشاهدة عند غيرنا؟ وهل يتيسر ذلك التقدم بدون إجراء تنظيمات سياسية، تناسب التنظيمات التي نشاهدها عند غيرنا في التأسس على دعامتَي العدل والحرية اللذين هما أصلان في شريعتنا؟ ولا يخفى أنهما ملاك القوة والاستقامة في جميع الممالك؟

ولما كان الغرض من هذا الكتاب لا يتم إلَّا ببيان أحوال البلدان الأوروباوية؛ لزم أن نثني العِنان إليه، مدرجين في أثنائه ما يناسب الأمة الإسلامية، فنقول: إن الحالة الراهنة في ممالك أوروبا لم تكن ثابتة لها من قديم الزمان؛ لأنها كانت بعد هجوم البرابرة الشماليين وسقوط الدولة الرومانية سنة أربعمائة وست وسبعين مسيحية على أفظع حال من التوحش والاعتداء والجور، آخذة في حركة السقوط التي هي أسرع من الصعود طبعًا، ولم تزل في ربقة الرق لملوكها وكبراء الأمم الجائرة المسمين بالنوبليس إلى زمن ولاية الإمبراطور شارلمان ملك فرنسا ومعظم ممالك أوروبا سنة سبعمائة وثمانٍ وستين، فبذل غاية جهده في إصلاح حال الناس بسعيه في تنمية المعارف وغيرها، ثم بعد وفاته رجعت أوروبا إلى غياهب جهالتها وظلم ولاتها كما يأتي تفصيله. ولا يتوهم أن أهلها وصلوا إلى ما وصلوا إليه بمزيد خصب أو اعتدال في أقاليمهم؛ إذ قد يوجد في أقسام الكرة ما هو مثلها أو أحسن، ولا أن ذلك من آثار ديانتهم؛ إذ الديانة النصرانية ولو كانت تحث على إجراء العدل والمساواة لدى الحكم، لكنها لا تتداخل في التصرفات السياسية؛ لأنها تأسست على التبتل والزهد في الدنيا، حتى إن عيسى عليه السلام كان ينهى أصحابه عن التعرض لملوك الدنيا فيما يتعلق بسياسة أحوالها، قائلًا إنه ليس له ملك في هذه الدنيا؛ لأن سلطان شريعته على الأرواح دون الأشباح، والخلل الواقع في ممالك البابا كبير الديانة النصرانية لامتناعه من الاقتداء بالتراتيب السياسية المعتبرة في بقية الممالك الأوروباوية دليل واضح على ما ذكرناه، وإنما بلغوا تلك الغايات والتقدم في العلوم والصناعات بالتنظيمات المؤسسة على العدل السياسي وتسهيل طرق الثروة واستخراج كنوز الأرض بعلم الزراعة والتجارة، وملاك ذلك كله الأمن والعدل اللذان صارا طبيعة في بلدانهم، وقد جرت عادة الله في بلاده أن العدل وحُسن التدبير والتراتيب المحفوظة من أسباب نمو الأموال والأنفس والثمرات، وبضدها يقع النقص في جميع ما ذُكر كما هو معلوم من شريعتنا والتواريخ الإسلامية وغيرها، فقد قال : العدل عز الدين وبه صلاح السلطان وقوة الخاص والعام وبه أمن الرعية وخيرهم. ومن أمثال الفرس: المُلك أساس والعدل حارس، فما لم يكن له أساس فمهدوم وما لم يكن له حارس فضائع. وفي نصائح الملوك: إن ولي الأمر يحتاج إلى ألف خصلة، وكلها مجموعة في خصلتين إذا عمل بهما كان عادلًا، وهما: عمران البلاد وأمن العباد.

ومن تصفح الفصل الثالث من الكتاب الأول من «مقدمة ابن خلدون» رأى أدلةً ناهضة على أن الظلم مُؤِذن بخراب العمران كيفما كان وبما جُبلت عليه النفوس البشرية، كان إطلاق أيدي الملوك مجلبة للظلم على اختلاف أنواعه، كما هو واقع اليوم في بعض ممالك الإسلام، ووقع بممالك أوروبا في تلك القرون عند استبداد ملوكها بالتصرف المطلق في عَبيد الله، من غير تقيُّد بقانون عقلي لمنافاته لشهواتهم، ولا شرعي لعدم وجوده في الديانة المسيحية المبنية على التبتل والزهد في الدنيا كما تقدم. وما أشرف بعض ممالكهم على الاضمحلال وسلب الاستقلال إلَّا بسوء تصرفهم الناشئ عن إطلاق أيديهم مع حسن سيرة مجاوريهم إذ ذاك من الأمة الإسلامية، الناتج عن تقيد ولاتهم بقوانين الشريعة المتعلقة بالأمور الدينية والدنيوية، التي من أصولها المحفوظة إخراج العبد عن داعية هواه، وحماية حقوق العباد سواءٌ كانوا من أهل الإسلام أو من غيرهم، واعتبار المصالح المناسبة للوقت والحال، وتقديم درء المفاسد على جلب المصالح، وارتكاب أخف الضررين اللازم أحدهما … إلى غير ذلك.

ومن أهم أصولها وجوب المشورة التي أمر الله بها رسوله المعصوم مع استغنائه عنها بالوحي الإلهي، وبما أودع الله فيه من الكمالات، فما ذاك إلَّا لحكمةِ أن تصير سُنَّةً واجبة على الحكام بعده، قال ابن العربي: «المشاورة أصل في الدين وسنة الله في العالمين، وهي حق على عامة الخليقة من الرسول إلى أقل الخلق.» ومن كلام علي رضي الله عنه: «لا صواب مع ترك المشاورة.» ومن الأصول المجمع عليها وجوب تغيير المنكر على كل مسلم بالغ عالم بالمنكرات. وقال حجة الإسلام الغزالي: الخلفاءُ وملوك الإسلام يحبون الرد عليهم ولو كانوا على المنابر. فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يخطب: أيها الناس مَن رأى منكم فيَّ اعوجاجًا فليقومه. فقام له رجل وقال: والله لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا. فقال: الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوِّم اعوجاج عمر بسيفه. ولا شك أن مثل هذا الإمام العادل الشديد في حماية الدين وحقوق الخلافة لو لم يَرَ مساغًا من الشريعة لذلك الكلام، مع ما فيه من الشدة ما حمد الله عليه، بل كان الواجب رده وزجر قائله، وروى الغزالي أيضًا في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من «الإحياء» أن معاوية حبس عطاءَ الناس، فقام إليه أبو مسلم الخولاني فقال: إنه ليس من كدِّك ولا من كدِّ أبيك ولا من كدِّ أمك. فقال معاوية بعد إسكان غضبه بالوضوءِ: صدق أبو مسلم، إنه ليس من كدِّي ولا من كدِّ أبي، فهلموا إلى عطائكم.

قلتُ: لولا التغيير المشار إليه ما استقام للبشر ملك؛ لأن الوازع ضروري لبقاء النوع الإنساني، ولو ترك ذلك الوازع يفعل ما يشاءُ ويحكم ما يريد لم تظهر ثمرة وجوب نصبه على الأمة لبقاء الإهمال بحاله، فلا بدَّ للوازع المذكور من وازع له يقف عنده؛ إما شرع سماوي أو سياسة معقولة، وكل منهما لا يدافع عن حقوقه إن انتهكت؛ فلذلك وجب على علماء الأمة وأعيان رجالها تغيير المنكرات، ونَصَبَ الأوروباويون المجالس وحرروا المطابع، فالمغيرون للمنكر في الأمة الإسلامية تتقيهم الملوك كما تتقي ملوك أوروبا المجالس وآراء العامة الناشئة عنها وعن حرية المطابع، ومقصود الفريقين واحد؛ وهو الاحتساب على الدولة لتكون سيرتها مستقيمة، وإن اختلفت الطرق الموصلة إلى ذلك. وما ذكرناه أشار إليه ابن خلدون في فصل الإمامة من مقدمته حيث قال: «إن المُلك لمَّا كان عبارة عن المجتمع الضروري للبشر ومقتضاه التغلب والقهر، اللذان هما من آثار القوة الغضبية المركَّبة في الإنسان، كانت أحكام صاحبه في الغالب حائدة عن الحق مجحفة بمَن تحته من الخلق؛ لحمله إياهم في الغالب على ما ليس في طوقهم من شهواته، فتسعر طاعته لذلك، وتجيء العصبية المفضية إلى الهرْج والقتل، فوجب أن يُرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة وينقادون إلى أحكامها، كما كان ذلك للفرس وغيرهم من الأمم. وإذا خلت الدولة عن مثل هذه السياسة لم يستقم أمرها ولا يتم استيلاؤها، فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سياسة عقلية، وإذا كان فرضها من الله تعالى بشارع يقررها كانت سياسة دينية نافعة في الدنيا والآخرة.» انتهى.

قلت: والنفع المذكور إنما يكون تامًّا ببقائها محترمة بصونها والذب عن حوزتها بمثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما أشرنا إليه. هذا وإنَّا لا ننكر إمكان أن يوجد في الملوك مَن يحسن تصرفه في المملكة بدون مشورة أهل الحل والعقد، ويحمله حب الإنصاف على الاستعانة بالوزير العارف النصوح فيما يشكل عليه من المصالح، لكن لكون ذلك من النادر الذي لا يعتبر لاستناده إلى أوصافٍ قلما تجتمع في إنسان، وعلى فرض اجتماعها ودوامها له تزول بزواله، وجب علينا أن نجزم بأن مشاركة أهل الحل والعقد للملوك في كليات السياسة، مع جعل المسئولية في إدارة المملكة على الوزراء المباشرين لها بمقتضى قوانين مضبوطة مراعًى فيها حال المملكة أجلبُ لخيرها وأحفظ له.

وبيان ذلك أن حالة الملوك بمقتضى الطبيعة البشرية لا تخرج عن صور ثلاث: لأن الواحد منهم إما أن يكون كامل المعرفة والمحبة لخير الوطن قادرًا على إجراء المصالح بمراعاة الأصلح، أو يكون كامل المعرفة ولكن له أغراض وشهوات خصوصية تصده عن مراعاة المصالح العمومية، أو يكون ناقص المعرفة ضعيف المباشرة. ومثل هذه الصور الثَّلَاث يعتبر في الوزير المباشر، ولا يخفى أن لزوم المشورة ومسئولية الوزراء في الصورة الأولى لا يعطل كامل المعرفة عن مقصده الحسن، بل يعينه حيث إن آراء الجميع متعاضدة على المصلحة، كما أنه يُسهِّل دوام الملك في عائلته، ولو كانوا مِن ماصدقات الصورتين الأخيرتين الواضح فيهما تأكد المشورة والمسئولية لوجوب المعارضة في الثانية والإعانة في الثالثة، فبذلك يستقيم حال المملكة، ولو كان الوالي أسير الشهوات أو ضعيف الرأي، كما قال المترجم لتاريخ ستِوَرْد مِل الإنكليزي: إن رفعة شأن الأمة الإنكليزية بلغت الغاية في مدة الملك جورج الثالث الذي كان مجنونًا، وما ذاك إلَّا بمشاركة أهل الحل والعقد ومسئولية الوزراء لهم.

وقد يسبق إلى بعض الأذهان الضعيفة أن تكليف من تحسن سيرته من الوزراء ينجبر به خلل الصورتين الأخيرتين، بحيث لا يحتاج لأهل الحِل والعقد. وهو ظاهر السقوط؛ لأن تقديم الوزير للمباشرة وتأخيره عنها بيد الملك، ولا يظن أن الملك يقدم من يعلم أنه يخالفه مخالفة معتبرة. وعلى فرض تقديمه وسيره سيرةً مستحسنة فإنَّا نرى أن حال الوزير دائر بين أمرين؛ لأنه إما أن يوافق الملك وحاشيته على أغراضهم وشهواتهم مرجحًا بذلك حظ نفسه، وضرر المملكة في هاته الحالة لا يكاد يخفى، وإما أن يخالفهم ويأمر مَن تحته من المتوظفين بما تقتضيه مصلحة البلاد، وحينئذٍ فمِن أين له هذا الحق؟ وبأي ظهير يستظهر على تلك المخالفة؟ خصوصًا إذا لم تكن هناك شريعة نافذة تحميه من تحزب حساده الذين غاية أملهم إضراره وتعطيل تصرفاته الحسنة المقللة لفوائدهم بكل وجه أمكنهم، ولو بتنفيذ إذنه على غير مقصوده أو تأخيره عن الوقت المناسب؛ ليظهر الخلل ويكثر الزلل، أو بإخفاء جليل حسناته وإشهار حقير سيئاته لتغيير القلوب عليه. ومن دعاء علي رضي الله عنه: «اللهم احفظني من عدو يرعاني؛ إن رأى مني حسنة دسها، وإن رأى سيئة أشهرها.» ثم إذا خيب الله آمالهم بنجاح سعي الوزير المشار إليه في إدارة المملكة رجعوا إلى سلوك طريق الوشاية به عند الملك، بأن يقولوا: إنه استبد عليك ولم يُبْقِ لك من المُلك غير الاسم … إلى غير ذلك من أنباء الفسَّاق التي قد تروج على العاقل قبل التبيُّن، خصوصًا عند الدول المشرقية. فكيف يتيسر للوزير والحالة ما ذُكر أنْ يُجري إدارة المملكة على مواقع المصلحة مخالفًا بذلك مَن هو الخصم والحكم؟! ولما في هاته الحالة الثانية من العوائق يُضطر الوزير المذكور إما إلى اختيار الحالة الأولى بالمجاراة وسلوك طرق المداراة، وعاقبة ذلك وخيمة لعوده بالمضرة على الوطن والملك وعليه نفسه؛ لأن استعذاب الموافقة على الشهوة في الحال الناشئ عند خراب المملكة يستعقب مرارة الندامة في المآل. وإما إلى الاستعفاء من الخدمة بالمرة، وهو وإن لم يكن واجبًا لحفظ ذاته فهو واجب للتخلص مما يُتوقَّع من الموافقة على ما يئول إلى خراب المملكة الموجب لعقاب الخالق ولوم المخلوق؛ إذ الإنسان ولو ساغ له المخاطرة بنفسه لمصلحة الوطن لا يسوغ له المخاطرة بديانته وهمته، وما يجب عليه من الطاعة للملك والمحبة للوطن لا يحصلان إلَّا ببذل الجهد في النصح بجلب المصالح ودرء المفاسد إن قدر عليهما، وإن لم يقدر فبالامتناع من الموافقة على ما يضر، فإن لم يفعل كانت موافقته مع العلم بما ينشأ عنها من المضرة خيانة.

فبان بهذا أن الممالك التي لا يكون لإدارتها قوانين ضابطة محفوظة برعاية أهل الحل والعقد خيرها وشرها منحصر في ذات الملك، وبحسب اقتداره واستقامته يكون مبلغ نجاحها. ويشهد لذلك حالة الممالك الأوروباوية في القرون الماضية قبل تأسيس القوانين، فقد كان لهم في ذلك الوقت من الوزراء من لهم شهرة إلى الآن بتمام المعرفة والمروءة، ومع ذلك لم يتيسر لهم حسم مواد الخلل المنبعث من صورتَي استبداد الملوك المشار إليهما، لا يقال إن مشاركة أهل الحل والعقد للأمراء في كليات السياسة تضييق لسعة نظر الإمام وتصرفه العام؛ لأنَّا نقول: هذا التوهم يندفع بمطالعة «الأحكام السلطانية» للماوردي، فإنه قال فيه عند بيان وزارة التفويض: «هي أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءَها على اجتهاده، وليس يمتنع جواز هذه الوزارة، فإن الله تعالى يقول حكاية عن نبيه موسى عليه السلام: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. فإذا جاز ذلك في النبوءة كان في الإمامة أجوز.» انتهى.

قلت: فإذا جاز تشريك الإمام لوزير التفويض على الوجه المذكور ولم يعدَّ مثل ذلك تنقيصًا من تصرفه العام كان تشريكه لجماعة هم أهل الحل والعقد في كليات السياسة أجوز؛ لأن اجتماع الآراء إلى مواقع الصواب أقرب، ولهذا لما جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة شورى بين ستة قال: إن انقسموا اثنين وأربعة فكونوا مع الأربعة. (ميلًا منه إلى الأكثر؛ لأن رأيهم إلى الصواب أقرب، قاله السيد السند) وإن تساووا فكونوا في الحزب الذي فيه عبد الرحمن بن عوف. على أن المولى سعد الدين في «شرح العقائد» لم يمنع المشاركة في تصرفات الإمامة، وقصر منع التعدد على منشأ الفساد، حيث قال في أثناء مبحث الإمامة: «غير الجائز هو نصب إمامين مستقلين تجب طاعة كل منهما على الانفراد؛ لما يلزم عليه من امتثال أحكام متضادة، وأما في الشورى فالكل بمنزلة إمام واحد.» انتهى. أي لأن تعدد الأشخاص لا ينافي وحدة الإمامة التي مدارها على وحدة الأمر والنهي، وقد سلم كلام السعد محشوه كالفاضلينِ؛ عصام الدين وعبد الحكيم، وقرره الخيالي بقوله: وقد يجاب أيضًا، وبالجملة فكلهم معترف بصحة كلام السعد في نفسه، وظاهر حينئذٍ أحروية جواز الشورى في كليات السياسة بالمعنى الذي أشرنا إليه؛ إذ هي دون الشورى في سائر التصرفات، ثم إن الشورى على الوجه المذكور ليس فيها تضييق لدائرة خطة الإمامة وعموم تصرفها، باعتبار أن نظر أهل الحل والعقد بمنزلة نظر الإمام ومراعاة كونه مظهرًا له لاستبداده بتمشيته وإدارته، مع ما يستبد به من التصرفات التي لا تقتضي المشاركة كإجراء الخلطة السياسية والمتجرية مع الأجانب، ونصب أرباب الخطط وتأخيرهم، وتنفيذ سائر الأحكام ونحو ذلك من التصرفات التي هي محمل وحدة الآمر، وهاك شاهدًا آخر من كلام الإمام ابن العربي فإنه قال في المغارم التي تؤخذ من الناس عند فراغ بيت المال: «إنها تؤخذ جهرًا لا سرًّا وتنفق بالعدل لا بالاستيثار وبرأي الجماعة لا بالاستبداد.» انتهى. ولزيادة البيان نستوضح ذلك بمثال، وهو أن مالك البستان الكبير مثلًا لا يستغني في إقامته وتدبير شجره عن الاستعانة بأعوان يكون لهم مزيد معرفة بأحوال الشجر وما يصلحه أو يفسده، فإذا اتفق أن رب البستان أراد قطع شيء من فروع شجره لما رأى في ذلك من تقوية الأصول وتنمية ثمارها فلم يوافقه أعوانه على ذلك، علمًا منهم بمقتضى قواعد الفلاحة أن القطع في ذلك الوقت مما ينشأ عنه موت الشجرة من أصلها، فتعطيل إرادة المالك في ذلك لا يعد تضييقًا لسعة نظره وعموم تصرفه في بستانه، وقد يكون مستند الأعوان في تعطيل إرادته أمرًا شرعيًّا، كما إذا أراد بيع الثمرة قبل بُدوِّ صلاحها مثلًا فأشاروا عليه بأن ذلك لا يرضاه خالق الشجر، الذي هو المالك الحقيقي، فيلزمه الرجوع لرأيهم في المثالين وإلَّا توجه اللوم إليه واستحق أن يُحجر عليه. وهل يقال حينئذٍ أن ذلك تضييق على رب البستان؟! بل إن التوسعة عليه مضادة للحكمة الإلهية في إيجاد العالم واستعمار أرضه ببني آدم، هذا مع أن منفعة البستان مختصة بربه، أما إذا كانت له ولغيره أو منزلته فيها كما قال عمر رضي الله عنه: كمنزلة والي اليتيم؛ فأحرى أن لا يتوهم أن ذلك تضييق عليه.

ومعلوم أن تصرف الإمام في أحوال الرعية لا يخرج عن دائر المصلحة، وأن القيام بمصالح الأمة وتدبير سياستها مما لا يتيسر لكل أحد، فتعطيل الإرادة حينئذٍ إنما يقع في شيء خارج عن دائرة التصرف المسوغ له، فتحرر بما شرحناه اندفاع ذلك القيل، وأنه لا مانع من التشريك على الوجه المذكور. ومن لاحظ جانب المقتضى كما لاحظه الشيخ ابن العربي فيما قدمناه عنه، وهو ملحظنا في جميع ما أسلفناه، لم يتوقف في الجزم بتعينه، لا سيما في هذا الزمان الذي قلَّ فيه العرفان وكثر الطغيان.

وقد كانت وقعت بيني وبين أحد أعيان أوروبا مكالمة أسهب فيها بمدح ملكهم وذكر ما له من مزيد المعرفة بأصول السياسة، حتى قال: إنه متقيد بطبعه وعقله عن سلوك غير منهاج الصواب. فقلت له: كيف تشاحَّونه في الحرية السياسية وترومون مشاركته في الأمور الملكية، والحال أنكم تسلمون له من الكمالات ما لا يحتاج معه إلى المشاركة؟ فأجابني بقوله: من يضمن لنا بقاءه مستقيمًا واستقامة ذريته بعده؟

ومما يناسب سوقه هنا ما ذكره المؤرخ الشهير تيَارْس أحد أعضاء مجلس النواب بفرنسا الآن، وكان وزيرًا للملك لويز فِلِيب في آخر تاريخه المشهور عند ذكر عواقب الاستبداد، وأن العمل بالرأي الواحد مذموم ولو بلغ صاحبه ما بلغ من الكمالات والمعارف بعدما ترجم لنابوليون الأول بأوصافه الخاصة، وألحقه في السياسة بأفراد الرجال الذين جاد بهم الدهر في القرون الماضية، حتى وصفه بهمة إسكندر الرومي وقيصر الروماني وذكاء أنيبال الأفريقي ومعارفه الحربية، إلى أن قال مخاطبًا للفرنسيس: تعالوا نمعن النظر في أفعال هذا الملك التي هي في الحقيقة أفعالنا، فيستفيد منها من كان جنديًّا كيف ينبغي أن تقاد الجيوش، ومَن كان من رجال الدولة معرفةَ كيف ينبغي أن تكون إدارة المملكة، وكيف ينبغي أن يرتفع شأنها بدون خروج عن دائرة التواضع والرفق؛ إذ المعاملة متى لم تكن مصحوبة برفق وقناعة لا تُتحمل، وربما يفضي ذلك إلى أسباب الاضمحلال كما أفضت إليها سيرة المذكور، الذي هو أقل البشر قناعة. فبالجملة نعتبر بغلطاته فنتجنبها، ثم نستفيد — معاشرَ أبناء الوطن — تربية أخيرة لا يسع نسيانها؛ وهي أنه لا يسوغ أبدًا أن يُسلَّم أمر المملكة لإنسان واحد بحيث تكون سعادتها وشقاوتها بيده، ولو كان أكمل الناس وأرجحهم عقلًا وأوسعهم علمًا.

