الفصل الحادي عشر

تطور التباين

figure
شكل ١١-١: «الحافلة ٢١أ» (جزء من مجموعة صور ليك ستريت بالولايات الأمريكية، ١٩٩٧–٢٠٠٠) (بتصريحٍ من وينج يانج هوي).

إن دراساتنا على التنوع الجيني تُكسبنا فهمًا أكبر لمدى التشابه بيننا جميعًا في تبايُننا المذهل؛ فالتباين الذي يجعل كل واحد منا متفرِّدًا على المستوى الجيني يمثل جزءًا من ١٪ من الأشياء التي تجعلنا جميعًا متشابهين.

كينيث كيد، عالم وراثة، جامعة ييل: معرض العِرق، متحف مينيسوتا للعلوم

(١) تاريخ من التنقل والامتزاج

إن التبايُن الجيني البشري هو نتاج تاريخٍ طويل من الهجرة، من التزاوج عبر الحدود، من القرصنة، من اتخاذ العبيد … من مزج الأشياء معًا، مخلِّفين وراءنا بعض التبايُن.

ريتشارد ليونتين، عالم البيولوجيا التطوُّرية والوراثة، جامعة هارفرد: معرض العرق، متحف مينيسوتا للعلوم

تتلاشى الفواصل الحادة للاختلاف الجسدي التي يفترضها العرق ضمنًا عند دراستها وفحصها عن كثب. لا شك أن الأشخاص المُنتمين لنقطتَين بعيدتَين على الأرض يَميلون إلى الاختلاف في الشكل. ولكن بالنسبة إلى مُسافرٍ يسير بين هاتين النقطتَين، فإن الأشخاص الذين يُقابلهم عند أيِّ نقطة على طول الطريق سوف يَبدون مُتشابهَين إلى حدٍّ كبير مع أولئك المُجاورين. إن