ونحن وإن كنَّا لسنا ننتقد فعل نابوليون في افتكاك فرنسا من أيدي الدِّيرَكتُوار بعد أن كانت أشرفت على الضياع في أيديهم، لكن نرى أن وجوب استخلاص المملكة من تلك الأيدي الضعيفة الخاسرة لا يكون حجة في إسلامها إسلامًا مطلقًا ليدٍ قاهرة متهورة لا تبالي بشيء، ولو كانت هي اليد المنتصرة في رِيفُلِي ومَرَنْفُو، على أنَّا نقول إن كان هناك أمة تُعْذَر عُذرًا ما في تسليم أمرها لشخص واحد فلا تكون غير الأمة الفرنساوية في ذلك الوقت، أعني سنة ثمانمائة وألف، حين استرأستْ نابوليون المذكور عليها، والناس إذ ذاك فوضى لا سراة لهم، ولم يكن المشير عليها بذلك قاصدًا مجرد تخويفها لإلجائها إلى قيود العبودية، بل كان الخوف متحققًا بالمشاهدة. فوا حسرة تلك الأمة على ألوف من النفوس البريئة صُرعت بالمجزرة، وألوف كذلك خُنقت بسجون الدير وألوف أُغرقت بوادي لوار! وبالجملة فقد حلَّ بأولئك المتمدنين من أفعال المتوحشين أمر فظيع، روَّعهم وأرعد فرائصهم، ولم يزالوا بعد سكون تلك الثورة القاسية رائجين بين السيافين المولعين بقطع الرءوس، وهم جماعة الديركتوار، وبين الجُّهَّال المتغربين عن وطنهم، وهم شيعة الملوك الذين كانوا يرومون بإراقة الدماء إرجاع فرنسا إلى الحالة القديمة التي كانت قبل الثورة مع ما طرأ عليهم في أثناء ذلك الاضطراب من ظهور سيف الأجنبي متهددًا. فبينما هم في لجج الهرْج إذ أقبل من المشرق الشاب المنصور الذي ذلَّت له صعاب الأمور، العاقل المتواضع المُغْرى باستمالة قلوب البشر، وهو نابوليون المشار إليه. أَفَتراهُم والحالة هذه لا يعذرون في إلقاء زمامهم بيد المذكور؟ بلى:

إذا لم تكن إلا الأسنة مركبًا
فلا يسعُ المضطرَّ إلَّا ركوبُها

ومع ذلك فلم تمضِ إلَّا سنوات قليلة إذ انقلب ذلك العاقل مجنونًا بجنونٍ غير مماثل لجنون أرباب الثورة، والجنون فنون، فإنه تقرَّب بمليون من النفوس في ميدان الحرب، وحمل أهل أوروبا على التعصب على فرنسا، حتى بقيت مغلوبة غريقة في دمائها مسلوبة من نتائج انتصارها مدة عشرين سنة، بحيث صارت على حالة يرثى لها، ولم يبقَ لها أن تستثمر بعد ذلك إلَّا ما كان مزدرعًا فيها من بذر التمدن الوقتي، فمن كان يظن أن عاقلَ سنة ثمانمائة وألف يُجنُّ في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة وألف؟! نعم كان يمكن توقع ذلك لو أمعنوا النظر في أن الذي له القدرة التامة، بحيث يستطيع أن يفعل كل ما يريد معه داء لا دواء له، وهو الشهوة الداعية لفعل كل مستطاع، ولو كان قبيحًا إذا تقرر هذا. فعلى أبناء الوطن أن يتأملوا سيرة المذكور ويستخرج منها كل فريق ما يناسب خطته. والأهم أمر واحد؛ وهو أن لا يُطلق أمر الوطن لإنسان واحد كائنًا مَن كان، وعلى أي حالة كان. وقد ختمت هذا التاريخ الطويل المستوعِب لأحوال نصرنا وانهزامنا بهذه النصيحة، بل الصيحة الصادرة عن صميم فؤادي غير مشوبة برياء، راجيًا بلوغها إلى قلب كل فرنساوي ليتيقن جميعهم أنه لا يليق بهم بَذْل حريتهم إلى أحد، كما لا ينبغي لهم الإفراط فيها حتى تُنتهك حرمتها. انتهى المراد منه. وفي حكمة أرسطو أن مِن الغلط الفادح أن تعوض الشريعة بشخص يتصرف بمقتضى إرادته، فإذا تأملت كلامَيْ هذين الحكيمين وما تضمنه أولهما من المشاحة في الاستبداد، مع كون المستبد من المشهود لهم بمزيد العرفان والأهلية؛ تعرف بذلك ما جُبلت عليه نفوس القوم من حب الحرية والامتناع من ظلم الملوك، كما يشهد به كلام سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه في حديث مسلم الذي رواه المستورِد القرشي رضي الله عنه عنده، فقال: سمعت رسول الله يقول: «تقومُ الساعةُ والرُّومُ أكثرُ الناس.» فقال عمرو: أَبْصِرْ ما تقولُ! قال: أقولُ ما سمعته من رسول الله قال: لَئِن قلتَ ذلك إنَّ فيهم لَخِلالًا أربعًا: إنهم لَأحلمُ الناسِ عند فتنة، وأسرعهم إفاقةً بعد مصيبة، وأوشكهم كَرَّةً بعد فرَّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسةٌ حسنةٌ جميلة: وَأَمْنَعُهُمْ مِن ظُلْمِ الملوك.

هذا، وقد كانت الأمة الإسلامية وقت احترامها للأصول الشرعية، المشار إلى بعضها سابقًا، بالمكانة التامة من الثروة والشوكة المحروستين بسياج حُسن تدبير أمرائها وعدلهم واستجلابهم رِضا الله تعالى بتعمير أرضه، نقل صاحب «كشف الظنون» أن بعض العلماء قال: «لو علم عباد الله رِضا الله في إحياء أرضه لم يبقَ على وجه الأرض موضع خراب.» ومن حِكم أرسطو: العالَم بستانٌ سياجُه الدولة، والدولة سلطان تحيا به السنة، والسنة سياسة يسوسها المُلك، والمُلك نظام يعضده الجند، والجند أعوان يكلفهم المال، والمال رزق تجمعه الرعية، والرعية عبيد يكنفهم العدل، والعدل مألوف وبه قِوام العالم. فقد تضمَّنت هذه الكلمات الحكيمة الإشارة بجعل العالم بستانًا إلى تشبيه الرعية بشجرٍ ثمرته المال وحارسه الجند، وأن استقامة الدولة بها حياة السنة السياسية التي هي مادة حياة بستان العالم. ومن آثار ثروة الأمة الناتجة عن احترام أصول العدل ما حكاه المقريزي في «الخطط»، قال: لما سار المأمون في قرى مصر، وكان يقيم بالقرية يومًا وليلة، اجتاز بقرية يقال لها طاءُ النمل، ولم يقم بها فتوسلت إليه عجوز كبيرة بالقرية في الإقامة، فأسعفها. وأحضرت من لوازم نفقة الخليفة وجنوده ما عظم لديه أمره، وأهدت له حين عزم على الرحيل عشرة أكياس من سكة الذهب كلها ضرب عام واحد، فازداد تعجبه وقال: ربما يعجز بيت مالنا عن مثل هذا، ورد عليها مالها رفقًا بها، فلم تقبل وقالت: هذا — مشيرة إلى الذهب — من هذه — أي طينة الأرض — ثُمَّ مِن عدلك يا أمير المؤمنين، وعندي من هذا شيء كثير. فقبله وأعظم جائزتها. انتهى بتصرف واختصار.

وحُكي أيضًا أن خراج مصر بلغ في زمن الخلفاء الراشدين أربعة عشر مليون دينار، وقدْرُها بسَكة الوقت نحو سبعمائة مليون فرنك، وهذا المبلغ دخْل إيالة واحدة مع الإنصاف في الجباية. وحكى ابن خلدون في «المقدمة» أن المحمول إلى بيت المال في أيام الرشيد العباسي بلغ إلى سبعة آلاف وخمسمائة قنطار ذهبًا، وقدْرُ ذلك تقريبًا ألف وأربعمائة مليون فرنك، وهذا دون ما يؤخذ من العين، ويدل على القوة العسكرية الناتجة من عدل الشريعة واتحاد الأمة ما تيسر لهم من الفتوحات التي يشهد بها المؤرخون من الفريقين، ويصدقها العيان. ففي «قرة العيون» الذي ترجمه الشيخ أحمد الزرافي المصري من اللغة الفرنساوية، وعُدَّ من حسنات المطبعة المصرية، أن الإسلام فَتح في ظرف ثمانين سنة من الأقاليم أكثر مما فتحه الرومان في ثمانية قرون. وبما نقلناه يُعلم ما كان للأمة الإسلامية من نمو العمران وسعة الثروة، والقوة الحربية الناشئة عن العدل، واجتماع الكلمة وأخوة الممالك واتحادها في السياسة، واعتنائها بالعلوم والصناعات ونحوها من المآثر العرفانية التي ظهرت في الإسلام، ونسج الأوروباويون على منوالها، وشهد المنصفون منهم بفضل التقدم فيها للأمة الإسلامية.

ففي تاريخ دِرْوِي وزير المعارف العمومية بفرنسا الآن ما معناه: بينما أهل أوروبا تائهون في دجى الجهالة لا يرون الضوء إلا من سَم الخياط؛ إذ سطع نورٌ قويٌّ من جانب الأمة الإسلامية من علوم أدب وفلسفة وصناعات وأعمال يد وغير ذلك، حيث كانت مدينة بغداد والبصرة وسمرقند ودمشق والقيروان ومصر وفاس وغرناطة وقرطبة مراكز عظيمة لدائرة المعارف، ومنها انتشرت في الأمم، واغتنم منها أهل أوروبا في القرون المتوسطة مكتشفات وصناعات وفنونًا علمية يأتي بيانها، وفيه يقول: «كانت الآداب قبل انتشار العرب من جزيرتهم متأصلة فيهم موداة بلغتين: الحميرية في اليمَن والقرشية في الحجاز، وبالأخيرة جاءَ القرآن (ولا يخفى عليك أن الذي يقابل الحميرية هو المضرية، وإن وقع الإجماع في القراءة على خصوص القرشية)؛ ولذلك اشتهرت واستمر خلوصها إلى وقتنا هذا باستمرار كتب العلم والديانة، وما دخلت العجمة في اللسان إلَّا بدخول الأمم في الإسلام وتطاول السنين. وللغة المذكورة من الاتساع وسعة المجال ما لا يخفى على مثافنها، لا سيما في الأشياء التي بها قوام المعيشة في البادية أو تتكرر رُؤيَتُهم لها أو تكثر حاجتهم إليها، فقد يكون للشيء الواحد عدة أسماء باعتبار تعدد صفاته وأحواله، وبكثرة الترادف عندهم اتسعت لهم دوائر الآداب الشعرية؛ إذ يقال للعسل عندهم ثمانين اسمًا وللثعبان مائتين وللأسد خمسمائة، وللجمل ألفًا وكذا السيف، وللداهية نحو أربعة آلاف اسم. ولا جرم أن استيعاب مثل هذه الأسماء يستدعي حافظة قوية، وللعرب من قوة الحافظة وحدَّة الفكر ما لا يسع أحدًا إنكاره، فمن مشاهيرهم: حماد الراوية، الذي ذكر يومًا للخليفة الوليد أنه ينشد له في الحال مائة قصيدة والقصيدة من عشرين إلى مائة بيت، فتعب المستمع قبل المنشد.» إلى أن قال: «ولم يكن للعرب في أول الأمر إلَّا تلك الآداب، ثم لما اتسعت لهم دوائر الفتوحات واختلطوا بالأمم الذين سبقوهم في الحضارة اتسع لهم نطاق المعارف، فأخذوا من اليونان تآليف أرسطو وشرحوها بإمعان نظر. لكن من سوء البخت لم يأخذوا الفلسفة من كتب اليونان الأصلية، وإنما تعلموها من الكتب المترجَمة بلغة أهل الشام، فهم ترجموا المترجَمة؛ فلذلك لما نقلها الفيلسوف العربي حفيد ابن رشد إلى أوروبا في القرون المتوسطة وجد بها من التحريف أكثر مما وقع فيها أولًا. وأما العلوم الرياضية فقد صادف فيها العرب المرمى، والفضل في ذلك للعلماء الذين جلبهم الخليفة المأمون من القسطنطينية.»

وفي أوائل القرن التاسع المسيحي أمر الخليفة المذكور عالِمَيْن من فلكية بغداد أن يقيسا مسافة درجة واحدة من خط الطول بصحراء سنجار ويزناها؛ ليثبت بذلك تكوير الأرض بالمشاهدة، وقد تبين ذلك باختلاف ارتفاع القطب الشمالي عن طرفي الخط المقيس.

وقد شرح العرب كتاب إقليدس، وهذبوا زيج بطليموس وحرروا حساب تعريج منطقة البروج، كما حرروا الفَرق بين أوقات الاعتدال والفَرق بين السنين الشمسية والزمنية، فوجدوا بين السنة الشمسية والسنة الزمنية عدة دقائق، واخترعوا للتحريرات آلات جديدة … إلى غير ذلك، مما يدل على ما للعرب من قابلية العلوم الرياضية. ومنهم حازت مدينة سمرقند قبل أوروبا بكثير محل رصد عجيب. وأما ما ينسب للعرب من اختراع الجبر والمقابلة والأرقام الحسابية المسماة عندنا بالأرقام العربية فلم يَثبُت، بل إنما تعلموا ذلك مع فلسفة أرسطو بالتلقي من غيرهم، وهي من العلوم التي وجدوها بإسكندرية. ويمكن أنهم نقلوا إلينا على ذلك الوجه البوصلة؛ أي بيت الإبرة، والبارود الذي تعلموه من أهل الصين. كما يعترف لهم أهل أوروبا بمزية اختراع الكاغد من القماش؛ وبذلك كثرت الكتب ودنت أسعارها وسهل الطبع وتوفرت نتائجه بعد وجوده. وقد اشتُهر العرب أيضًا بمعرفة الطب الذي كانوا تلقَّوه من كتب اليونان، ولابن رشد تعليقات عديدة على كتب جالينوس شاهدةٌ بما ذكر، ومن فلاسفتهم عدة أشخاص صاروا في وقت واحد حكماء وأطباء مشاهير، مثل أبي علي بن سيناءَ المتوفَّى سنة ست وعشرين وأربعمائة، هجرية وابن رشد المذكور. وقد بلغوا من الشهرة إلى حيث صار أعداؤهم في ذلك الوقت يرغبون في معالجتهم إياهم، كما يُحكى أن بعض ملوك قَسْطَلِيَّة كان اعتراه مرض الاستسقاء فاشتهى أن تكون معالجته بقرطبة، وحصل من لطف الخليفة على الإذن في أن يذهب ويداويه المسلمون.

ومن مآثر حكماء العرب كيفية تقطير المياه واستعمال الراوند وأدوية كثيرة. ومن العلوم التي لهم الفضل فيها الجغرافيا، وسبب تقدمهم فيها أن اتساع فتوحاتهم ورغبتهم في الأسفار الخطيرة لافتراض الحج عليهم أنتجت لهم المعرفة بكثير من البلدان الشاسعة، التي لم يصل إليها أهل أوروبا أو نسوها بعدما كانت معروفة لهم، ومن مشاهيرهم في هذا الفن أبو الفداء والمسعودي والإدريسي، وهذا الأخير هو الذي استدعاه روجير ملك صقلية وألَّف عنده كتابه الغريب الذي سماه «نزهة المشتاق». وأما علم التاريخ فمن تآليفهم فيه تاريخا المسعودي وأبي الفداء المذكورينِ وتاريخ المقريزي، غير أنها تواريخ مختصة بأبناء جنسهم، وقلَّ أن يوجد بها الكريتيك بمعنى أنهم لا يسبرون منقولاتهم بمسبار العقل، كما أشار إلى ذلك ابن خلدون، ولا يخرجون عن دائرة الوقائع المجردة، ولا سبب لذلك إلَّا ما حكاه سَدِلْيُو في تاريخه الآتي ذكره من أن وجود التسلط من الملوك في بلدان المشرق هو الذي كان يمنع المؤرخين من شرح جميع الوقائع ببيان أسبابها؛ للخطر الذي يلحقهم في حكاية الحق. وأما صناعة الأَرْشِتَكْتُور؛ أي هندسة البناء في اصطناع الهيئات فلم يشتغل العرب منها إلَّا بما يرجع إلى إتقان الأبنية، حيث كانت شريعتهم تمنع التصوير، على أن البناء نفسه لم تظهر لهم فيه اختراعات غريبة، فالأصل عندهم في الأقواس المرفوعة على الأسطوانات أن تكون أكبر من نصف دائرة، وهذا الشكل أخذوه من أبنية البِرزَنْتِيين، وهم أمة من اليونان، اعتاض العرب عن الصور الدَّهنية والمجسَّدة التزيين بالنقش المسمى عندهم بنقش حديدة، وكان في الأصل رسومًا لها مدلولات، ثم صار مجرد خطوط متقاطعة شبيهة بالحروف العربية التي يمكن أن يصور منها أشكال جيدة ظريفة، وكثيرًا ما نتعجب من إتقان تلك الحروف حين نراها على الزرابي والأقمشة المشرقية. ومن مآثر العرب اصطناع الجوابي والفوارات والتزويق بالذهب والأحجار الثمينة كالمرمر التي كانوا يجلبونها من المشرق ومن مقاطع إسبانيا الجنوبية، ومن أشهر أبنيتهم الجامع العظيم الذي بناه عبد الرحمن الأول بقرطبة، وكان به ألف وثلاث وتسعون أسطوانة وأربعة آلاف وسبعمائة قنديل، ثم قصر الزهراء الذي لا يتأخر عن الجامع المذكور في العِظم، وقد بناه عبد الرحمن الثالث على شاطئ الوادي الكبير، وبه ينبوع عظيم يفور منه شبه باقة من الزئبق، ثم ينعكس في قصعة من المرمر. ومن بديع أبنيتهم حمراءُ غرناطة التي هي في آنٍ واحد قصر وحصن، وبها عدة أمور تصلح أن تكون مثالًا لِلَطافة البناء وحسنه، خصوصًا وسطها المسمى ببطحاء الأسود.

وأما التجارة فقد كان للعرب حسن رغبة فيها في سائر الأوقات، ثم لما امتدت سلطنتهم من البيريني — وهي جبال بين فرنسا وإسبانيا — إلى جبال هِمَلايَ التي بأقصى شمال الهند صاروا أكبر تجَّار الأرض. وأما الفلاحة فلا يُعلم لهم نظير فيها؛ إذ ليس لغيرهم ما لهم من الاقتدار على جلب المياه وتوزيعها بلطف في مزارعهم الواسعة تحت شمسهم المحرقة، فسيرتهم في ذلك السائر بها إلى الآن أهل بلنسية روضة إسبانيا صالحة أن نجعلها أسوة نقتدي بها في فِلاحتنا الفرنساوية. وأما الصناعات فإن العرب تعلموا جميعها لما دخلوا بلدان الرومانيين العظيمة، حتى صاروا من أحذق أربابها، وكفاهم شهرة في ذلك سلاح طليطلة التي كانت تحت سلطانهم بإسبانيا، وحريريات غرناطة والجوخ الأزرق والأخضر بمدينة كُوَنْسَة والسروج والحروج والجلود بقرطبة. وكان أهل أوروبا يشترون هذه المهمات بأعلى ثمن ويتنافسون فيها، مع شدة نفرتهم من أهلها المخالفين لديانتهم.

وبالجملة فقد بلغت إسبانيا من العمران إلى هذه الشهرة في القرون الأولى من مدة الخلفاء، حيث كانت الفتن عنها أسكن من المشرق، وقد تزايد نمو سكانها إلى أن صار بمدينة قرطبة وحدها نحو مائتي ألف دار وستمائة جامع وخمسين مارستانًا وثمانين مكتبًا عموميًّا وتسعمائة حمام ومليون نفس. فهاك برنامجًا إجماليًّا للتمدن الذي نشره العرب من شاطئ تاج، وهو وادٍ كبير بإسبانيا إلى وادي هندوس بالهند، تمدنًا يكاد يخطف نوره الأبصار، ولكنه لسرعة نموه كان معرَّضًا للعطب، قال: وتمدن أوروبا اليوم كان أبطأ في النمو، ولكنهم حصلوا بعد انقلابات وكسوفات على ما يمكن به طول البقاء المعتاد في كل بطيء النمو. وقال في بيان امتداد ملك العرب: قد امتد ملكهم في ظرف مائة سنة من ظهور الإسلام مثل ما يمتد عظيم الخلقة فاتحًا ذراعيه لالتقاط شيء، فبلغ من أقصى الهند إلى جبال بيريني الكائنة بين فرنسا وإسبانيا، وقدر امتداد هذا الملك من سبع عشرة إلى ثمان عشرة مائة فرسخ، ولم يبلغ هذا المبلغ دولة من الدول الماضية، وقد استمرت الديانة واللسان وأحكام القرآن نافذة في غالب البلدان التي فتحوها، واغتنمت منهم أوروبا في القرون المتوسطة مكتشفات وصنائع وعلومًا، وإن كان منها ما أخذوه من غيرهم، لكن لهم الفضل في تهذيب ذلك وتخليده بعدهم. ثم في النصف الثاني من القرن العاشر المسيحي توجه الراهب الفرنساوي جربير الذي جلس على الكرسي البابوي باسم سلفستر الثاني إلى مسلمي إسبانيا، وقرأ هناك علم الجبر والفَلَك وأجرى لأهل أوروبا النصرانية منهلًا جديدًا من معارف العرب، وجمع خزانة جليلة من الكتب، وصنع كرتي السماء والأرض. انتهى ما أمكن تلخيصه من كلام الوزير المشار إليه.

وفي «تاريخ العرب» لسدليو — مدرس علوم التاريخ بإحدى مدارس فرنسا وأحد أعضاء جمعية المعارف بها — ما معناه: إني منذ مدة طويلة تنيف على العشرين سنة مشتغلٌ ببيان مزايا العرب على غيرهم من الأمم، فيما يتعلق بالعلوم والتقدم في التمدن مدة قرون متطاولة من أيام اليونان بالإسكندرية إلى أيام العصر الجديد، فلزمني أن أجمع ما تيسر لي من الأدلة على عِظم هذه الأمة التي لم يُعرف قدرها إلى الآن، وأعرضه على ما لغيري ممَّن تكلم عليها، فيتأسس تاريخًا لها عموميًّا، وإن كان ذلك مما لا تفي به طاقة إنسان واحد. وقبل الشروع في ذلك على وجه الاختصار يلزمني أن أندب الناس إلى التأمل في أحوال هذا الجنس الذي كان كثير الفتوحات عديم الاستيلاء عليه في سائر مغازيه، ولم يزل مدة أربعة آلاف سنة على حال واحد في اكتساب الفضائل والمزايا التي تميز بها على غيره، والتراتيب والعادات الخاصة به. ومن حجج ذلك أن الوقت الذي كانت فيه الممالك القديمة في مبدأ تكوينها ذات حيرة كان هذا الجنس إذ ذاك قائمًا بنفسه قادرًا على الإغارة على غيره، فقد كانت ملوك مصر وبابل من ذلك الجنس مدة تسعة عشر قرنًا قبل التاريخ المسيحي، ثم بعد أن رجع إلى حدوده الأصلية دافَع عن نفسه سلطة الفراعنة وملوك الشام، وامتنع من تسلط قيرس وإسكندر، ودام في استقلاله ضد الرومان الذين كانوا ملكوا الدنيا، وبعد ظهور النبي الذي جمع قبائل العرب أمة واحدة تقصد مقصدًا واحدًا، وظهرت للعيان أمة كبيرة مدَّت جناح ملكها من نهر طاج في إسبانيا إلى نهر الفانج في الهند، ورفعت على منار الإشادة أعلام التمدن في أقطار الأرض أيام كانت أوروبا مظلمة بجهالات أهلها في القرون المتوسطة، كأنها نَسيتْ بالمرة ما كان عندها من التمدن الروماني واليوناني.

وبعد انقسام ممالك الإسلام لم تتعطل العلوم والآداب التي نتجت على أيديهم، فإن خلفاء بغداد وقرطبة ومصر وإن ضعفت قوتهم الملكية والسياسية فإن سلطتهم الروحانية لم تزل قوية مطاعة في كل جهة لاجتهادهم في توسيع دوائرها بقدر طاقتهم. وقد نال النصارى الذين استطاعوا إخراج العرب من إسبانيا بالخلطة معهم في الحروب معارفهم وصنائعهم واختراعاتهم، ثم المُغُلُ والتُّرْكُ الذين تسلطوا على آسيا وتداولوها كانوا خَدَمَةً في العلوم لمن تغلبوا عليه من فِرق العرب. وإلى الآن لم نطلع في أوروبا على الأصول التي تُبَيِّن لنا عادات العرب اطلاعًا تامًّا؛ إذ لم يعرف عندنا من تواريخهم إلَّا تواريخ أبي الفداء وأبي الفرج والمقريزي وابن الأثير ونبذة من تاريخ ابن خلدون، ونجهل بالمرة تواريخ كثيرة نود لو نجد من يترجمها لنا، وإن كان المقدار الذي حصل عندنا كافيًا في رد غَلَطِ مَن غَلِطَ من أهل أوروبا في شأن العرب. ثم إني ذكرت في تاريخنا هذا ما يتعلق بفتوحات الخلفاء الأوَّلين، وبتاريخ دولة بني أميَّة بدِمَشْق وقُرْطُبَة وبتاريخ دولة بني العباس ببغداد والفاطميين بمصر، وبانقسام الممالك الإسلامية بالمشرق بعد تسلط الترك والمغل عليهم، فبينت جميع ذلك بقدر الطاقة وزدت عليه شيئًا لم يوجد في التواريخ السالفة، وهو برنامج التمدن العربي الذي قد تَوَشَّجَتْ عروقه في الدنيا القديمة، واستمرَّت آثاره ظاهرة إلى الآن لكل من يبحث بالجِدِّ عن أصل المعارف منَّا. وفي أوائل القرن الثامن من تاريخنا تبدَّل ولوعُهُم بالفتوحات بالجِد في المعارف والعلوم، فكانت إذ ذاك قرطبة ومصر وطليطلة وفاس والرقة وأصبهان وسمرقند تتسابق في ميدان العلوم مع بغداد تحت بني العباس، وترجمت في تلك المدة كتب اليونان وقُرِئت بالمدارس وشُرحت، وسَرَتْ حركات عقولهم في جميع مواد المعارف الإنسانية؛ فنتج عنها من الاختراعات الغريبة ما شاع صيته في أوروبا، فتبين بلا إشكال أن العرب هم أساتيذنا بلا إنكار لكونهم جمعوا الأدوات المؤسسة عليها تواريخنا المتوسطة، وبدءوا بكتابة الرحلات واخترعوا التآليف في تاريخ وفيات الأعيان، ووصلوا في صناعة اليد إلى غاية لا تُحَدُّ، وبقية آثار أبنيتهم مما يدل على اتساع معارفهم، وكذلك اختراعاتهم الغريبة تزيد بيانًا لفضائلهم التي لم يُنَزَّلُوا إلى الآن منزلتهم التي يستحقونها بسببها، فإن علوم الفيزيك والطب والتاريخ الطبيعي والكيمياء والفلاحة لما جاءت في أيديهم ازداد فيها الغريب مع كونها من المحسوسات التي لا تُصرف لها هممهم صرفًا تامًّا، فكيف بالعلوم العقلية التي اجتهدوا فيها اجتهادًا يفوق الحد من مبدأ القرن التاسع إلى انتهاء القرن الخامس عشر؟ ثم نقول: ما نسبة ما عرفناه الآن منهم ببحثنا إلى ما بقي مجهولًا لنا من ذلك؟ وبالجملة فالعرب هم منبع معارفنا ولم نزل إلى الآن نطَّلِع على أشياء من مخترعاتهم التي كانت منسوبةً لغيرهم، كما قرأنا كتبهم. ثم قال في شأن التمدن العربي: إنهم كانوا في القرون المتوسطة مختصين بالعلوم من بين سائر الأمم، وانقشعت بسببهم سحائب البربرية التي امتدت على أوروبا حين اختل نظامها بفتوحات المتوحشين، ورجعوا إلى الفحص عن ينابيع العلوم القديمة، ولم يكفهم الاحتفاظ على كنوزها التي عثروا عليها، بل اجتهدوا في توسيع دوائرها وفتحوا طرقًا جديدة لتأمل العقول في عجائبها.

ثم استشهد بقول إسكندر هُمْبُلْط أن العرب خلقهم الله ليكونوا واسطة بين الأمم المنتشرة من شواطئ نهر الفرات إلى الوادي الكبير بإسبانيا، وبين العلوم وأسباب التمدن، فتناولتها تلك الأمم على أيديهم؛ لأن لهم بمقتضى طبيعتهم حركة تخصهم أثرت في الدنيا تأثيرًا لا يشتبه بغيره، فكانوا في طبيعتهم مخالفين لبني إسرائيل الذين لا يطيقون خلطة أحد من الناس، يخالطون غيرهم من غير أن يختلطوا به، ولا يتبدل طبعهم بكثرة المخالطة ولا ينسون أصلهم الذي خرجوا منه. وما أخذت أمم ألمانيا في التمدن إِلَّا بعد مدة طويلة من فتوحاتهم بخلاف العرب، فإنهم كانوا يحملون التمدن معهم، فحيثما حلوا حلَّ معهم، فيبثون في الناس دينهم وعلومهم ولغتهم الشريفة وتهذيباتهم وأشعارهم الشهيرة التي هي أساسٌ بنى عليه المِنَّسِنْفَر والترُبَدُور أشعارهم. ثم قال بعد ذلك: ونعود الآن فنقول: إنه ثبت عندنا بما صنفه العرب واخترعوه رجحانُ عقولهم الغريب في ذلك الوقت الذي وصل صيته إلى أوروبا النصرانية، وهذا حجة على أنهم كما قال غيرنا، ونحن نعترف به، أساتيذنا ومعلمونا. انتهى المقصود منه.

ثم إن الدولة الإسلامية أخذت في التراجع لما انقسمت إلى دول ثلاث: الدولة العباسية ببغداد والمشرق، ودولة الفاطميين بمصر وأفريقية، ودولة الأمويين بالأندلس، ثم تكاثرت الحروب الداخلية وانقسمت تلك الدول، خصوصًا الأندلسية، فإنها صارت ملوك طوائف، وتحقق فيهم قول القائل:

ألقاب سلطنة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخًا صولة الأسد

وموجب ذلك التفرق تعارض الأغراض والشهوات من الأمراء والثوار الذين لم يعتبروا ما في الانقسام من المضار على الجميع، حتى نشأ عن ذلك خروج الأندلس من يد الإسلام.

ووقع من الخلل في بقية الممالك ما تفاقم ضرره، لولا أن تلافى الأمر بتأييد الله سلاطين آل عثمان الكرام، فجمعوا غالب الممالك الإسلامية تحت رعاية سلطنتهم العادلة التي تأسست سنة ستمائة وتسع وتسعين من الهجرة النبوية، فتراجع للأمة عزها بحسن تدبيرهم واحترامهم للشريعة المصونة بحفظ حقوق الرعية وبفتوحاتهم الجليلة المذكرة لفتوحات الخلفاء الراشدين، وارتقائهم في سُلَّم التمدن خصوصًا في مدن السلطان سليمان ابن السلطان سليم في أوائل المائة العاشرة، حيث بادر لقطع الذرائع التي يُتوقَّع بسببها وقوع الخلل في الممالك بما رتبه من قانونه النافع الذي استعان فيه بالعلماء العاملين وعقلاء رجال دولته، وجعل مداره على إناطة تدبير الملك بعهدة العلماء والوزراء، وتمكينهم من تعقب الأمراء والسلاطين إن حادوا، وذلك أن مُلك الإسلام مؤسس على الشرع الذي من أصوله المشار إليها سابقًا وجوب المشورة وتغيير المنكر، والعلماء أعرف الناس به، كما أن الوزراء أعرف بالسياسة ومقتضيات الأحوال، فإذا اطلع العلماء والوزراء على شيء يخالف الشريعة والقانون الخادم لها فعلوا ما تقتضيه الديانة من تغيير المنكر بالقول أوَّلًا، فإن أفاد حصل المقصود وإلَّا أخبروا أعيان الجند بأن وعظهم لم ينفع. وبيَّن في القانون المذكور ما يئول إليه الأمر إذا صمم السلطان على أن ينفذ مراده وإن خالف المصلحة، وهو أنه يُخلع ويُولى غيره من البيت الملكي، وأخذ على ذلك العهود والمواثيق من العلماء ورجال الدولة، واستمر العمل على ذلك، فكانت منزلة العلماء والوزراء بالدولة بمقتضى هذا القانون في الاحتساب على سيرة السلاطين كمنزلة وكلاء العامة في أوروبا الآتي بيانهم، بل هي أعظم باعتبار أن الوازع الدنيوي الداعي إلى الاحتساب مُتأيِّد بالوازع الديني عندنا، فبذلك القانون المشار إليه استديم نجاح الدولة وحسن سيرتها.

ثم إنها أخذت في التأخر والنقص لما قصَّرت في إجراء المصالح الملكية على مقتضى الشرع والقوانين السياسية، وعدمت التحري في انتخاب أرباب الخطط المعتبرة، فتصرف بعضهم بحسب الفوائد الشخصية لا باعتبار مصلحة الدولة والرعية، إلى أن دخل في عسكر الانكشارية مَن أفسد حُسن نظامهم وخلخل طاعتهم، حتى تداخلوا فيما ليس لهم من أحوال الملك، وحيروا راحة السكان بظلمهم المتنوع بعد أن كان يُضرب المثل بطاعتهم كما يُضرب بشجاعتهم في ميادين الحرب؛ فنشأ من مجموع هاته الأمور وأمثالها الاضطرابُ في المملكة، واغتنم ولاة الممالك البعيدة الفرصة في الامتناع من الانقياد لأوامر الدولة، وأطلقوا أعنَّة الأغراض والشهوات، والْتَجأ الكثير من أهل الذمة إلى الاحتماء بالأجانب؛ لأن الإنسان إذا انقطع أمله من حماية شريعة الوطن لنفسه وعِرْضه وماله يسهل عليه الاحتماء بمَن يراه قادرًا على حمايته، وربما يسعى في الأسباب التي يمكن بها تسلط حامية على المملكة، خصوصًا من لم يكن بينه وبين الدولة اتحاد في الجنس والديانة. وبمثل هاته المضار الناشئة عن تصرف الولاة بدون قيد شرعي أو سياسي تَيسَّر للأجانب التداخل في أحوال المملكة، وإفساد سياستها بما يناسب أغراضهم، حتى نشأت حروب أهلية في عدة جهات من المملكة دامت مدة طويلة، وأفنت نفوسًا وأموالًا كثيرة، وتَسبَّب عنها خروج ممالك معتبرة من يد الدولة، ووقع من الخلل في باقيها ما عَظُم ضرره، لولا تَدَارُكُ المرحوم السلطان محمود وولديه المرحوم السلطان عبد المجيد والمؤيد السلطان عبد العزيز — دام عزه — بتعويض الأول عساكر الانكشارية بالعسكر النظامي، وقطع دابر أمراء الإيالات المسماة عندهم بالدارَبَى، فانقطعت بذلك المظالم الناشئة من ذَينِكَ الفريقين؛ وضَبْطِ الثاني للسياسات الشرعية بالتنظيمات الخيرية التي هي أساس تصرفات الدولة في الحال بإعانة من رجال الدولة وعلمائها العاملين سنة ألف ومائتين وخمس وخمسين؛ ثم باجتهاد الثالث — أيَّده الله — في تمشيتها وتهذيبها وإضافة ما تظهر لياقته بالأحوال بمقتضى تجريبها، كالقانون الذي رتبه أخيرًا في إدارة مصالح الإيالات الذي يُؤمَّل منه مصالح جمة.

وقد كانت العامة في مبدأ الأمر أنكرت تلك التنظيمات إنكارًا كليًّا حتى ظهر في بعض جهات المملكة مبادئ الاضطراب؛ وسبب ذلك أن عُمَّال تلك الجهات وغيرهم، ممن له فائدة في التصرف بلا قيد ولا احتساب، لما تيقنوا أن إجراء الإدارة والأحكام على مقتضى التنظيمات، مما يخل بفوائدهم الشخصية، دسوا للعامة من قول الزور والغش ما ينفرهم منها، مثل قولهم هذا شرع جديد مخالف لشريعة الإسلام، وأعانهم على ذلك مَن كان له من الدول الأوروباوية فائدة في عدم نجاح سعي الدولة في تحسين أحوال ممالكها، فالدولة العليَّة عِوضَ أن تغتنم تلك الفرصة وترجع إلى استبدادها، كما وقع في بعض الممالك أكذبت تلك الظنون الفاسدة بإرسال فخر علماء ذلك العصر وأتقاهم، أعني شيخ الإسلام المقدس عارفًا بك إلى جهات الاضطراب لوعظ الناس وأمرهم بالطاعة والامتثال، فخطب بذلك على المنابر وبيَّن للناس أن تلك التنظيمات ليست خارجة عن المنهج الشرعي، وما هي إلَّا ضبط للسياسات الشرعية التي كانت أُهملت، وأن الداعي إليها ليس إلَّا تحسين إدارة المملكة وحفظ حقوق الأمة في النفس والعرض والمال وكف الأيدي الجائرة من الولاة ونحو ذلك من المصالح، فانقادت الرعية عند ذلك وسكنت، واستمر العمل بالتنظيمات في سائر الجهات بقدر الإمكان. وأنت خبير بأن مثل هذا الحَبر الذي سارت بمآثره الركبان وشهد له بالعلم والعمل جهابذة أرباب العرفان، خصوصًا فخر القطر الأفريقي وفجر الرشاد الحقيقي من بلغ صوت صيته مسامع سائر النواحي، الأستاذ العلامة سيدي إبراهيم الرياحي لو لم يَرَ مساغًا لهذه التنظيمات ما خطب بها على المنابر، ولا كان على تقريرها أحزم مثابر، ومَن تأملها بعين الإنصاف لم يجد في حسنها ولياقتها مثار خلاف، بل جزم بأنها قوام الاستقامة والوسيلة التي يستعاد بها ما كان للدولة من العز والفخامة.

وهذا الصنع الجميل الذي صدر من هؤلاء السلاطين العِظام مع ما حصل به من تحسين حال الدولة والرعايا مما لا يسع المنصف إنكاره بالنسبة لما كان قبلُ لم يُقنع حزبًا من المسلمين مع الرعايا من غيرهم، بل لم يزالوا يطلبون من الدولة إطلاق الحرية بمقتضى قوانين يكون تأسيسها وحمايتها من مجلس مركَّب من أعضاء تنتخبهم الأهالي، وفي هذه المدة الأخيرة اشتد إلحاحهم في طلب ذلك، حسبما تضمنته صحف الأخبار.

ونحن وإن لم نطَّلع على أحوال إدارة المملكة العثمانية في الحال، لا سيما في كيفية إجراء تلك التنظيمات اطلاعًا يمكننا معه معرفة صحة الأسباب التي يتظلَّم منها الفريق المذكور أو عدم صحتها، فإنَّا نسلم أن هذا المطلب الذي طلبوه هو من أعظم الوسائل في حفظ نظام الدول وقوة شوكتها ونمو عمران ممالكها ورفاهية رعاياها، خصوصًا في هذه الأزمان. كما نسلم أيضًا أن مقصد المسلمين من أهل الحزب المذكور بطلبهم لما ذكر إنما هو إصلاح حال الدولة والرعية، لكن لنا أن نسألهم: هل ثبت عندهم أن مقصد غيرهم ممَّن معهم موافق لمقصدهم حتى تحصل لهم الثقة بهم، ويصدر منهم ما ذُكر؟ فإنَّا نرى خلاف ذلك منهم بما دلَّت عليه القرائن من أن مراد أكثرهم إنما هو التفصي عن سلطة الدولة العثمانية، حيث لم يظهر منهم بعد نيل الحرية الموجودة الآن شيء من أمارات النصح للدولة، بل ربما أظهروا حب النزوع إلى بني جنسهم بالتظلم من تصرفاتها واستثارة مبادئ الحيرة معها؛ وذلك لاستمرار إفساد الأجنبي لهم وزرعه بذر الحميَّة في صدروهم لأغراض له لا تخفى. فربما كان تأسيس الحرية على الوجه المطلوب آنفًا قبل التبصر في العواقب مما يسهل غرضهم المذكور؛ إذ من لوازم هذه الحرية تساوي الرعايا في سائر الحقوق السياسية التي منها الخطط السامية، مع أن من الشروط المعتبرة في إعطاء تلك الحرية تواطؤ جميع الرعايا على مصلحة المملكة وتقوية شوكة دولتها، ولأقل من هذا السبب امتنع بعض الدول الأوروباوية من إطلاق الحرية المشار إليها تحاشيًا من تحزب بعض الرعايا على تبديل العائلة الملكية كما سيأتي بيانه عند الكلام على حرية أوروبا. فإذا ساغ الامتناع مع كون البدل المتوقع من جنس المبدل منه فَلَأَنْ يسوغ هنا مع كونه من غير الجنس أحرى وأولى، وأيضًا فإن رعايا الدولة ينقسمون إلى عدة أجناس مختلفة الأديان واللغات والعادات، وغالبهم يجهل اللغة التركية التي هي لغة الدولة، بل يجهلون لغة بعضهم بحيث تعسر المفاوضة بينهم لو رُكِّب مجلس من جميع طوائفهم، ولا يتيسر إعطاء الحرية للبعض دون البعض لما ينشأ عن ذلك من الهَرْج، فيجب أن تُعتبر حالة هؤلاء الرعايا من أعظم العوائق عن تأسيس الحرية على الوجه المطلوب بالدولة العثمانية، فمن اعتبر ما أشرنا إليه لا يسوغ له أن يوجه اللوم على الدولة في توقفها إلى الآن عن إعطاء الحرية المطلقة وتأسيس المجلس المذكور، وإن كان ما ذكرناه لا يرفع عنها وجوب الاجتهاد في قطع تلك العوائق التي يكون حسمها بعون الله تعالى من مآثر خليفة العصر الذي رفع من أعلام العدل ما انتكس، وأحيا من رسوم الاستقامة ما اندرس، فإنَّا بمقتضى ما خوله الله من الحزم الناجح والرأي الراجح نُؤَمِّل أن نرى منه، لا سيما بعد اطلاعه على أحوال أوروبا بالعيان، وتطبيقها على ما كان معلومًا لديه بالبيان مزيد العناية بكل ما يتيسر به إطلاق الحرية على الوجه الأكمل بإعانة رجال دولته وعلمائها المتعاضدين على إنجاح مصالح الدين والوطن، والعارفين بأسباب التقدم ما ظهر منها وما بطن.

ثم إن من عوائق نجاح التنظيمات في سائر الممالك الإسلامية تقاعس الدول الأوروباوية عن إدخال رعاياهم المستوطنين بها تحت أحكامها؛ استنادًا للشروط القديمة التي لا تليق بهذا الوقت، بل لا ينبغي أن تسمى شروطًا لانبنائها على ما يخل بالشرط، وعلى فرض تسليم بعض الشروط وتسليم ما يوجب دوامها، فإنهم لا يقفون عند نصها، بل يستخرجون منها ما ليس فيها مما هو منافٍ لحقوق المساواة بين الأمم ولحقوق سلطنة الأرض على كل وارد لها، بمعنى أن من دخل مملكة من الممالك فلا بدَّ أن تجري عليه أحكامها؛ وادعاءً بأن معارف حكام الإسلام غير كافية لحفظ حقوق رعاياهم، وأن كراهيتهم للنصارى تحملهم على الحيف عليهم. والجواب عن الدعوى الأولى أن مدعيها لا يمكن أن يظن به تعميمها في حكام المسلمين مطلقًا، أعني سواءٌ كانوا حكام شريعة أو سياسة، لما هو معلوم عند كل عاقل، خصوصًا من هو منصف، أن علماء شريعة الإسلام في غاية المعرفة بأحكامها أصولًا وفروعًا، فلم يبقَ إلَّا أن يريد هذا المدعي حكام السياسة منهم، وهذا غير مسلَّم لما هو ظاهر من بطلان دعوى مَن يدعي جهل جميع أهل مملكة من الممالك، بحيث لا يوجد بها من يقوم بأعباء أحكام تنظيماتها، نعم هناك شيء واحد وهو أن جميع الأمور في ابتدائها قبل التمرن عليها والاعتياد بها يقع فيها نوع اضطراب وارتباك حتى يحصل الاستئناس بها وتأخذ مأخذها، وهذا أمر طبيعي لا يُقدح به في التنظيمات، فإنَّا نرى دول أوروبا لم تكن من أول الأمر حاصلة على هذا النجاح في تنظيماتها والمشاهَد لها اليوم، وإنما حصلت على ذلك بواسطة إعانة السكان لها على إجرائها بعدم المخالفة والشقاق؛ إذ بدون ذلك لا يُطمع في الحصول على شيء من نتائجها، بل لم نزل نرى إلى الآن تفاوت الدول المذكورة في تهذيب تنظيماتها ومعارف حكامها وعفتهم، ولم يمنع هذا التفاوت دخول المتقدم منهم فيها تحت أحكام المتأخر، فلم يبقَ حينئذٍ إلَّا أن نقول: إن هذه الدعوى مجرد توهم، وليست مستندة إلى شيء من الأدلة والتجارب؛ لأنه لم يدخل أحد من رعاياهم تحت أحكام تنظيماتنا حتى يلحقه الضرر منها، بل لنا أن نقول: إنها مجرد مكابرة!

وأما دعوى الكراهية فلا يخفى أنها بعد تسليمها مشتركة الإلزام؛ إذ للمسلمين أن يظنوا أن النصارى أيضًا تحملهم العداوة على الحيف عليهم وقت حلولهم ببلدانهم، لكن الحق أن العداوة الدينية لا تستميل الحاكم عن الإنصاف المؤسسة عليه الشريعة، وعن الوقوف مع الحق حيث يجب، حتى لو وجب على الحاكم نفسه لأنصف طالبه منه كائنًا مَن كان، عملًا بما هو من قواعد الدين الذي هو أعظم وازع، حتى لم يبقَ معه لإيثار النفس أثر، فقد ورد أن زيد بن سعنة جاء قبل إسلامه يتقاضى من النبي دَينًا له، فجذبه من ردائه حتى أثَّر في عاتقه الشريف، ثم قال: إنكم يا بني عبد المطلب قوم مُطَّلٌ. فانتهره عمر وشدَّد عليه في القول، حيث لم يَتَوخَّ الرفقَ في الطلب، فقال له رسول الله : «أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر؛ تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي.» ثم قال: «لقد بقي من أجله ثلاث.» وأمر عمر أن يقضيه ماله ويزيده عشرين صاعًا لِمَا روَّعه، فكان سبب إسلامه رضي الله عنه. وورد أيضًا أن يهوديًّا أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطلب عليًّا كرَّم الله وجهه في حق، وكان عليٌّ عنده، فقال له عمر: قم يا أبا الحسن واجلس مع خصمك. فريءَ في وجه علي الغضب، فلما انفصلت النازلة قال له عمر ما معناه: تغضب لطلب أن تساوي خصمك. فقال له عليٌّ: ما غضبت لذلك، وإنما كرهت تكنيتك لي بمحضر خصمي. فالحاكم إذا كانت ديانته تُلزمه الاتباع للشريعة بمقتضى الوازع الديني والاقتداء بمَن سلف من الخلفاء الراشدين الذين هم نجوم الاهتداء، كيف يُتوهَّم منه ترجيح جانب المسلم على غيره؟! وبعد هذا لم يبقَ لمَن له إنصاف من الأوروباويين أن لا يرى فيما ذكرناه ضمانة كافية لحفظ الحقوق، كما أنه لا يتأتى له أن يرى إمكان إجراء القوانين على وجه يثمر النتائج المقصودة منها مع امتناع بعض السكان من المساواة فيها، لا سيما والممتنع بيده غالب الصناعات والمتاجر، ثم إنهم لم يكتفوا في التعطيل بذلك الامتناع حتى صار بعضهم ينفِّر رعايا بعض الممالك الإسلامية من قبول التنظيمات التي رام ملوكها تأسيسها، بأن يلقوا لهم أن هذه التنظيمات لا تليق بحالكم فرُجوعكم إلى ما كنتم عليه أولى بكم، مع أن ذلك مخالف لقواعد سياسة بلدانهم، وبعضهم يقول لهم: إن الحرية التي مُنحتموها من دولتكم لا تفي بحفظ حقوقكم! مع أنها في الواقع أكثر مما منحتها رعايا بلدانهم. فلذلك نُضطر أن نعتقد أن لا داعي لذلك إلَّا قصد دوام التحيير في الممالك الإسلامية؛ لتعطيل نجاحها. وبالجملة فسياسة الدول الأوروباوية في ممالكنا متناقضة، فإن منهم من ينصح بعض الممالك بالإعانة على التراتيب المناسبة، ومنهم من يعطِّل ذلك بتلك المملكة، ويبذل النصيحة المذكورة لغيرها على حسب اختلاف أغراضهم.

هذا، وإن سياسة غالب الدول الأوروباوية لو كانت كما ذكرنا، لكن من الحق أن نقول في خصوص مبحث الشروط أنَّا رأينا عند المحادثة مع رجال بعض الدول الغربية منها أنهم يسلمون عدم لياقة تلك الشروط بهذا الوقت، ولا يمتنعون من تبديلها بما يناسب، لكنهم يطلبون منَّا قبل ذلك إعطاء الضمانة الكافية في حفظ حقوق رعاياهم، بترتيب مجالس للحكم وتمشيتها مدة من الزمان حتى يثبت عندهم بالتجارب حسن إجراء الأحكام، بحيث يتيسر لهم تسليم رعاياهم على التدريج بحسب ما يرونه من نجاح التراتيب حتى يتم دخولهم تحت أحكامنا. ونحن نقول: لما كان بقاءُ الأجانب على ما هو مشاهد اليوم مضرًّا بالممالك الإسلامية، والدول الأوروباوية لا تساعف على تبديل الشروط إلَّا بما ذكرناه، وجب على الدول الإسلامية السعي في إزالة هذا الضرر بإعطاء تلك الضمانة وإبرازها للخارج. ومن العوائق للتنظيمات، وهو أعظمها، تعرض بعض المتوظفين في تأسيسها وإجرائها لما لهم في تعطيلها من المصالح الخصوصية، التي منها دوام تصرفاتهم في الخطط بلا قيد ولا احتساب. هذا، وإن الأمة الإسلامية لما كانت مقيدة في أفعالها الدينية والدنيوية بالشرع السماوي والحدود الإلهية الواردة على الميزان الأعدل، المتكفلة بمصالح الدارين، وكانت ثمة مصالح تمس الحاجة إليها، بل تتنزل منزلة الضرورة، يحصل بها استقامة أمورهم وانتظام شئونهم، لا يشهد لها من الشرع أصل خاص، كما لا يشهد بردها، بل أصول الشريعة تقتضيها إجمالًا وتلاحظها بعين الاعتبار، فالجري على مقتضيات مصالح الأمة والعمل بها حتى تحسن أحوالهم، ويحرزون قصب السبْق في مضمار التقدم، متوقف على الاجتماع وانتظام طائفة من الأمة ملتئمة من حَمَلَة الشريعة ورجال عارفين بالسياسات ومصالح الأمة، متبصرين في الأحوال الداخلية والخارجية ومناشئ الضرر والنفع، يتعاون مجموع هؤلاء على نفع الأمة بجلب مصالحها ودرء مفاسدها، بحيث يكون الجميع كالشخص الواحد، كما قال عليه الصلاة والسلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا.» وكما قال : المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد.

فرجال السياسة يدركون المصالح ومناشئ الضرر، والعلماءُ يطبقون العمل بمقتضاها على أصول الشريعة، وأنت إذا أحطت خُبْرًا بما قررناه علمت أن مخالطة العلماء لرجال السياسة بقصد التعاضد على المقصد المذكور من أهم الواجبات شرعًا لعموم المصلحة، وشدة مدخلية الخلطة المذكورة في اطلاع العلماء على الحوادث التي تتوقف إدارة الشريعة على معرفتها. ومعلوم أن ما لا يتم الواجب إلَّا به فهو واجب، وبيان ذلك أن إدارة أحكام الشريعة كما تتوقف على العلم بالنصوص تتوقف على معرفة الأحوال التي تُعتبر في تنزيل تلك النصوص، فالعالم إذا اختار العزلة والبُعد عن أرباب السياسة، فقد سدَّ عن نفسه أبواب معرفة الأحوال المشار إليها، وفتح أبواب الجور للولاة؛ لأنهم إذا استعانوا به فامتنع صاروا يتصرفون بلا قيد. نعم يعاب على العالم شرعًا وعقلًا التكلف في الدين والتمحُّل في النصوص الظاهرة في خلاف ما أراد منها، وارتكاب الأقوال الضعيفة؛ ليوافق الأهوية والأغراض، لا لأجل مصالح تتنزل منزلة الحاجة والضرورة حتى ينقلب ذلك الضعيف قويًّا. وحيث كانت إدارة المصالح السياسية مما لا يتيسر لغالب الولاة إجراؤها على الأصول الشرعية لأسباب شتى يطول شرحها، وتقدمت الأدلة على ما يترتب على إبقاء تصرفاتهم بلا قيد من المضار الفادحة؛ رأينا أن العلماء الهداة جديرون بالتبصر في سياسة أوطانهم واعتبار الخلل الواقع في أحوالها الداخلية والخارجية، وإعانة أرباب السياسة بترتيب تنظيمات منسوجة على منوال الشريعة، معتبرين فيها من المصالح أخفها، ومن المضار اللازمة أخفها، ملاحظين فيما يبنونه على الأصول الشرعية أو يلحقونه بفروعها المرعية، ذلك المقال الوجيز المنسوب لعمر بن عبد العزيز: تحدُث للناس أقضية بحسب ما أحدثوه من الفجور، وما في معناه من أدلة أن الشريعة لا تنسخها تقلبات الدهور.

ومَن تصفح رسالة أستاذ المشايخ الحنفية ومحط رحال الاستفتاء بالديار التونسية، مَن لم يزل على نقوله وأفهامه، المعول الشيخ سيدي محمد بيوم الأول وجد بها من الأدلة ما يشهد لما ذكرناه، فإنه عرَّف السياسة الشرعية بأنها: ما يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به الوحي. ثم أشار إلى ذم ما كان من التصرفات السياسية في أحد طرفي التفريط والإفراط بقوله: «إن مَن قطع النظر عنها إلَّا فيما قلَّ فقد ضيَّع الحقوق وعطَّل الحدود وأعان أهل الفساد، ومَن توسَّع فيها فقد خرج عن قانون الشرع إلى أنواع من الظلم.» ثم قال: «ونقل ابن قيم الجوزية عن ابن عقيل مخاطبًا لمن قال لا سياسة إلَّا ما وافق الشرع: إن أردت بقولك إلَّا ما وافق الشرع؛ أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة رضي الله عنهم.» وسرد أمثلة من سياساتهم. ولابن قيم الجوزية هنا كلام حاصله أن أمارات العدل إذا ظهرت بأي طريق كان فهناك شرع الله ودينه، والله تعالى أحكم من أن يخص طرق العدل بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منه وأبين. وسئل القرافي عن الأحكام المرتبة على العوائد إذا تغيرت تلك العوائد هل تتغير الأحكام لتغيرها، أو يقال نحن مقلدون وليس لنا إحداث شرع جديد لعدم أهليتنا للاجتهاد؟ فأجاب بأن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلافُ الإجماع وجهالة في الدين، بل الحكم التابع للعادة يتغير بتغيرها، وليس هذا بتجديد اجتهاد من المقلدين، بل هي قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها. انتهى. وعدَّ ابن القيم من الجهل والغلط الفاحش توهم أن الشريعة المطهرة قاصرة عن سياسة الأمة ومصالحها، قال: ولأجل هذا الغلط تجرَّأ الولاة على مخالفة الشرع، فخرجوا عن حدود الله إلى أنواع من الظلم والبدع في السياسة، يعني وسبب ذلك تمسكهم أو تمسك العلماء الذين يفتونهم بظواهر النصوص فيضيقون ما وسَّعه الله عليهم، فيضطرون إلى خلع القيود وهتك الحرمات والحدود.

وبناءً على ما تقرر يظهر أن اللائق بأولئك الهداة أن يتوسطوا بين التفريط والإفراط، بحيث لا يبعدون من رجال السياسة بُعدًا يتسبب عنه تبعيد تصرف الولاة عن الشريعة، وما لا يدرك كله لا يترك قُلُّه، ولا يقربون منهم قربًا ينشأ عنه تقريب شهواتهم بتسهيل طرقها لهم.

وحيث تقدم بيان الأدلة الكافية لوجوب التنظيمات السياسية التي لو لم يكن إلَّا تنفير الأجنبي والمتوظفين منها لكان كافيًا في الدلالة على حُسنها ولياقتها بمصالح المملكة، كان من أهم الواجبات على أمراء الإسلام ووزرائهم وعلماء الشريعة الاتحاد في ترتيب تنظيمات مؤسسة على دعائم العدل والمشورة، كافلة بتهذيب الرعايا وتحسين أحوالهم على وجهٍ يزرع حب الوطن في صدورهم، ويعرِّفهم مقدار المصالح العائدة على مفردهم وجمهورهم، غير معتبرين مقال بعض المجازفين أن تلك التنظيمات لا تناسب حال الأمة الإسلامية، مستندًا في ذلك إلى أربع شُبه؛ الأولى: أن الشريعة منافية لها. الثانية: أنها من وضع الشيء في غير محله لعدم قابلية الأمة لتمدناتها. الثالثة: أنها تقضي غالبًا إلى إضاعة الحقوق بما تقتضيه من التطويل في فصل النوازل، كما يشاهد ذلك في سائر الخطط القانونية. الرابعة: أنها تستدعي مزيد الضرائب على المملكة بما تستلزمه من كثرة الوظائف لإداراتها المتنوعة.

ولا يخفى على المتبصر أن جميع ما استند إليه مردود؛ أمَّا الشبهة الأولى: فيكفي في ردها ما أسلفناه مما يدل على أن الشريعة تقتضي التنظيمات، لا سيما بعد اعتبار أحوال ولاة الوقت، وعلى فرض أن يوجد في التنظيمات بعد تأسيسها وتهذيبها من رجال العلم والسياسة شيء لا مسوغ له، فلا مانع من تبديله ولا يكون توقعه سببًا في ترك تأسيس التنظيمات من أصله. وأما بقية الشُّبه فلو أردنا الاكتفاء في ردها بما تقدم لكفى أيضًا، لكن رأينا أن نزيده إيضاحًا وبيانًا، فنقول: أما الشبهة الثانية فجوابها أن عامة غيرنا الذين بلغوا بالتنظيمات غاية التمدن كانوا في مبدأ الأمر أسوأ حالًا من عامتنا، وإن كنا نسلم أن معارفنا الدنيوية الآن أقل مما أنتجته التنظيمات لبعض الأمم الأوروباوية، لكن عند التأمل يثبت عندنا أن الأمة الإسلامية بمقتضى ما شهد به المنصفون من رجحان عقول أواسط عامتها على عقول غيرها من الأمم تقتدر أن تكتسب بما بقي لها من تمدنها الأصلي، وبعاداتها التي لم تزل مأثورة لها عن أسلافها، ما يستقيم به حالها ويتسع به في التمدن بحالها، ويكون سيرها في ذلك المجال أسرع من غيرها كائنًا مَن كان إذا أُذكيت حريتها الكامنة بتنظيمات مضبوطة تسهل لها التداخل في أمور السياسة. وذلك أن الحرية والهمة الإنسانية اللتين هما منشأ كل صنع غريب غريزتان في أهل الإسلام مستندتان مما تكسبه شريعتهم من فنون التهذيب، بخلاف غيرهم ممن لم تحصل لهم الغريزتان المذكورتان إلَّا بإجراء التنظيمات في بلدانهم. نعم، من الواجب على مؤسس أصول الحرية السياسية اعتبار حال السكان ومقدار تقدمهم في المعارف؛ ليعلم بذلك متى يسوغ إعطاء الحرية التامة ومتى لا يسوغ، ومتى يعمم المقدار المُعطى في سائر السكان ومتى يخص بمَن قامت به شروط معتبرة، ثم توسيع دائرتها بحسب نمو أسباب التمدن شيئًا فشيئًا، ثم لو سلم عدم القابلية للتنظيمات وأن الأمة كما يزعمه أولئك القادحون بمثابة الصبي غير الرشيد الذي يلزم التقديم عليه، فهل ينهض لهم دليل على جواز أن تكون تصرفات المقدم خالية عن مراعاة مصلحة المقدم عليه، وهل تتيسر تلك المراعاة بدون توقع احتساب مؤسس على الشرع؟ وأما الشبهة الثالثة فجوابها أن التطويل الذي يمكن عروضه في فصل النوازل يرجع إلى قسمين؛ لأنه إما أن يكون ناشئًا عن صعوبة تصور النازلة وتعيين ما ينطبق عليها من النصوص المتجاذبة لها، أو يكون ناشئًا عن قصور المتوظفين أو تقصيرهم. أما القسم الأول فلا يتشكَّى منه إلَّا الجاهل أو المتجاهل، وذلك أن إعطاء النوازل حقها من التأمل حتى يتضح عند الحاكم وجه الحكم يستدعي فسحة ضرورية لفهمها على الوجه المطلوب، وتلك الفسحة المتفاوتة بتفاوت النوازل في التشعب من لوازم البشرية في حق كلٍّ من الحاكم والمحكوم عليه، إذ الحكم — سواءٌ كان مبنيًّا على القواعد الشرعية أو القوانين العقلية — لا يكون حكمًا معتدًّا به إلَّا إذا كان مسبوقًا بأخذ المحكوم عليه مهلة لتحرير حججه التي يدافع بها عن نفسه، وأخذ الحاكم مثلها لإمعان النظر فيها وتعيين ما ينطبق من الأصول عليها، فالحاكم إذا نقص من إحدى المهلتين شيئًا فقد ظلم المحكوم عليه ونفسه.

وحيث كان التطويل المشار إليه طبيعيًّا للنوازل، ومما تعاضد على لزومه الشرع والعقل؛ يسوغ لنا أن نقول إنه لا منشأ للقدح به في التنظيمات إلَّا إرادة تنفير الأهالي منها، بتحسين ما تعودوه من حكامهم السياسية الذين كثيرًا ما يُنشر لديهم من النوازل ما لو نُشر لدى أحذق القضاة لاحتاج في تصوره إلى عدة أيام، فيبادرون إلى فصلها في عدة دقائق بحكم لا يُتعقب، بل لو فرض الترخيص منهم في تعقبه لما أمكن ذلك، حيث لم يكن الحكم مسجلًا بظهير؛ لأن التعقب يستدعي استناد الحكم المتعقب إلى شيء من الأدلة يمكن اطلاع المتعقب عليه، بحيث يجد محلًّا للتخطئة في تنزيل الحكم أو نحو ذلك إذا كان الحكم مسجلًا. وما يصدر من هؤلاء حكم شفاهي غير معلل باستناده إلى شيء في الخارج، فهو لا يخلو إما أن يكون أمرًا اتفاقيًّا بحسب ما يسنح لأحدهم في ذلك الوقت؛ ولذلك ترى كثيرًا من النوازل متفقة في المعنى وأحكامها مختلفة، أو مستندًا إلى دليل لا يتجاوز صدر ذلك الحاكم، فلا يمكن الاطلاع عليه، وفي الحالتين لا يمكن التعقب.

ثم إنَّا لا ننكر أن يقع في ابتداء العمل بالتنظيمات شيء من التطويل زائد على المقدار الطبيعي ناشئ عن عدم التعود بها والتمرن عليها، لكن نرى الخطب في ذلك سهلًا؛ لأنه مما يزول بإعانة الله في أقرب وقت عند حصول ملكة التجريب، وتخفيف أعمال الحكام في الأحكام الخفيفة ارتكابًا لأخف الضررين، وتحريض الدولة سائر متوظفي السياسة على المبادرة بإتمام مأموريتهم بجلب المدَّعى عليه، ونحو ذلك مما تتوقف عليه الأحكام، حتى لا يبقى من أسباب التطويل إلَّا ما يستدعيه حال النازلة. على أنَّا نقول تنازلًا مع هؤلاء المنفِّرين أن الغرض من التنظيمات ليس محصورًا في فصل النوازل الشخصية على وجه الإنصاف المأمول منها، بل هناك مصالح أخرى، من أهمها ضبط كليات السياسة القابض لأيدي الولاة عن الجور، فأين مضرة التطويل في النوازل الجزئية من مضرة إطلاق أيدي أولئك الولاة في التصرف في الأبدان والأعراض والأموال؟! فهذه الشبهة على فرض نهوضها لا تنتج إلَّا تعطيل مجالس النوازل الشخصية. أما ضبط أصول السياسة الذي هو أساس خير المملكة فلا نظن دليلًا ينهض على تعطيله بوجه من الوجوه. وأما القسم الثاني: فظاهر أنه لا يقدح به في حسن التنظيمات في نفسها، وإنما يتوجه التشكي من مضرته على الدول، حيث لم تمعن النظر في أحوال المتوظفين وتمتحنهم بمزيد المراقبة والتجربة.

وبيان ذلك أنَّا نرى المتوظفين في الممالك الإسلامية على ثلاث فِرق؛ الفرقة الأولى: يستحسنون ترتيب التنظيمات استحسانًا صادقًا، ويؤثرون ما تنتجه من الهمة والحرية، وتوفير مصالح الرعية على ما عسى أن يكتسبوه بالاستبداد من المنح الخصوصية، الفرقة الثانية: يجهلون مصالح التنظيمات، بحيث لا يرون كبير فَرْق بينها وبين السيرة الاستبدادية، بل يعدونها من بدع آخر الزمان ويؤثرون عليها البقاء على ما كان، ولا منشأ لذلك إلَّا القصور وعدم الاطلاع على نتائج التنظيمات في غالب المعمور، الفرقة الثالثة: لا يجهلون مصالح التنظيمات وتوفيرها لخير البلاد والدولة، ولكنهم يؤثرون على ذلك فوائدهم الشخصية التي تتوفر لهم بالاستبداد، ولا منشأ لذلك إلَّا نقص الديانة والهمة الإنسانية وعدم ملاحظة العواقب الدنيوية والأخروية. إذا تمهَّد هذا فنقول: إن التنظيمات وإن بلغت بحسن الترتيب والتهذيب غاية المطابقة لمقتضى الحال لا تظهر فائدتها المقصودة من تأسيسها إلَّا إذا كان المكلفون بإجرائها من الفرقة الأولى، فهم الذين تُوكل مصالح العباد إلى أمانتهم، ويعتمد في تأسيسها وتمشيتها على إعانتهم، وأما الفرقتان الأخيرتان فلا يحصل من تكليفهما إلَّا خلاف المقصود، لا سيما الفِرقة الثالثة لمزيد انبعاث همتها إلى تعطيل التنظيمات. فعلى الدولة التي عزمت على تأسيسها إذا علمت ما ذُكر من أحوال الفرقتين المذكورتين أن لا تنيط بأمانتهما حفظها ولا إدارتها حتى يثبت عندها بالتجارب صدق رجوع الأولى إلى استحسانها بالقلب والقالب، وإيثار الأخيرة المصالح العمومية على الحظوظ الشخصية واكتسابها المروءة الإنسانية المانعة من قبول الإنسان خطة لا يباشرها بصدق نية. بالجملة فإسناد الشيء إلى عهدة متمني زواله من أقوى موجبات اختلاله واضمحلاله. وأما الشبهة الرابعة: وهي اقتضاء التنظيمات لمزيد الضرائب على المملكة فجوابها أن هذا القائل المسكين لو علم ما ينشأ عن حالة الاستبداد وحالة التقيد بالتنظيمات لما صدرت منه هذه القولة الوهمية المبنية على عكس القضية، فإن حالة الاستبداد هي التي تقتضي كثرة الضرائب؛ إذ يؤخذ فيها اللازم وغير اللازم ليصرف فيما هو في الغالب غير لازم، بخلاف حالة التقيد، فإنها بضبط الدخل وصرفه في خصوص الأمور اللازمة لا تُكلَّف فيها أهل المملكة إلا بضرائب تسمح بها نفوسهم، حيث يرون لزومها وصرفها في مصالح وطنهم. فإذا قابلنا ما يلزم صرفه على إجراء التنظيمات بما ينقص بها من المصاريف والخطط غير اللازمة التي لم تكن محدودة قبل التنظيمات بعدد ولا ضابط، مع ما يرتفع بها من المظالم التي لا تقف بدونها عند حد، لم يبقَ للمنصف شك في أن التنظيمات على فرض كثرة خططها من أقوى أسباب الاقتصاد والتوفير، لا سيما والمباشرون لاستخلاص المجابي متقيدون بالقوانين أيضًا، فشتان بين حالة المستبد الذي يأخذ ويعطي بمقتضى الشهوة والاختيار وحالة المتقيد بالقوانين الذي يفعل ما ذكر بمقتضاها، متوقعًا تعقب آراء كثيرة يخجل من تنزيلها إياه منزلة القاصر في تصرفه، فضلًا عن الخائن فيه، فبان بهذا أن المصاريف البالغة التي تُكلِّف المملكة ما لا طاقة لها به إنما تكون حالة الاستبداد، وأن الاقتصاد الذي هو منشأ خيرها إنما يحصل بضبط سائر التصرفات بقيود التنظيمات.

وفي هذا المقدار كفاية لمن تبصَّر في الفرق بين الحالتين، ولو أطلقنا عِنان القلم في بيان حال بعض الدول في مصاريفها وفي سيرة المباشرين لها قبل تأسيس التنظيمات ومعها وبعدها، حين تيسر تعطيلها لأهل الأغراض والشهوات من أرباب الخطط، ورجعوا للتصرف بلا قيد ولا احتساب بإعانة أمثال هذا القادح؛ لتبين له أن قلة معرفته بنتائج التنظيمات هي التي غرته وأغرته على القدح فيها بمثل ما أسلفناه، وعلى إعانة الساعين في تعطيلها لفوائدهم الخصوصية المضرة بالدولة والمملكة، لكن سعة مجال الكلام في ذلك تخرجنا عن المقصود.

هذا وإذا كانت الدولة العثمانية التي هي مركز الخلافة الإسلامية مع ما أشرنا إليه سابقًا من العوائق الخاصة بها لم تزل مجتهدة في رفع تلك العوائق اجتهادًا يُرجى منه تمام نجاحها بتأسيس ما يتم به خير ممالكها وحفظ حقوق رعاياها، فغيرها أحرى وأولى لانتفاء تلك العوائق عنها، فلا يظهر لملوكها سبب قوي في الامتناع إلَّا حب الاستبداد الموصل للشهوات، ثم نقول: كما كان ترتيب التنظيمات واجبًا على مَن تقدم بمراعاة حال الوقت، فمن اللائق أيضًا بمَن يدعي من الدول الأوروباوية المتمدنة حب الخير للنوع الإنساني أن يعينوا في هذا الشأن ولو بالكف عن التعطيل، خصوصًا مَن له فائدة في دوام استقلال الأمة الإسلامية.

هذا ما دعت الحاجة إلى تحريره من أسباب التقدم والتأخر للأمة الإسلامية ملخصًا جلُّه من الكتب الإسلامية والإفرنجية، وبه يعلم مَن لا خبرة له بأحوال الإسلام من الأوروباويين وغيرهم ما كان للأمة من التقدم في المعارف وغيرها وقت نفوذ الشريعة في أحوالها ودخول الولاة تحت قيودها، وأن الشريعة لا تنافي تأسيس التنظيمات السياسية المقوية لأسباب التمدن ونمو العمران كما يعتقده الكثير ممن ذكرنا، حتى صاروا يدرجون ذلك في صحف أخبارهم ومستحدثات تآليفهم، ولا سبب لذلك يمكن اعتذارهم به عن سريان ذلك لاعتقادهم إلَّا ما يشاهدونه في ممالك الإسلام من اختلال التصرفات والأحكام وما نشأ عنه من سوء حال الرعايا. وهذا ونحوه من مضار تقصير الأمراء في حماية الشريعة واستبدادهم بالتصرف بمقتضى شهواتهم مع إغفال العلماء القيام بما أهَّلهم الله له بإعراضهم عن مقتضيات أحوال الوقت كما أشير إليه سابقًا، ولا يخفى أن البقاءَ على هذه الحالة مما يعظم خطره وتُخشى عواقبه. سمعت من بعض أعيان أوروبا ما معناه أن التمدن الأوروباوي تدفق سيله في الأرض، فلا يعارضه شيء إلَّا استأصلته قوة تياره المتتابع، فيُخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار إلَّا إذا حذوه وجروا مجراه في التنظيمات الدنيوية، فيمكن نجاتهم من الغرق. وهذا التمثيل المحزن لمحب الوطن مما يصدقه العيان والتجربة، فإن المجاورة لها من التأثير بالطبع ما يشتد بكثرة المخالطة الناشئة عن كثرة نتائج الصناعات، بحيث تُلجئ لإخراجها والانتفاع بأثمانها، وهو سبب ثروتهم كما تقدم.

ولنقتصر على هذا المقدار من الإشارة إلى أسباب التقدم والتأخر في الأمة الإسلامية، ونرجع إلى ذِكر أطوار التمدن الأوروباوي من أيام الإمبراطور شارلمان إلى هذا التاريخ على وجهٍ إجمالي يقتدر به على الإحاطة بأنواع التمدن المكتسب بالمعارف، ويستفيد منه مَن يريد معرفة الأشخاص الذين اشتُهروا بكشف كنوز الطبيعة وأسرار التهذيب ورسوم معالم السياسة.

(١) التمدن الأوروباوي

اعلم أن الإمبراطور شارلمان الذي أسس دعائم السياسة والأحكام كان أشهر ملك ظهر بأوروبا من وقت سقوط الدولة الرومانية إلى سقوط دولة الإغريق التي كان تحت مملكتها القسطنطينية العظمى، وهو الذي أدخل العلوم والأعمال لممالكه، وكان يفني غالب أوقاته في قراءة العلوم وكان مجلسه محفوفًا بالعلماء، وأسس بباريس مدرسة جامعة لسائر المعارف، وبمثل هاته المآثر حصل له من السمعة في أقطار الأرض ما استمال الخليفة هارون الرشيد إلى صحبته ومهاداته بتحفٍ، منها منقالة لم تزل إلى الآن في أحد قصور فرنسا. ثم بعد وفاة الإمبراطور المذكور وفقدان تدبيره تعطلت تلك المصالح وتنازلت أوروبا وبقِيَتْ مغمورة في دجى الجهل مدة ستمائة سنة، وفي هاته المدة كانت موطئًا لأقدام البرابرة الذين كانت دولهم تتداول عليها. ومع ذلك الفشل التام فإن أهل الكنيسة منهم كانوا محافظين على كتب المعارف وعلى اللسانين اللذين لولاهما ما انتفع بتلك الكتب، وهما اليوناني واللاتيني، فالناس ممنونون لهم بذلك.

ثم في القرن الحادي عشر، الذي هو خامس قرون الهجرة النبوية، ظهرت مبادئ علوم وصناعات وهندسة في الأبنية، فأنشئت بها هياكل في الناحية الغربية من أوروبا وأخذ علم الفلسفة في النمو بين محاورات كلامية ومنازعات جدلية، وظهر حزب الفرسان الذين اشتهروا باسم الكوليير، وهم جماعة من وجوه الناس تحالفوا على أن يحاربوا في الله للمدافعة عن حرية النسوة والمستضعفين من سائر الأهالي، وأن لا يلاحظوا في أفعالهم لا سيما المحاربة إلَّا مقتضيات الشرف الإنساني وعلو الهمة ولو مع أعدى الأعادي؛ مثلًا: يرحمون من يسترحمهم ولا يُجهزون على جريحهم ولا يبتزون سلب قتيلهم.

ومن أواخر هذا القرن إلى أواسط القرن الثالث عشر كانت حروب الصليبيين مع المسلمين لافتكاك بيت المقدس وقطع استيلائهم على الأمم في زعمهم، وإنما أشرنا لِهَاته الحروب والفرسان لبيان ما لها من الدخل في التمدن الأوروباوي، فإن مؤرخيهم يقولون إن تلك الحروب وإن هلكت فيها نفوس عديدة وأموال غزيرة بدون الحصول على المقصود بالذات فإنها أعقبت نتائج نافعة لهم، منها أنهم من ذلك الوقت شرعوا في ترتيب العساكر وتعلموا بمواصلتهم لأهل المشرق صناعةَ التجارة والزراعة ونحو ذلك، وتخلقوا بأخلاق الحضر وتعودوا بالأسفار لاستكشاف أحوال الأقطار، فاطلعوا على أحوال آسيا المتوسطة وأحوال الصين، كما ذلك مبين بتآليف مَارْكُوبُولُو. وبالجملة فبالسبب المذكور وهو مخالطة الأوروباويين للأمة الإسلامية المتقدمة عليهم في التمدن والحضارة كان ابتداءُ التمدن عندهم، لا سيما في القرن الثالث عشر، ثم تهذب حتى وصل إلى ما هو مشاهد اليوم، وانتهت إذ ذاك رئاسة العلوم والآداب والفلسفة إلى صان بَرْنار بفرنسا وصان تومَاس بإيطاليا وألبرت الكبير بألمانيا وريموندولولو بإسبانيا وجُن دونسكوت بإنكلترة، وظهرت الشعراء والمهندسون والكنائس الأصولية والهياكل الفخيمة المنسوبة للقرون المتوسطة.

وفي القرن الرابع عشر نالت تلك الأمور شرفها، خصوصًا في إيطاليا فإن دانتي حرَّر اللسان الطلياني وقرره في شبه أراجيز يتخلد ذكرها، وجيوتُّو وتشيمابوي أحييا صناعة الدَّهن، وبتراركا وبكاتشو سلكا طريقة دانتي في النظم والنثر. ثم في أواسط القرن الخامس عشر، وهو الوقت الذي لا يُنسى لغرابة حوادثه، اخترع غتمبرغ من أهل ميَّانس بألمانيا طبع الكتب الذي حصل به من تنمية مواد العلوم وسرعة انتشارها في أقطار الأرض ما يغني فيه العيان عن البيان، وأول ما طبع منها كتاب في أشعار اللغة اللاتينية التي عاد إلى استعمالها أهل إيطاليا وتكاثرت بها أشعارهم بعد أن تناسوها، وهي وإن لم تأخذ مأخذها في التوصل بها إلى المعاني الدقيقة واللطائف البديعة فقد رجعت إلى ما كانت عليه من الطَّلاوة وحُسن السبك.

ثم أخذ التمدن في الترقي بمدارج العلوم والأعمال، وكانت المزية في ذلك لجماعة الميدشي الذين كانوا رؤساء الدولة الجمهورية بفلورنسة، ثم صاروا أمراءَها، فهم الذين مهدوا سبلها للناس، وكان اشتهارهم بذلك في القرن السادس عشر المعبَّر عنه بالقرن الكبير الذي كانت أيامه تضاهي بأولئك الرؤساء أيامَ أغسطوس أول قياصرة الرومان في الأشعار وحُسن هندسة البناء وبديع أشكاله، اقتداءً بالرومانيين الذين اقتدوا في ذلك باليونان. ومن حوادث القرن الخامس عشر أن جماعة الميدشي المشار إليهم والبابا ليون العاشر الذي هو منهم بحثوا في الخزائن عن الكتب القديمة وطبعوها لاستكثار نسخها، وجعلوا عليها تعليقات نافعة وملاحظات غريبة؛ وبذلك ارتفع عن محاسن الأقدمين القناع الذي تكاثف بتطاول السنين، وفي تلك المدة ظهر الشاعران أريوستو وتاسُّو اللذان أَشْهَرا اللسان الطلياني المستعمل الآن، وهما في الطبقة الأولى من مشاهير تلك اللغة. فأولهما خلد ذكره باختراع معانٍ لم يسبق إليها في ألفاظ مهذبة مستعذبة. والثاني نال شهرة أُمِيرُس الشاعر اليوناني وفرجيل الشاعر اللاتيني. وبالجملة فاللسان الطلياني أخذ في ذلك الوقت مأخذه من السلاسة وحُسن السبك، وأُلِّفت به تآليف عديدة في فنون شتى. ومن مشاهير القرن المذكور مكيافلِّي الذي كان أول مَن بيَّن القواعد السياسية بعد سقوط الدولة الرومانية، وغويتشرديني الذي بلغ بجودة الفكر وحُسن التعبير إلى إتقان التصنيف في التاريخ، وفرا باولو الذي اشتهر بالمدافعة عن حرية الوطن بقلم غيور منصف في ضد سياسة البابوات الدائرة رحاها على إيثار الشهوات.

وفي ذلك الوقت ظهر بمملكة إسبانيا التي كانت اكتسبت من المسلمين أنواعًا من الظَّرف كالفروسية واللعب بالرماح وتعاطي المعاني الغريبة من الأشعار الناظمان المجيدان لوبس دفيغا وكالدرون، اللذان أظهرا من التراكيب الشعرية ما حسن إلقاؤه في المجامع المعدة لتهذيب الأخلاق المسماة عندهم بالتياطرات. كما ظهر في ذلك الوقت عند الإنكليز الناظم الشهير شكسبير، وهو وإن لم يخلُ كلامه عن الهفوات فله النفيس من جوهره، ويُتوصَّل بفصاحته إلى الكشف عن كنه ما يروم وصفه والإحاطة بكيفيته الحسية والمعنوية، لا سيما في وصف الحروب بحيث إن سامع كلامه يكون كالمشاهد لما يصفه.

وأما أهل شمال أوروبا فلم يشتهروا إلى ذلك الوقت بشيء من أعمال الفِكر، غير أن منهم مَن لا تُنكر مِنَّته على العرفان، مثل كُبرنيك من أهل بولونيا المولود سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة وألف، وهو الذي حرر القول بأن الشمس في مركز العالم وأن الأرض والكواكب تدور حولها. قيل: وليس هو أول قائل بذلك، وإنما الأول فيلولاوس أحد تلامذة فيثاغورس، وذلك قبل وجود كبرنيك المذكور بألفي عام، لكن وقع الانفصال على أن كبرنيك هو الذي ينبغي أن يُنسب إليه مزية الابتكار لهذا القول وإن انتفع في الاهتداء إليه بقول فيلولاوس المذكور. وممن حرر الدليل على تلك الدعوى بما يقرب من المشاهدة غَلِيلَاو الطلياني وأعانه على ذلك ما اخترعه مسيوس من أهل هولاند من آلة البلور التي تكبِّر الأشياء، فكانت مرآته تكبِّر الشيء مائة وستين مرة زيادة على مقدار جرمه، ثم تهذبت تلك الآلة حتى صارت تكبِّره من ألفين إلى ثلاثة آلاف وأكثر، ولم تزل تلك الدعوى تترجَّح عند أهل أوروبا إلى أن صارت مسلَّمة لديهم، وبواسطة تلك الآلة اطَّلع غليلاو المذكور على كواكب لم تكن معهودة، وهو وتلميذه تورِّيشلِّي أول مَن عرف وزن الهواء، وأن طلوع الماء في الطلنبة مسبب عن ضغط الهواء لسطح الماء، وأن نهاية صعوده اثنان وثلاثون قدمًا، حيث إن قوة عمود الهواء النازل على سطح الماء لا تتجاوز المقدار المذكور، فلا ينجذب بها الماء إلى أكثر من ذلك، والحاصل أن أهل إيطاليا اغتنموا في ذلك الوقت شهرة بالآداب والصناعات المستظرفة المسماة عندهم بوزار، وهي صناعة الدَّهن والنقش وهندسة البناء والموسيقى، وحصلوا على ما أمكنهم تحصيله من العلوم والفلسفة، وأما ألمانيا فقد اشتهر فيها تِيخوبراهي وكُوبْلَر؛ فالأول أفنى عمره وماله في طلب العلم واقتناص شوارده حتى سمي بالمحسن إلى العلم، والثاني صرف المهجة إلى علم الفلك حتى قيل له صاحب الأحكام. وأما إنكلترة فإنها صارت بقرب ذلك العهد ذات يد في العلوم الرياضية والحكمة الكلامية، وممن اشتهر فيها فرَنسِس باكُن ذو الفِكر الوقاد والجد والاجتهاد، وقد صحت تسمية تآليفه بحالة العلوم الجديدة، واستند في دعاويه فيه إلى التجارب المفرَّغة في قالب الأسلوب الفلسفي، حتى قيل إن فن الطبيعيات صار بقواعد الكتاب المذكور كما ينبغي أن يكون.

وفي القرن السادس عشر امتاز أهل فرنسا بعلم الأحكام الآتي بيانه، واشتهر منهم بذلك عددٌ كثير مثل: كوجا ودومُلان وميشال دولبيتال الذين عمَّروا مكاتب الأحكام، والماهر الفصيح فرنل المتسلطن في علم الطب، وأَمْبرواز بَرِي أعرف أهل وقته بأحوال الجراحات، وفِيَات الذي اختصر كتب الجبر بوضع حروف نائبة عن الأعداد وصيره لعلم المساحة كالمنطق لسائر العلوم، وبيارَّلسكو الذي هندس بناء اللوفر، وفلبار دلورم الذي هندس قصر مودون وقصر التويلري، والأول والثالث بباريس يسكن بهما ملوكها، والثاني بقربها. ثم إن فرنسا وإن بلغت في هذا الوقت ما بلغته من التمدن والتهذيب وفاقت أممًا كثيرة ممن تقدمها إلا أنها لم تضاهِ نظائرها، حيث لم يكن لسانها في ذلك الوقت خالصًا من الشوائب. ومن مشاهيرها في تلك المدة: أميو ومارو، فالأول في الإنشاء والثاني في النظم، تميزا بسلامة السليقة وقلة التعقيد. ومنهم ربلي متقن صياغة مثالب الهجو، ومونتان الفيلسوف الذي سهَّل طرق المعاني وأداءها بألفاظ راشقة، وشرح ماهية الإنسان غير محمول بعين الرضا على تحسين معائبه ولا بعين السخط على تقبيح محاسنه. وفي هذا القرن اشتُهر بإيطاليا بين أرباب الصناعات رفايل وميكلانج وليوناردو دا وِينشي وأشخاص آخرون في صناعة الدَّهن والنقش والبناء، فبهم وبتلامذتهم تجدد البوزار في سائر نواحي أوروبا.

وفي القرن السابع عشر بلغت العلوم الرياضية والأدبية في أوروبا إلى الغاية القصوى، وذلك بكثرة العلماء الذين نمت بهم المعارف، حتى صار مَن كان يعد من مشاهير العلماء في القرون الماضية يعدُّ من عامتهم في هذا القرن، خصوصًا أهل فرنسا الذين ترقَّوا في سائر المعارف وتقدموا مَن عداهم من أهل أوروبا في الفصاحة نظمًا ونثرًا، وفي صناعة البوزار المتقدم بيانها. فمن مشاهير هذا القرن باسكال المشتهر بفن الحساب والطبيعيات والإنشاء، ألَّف كتابًا سمَّاه بما ترجمته «مكاتيب أهل القرى»، وهو من أشهر ما أُلِّف في الإرسال، وتعرض فيه للقدح في سيرة الجزويت حزب يعرف ﺑ «اليسوعية»، دأبهم جلب الناس بكل وجه ممكن إلى الديانة النصرانية والمدافعة عن السياسة البابوية، ومنهم دِكارت المعدود في الطبقة الأولى من مخترعي العلوم الرياضية باستعمال قواعد الجبر في المساحة وإتقان التصرف في علم الفلسفة، وهو من أشهر العلماء الذين هذبوا أخلاق البشر. ثم بوردلو وماسليون اللذان أظهرا فصاحة لم تكن لأحد قبلهما من خطباء ديانتهم، ثم بوسُّوي الذي بلغ في حسن التأبين وفي خطبته على التاريخ العام السائرة مسير المثل عند أهل أوروبا درجةً لم يبلغها أحد بعده. ثم بوالو الذي بيَّن قواعد الشعر عندهم، ثم لابرويَّار المعدود من السابقين في علم التهذيب، ثم فنلون صاحب التأليف المشهور المسمى «تلماك» الجامع لأسباب التهذيب البشري، ثم كُرْنِيل وراسين اللذان لا يقاسان في التراجيديا إلا بمشاهير اليونان، وهي محاكاة الحروب والوقائع، والكوميديا وهي محاكاة أمور في قالب الهزل، ثم موليير في الكوميديات ولافونتين في الأمثال تقدما مَن كان قبلهما. وفي القرن المذكور ظهر بألمانيا الحكيم ليبنتس، وكان له شهرة في علم التاريخ والطبيعيات، لا سيما الرياضيات والفلسفة، فقد كان له فيهما اليد الطولى.

وفي هذا القرن تميز علماء الإنكليز عن غيرهم بإتقان علم الهيئة والفلك، فمنهم هالي الذي شرح خواص الهواء وأسرار مد البحر وجزْره وأسرار المغناطيس وحركات ذوات الأذناب، وارتكب المشاق والأخطار في تطلُّب العلم من نوازح الأقطار، حتى بلغ جزيرة صانت آلان في البحر المحيط، ورسم على صخورها خريطة نجوم القسم الجنوبي من الهيئة، وبذلك ارتفع شأن رصد غرينتش في إنكلترة. ثم المنجم فلامستيد الذي بيَّن ملاحظات عديدة في علم الفلك تلقاها الناس بالقبول، ثم نيوطن المشتهر اشتهارًا أنسى به ذكر سابقيه، وله تأليف كبير أحدث به في الفلسفة تغييرًا غريبًا وقع من الناس موقع الإعجاب، وفي ذلك الوقت ظهر من شعراء الإنكليز درايدن وبوب، ومن كتبة الإنشاء إدسون، وفي القرن الثامن عشر حازت فرنسا خمسة أشخاص من مشاهير الكتبة بذلوا الجهد في إيضاح طرق الفلسفة وتشييد مبانيها، وهم فونتنيل الذي انسجمت مكاتيبه فيها، ثم بوفون مشفِّع أفلاطون، وبلين الذي كسا علم الفلسفة رقة التعبير في كتابه الذي خلَّد ذكره وأعرب عن رقة طبعه ودماثة أخلاقه. ثم مونتسكيو الذي صرف همته إلى كتب السياسة، وأبانت تصانيفه عن غاية معرفته بها، وكفى شاهدًا على ذلك ما كتبه في السبب الذي كبرت به الدولة الرومانية وتعاظمت، والذي سقطت به وانقرضت، وهو كتاب عجيب يحتوي على تعليقات صادقة وعبارات محررة راشقة، وكتابه الآخر المسمى «بحكمة القوانين» الذي بيَّن فيه الحقوق الإنسانية وقسمها إلى ثلاثة أقسام؛ أولها: الحقوق المعتبرة بين الأمم في خلطتها السياسية والمَتْجَريَّة. وثانيها: حقوق الدول على رعاياها، وبالعكس. وثالثها: حقوق الأهالي فيما بينهم. ثم قسم حالة الدول إلى ثلاثة أقسام أيضًا؛ الأول: الدولة الوراثية خلفًا عن سلف المطلقة التصرف بلا قيد. الثاني: الدولة الوراثية كذلك المقيدة بالقوانين. الثالث: الدولة الجمهورية المقيدة بالقوانين أيضًا. والجمهورية عندهم كناية عن انتخاب الأمة رئيسًا لدولتهم يتصرف في إدارتها بمقتضى القوانين مدة حياته أو لمدة معلومة، ثم ينتخب غيره، وبين ما ينشأ من الخير والشر عن الأحوال الثَّلَاثة وهو معدود عند أهل أوروبا قانونًا صحيحًا في الأحكام. ومن تمثيلاته البديعة تشبيه المستبد في تصرفاته بمَن يتوصل لاجتناء الثمرة بقطع الشجرة من أصلها، وله في غير ذلك تآليف عديدة تلقاها الناس بالقبول. ورابعهم دلمبير صاحب التأليف المحلى بقلائد القواعد الحاوي بأوضح بيان ما كاد يأتي على سائر الفوائد. وخامسهم كندلياك الذي بسط أشعة التحقيق على تأليف لوك الإنكليزي في علم الفلسفة.

ومن مشاهير القرن الثامن عشر وُلْتير، وهو ممن أخذ راية الكتابة باليمين والشمال، واشتُهر في سائر فنونها اشتهار الدجال في الأجيال، ولو لم يحمله انحلال العقيدة على عدم احترام الشرائع والديانات لكانت شهرته أتم والنفع بمعارفه أعم، ومنهم جانجاك روصو وهو نظير وُلْتير في الشهرة وله من حُسن التعبير ما لا تستقر معه الأوهام، وهذان الكاتبان المجيدان هما اللذان أنشآ ثورة أهل فرنسا سنة تسع وثمانين وسبعمائة وألف، الموافقة لسنة مائتين وألف هجرية، هيَّآ أسبابها واستعجلا وقوعها، ومنهم جان باتيست روصو صاحب الأشعار والمعاني الرائقة. ومنهم لوساج مؤلف «جلبلاس»، الكتاب المحتوي على المقامة الفلسفية الذي هو من أحسن ما أُلِّف في بابه.

ومن مشاهير هذا القرن لنَّاوس من أهل السويد اشتهر في الطبيعيات، وفيه ظهر بألمانيا الشاعران غُوتِي وشِلر، فالأول فاق أقرانه في محاسن الآداب، والثاني استحق اسم المجدد لتياطرات الألمان، فإنه ركَّب ألعابًا معتبرة ينشد فيها مستظرفات الأشعار، وله تآليف في التاريخ شاهدة بتقدمه في ميدان الأفكار. كما ظهر فيه بإنكلترة المؤرخون الثَّلَاثة الذين تشرف بهم وطنهم، وهم غيبون وهيوم وروبرتسون. ثم ظهر بها أيضًا آدم سميث الذي فاق أقرانه في علم الرياضيات والاقتصاد السياسي، والمعلم الطبيعي بانكس، والجراحيان وليم هنتر وأخوه جُن وكاوندش الذي حلل أجزاء الماء، والفلكيون: برادلي وهرشل وبنجمن فرانكلن الذي خلَّد اسمه ببيان الأمور المتعلقة بالجاذب المغناطيسي.

ومن مشاهير إنكلترة في القرن المذكور أركرايت الذي اخترع آلة غزل القطن، ثم خرج عن صف العامة ثلاثة أشخاص استنبطوا لهذه الآلة ما أكسبها قوة غير محصورة، وهم سميطن وفلطن وجامس وات، وهذا الأخير هو الذي اخترع الكيفية العجيبة في الانتفاع بالآلة البخارية التي اخترعها أولًا نيوكمن، كما ظهر بهذا القرن الخدمات العجيبة الهائلة على يد المهندس برادلي، فتضاعفت طرق المواصلة بإنكلترة وفتحت الخلج العديدة في الأماكن التي كانت معطلة؛ وبذلك نمت نتائج الأيدي واتسعت دوائر متجر الإنكليز وثروتهم وارتفع شأن السياسة. فمن النتائج كثرة استخراج معادن الأرض بسهولة المناولة والمواصلة، وكذا جلب القطن والكتَّان وغيرهما واصطناع الأقمشة منها في أسرع وقت، كل ذلك بمعونة الآلات المذكورة، وقد كبرت بلدانها الصغيرة لاتساع نطاق المتجر فيها حتى صارت من البلدان المعتبرة. وهاك مثالًا جزئيًّا تعلم به التبديلات الخطيرة الواقعة في أحوال المتجر، وهو أن قيمة ما كان يخرج من سائر بلدان إنكلترة من القطن المصنوع لم تكن في أوائل القرن الثامن عشر تتجاوز خمسمائة ألف فرنك في السنة. وفي أواسط هذا القرن بلغت قيمة ما يخرج من ذلك في السنة خمسمائة مليون فرنك. ولنمسك عِنان القلم هنا حيث بلغنا إلى القرن التاسع عشر الذي صار فيه المشاهير بالعلوم والصناعات أكثر من أن يُحصَوا، والساعون فيما يزيد نوع البشر تحسينًا أَجَلَّ من أن يُضبطوا. ولم يزل الملوك يرغِّبون الناس في أسباب التمدن وينشطونهم بالجوائز وعلامات العناية، وبوضع صور مشاهيرهم بمجامع العامة لتوفير دواعي البحث عما يمكن أن ينفع جنسهم ويخلِّد ذِكرهم.

(٢) تلخيص المكتشفات والمخترعات

في أوائل القرن الرابع عشر استعمل أهل أوروبا في سفنهم البوصلة المنقولة عن العرب كما تقدم، وكشف أهل البرتغال عدة جهات من شطوط أفريقية الغربية وأحاطوا بالجهة الجنوبية من رأس الزعزعة المسمى من ذلك الوقت ﺑ «رأس الرجاء الصالح»، ووجدوا بذلك طريق الهند في البحر وأحدثوا فيها عدة مستعمرات. وفي سنة ست وثلاثين وأربعمائة وألف اخترع المطبع بألمانيا. وفي سنة ست وستين وأربعمائة وألف وُجدت فبريكة الحرير بمدينة ليون من فرنسا. وفي سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة وألف كشف كريستوف كولومب أميركا. وفي القرن السابع عشر حدثت فبريكة القطن بإنكلترة وفرنسا وظهرت المرآة التي تكبِّر الأشياء المتقدم ذكرها، وظهرت البوسطة؛ أي بيت المكاتيب، وتحرر ميزان الهواء بالوجه المتقدم. وفي سنة ثمانٍ وأربعين وستمائة وألف ظهر استعمال الكينا بأوروبا. وفي سنة سبع وستين وستمائة وألف استُعملت فبريكة نسج البُسُط الرفيعة بباريس. وفي سنة أربعين وسبعمائة وألف أُنشئت فبريكة الذكير المذاب بإنكلترة. وفي سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة وألف اخترع فرنكلن جواذب الصاعقة التي تجذب القوة الكهربائية من السحاب وتدخل بها في الأرض. وفي سنة ستين وسبعمائة وألف تأسس بباريس محل لتعليم الصم البكم والعمي القراءة والكتابة والرياضات، ثم اقتدى بذلك بقية ممالك أوروبا، حتى إنه يوجد اليوم بها من الأماكن المخصوصة بتعليمهم نحو مائة وخمسين. وكيفية ذلك في الأصم الأبكم أن يروه صور الحروف ويصطلحوا معه على تخصيص كل حرف منها بإشارة مخصوصة في الأصابع، ثم يحضروا له الشيء المراد تعريفه إياه ويكتبوا اسمه له على مقتضى تلك الحروف الإشارية؛ فبهذه الواسطة يصير قابلًا للتعليم لتيسير الكلام معه بسهولة، وفي الأعمى بجعل حروف له ذات أجرام؛ فبذلك يقبل تعلم القراءة والكتابة، وإذا أريد تعليمه الجغرافيا تُرسم له الخريطة أجرامًا ممسوسة فيسهل تعلمه إياها جدًّا حتى يصير بحيث متى طُلب منه تعيين محل من الأرض أو بلد من البلدان وضع يده عليه بدون مشقة.

وفي سنة ست وسبعين وسبعمائة وألف اخترع الطبيب جنر الإنكليزي من مدينة بَرْكِلي كيفية تلقيح الجدري. وقد تنازع مؤرخو الإنكليز والفرنسيس وأميركا في اختراع الآلة البخارية، فكلٌّ يدَّعي ذلك لأهل مملكته. والذي حرره أراغو الفلكي الفرنساوي هو أن الماكينجي هيرون الإسكندراني فكر في قوة البخار والمنافع التي يمكن تحصيلها به، وكان ذلك قبل الميلاد المسيحي بمائة وعشرين سنة، لكن بقي هذا الرأي عقيمًا عدة قرون. ثم في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وألف من الميلاد المذكور كتب بلاسكودي غراي الإسبنيولي الأصولَ التي يمكن حصولها عن تلك القوة، وفكر في استعمالها، وكتب مثل ذلك سلمون دوكوس الفرنساوي في سنة خمس عشرة وستمائة وألف، ثم في سنة ثلاث وستين وستمائة وألف استقل بهذا الشأن ورشستر الإنكليزي إلَّا أن ما أنتجته فكرته لم يكن كافيًا في حصول الانتفاع بتلك القوة. ثم في سنة تسعين وستمائة وألف فكَّر في شأنها المهندس دنيس بابين الفرنساوي إلى أن ركب في سنة خمس وتسعين وستمائة وألف الآلة البخارية بالبَسْتُون، وهو شيء يشبه مُدُقَّ المكحلة، وهو أول مَن ظهر له جعل القوة القابلة للبسط في آلة نارية، حيث إن البخار ينبسط عند شدة الحرارة وينقبض عند البرودة. ثم اعتنى بذلك الماكينجي الإنكليزي جامس وات المتقدم الذكر الذي ظهرت أعماله في النصف الثاني من القرن الثامن عشر بتوجيهه العناية إلى هذه المأثرة وبحثه عن سائر أجزاء الآلة البخارية، حتى ارتقى في ذلك درجةً تُنيله منصب الاختراع لها.

وقد كان دنيس بابين المذكور أشار إلى أماكن السفر بها في البحر، وبيَّن كيفية ذلك بغاية الإيضاح. وفي سنة ست وثلاثين وسبعمائة وألف أخذ جونتان هُلَّس الإنكليزي السراح من الدولة في استعمال الآلة المذكورة بسفينة، لكن لم تتم له الموجبات، فكانت جدوى فعله قليلة. وفي سنة خمس وسبعين وسبعمائة وألف صنع الماكينجي بريا الفرنساوي السفينة الأولى البخارية، وبعد ثلاث سنين اخترع جوفروي الفرنساوي الآلة المذكورة وألقاها على وادي دوب بفرنسا، وفي سنة إحدى وثمانين وسبعمائة وألف ألقى على وادي صون بفرنسا أيضًا سفينة كبيرة من ذلك النوع، وسارت. ثم استقلَّ بالمأثرة المشار إليها جماعةٌ في إنكلترة نجح سعيهم فيها، وهم ميلر في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة وألف، ثم لورد ستنهوب في سنة خمس وتسعين وسبعمائة وألف، ثم سيمنغطن سنة إحدى وثمانمائة وألف. وفي السنة الثالثة من القرن التاسع عشر جرب الأميركاني فلطن بباريس عمله بتلك الآلة، فرأى مخائل النجاح، وكان معه من أهل وطنه لِيونسطُن فوضعا على وادي سون أول فابور تام بالعجلات، وذلك في تاسع أغشت من السنة المذكورة، لكن لم يتفق إنجاز المأثرة المذكورة بفرنسا؛ لعدم اعتناء الدولة بها في ذلك الوقت، فلما أَيس فلطن من نجاح سعيه هناك حمل مخترعه إلى وطنه أميركا وأشهره بها. ويقول أهل فرنسا: أن من سوء البخت عدم انجذاب بال الدولة في ذلك الوقت لهذه النتيجة الباهرة. وفي السنة السادسة من القرن المذكور سافرت السفينة البخارية المسماة «كلرمونت» من نيويورك إلى فيلادلفيا في الممالك المتحدة بأميركا. وفي سنة أربع عشرة وثمانمائة وألف شرع المذكور في اصطناع الفرقاطة البخارية الأولى، فمات قبل إتمامها، وفي حياته صنع بتلك المملكة عدة فابورات صغار، منها المسمَّى «فلطن» الذي التقى بالسفينة الحاملة لنابوليون الأول إلى جزيرة صانت الآن التي بقي فيها بعد سقوطه، فلما رأى الفابور المذكور وذنب دخانه شائل في الجو ندم على إعراضه عن تلك المأثرة التي تم ظهورها في غير بلاده. وجميع التحريرات البخارية مستنبطة من قواعد فلطن المذكور؛ لأنه كان مهندسًا حاذقًا لبيبًا، ثم انتشر هذا المخترع بسائر جهات أوروبا على التعاقب شيئًا فشيئًا، وأما استعمال آلة الذنب المسماة آليس بدلًا من العجلات، فأول مَن فكر فيها دوكي الفرنساوي سنة سبع وعشرين وسبعمائة وألف، وبوكتون سنة ثمانٍ وستين وسبعمائة وألف.

وفي سنة ثلاث وثمانمائة وألف أخذ شارل دلري الرخصة في عمل الآلة المذكورة إلَّا أن سعيه إذ ذاك لم ينجح لعدم وجود المبالغ اللازمة من المال، فاغتنم التفرغ لهذا العمل المهندس أريكصون الشهير من أهل السويد في الممالك المتحدة بأميركا من سنة ست وثلاثين وثمانمائة وألف إلى سنة أربع وأربعين وثمانمائة وألف إلى أن تمَّ، واستُعمل في سنة خمس وأربعين وثمانمائة وألف، وقد شاع العمل به الآن. وفي سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة وألف ارتفع في الهواء بالبالون مونغولفيي الفرنساوي، والبالون قبة من الحرير مصنوعة بكيفية لا ينفذ بها من مسامها الغاز الذي هو ألطف من الهواء فتملأ القبة بتلك المادة فتصعد في الجو لصيرورتها أخف من الهواء. وفي سنة أربع وتسعين وسبعمائة وألف اخترع وُلتا البيل الذي يستعمل للتذويب وللتلغراف الكهربائي، وفي سنة إحدى وثمانمائة وألف اخترع جَكار الحائك آلة النسج التي تنسج بدون واسطة اليد، وهذه الآلة أورثت تبدلًا كبيرًا في أمر النسج وارتفع بها شأن فبريكات ليون بفرانسة التي تصنع الأقمشة الحريرية وغيرها؛ ولذلك رفع أهلها صورة المخترع المذكور ببطحاء المدينة إظهارًا لممنونيتهم له. وفي سنة ست عشرة وثمانمائة وألف ظهر بلندرة حادث إسراج الغاز، كما ظهر بها في السنة المذكورة الستينوغرافي، وهي كيفية تُسهِّل استيعاب الكاتب جميع ما ينطق به اللسان السريع باصطلاح مخصوص، والواضع لها رامزي من أهل سكوتلاند. وفي سنة تسع وعشرين وثمانمائة وألف ظهرت أول كروسة تامة تجري على طريق من الحديد، وهي من مخترعات المهندس ستيونصن الإنكليزي، واخترع ويتصطون الإنكليزي أيضًا الكيفية المستعملة في التلغراف المذكور، واخترع نيبس وداغير الفوتغرافي؛ أي ارتسام الصورة بواسطة المرآة وبقاءها، ولهذه الصناعة فوائد جمة في الطبيعيات والفلك.

ولما كان تقدم أهل أوروبا في ميدان التمدن الذي من نتائجه الاختراعات المشار إليها، إنما كان بتمهيد طرق العلوم والفنون وتسهيل أسباب استحصالها، وكان للمملكة الفرنساوية مزيد شهرة بحسن التنظيم في أطوار التعلم والتعليم؛ رأينا أن نبين تراتيبها الناجحة ليقاس عليها بقية الممالك لاقتداء بعضهم ببعض في مثل ذلك، فنقول: اعلم أن طبقات المتعلمين عندهم ثلاث؛ لأن المتعلم إما مبتدئ أو متوسط أو منتهٍ، وانقسام الفنون على هذه الطبقات باعتبار سهولة الفن وصعوبته، فالفنون الأولية مثل: علم الأخلاق وأصول الديانة والقراءة والكتابة والمفردات اللغوية وأصول الحساب والوزن والكيل، وأصول التاريخ والجغرافيا ومبادئ سر الطبيعة والاستدلال بالموجودات الأرضية، ومبادئ الفلاحة والصناعات، وقانون حفظ الصحة وأصول المساحة ورسم الأرض والتصوير الخطِّي والألحان، وكيفية تقوية الأعصاب بالحركات الرياضية، فهذه الفنون الأولية تدرس في المكاتب العمومية المُقامة من الدولة أو الإيالة أو البلدة أو القرية، وفي المكاتب المطلقة ومَحَالِّ المرحمة المقامة من خصوص أشخاص من الناس وجمعيات من المحسنين.

أما فنون الطبقة المتوسطة التي ينتقل إليها بعد تحصيل ما يجب تحصيله من المعارف الأولية فهي: علم اللغات القديمة والحادثة، وعلم البيان والمنطق والفلسفة والعلوم الرياضية والطبيعية والتاريخ، وجميع هذه العلوم تدرس في مكاتب للدولة ومكاتب لأهل البلدان، وأماكن خصوصية ومَحَال صغيرة لتعليم الرهبان.

وأما الطبقة المنتهية فمنهم مَن يتعلم بالمكاتب العالية ومنهم مَن يحضر مجامع مدرسي العلوم والإنشاء الذين يجيزون الطلبة بعد امتحانهم بحضرتهم. والمجامع المشار إليها مشتغلة بدراسة العلم الإلهي وأحكام النوازل وصناعة الإنشاء ونحو ذلك، وتتنوع إلى خمسة أصناف: أحدها يحتوي على ثمانية مجامع وظيفتها تعليم العلم الإلهي، ستة منها على مقتضى العقيدة الكاثوليكية، واثنان على مقتضى العقيدة البروتستانية، ومن شُعب هذا العلم عندهم فروض الديانة وعلم الأخلاق ونظام الكنيسة والكتاب الموصوف عندهم بالمقدس واللسان العبراني. والصنف الثاني: يحتوي على تسعة مجامع وظيفتها تدريس علم النوازل المنقسم عندهم إلى القواعد العمومية وأحكام الرومان، والقانون المدني وأحكام الجنايات وأعمال المجالس وقياس العقوبات بأحكام البلدان والقانون المتجري وأحكام الإدارة العمومية وأحكام ما يقع بين الأمم والأحكام الفرنساوية. والصنف الثالث: يحتوي على ثلاثة مجامع وظيفتها دراسة علم الطب المتناول للتشريح وتركيب الحيوان وتاريخ الطبيعة المتعلق بالطب، وقانون الصحة ومعرفة الأمراض الظاهرية والباطنية وكيفية المعالجة ومواد الأدوية وعلاج الجراحات وأحوال الولادة، وهناك مكاتب كبار لتعليم كيفية تركيب الأدوية، ومكاتب أخرى للاستعداد لتعاطي فن الطب. والصنف الرابع: يحتوي على مجامع وظيفتها دراسة علوم مختلفة كعلم الهيئة والفلك وعلم الجبر والمساحة وعلم المِكَنِيك؛ أي التصرف بالآلات كجر الأثقال، وعلم استعمال الآثار الطبيعية كالتصوير بالمرآة، وعلم الكيمياء وعلم طبيعة الأرض والنبات وتركيبه، وعلم طبائع الحيوانات. والصنف الخامس: يحتوي على مجامع وظيفتها تعليم الإنشاء وسائر العلوم الأدبية وعلم الفلسفة وتاريخها وآداب اليونان والشعر اللاتيني والفرنساوي وآداب الأجانب والنحو والتاريخ قديمه وحديثه والجغرافيا. وهناك مكاتب للاستعداد للفنون المذكورة ويُقرأ فيها تاريخ فرنسا كالجغرافيا الطبيعية والسياسية وعلم الرسم. ومن عوائدهم أن يختموا كتبهم في المكتب العالي المشتهر بمكتب فرنسا، وهناك مكتب لتعليم الألسنة المشرقية، ومحل مخصوص بتعليم أخذ الأطوال، ومحل الرصد السلطاني بباريس، والمحل المُعد لوضع الحيوانات المصبَّرة على اختلاف أنواعها وأنواع الأحجار، والمكتب السلطاني المُعَد للخريطات الجغرافية ومكتب البوزار؛ أي الصناعات المستظرفة ومكاتب أعمال اليد ومكتب التصوير السلطاني ومحل تعليم قواعد الموسيقى ومكتب تعليم مخاطبات التياطرات، وجميع المكاتب المشار إليها تحت رعاية وزير المعارف، وما عداها من المكاتب الخصوصية فإنها وإن كانت خارجة عن دائرة الإدارة العمومية إلا أنها لا تخرج عن دائرة المراقبة، حيث يجب تفقدها فيما يتعلق بتهذيب الأخلاق وحفظ الصحة وموافقة التعليم لمقتضى قوانين البلد.

ثم إن هناك خمسَ جمعيات من كبار علمائهم يُسمَّى كل منها ﺑ «الأَكَدِمِيَّة»، وتُسمَّى الجمعية الأولى أَكَدِمِيَّة فرنسا والثانية أَكَدِميَّة الخطوط القديمة والثالثة أَكَدِميَّة العلوم والرابعة أَكَدِميَّة البوزار والخامسة أَكَدِميَّة السياسة وتهذيب الأخلاق. فوظيفة الجمعية الأولى: الاعتناء بتصفية اللغة وتحرير أوضاعها. ووظيفة الثانية: تحرير الأقلام القديمة واستخلاص الألسنة العلمية والنظر في الهياكل القديمة والتواريخ. ووظيفة الثالثة: نشر رسائل في سائر أنواع العلوم، وهذه الجمعية بمثابة مجلس لتحرير سائر العلوم. ووظيفة الرابعة: النظر في أحوال الأبنية والأدهان والنقش والتصوير والموسيقى، وهذه الجمعية هي التي تعيِّن مَن يستحق الدخول في مكتب البوزار. ووظيفة الخامسة: النظر في أحوال علوم الفلسفة والأحكام والحقوق العامة والإِكُونُومِي بوليتيك؛ أي الاقتصاد السياسي، والاستاتستيك وتاريخ الفلسفة العمومي والإدارة السياسية والمالية. ولكلٍّ من هذه الجمعيات تعيين جوائز المؤلفين من مقدار مال أو نيشان من الصنف المعروف عندهم بالمِداليا، والجوائز تارة تكون من الدولة وأخرى من بعض أعيان البلد ترغيبًا في الاختراع.

وهناك مكاتب أخرى لتعليم سائر العلوم والفنون الحربية البرية والبحرية، وجمعيات أخرى وظيفتها الإعانة في أسباب التقدم في المعارف والفِلاحة وسار الصنائع، منها: جمعية الطب وإدارة الموزيات السلطانية وجمعية الترغيب في الصناعات الأهلية والجمعية السلطانية المركزية في الخُضَر والنباتات المتكفلة بجلب غير الموجود منها من سائر الأقطار وتدبيره بما يكون سببًا في بقائه عندهم، حتى صار بهذه الواسطة يوجد عندهم غالب ما يوجد في سائر المعمور، وجمعية في الجغرافيا وأخرى في بنية الكرة الأرضية، وأخرى في حوادث الجو والآثار القديمة وأحوال الأمم، وأخرى في خصوص أحوال آسيا، وأخرى في الاقتصاد السياسي، وأخرى في مبادئ العلوم، وأخرى في الجراحات، وأخرى في تركيب الأسنان، وأخرى في تواريخ فرنسا، كما أن بإيالات فرنسا كثيرًا من هذه الجمعيات. ويوجد كثير من المدارس لتعليم كيفيات التصوير وأعمال اليد، وهناك مكاتب تتعلق بالمعادن، ومكتب كبير لأصول التجارة وأماكن خصوصية لذلك تحت رعاية الدولة، وثلاثة مكاتب سلطانية لتعليم البيطرة ومثلها لتعليم فنون الفِلاحة، واثنان وخمسون جريبًا لامتحان قواعد الفِلاحة. والعارفون بقواعد الفلاحة متوزعون في بلدان المملكة، ومن مكاتب الفلاحة ما هو دائم التعليم، ومنها ما لا يفتح إلَّا في أوقات مخصوصة، ومن تاقت نفسه إلى تفاصيل العلوم والفنون المشار إليها فعليه بمطالعة الفصل الثالث عشر من المقالة الثالثة من رحلة العالِم البارع الشيخ رفاعة أحد علماء مصر المسماة ﺑ «تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز»، فقد كشف فيها الغطاء عن تدبير الأمة الفرنساوية التي رفعت راية التمدن وأجاد في ذلك وأفاد.

ومن آثار اعتنائهم بتوسيع دوائر العرفان الذي هو أساس التمدن والتهذيب لنوع الإنسان كثرةُ خزائن الكتب الجامعة لسائر الفنون، وتسهيل طرق الانتفاع بها بحسن الإدارة والترتيب الحاسم لمواد العوائق، كما يتضح ذلك بالتفصيل الآتي، ولنقتصر في بيان كثرة الكتب بالبلدان الأوروباوية المعتبرة على ما حرره نتالي وزير المعارف العمومية بإيطاليا بعد تمام بحثه عن ذلك سنة سبع وستين وثمانمائة وألف، فذكر أن الموجود بخزائن إيطاليا من الكتب المجلدة أربعة ملايين ومائة وأربعون ألفًا ومائتان وواحد وثمانون مجلدًا غالبها من الكتب القديمة المتعلقة بالديانة، وبخزائن بريطانية العظمى مليون وسبعمائة وواحد وسبعون ألفًا وأربعمائة وثلاثة وتسعون مجلدًا، فيكون لكل مائة نفس من الأهالي ستة مجلدات، وعلى قياس هذه النسبة يكون لكل مائة نفس من أهالي إيطاليا أحد عشر مجلدًا وسبعة أعشار المجلد. ويوجد ببلاد النمسة مليونان وأربعمائة وثمانية وثمانون مجلدًا، وبالنسبة للأهالي يكون لكل مائة نفس ستة مجلدات وتسعة أعشار المجلد. ويوجد بالبروسية مليونان وأربعون ألفًا وأربعمائة وخمسون مجلدًا، فيكون لكل مائة نفس من أهاليها أحد عشر مجلدًا. وفي الروسية ثمانمائة ألف واثنان وخمسون ألف مجلد، فيكون لكل مائة من أهاليها مجلد واحد وثلاثة أعشار المجلد. وفي البلجيك خمسمائة ألف وتسعة آلاف ومائة مجلد، فيكون لكل مائة من الأهالي عشرة مجلدات وأربعة أعشار المجلد. وفي باواريا مليون ومائتان وثمانية وستون ألفًا وخمسمائة مجلد، فيكون لكل مائة من أهليها ستة وعشرون مجلدًا وخمسا المجلد. كما يوجد بفرنسا أربعة ملايين وثمانمائة وتسعون ألف مجلد، فيكون لكل مائة من أهاليها أحد عشر مجلدًا وسبعة أعشار المجلد (فهي مثل إيطاليا، قال): وبهذه النسب يظهر أن مملكة باواريا أكثر كتبًا من غيرها بالنسبة إلى عدد الأهالي، وإن كان الموجود بفرنسا لا يوجد بغيرها من الممالك. وفي مدينة باريس وحدها ثُلث العدد الموجود بمملكة فرنسا كلها، ففي «قاموس العلوم» المؤلف في هذه السنين الأخيرة أن الخزانة السلطانية بباريس بها من الكتب على ما تحرر في سنة ثلاث وستين وثمانمائة وألف مليون كتاب مطبوع وثمانون ألفًا بخط اليد، وغاية ما كان بها وقت تأسيسها في سنة ثمانين وثلاثمائة وألف تسعمائة وعشرة مجلدات، وصار بها في سنة سبع وأربعين وخمسمائة وألف ألفٌ وثمانمائة وتسعون مجلدًا، ثم في سنة أربعين وستمائة وألف صار مقدار ما بها ستة عشر ألفًا وسبعمائة وستة وأربعين مجلدًا، وفي سنة أربع وثمانين وستمائة وألف صار قدر ما بها خمسين ألفًا وخمسمائة واثنين وأربعين مجلدًا، وفي سنة خمس وسبعين وسبعمائة وألف صار بها مائة وخمسون ألف مجلد، وفي سنة تسعين وسبعمائة وألف صار بها مائتا ألف مجلد، واليوم بها مليون من الكتب المطبوعة وثمانون ألفًا بخط اليد كما تقدم، كما بها أربعون ألف خريطة في فن الجغرافيا وعدد كثير من الرسائل ونحوها مما لا يُطلق عليه اسم المجلد.

وبهذا التفاوت الكبير الواقع في مواد المعارف يُعلم مقدار تأثير الحرية في الممالك، فإنا نرى الخزانة المذكورة في مدة أربعمائة وعشرة أعوام من مبتدأ تأسيسها الذي هو سنة ثمانين وثلاثمائة وألف إلى سنة تسعين وسبعمائة وألف لم يتحصل بها إلَّا مائتا ألف مجلد، ومن ذلك التاريخ الذي هو مبدأ الحرية بفرنسا إلى سنة ثلاث وستين وثمانمائة وألف التي هي تمام أربع وسبعين سنة، من ذلك الوقت ازداد في الخزانة المذكورة ثمانمائة وثمانون ألف مجلد دون ما لم يمكن حصره من الرسائل المشار إليها، وعلى هذا يقاس سائر أسباب التمدن. ويوجد بباريس ثلاثون خزانة سوى الخزانة المذكورة متفاوتة في الكبر، كما توجد خزائن معتبرة في سائر تخوت الممالك.

وأما بيان حُسن إدارتها المسبب لغاية سهولة الانتفاع بها فهو أن أماكن الخزائن المشار إليها تفتح كل يوم قدر خمس أو ست ساعات، ومنها ما يفتح بالليل أيضًا قدر ثلاث ساعات، وذلك فيما عدا يوم الأحد وأيام الأعياد التي لا تتجاوز مدتها شهرًا في السنة وأيام التسريح للاستراحة، وإنما تفتح في سائر الأيام للطلبة الراغبين في الاستفادة، وأما الذين يأتون بقصد مجرد الاطلاع فلا يسوغ لهم ذلك إلَّا في يومين من الأسبوع. وللخزائن المشار إليها نظَّار وخدَمة بقدر الكفاية، وحولها بيوت للتعلم تسخَّن في الشتاء، وهي محتوية على آلات الكتابة عدا الكاغد فيأتي به مريد الاستنساخ، ويُطلب من المكلف الكتاب الذي يريده ببطاقة يدفعها إليه، وإذا احتاج إلى أكثر من كتاب يبيِّن السبب فيها فيدفعها المكلف للخدمة فيحضر له في الحين ما طلب، وحين خروجه من ذلك المحل يسلم للمكلف ما أخذه من الكتب. وهذه المنحة مبذولة لكل راغب سواءٌ كان من الأهالي أو الأجانب، أما مَن كان من المؤلفين المشهورين فيسوغ له نقل الكتب للانتفاع بها في مهلة أقصاها عام إذا طلب ذلك بالكتابة وبيَّن السبب الداعي لأخذ الكتاب، وعند مضي المدة إما أن يُرجع ما أخذ أو يطلب تجديد التسويغ مدة أخرى.

ومما يناسب سَوقه هنا اعتناؤهم بأسباب تهذيب أبناء العائلة الملكية وتوسيع دائرة معارفهم، ولا شك أن ذلك من الأصول المعتبرة النافعة في إدارة المملكة غاية النفع، فنقول: من عادتهم أن مَن يبلغ من أبناء العائلة سن التربية ينتخب له رئيس تلك العائلة معلمين مهرة يعلمونه من فنون العلم ما يناسب حاله، والمراد منه من كل ما يهذب أخلاقه ويوسع في المعارف نطاقه، فإذا بلغ من التعلم أشده يوجَّه إلى الممالك الأجنبية لمشاهدة أحوالها ومطالعة سياستها وأحكامها وما لها من التقدم في العمران وغيره؛ ليتحقق بالمشاهدة ما بينها وبين بلاده من التفاوت ليعتبر أسباب ذلك وقت مباشرته لسياسة المملكة، فيتجنب ما تأخرت به بلاده إن رأى غيرها خيرًا منها، ويعتني بما تقدمت به إن رآه دونها، فإذا بلغ من العمر نحو ثمان عشرة سنة يُصَيَّرُ من أعضاء المجلس الأعلى يحضره ولا يكون له كلام فيه إلا إذا بلغ من العمر خمسًا وعشرين سنة، وفائدة ذلك التدرب على الأمور السياسية ومثافنتها حتى يستكمل المَلَكَة فيها مع ما يحصل له بذلك من الخبرة بطبقات رجال السياسة المُتَأكَّد معرفتها على من يترشح للرئاسة التي هي أعظم الخطط البشرية وأصعبها، فيجب على متقلدها من الاستعداد والمعرفة بمقتضيات الأحوال المختلفة ما لا يجب على غيره، لا سيما معرفة أهل الخبرة والمروءة والنجدة من رجال المملكة لينتخبهم للخطط المعتبرة مع التفطن لدسائس الحسَّاد والمفسدين، فإن المطلوب من الملوك ليس هو مجرد فصل النوازل الشخصية كما هو مشاهد في بعض الممالك الإسلامية، ولا مباشرة جزئيات الإدارة التي يمكن إجراؤها بغيرهم من المتوظفين، وإنما المطلوب منهم النظر في كليات الأمور من معرفة الرجال اللائقين بالخطط وامتحانهم وتعقبهم بالمراقبة لإرشاد جاهلهم وزجر متجاهلهم، وتفقد أحوال الرعايا والإعانة على تكثير الصنائع والعلوم الموصِّلة إلى تهذيب الأخلاق ونمو الأرزاق، والعناية بتنظيم العساكر البرية والبحرية وتحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة لحفظ الدين والوطن، وإصلاح أحوال الخلطة السياسية والمتجرية مع الدول الأجنبية بما ينمو به عز المملكة وثروتها، إلى غير ذلك من الكليات، فإن سعادة الممالك وشقاوتها في أمورها الدنيوية إنما تكون بقدر ما تيسر لملوكها من ذلك، وبقدر ما لها من التنظيمات السياسية المؤسسة على العدل ومعرفتها واحترامها من رجالها المباشرين لها.

نُقل عن المؤرخ بوليبيوس اليوناني — الذي تكلم على سياسة الأمة الرومانية وما وقع بينها وبين أهل قَرْطاجنَّة من الحروب — أنه قال في معرض الاستدلال على أن المباشر للأمر يلزمه أن يكون عارفًا بأصوله ما معناه، إذا كان المريض لا يُرتجى له حصول العافية على يد طبيب يجهل نوع المرض والدواءَ المناسب له، فكذلك المملكة لا يُرجى خيرها واستقامتها إذا كان وزراؤها المباشرون يجهلون أصول سياستها وقوانين شرائعها وعاداتها. ولا يخفى أن حصول خير المملكة إذا كان يمتنع بسبب الجهل بأصول السياسة، فامتناعه — إذا انضم لذلك عدمُ وجود تلك الأصول بالكلية — أحرى وأولى؛ لأن السبب في الحالة الأولى دائر بين الجهل والتجاهل وكلاهما أمر عارض تمكن إزالته بتبديل المباشرين أو إرشاد جاهلهم وإلزام متجاهلهم بالجريان على الأصول المحفوظة، أما إذا لم يوجد من تلك الأصول شيء يُرجع إليه وسند مضبوط يقع التعويل عند الاشتباه عليه، فإن هاته الحالة يتسع فيها مجال الأغراض والشهوات من الآمر والمأمور، وربما يئول أمر الدولة إلى الاضمحلال والدثور، ولله عاقبة الأمور.

هذا، ولما تضمن ما أوردناه في هذا المجال الإشارة إلى أن الحرية هي منشأ سعة نطاق العرفان والتمدن بالممالك الأوروباوية رأينا من المتأكد بيان معنى الحرية عرفًا لدفع ما عسى أن يقع من الالتباس فيها.

فنقول: إن لفظ الحرية يُطلق في عرفهم بإزاء معنيين؛ أحدهما: يسمى الحرية الشخصية، وهو إطلاق تصرف الإنسان في ذاته وكسبه مع أمنه على نفسه وعرضه وماله ومساواته لأبناء جنسه لدى الحكم، بحيث إن الإنسان لا يخشى هضيمة في ذاته ولا في سائر حقوقه ولا يُحكم عليه بشيء لا تقتضيه قوانين البلاد المتقررة لدى المجالس، وبالجملة فالقوانين تقيِّد الرعاة كما تقيد الرعية. والحرية بهذا المعنى موجودة في جميع الدول الأوروباوية إلَّا في الدولة البابوية والدولة المسكوبية؛ لأنهما مستبدتان، وهما وإن كانتا ذواتَي أحكام مقررة إلَّا أنها غير كافية لحفظ حقوق الأمة؛ لأن نفوذها موقوف على إرادة الملك. المعنى الثاني الحرية السياسية: وهي تطلُّب الرعايا التداخل في السياسات الملكية والمباحثة فيما هو الأصلح للمملكة على نحو ما أشير إليه بقول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من رأى منكم فيَّ اعوجاجًا فليقومه؛ يعني انحرافًا في سياسته للأمة وسيرته معها. ولما كان إعطاء الحرية بهذا المعنى لسائر الأهالي مظنة لتشتيت الآراء وحصول الهرْج عدلَ عنه إلى كون الأهالي ينتخبون طائفة من أهل المعرفة والمروءة تُسمَّى عند الأوروباويين ﺑ «مجلس نواب العامة» وعندنا بأهل الحل والعقد، وإن لم يكونوا منتخبين من الأهالي، وذلك أن تغيير المنكر في شريعتنا من فروض الكفاية، وفرض الكفاية إذا قام به البعض سقط الطلب به عن الباقين، وإذا تعينت للقيام به جماعة صار فرض عين عليهم بالخصوص. ومجلس النواب المشار إليهم موجود في سائر الممالك الأوروباوية ما عدا المملكتين المتقدم ذكرهما، وله أن يتكلم بمحضر الوزراء وغيرهم من رجال الدولة بما يظهر له في سيرة الدولة من استحسان وضده وغير ذلك من المصالح العمومية كما يأتي:

وبقي وراء ذلك للعامة شيء آخر يسمى «حرية المطبعة»، وهو أن لا يُمنع أحد منهم أن يكتب ما يظهر له من المصالح في الكتب والجرنالات التي تطلع عليها العامة أو يعرض ذلك على الدولة والمجالس، ولو تضمن الاعتراض على سيرتها. وفي هذا المقدار افترقت الممالك الأوروباوية، فمنهم من ناله مع الأول فتمت له الحرية المطلقة، ومنهم من ناله بشروط معتبرة عند الملوك التي لم ترخص لرعاياها ما تيسر لغيرها إعطاؤه من الحقوق؛ وذلك أن أحوال الممالك متفاوتة بتفاوت مقاصد رعاياها، فمنهم من لا ينازع الملوك إلَّا لقصد الحصول على ما يسوِّغ لهم معارضة الدولة إن حادت عن سواء السبيل واستجلابها لما فيه صلاح المملكة، وحينئذٍ تَيسر للملوك إعطاءُ تمام الحرية لتوارد مقصد الراعي والرعية على المصلحة. ومنهم من يُظن به أن الباعث له على المناضلة فرط التعصب والحمية، حيث تفترق الرعايا أحزابًا كل حزب يروم السياسة التي يراها أصلح للمملكة في نظره، كأن يرى البعض أن تكون الدولة جمهورية والبعض يختار أن يكون الملك في عائلة غير التي يختارها الآخر، فينشأ عن ذلك ظن الدولة أن معارضة الأحزاب لها وإن كانت بحسب الظاهر لإلجائها إلى طرق المصلحة، لكن الغرض منها وراء ذلك. وبذلك الظن الناشئ عما ذُكر استباح الملوك الامتناعَ من إعطاء تمام الحرية الموصل لما أشير إليه.

هذا وإن من واجبات الممالك التي تنال الحرية ولو خصوص الشخصية أن يقابلوا تلك النعمة بإظهار آثارها واستجناء ثمارها بتعاطي المعارف وأنواع الصناعات الراجعة إلى الأصول الأربعة؛ الفلاحة والتجارة والأعمال البدنية والفكرية، وبهذه الأصول قوام السعادة الدنيوية المربية للهمة الإنسانية وكمال الحرية المؤسسة على العدل وحُسن نظام الجماعة، حتى يكون المحترف مثلًا آمنا من اغتصاب شيء من نتائج حرفته أو تعطيله في بعض أحوال خدمته، فما ينفع الناس كون أرضهم خصبة كريمة المنابت، إذا كان الباذر فيها لا يتحقق حصاد ما زرع ومن الذي يُقدِم حينئذٍ على ازدراعها، ولضعف أمل الناس في كثير من أراضي آسيا وأفريقية تجد أخصب مزارعها بورًا معطلة، ولا شك أن العدوان على الأموال يقطع الآمال، وبقدر انقطاع الآمال تنقطع الأعمال إلى أن يعم الاختلال المُفضي إلى الاضمحلال.

ومن أهم ما اجتناه الأورباويون من دوحة الحرية تسهيل المواصلة بالطرق الحديدية، وتعاضد الجمعيات المتجرية، والإقبال على تعلم الحِرف والصنائع، فبالطرق تستجلب نتائج البلدان القاصية قبل فوات إبَّان الانتفاع بها بعد أن كان جلبها متعذرًا لطروء الفساد عليها في الطريق أو لزيادة كرائها على أضعاف قيمتها، وبالجمعيات تتسع دوائر رءوس الأموال، فتأتي الأرباح على قدرها وتتداول على المال الأيدي المحسنة لتنميته، وبتعلُّم الحِرف تكتسب الأموال الذريعة عن غير رأس مال. وقد رأينا بالمشاهدة أن البلدان التي ارتقت إلى أعلى درجات العمران هي التي تأسست بها عروق الحرية والكونستيتوسيون المرادف للتنظيمات السياسية، فاجتنى أهلها ثمارها بصرف الهمم إلى مصالح دنياهم المشار إلى بعضها. ومن ثمرات الحرية تمام القدرة على الإدارة المتجرية، فإن الناس إذا فقدوا الأمان على أموالهم يُضطرون إلى إخفائها فيتعذر عليهم تحريكها. وبالجملة فالحرية إذا فُقدت من المملكة تنعدم منها الراحة والغنى ويستولي على أهلها الفقر والغلاء ويضعف إدراكهم وهمتهم كما يشهد بذلك العقل والتجربة.

وما أشرنا إليه من أن الشركات الجمعية من أسباب نمو النتائج المتجرية معقول مجرب، فإن قوة الاجتماع معهودة في سائر الأمور العادية وغيرها، وكلما تمكَّن حب الاشتراك من قلوب أهل المملكة يشاهَد نمو المكاسب فيها بالعيان، ولذلك كثرت الجمعيات بأوروبا في سائر المعاملات المدنية والمتجرية وغيرها، وتكاثرت الخدمات برًّا وبحرًا، وكثرت مجامع العلوم وجمعيات المحسنين للضعفاء والمساكين، وتكرر التعاون على استخراج المعادن واصطناع الخلج ومجاري المياه التي تصعد بها السفن إلى الجبال ثم تنزل، وطرق الحديد … إلى غير ذلك من المهمات التي لم تكن تحدث لولا وجود تلك الجمعيات، فمن الذي كان يقدر وحده على اصطناع طريق حديد أو يخاطر بجميع ماله على فرض قدرته في إحداث ما لم يتيسر لهم إلَّا باشتراك مائتي أو ثلاثمائة ألف نفس بخلاف مخاطرة الواحد منهم بنزر يسير من ماله، فإنها غير مجحفة ولا مستبعدة. ثم إن الجمعية إذا كانت كبيرة وكان فيها فائدة عمومية فإن الدولة قد تضمن لها ربحًا معلومًا في المائة وإدارة الجمعية تكون بيد أناس ينتخبون من أرباب الحصص لهم مزيد شهرة ومعرفة بإجراء قانون الشركة وحفظ فوائدها، وعند تمام السنة يقدمون حساب ذلك مع سائر متعلقات الإدارة، ويعيِّنون الفوائد لأرباب الحصص المشار إليهم.

ومن أعظم مآثر المشاركة شق خليج السويس وطريق الحديد الجامع بين طرفي البحر المحيط بأميركا، وثقب جبل ألب الكائن بين إيطاليا وفرنسا، وقطع جبل البريني بين فرنسا وإسبانيا لمرور طريق الحديد بهما وإحداث السرداب تحت وادي تامس بلندرة، وعقد الجمعية المسماة ﺑ «مسَّجْري أمبريال» التي لها من السفن الجليلة ما هو مُشاهَد في سائر البحور، ووضع سلك التلغراف تحت البحر المحيط من إنكلترة إلى أميركا، ونحو ذلك من الإعانات التي وجدها في المشاركة رجال الدول وأرباب الاختراع وحذَّاق المحترفين.

ومعلوم أن قوة المجموع أشد بكثير من قوى الجميع، والناس إذا تعاضدوا على شيء توصلوا إلى المقصود منه ولو كان من أصعب الأمور، وكفى حجة لذلك الحادثان الهائلان؛ وهما: بنك فرنسا المشهور ومستعمرات الإنكليز بالهند؛ فإن دولة إنكلترة تملَّكت بجمعية من تجارها تسمى كومبانية الهند مسافة ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف متر مربع، بها من السكان مائة وخمسة وثمانون مليون نفس. وأما بنك فرنسا فإنه كان في سنة ثمانمائة وألف رأس ماله ثلاثون مليون فرنك متجمعة من ثلاثين ألف سهم، وفي سنة ثمان وأربعين وثمانمائة وألف بلغ ما به من النقود واحدًا وتسعين مليون فرنك، وبلغت كواغدُه المالية الرائجة بين الناس وفي المعاملة رواج المسكوك مقدار اثنين وخمسين وأربعمائة مليون فرنك في أواخر سنة تسع وأربعين وثمانمائة وألف، رُخِّص من الدولة للبنك المذكور أن يزيد في كواغده الرائجة إلى أن تبلغ مقدار خمسة وعشرين وخمسمائة مليون فرنك، وفي سنة سبع وخمسين وثمانمائة وألف طلب البنك من الدولة تجديد المدة إلى تمام أربعين سنة مستقبلة، فأذنت له بشرط تضعيف ما به من النقود حتى يصير تقريبًا مائتي مليون فرنك، فضاعف ذلك وتممت له الدولة مطلوبه.

ثم إن من تصرفات البنك عندهم صرف كواغد الحوالات التي تكون مصححة بخط ثلاثة أشخاص يعرف مجموعهم بالملأ الذي يناسب المعاملة بذلك المبلغ الذي تضمنته وقبض ما كلف البنك بقبضه من الحوالات لأربابها بأجر معلوم، إلا إذا كانت في البلد الذي هو به، فإنه يفعل ذلك بلا عوض، وقبول ودائع الناس لمجرد حفظها، ومراسلة من يضع فيه مالًا وتتميم المحاسبة معه، وإقراض المال لمن يريده إذا دفع رهنًا ثقة غير الربع والعقار من كل ما يصير عينًا بسهولة كسهام طرق الحديد والكواغد التي تباع من اقتراض الدول والسبائك ونحوها، وإعطاء كواغد الحوالات على نوابه كما يحيل عليه النواب أيضًا، وله خمسة وخمسون نائبًا في بلدان متفرقة، وإذا أردت أن تعرف كيفية تدرجه إلى هذه الحالة الراهنة وكيف اتسعت دائرة المعاملات بأوروبا في هذه المدة الأخيرة منذ ثلاثين سنة، فاعلم أن البنك المذكور لم يكن به من الكواغد في سنة ثلاثين وثمانمائة وألف إلَّا مقدار ثلاثمائة وخمسين مليون فرنك، واليوم به من النقود ما تقدم آنفًا، وهو ما يقرب من مائتي مليون فرنك، ومن الكواغد الرائجة مع ما في الصندوق من الحوالات وغيرها مقدار ألف وستمائة مليون فرنك، هذا مع أن البنك كان في الزمن السابق مستقلًّا بمعاملة الناس، وأما الآن فقد زاحمه كثير من الجمعيات كجمعية معاملة الصناع والتجار والكريدي المعيَّنة لمعاملة أرباب الأراضي والكريدي المعينة لمعاملة أرباب المنقولات والجمعية العامة وصندوق الودائع، ونحوها من الجمعيات. وبالجملة فإذا قال قائل: إن الملايين التي كانت الناس تتعامل بها سابقًا صارت اليوم ألوف ملايين، فلا يكون قوله بعيدًا عن الصدق.

ومن أسباب تقدمهم العناية بمن اخترع شيئًا لم يُسبق إليه أو أجاد في عمل مفيد، فمن ذلك أنَّ بِتُخوت الممالك المشار إليها مواضع معتبرة تُعرض فيها نتائج المملكة من نباتات وحيوانات ومصنوعات مستغربة ونحوها بعد كل خمسة أعوام أو أقل أو أكثر بحسب مقتضى حال المملكة، وينعقد لذلك مجمع مركب من العارفين بحقائق الأشياء ليتأملوا فيها، فإن وجدوا شيئًا منها مستبدعًا أُعطي مخترعه قطعة من نحاس أو فضة أو ذهب تسمَّى «المِداليا» على شكل المسكوك مرسومًا في أحد وجهيها صورة الملك وفي الآخر مكان العرض وتاريخه، وقد يستحق متقِن صناعته نِشان الافتخار. فإن قيل: ما فائدة هاته القطع التي أعلاها قطعة ذهب وهي لا تفي ببذل الجهد والمكابدة في الاختراع؟ فالجواب: إن آخذ تلك القطع زيادة على الشهادة له بالكمال والتقدم فيما هو بصدده من الأعمال يتوصل بذلك إلى ما يؤمله من الرغبة في سلعته المثمرة لنمو مكاسبه؛ لأن سائر ما يقع في ذلك المجمع يطبع في صحف الأخبار ليشيع في الناس، وربما أُعطي المخترع مبلغًا من المال، وقد كان نابوليون الأول أصدر أمرًا بإعطاء مليون فرنك لمَن يُحدث آلة تغزل الكتان وحدها. ومن عناية ملوكهم بهذا المجمع أن الملك يحضره بنفسه مع رجال دولته حضورًا رسميًّا عند فتح المعرض وعند انتهائه، ويعلن للحاضرين بخطبة تتضمن مدح من أتى بشيء مستبدع لتتوفر الدواعي ويتنافس الناس فيما ينمي منافع الوطن. وإذا طلب أحد المخترعين من الدولة ولو خارج المعرض قبل إشهاره مخترَعه الرخصةَ في الاستبداد باصطناعه مدة لا يصطنعه غيره فيها إلَّا بإذن تُعطى له الرخصة في ذلك بشرط أن لا تتجاوز المدة خمسة عشرة سنة، وأن يدفع للدولة شيئًا معلومًا في مقابلة الاختصاص.

وأما المؤلفات فإنها تبقى مِلكًا لصاحبها مدة حياته ويختص بها ورثته بعد موته سبع سنين، وفي بعض الممالك ثلاثين سنة ثم يرتفع التحجير المشار إليه، ولولا هذا التخصيص ما انبعثت رغبات الناس إلى الاختراع والتأليف؛ لأن المخترع يلزمه ما لا يلزم المقتدي من اقتحام شاق الأعمال والمخاطرة بمصاريف التجريب وإضاعة غالب الأوقات في التدبير، فإذا لم يُعْطَ هذا الاختصاص كانت أعماله المذكورة بلا عِوض حيث شَرَكه غيره في فائدتها.

ومن وجوه الترغيب عندهم أن مَن اخترع أمرًا مهمًّا تُجعل صورته من رخام أو نحاس وتوضع في الأماكن المعدَّة لاجتماع الناس أو يسمَّى باسمه ما يتفق حدوثه في تلك المدة من قنطرة أو طريق جديد أو نحو ذلك؛ ليبقى بذلك ذكره. وحاصل سياستهم في هذا الشأن اعتبار ما حقه أن لا يُنسى بأي نوع يقتضيه حاله من وجوه الاعتبار، كما اعتبرت ذلك الدولة العليَّة عند تأسيسها سوقًا بدار الخلافة لعرض نتائج المملكة، وقد وقع العرض المذكور في سنة ثمانين ومائتين وألف هجرية. وفي سنة إحدى وخمسين وثمانمائة وألف وقع بإنكلترة للمعرض المشار إليه ترتيب عجيب، وهو أنهم أسسوا محلًّا في غاية الاتساع والضخامة وأعدوه لعرض نتائج الممالك من سائر المعمور، ثم وقع مثله في فرنسا سنة خمس وخمسين وثمانمائة وألف، ثم تكرر بإنكلترة، ثم أُعيد في فرنسا بمزيد اعتناء سنة سبع وستين وثمانمائة وألف، كل ذلك ليقتدي المتأخر بالمتقدم في الصناعات ونحوها، مع ما يحصل لتجار تلك المملكة من الأموال الغزيرة الناشئة عن معاملة ملايين من النفوس الأجانب الوافدين عليها لذلك، وإدارة هذه المجامع وتعيين المنازل لأرباب الصنائع والبضائع، وتعيين من يستحق الجزاء ونحو ذلك موكولة لنظر مجلس مرءوس بأمير من البيت الملكي إظهارًا لمزيد الاعتبار.

وقد آن أن نبين أصول تنظيماتهم السياسية التي هي أساس التمدن والثروة المشار إلى بعض آثارهما آنفًا، فنقول: اعلم أن الأمم الأوروباوية لما ثبت عندهم بالتجارب أن إطلاق أيدي الملوك ورجال دولهم بالتصرف في سياسة المملكة دون قيد مجلبة للظلم الناشئ عند خراب الممالك، حسبما تحققوا ذلك بالاطلاع على أسباب التقدم والتأخر في الأمم الماضية، جزموا بلزوم مشاركة أهل الحل والعقد الآتي بيانهم في كليات السياسة مع جعل المسئولية في إدارة المملكة على الوزراء المباشرين، وبلزوم تأسيس القوانين المتنوعة عندهم إلى نوعين؛ أحدهما: قوانين الحقوق المرعية بين الدولة والرعية، والثاني: قوانين حقوق الأهالي فيما بينهم. فمرجع الأول إلى معرفة ما لصاحب الدولة وما عليه، ويندرج تحته أمورٌ منها حرية العامة الكافلة بضمانة حقوقهم، ومنها تعيين أصول تصرفات الدولة جمهوريةً كانت أو وراثية، كتنفيذ القوانين الحكمية وإدارة السياسة الداخلية والخارجية كعمل الحرب وعقد شروط الصلح والتجارة وتعيين الوظائف ونصب المتوظفين من الوزراء وغيرهم، وتأخير من لم تكن وظيفته مؤبدة (وإنما عبرنا بالتأخير لأن عزل المتوظِّف عن الخطة التي أفنى أطيب عمره في خدمة المملكة لنيلها عزلًا يقتضي طرحه من خدمتها بالمرة لا يكون إلا بذنب يثبت لدى مجالس الحكم بمقتضى القوانين)، وكذا صرف المجابي لما عينت له، إلى غير ذلك من إدارة المملكة بما لا يخرج عن مقاصد قوانينها، كل ذلك من حقوق صاحب الدولة بإعانة وزرائه وتأسيس أصول هذا النوع يكون في دولة فرنسا بموافقة غالب رشداء أهل المملكة المتصرفين في حقوقهم الخصوصية والسياسية، وفي غيرها يزاد على الشرط المذكور إما العلم أو ملك عليه مبلغ محدود من الأداء أو الوجاهة المسماة عندهم ﺑ «النوبليس»، وموافقتهم إما بأنفسهم أو بواسطة وكلاء ينتخبونهم لذلك. والنوع الثاني القوانين المحررة لفصل نوازل السكان والتسوية بينهم في المجابي والمِنح بحسب المكاسب والاستحقاق، إلى غير ذلك من أحوالهم الداخلية، وتأسيس هذا النوع أو تبديله بما هو أليق بالحال يكون بموافقة المجلسين؛ أعني المجلس الأعلى المركَّب من أمراء العائلة الملكية وممن ينتخبه الملك من أعيان المملكة مؤبِّدًا وظيفته، ومجلس الوكلاء المركَّب ممن ينتخبهم الأهالي للمناضلة عن حقوقهم والاحتساب على الدولة، فأهل هذين المجلسين هم أهل الحل والعقد عندهم، فكل ما وافقوا عليه مما لا يخالف تلك الأصول اللازم فيها مشاركة العامة يصير من شرائع المملكة.

وأما مسئولية الوزراء فمعناها: أن يكونوا تحت احتساب مجلس الوكلاء مباشرة كما هو موجود في سائر الممالك الكونستيتوسيونية ما عدا الدولة الفرنساوية اليوم، فإن وزراءها مسئولون للملك وهو مسئول للمجلس. ومن آثار المسئولية المذكورة أن أمور الإدارة المتقدم أنها من حقوق صاحب الدولة يتوقف إنجازها على إجازة الوزراء، بحيث لا يبرِم أمرًا منها حتى يستشيرهم، وأنهم لا يمكنهم البقاء في الخدمة إلَّا إذا كان غالب أعضاء مجلس الوكلاء موافقًا في سياستهم، فعلم أن المجلسين المذكورين لا يتداخلان في تفاصيل الإدارة، وإنما دأبهما وضع القوانين وحفظها بالاحتساب على الدولة. ومن أعمالهما عند الاجتماع النظر وإعطاء الرأي فيما يعرض على كل منهما من النوازل المهمة الداخلية والخارجية، وسؤال الوزراء عما يظهر لهما متى شاءا، والقدح في سيرتهم خصوصًا مجلس الوكلاء، وعلى الوزراء الجواب عن جميع ذلك. وتقع المجادلة بالمجلس علنًا بين القادح والمدافع ليتضح الحال ويظهر المصيب من المخطئ. فإذا اتفق غالب مجلس الوكلاء على تصويب سياسة الوزراء بعد التأمل في أدلة القادح والمدافع؛ تيسَّر للوزراء البقاءُ في الخدمة، وتحصل حينئذٍ فائدة الدولة والمملكة، أما الدولة فبكون المجلس لا يتوقف بعد ذلك في أن يسوغ لها أخذ ما تقتضيه المصلحة من المال والرجال؛ لأن من وافق على المصلحة وعلى حسن سيرة مباشرها لا يمتنع من إعطاء ما يلزم لإنجازها، وأما فائدة المملكة فبثبوت استقامة سيرة المباشرين لمصالحها، فيهون عليها صرف أموالها ودماءُ أبنائها حيث كان فيما يعود بالنفع عليها، وبمثل هذا يستقيم حال الدولة والمملكة، ولو كان الملك أسير الشهوات أو ضعيف الرأي كما تقدم. وأما إذا اتفق غالب المجلس على عدم استحسان سياسة الوزراء فيجب على الملك عند ذلك أحد أمرين؛ إما تبديل الوزراء المشار إليهم أو حل مجلس الوكلاء، على أن يعيد الأهالي الانتخاب في مدة معلومة، فإذا انتخبوا من يكون أشهر باللين والمساعدة للدولة دلَّ ذلك على رضاهم بسياستها، فيبقى الوزراء على خططهم، وأما إذا انتخبوا الأولين أو من يكون مثلهم في الشدة فيستدل بذلك على عدم رضاهم بها، ويجب حينئذٍ خروج الوزراء من الخدمة، وتعويضهم بمَن سياسته ترضي المجلس. وللمجلس المذكور أن يدَّعي الخيانة على أحد الوزراء أو مجموعهم إذا رأى أدلة ذلك، وتكون نازلة تفصل بالمجلس الأعلى. وظاهر أن الوزراء المشار إليهم كما تشدد عليهم القوانين المسئولية عن تصرفاتهم تمنع التعدي عليهم في النفس والعرض والمال، فيتيسر للنجيب الأمين منهم إجراء الأمور على مواقع المصلحة والفوز بما يستعقبه ذلك من جميل الثناء، ولمن اتصف بالأمانة دون النجابة الخروج بالسلامة لا له ولا عليه. وبما تقدم يُعلم أن سلطة المجلسين تتحد تارة وتفترق أخرى؛ إذ لكل منهما أعمال تخصه وأعمال يشارك فيها الآخر.

غير أن المعتبر في تأسيس القوانين، سيما المتعلقة بالمجابي والقوة العسكرية وفي الاحتساب على الدولة واستحسان سياسة الوزراء، وضده اللذين ينبني عليهما خروجهم أو بقاؤهم في الخطة؛ هو ما يتفق عليه غالب مجلس الوكلاء حسبما أشير إليه قريبًا، كما أن إجراء القوانين المذكورة يتوقف على موافقة المجلس الأعلى على كونها غير مخالفة لأصول الكونستيتوسيون.

قلت: فبتقرير ما ذُكر يُعلم أيضًا أن صاحب الدولة عندهم مضطر إلى موافقة إرادة المجلس التي هي في الحقيقة إرادة أهل المملكة، ولا يخفى ما يتبادر فيه من التشديدات التي تأباها نفوس غير المنصفين من الأمراء والوزراء، لكن من بخت الأمم الأوروباوية ونجاح مساعيها الدنيوية أن عَرَف ملوكها ووزراؤها ما ينشأ عن ذلك من الفوائد الجمة التي منها كَفُّ أيدي المأمورين عن التعدي على الرعية، ومنها سهولة اعتبار المكاسب في توزيع الأداء على الأهالي بحيث لا يُنقص من رءوس أموالهم؛ إذ لا يتم مع ذلك نمو العمران، ومنها أن الرعايا إذا وافق وكلاؤها على أصل المصلحة فإنها لا تشح بإعطاء ما يلزم لإنجازها كما تقدم، ومنها أن المفسد لا يجد مساغًا للقدح في تصرفات الدولة بقصد التنفير منها وتغيير القلوب عليها، ومنها أن الوالي المستبد ولو كان عادلًا لا يمكنه الاطلاع على أحوال مملكته إلَّا بواسطة الوزراء وغيرهم من المتوظفين، الذين أثبتت التجارب أن أكثرهم لا يعرفون الولاة إلَّا بما تقتضيه فوائدهم فيتوصلون بالنصائح العمومية إلى أغراضهم الشخصية، خصوصًا مَن يشير منهم على الملوك بالاستبداد لما له في ذلك من المعونة على حصول استبداده هو أيضًا في مأموريته. على أنه يمكن لنا أن نقول: إن المأمورين في دولة الاستبداد كل واحد منهم مستبد على قدر حال مأموريته. فلهذه الفوائد ونحوها تجشم الملوك والوزراء ما في التقييد في مبدأ الأمر من المرارة نظرًا لما يستعقبه من لذة السطوة والحضارة، وقد صح حدسهم في ذلك بما لم نزل نشاهده من تقدمهم في العلوم والصناعات واستخراج كنوز الأرض بالزراعة والبحث عن المعادن، وحصولهم من أمثال هذه المذكورات الناتجة من اتحاد الراعي والرعية على ما قوَّى حاميتهم في البر والبحر، حتى هابتهم الأمم واستولَوا على ممالك كثيرة خارجة عن قسم أوروبا، ونالوا من نفوذ الكلمة في غير ممالكهم ما هو مشاهد، وصاروا في التصرفات الدنيوية قدوة لغيرهم، وما ذاك إلَّا بإجراء القوانين السياسية التي مدارها على ما تقتضيه الحرية المشروحة سابقًا من حفظ حقوق الإنسان في نفسه وعرضه وماله، والاتحاد في جلب المصالح ودرء المفاسد بمراعاة العادات والأمكنة والأزمنة التي تعتبر شريعتنا اختلاف أحكامها اعتبارًا كليًّا. ولتلك القوانين في الممالك الأوروباوية من الاحترام واستمرار النفوذ برعاية أهل الحل والعقد ما يحمي حقوق الرعية وحريتها، ويؤمن الضعيف من بطش القوي ويدفع عن المظلوم سلطة الظالم، مثل ما كان لأمة الفرس التي طال ملكها ودام حديث عدلها إلى الآن، وشهد لبعض ملوكها بالعدل سيدنا الصادق ، ومثل ما كان لأمة الرومان التي استولت على غالب جهات المعمور، حتى كان يقال لها في ذلك الوقت كرسي ممالك الأرض، ومثل ما كان لأمة اليونان التي لما استولى العدو على بعض بلدانهم ولزمهم الخروج منها سألوا حكيمًا لهم: أين تصلح السكنى؟ فقال لهم: في بلد تكون الشريعة فيه أقوى من السلطان … إلى غير ذلك من الأمم التي ما بلغت غاية الاستقامة إلَّا باحترام قوانين أحكامها المؤسسة على العدل السياسي، كما أن عدم احترامها كان منشأ رجوعهم القهقرى، ولا يتوهم أن ذلك بسبب بركة في شرائع الأمم المذكورة؛ إذ الواقع أنها قوانين عقلية مبنية على مراعاة الوازع الدنيوي، فإذا انضم إلى ذلك وجود البركة والحرمة الإلهية كما هو حال شريعتنا المطهرة كانت المخالفة مع ما تستعقبه من النكال الأخروي أجلبَ للانحطاط الدنيوي، ومَن تتبع تواريخ الأمم المشار إليها وتواريخ الأمة الإسلامية رأى ذلك عيانًا.

هذا، وإن الضرورة قد تدعو إلى تفويض إدارة المملكة لشخص واحد مستبد، لكن لغاية محدودة وبشروط عندهم معهودة، وذلك أن من أصول السياسة المأثورة عن الأمة الرومانية أن المملكة إذا اشتد الخطر عليها إما بكثرة الإفساد الداخلي أو بظهور مخائل التغلب عليها من الخارج، وصعب حسم مواد ذلك بالأعمال القانونية لمكان تعدد الأنظار المتساوية، وما عسى يقتضي الترجيح بينها من طول المفاوضة المفضي إلى عدم قمع المفسدين ومدافعة المتسلط الأجنبي، أو إلى تأخير ذلك عن وقت الحاجة، فعند ذلك يطلب مجلس السناتو من أحد رئيسَي الدولة الجمهورية أن يختار من أعيان رجال المملكة من يسميه باسم «دِكْتَتُوراي مطلق التصرف»، تفوَّض إليه إدارة المملكة بما يظهر له بمقتضى اجتهاده، كعمل الحرب والصلح ونفي أو قتل من يراه من أهل الفساد والخيانة أو عقابه بأخذ المال أو غير ذلك مما يقتضيه الحال. ولا يتوقف نفوذ حكمه على موافقة أحد إلَّا في أمر المجابي، فإن أعماله فيها موقوفة على موافقة مجلس السناتو وكل مَن له مأمورية عسكرية أو سياسية فهو ملزم بتنفيذ أوامره، وكذلك سائر الأهالي. ولا يتجاوز التفويض المذكور ستة أشهر ولو كان السبب باقيًا إلَّا بتفويض جديد، كما أنه إذا ارتفع السبب قبل انتهاء المدة فإن التفويض ينتهي وترجع الإدارة إلى قوانينها. وعند خروج المفوض له تتوجه إليه المسئولية اللازمة لكل من يخرج من خطة معتبرة عندهم، فيطلب منه بيان السبب الداعي إلى ما تصرف به من قتل وحرب وصلح وأخذ مال ونحو ذلك بمحضر أهل رومية المجتمعين لذلك، فإن صوبوا تعليله استوجب شكرهم وثناءهم على سيرته في موكب مخصوص، وإن كانت الأخرى يحكم عليه بما يناسب سوء تصرفه، وأكثر ما يكون ذلك بالنفي من التخت أو أداء المال.

ثم إن الأوروباويين صاروا في المدة الأخيرة يطلقون اسم «الدِّكْتَتُور» على كل والٍ مطلق التصرف، سواء كان محدودًا بمدة أم لا، كالجنرال كرونول بإنكلترة ونابوليون الأول بفرنسا وغيرهما ممن كان استبداده من آثار حيرة تثور بالمملكة يشتهر فيها المشار إليه بمزيد الدراية والحزم، فينصب نفسه منصب الدكتتور وتتعرف به العامة بقصد إخماد الحيرة وتخليص المملكة من مواقع الخطر واستصلاح حالها بتهذيب جفاة الأهالي وتقويم اعوجاجهم، لكنهم لا يحصلون غالبًا على هذا المقصود، بل يتوصل المنتصب بذلك إلى اغتنام الفرصة لاستمرار استبداده، إما لاستمرار أسباب الحيرة وضعفه عن إزالتها، وإما لكون المنتصب أزالها بحسن تدبير وقع من الأهالي موقع الإعجاب حتى اكتسب بذلك مزيد احترام عندهم أسس عليه سلطته وإيثار نفوذ إرادته على إجراء قوانين المملكة، مرجحًا بذلك حظ نفسه على المصالح العامة. لكن ذلك مع ما يفضي إليه من المضار الاستبدادية لا ينكر أن المصير إليه واجب عند قيام سببه لاستبقاء راحة المملكة كما يشير إليه قول الحكيم مونتسكيو الفرنساوي: «إنا بمقتضى ما نسمعه من أعمال الأمم التي كانت حاصلة على الحرية التامة نرى أن الحال قد يقتضي إرخاء الستر على الحرية إرخاءً وقتيًّا.» قلت: وحيث كان التفويض المشار إليه إنما ساغ للضرورة، وما أبيح للضرورة يتقدر بقدرها، فلا جرم يجب الرجوع إلى كشف حجب الحرية بعد زوال السبب، هذا وقد قررنا في هذه المقدمة من الأدلة الناهضة الواضحة على ما في التصرفات السياسية المضبوطة بالتنظيمات من المصالح العامة والخاصة التي يشهد العيان بتأثرها الناجحة في الممالك، وما في التصرفات السياسية الغير المضبوطة بها من المضار الفادحة ما تقر به عين النصوح المحب لخير الوطن، وإني لا أزال أقول: إن ترتيب التنظيمات المشار إليها من لوازم وقتنا هذا، كما أقول صدعًا بالحق: إن كل متوظف لا يرى الاحتساب عليه في وظيفته فهو عديم الأمانة والنصيحة لدولته ووطنه، ولو كان معتمدًا في ذلك على ما قد يجده في نفسه من حب الإنصاف؛ لأنه تسبب فيما يستعقب الخراب بامتناعه من المراقبة والاحتساب، حيث إن أكثر المتوظفين إنما يباشر خطته على مقتضى شهواته ومصالحه الخصوصية مُؤْثِرًا لها على المصالح الوطنية العمومية، فهب أنه كان مجبولًا على حب الإنصاف فإن غيره لا يفعل مثله إلا بمراقبة الاحتساب؛ ولأنه لو كان منصفًا في الواقع ما ضره الاحتساب حتى يمتنع منه، بل اللائق بحاله مزيد الحث عليه؛ إذ به تظهر براءته ظهورًا لا يحصل بدون ذلك. وفيما أودعناه في غضون هاته المقدمة للمستبصرين كفاية، والتوفيق بيد الله المحمود في كل بداءة ونهاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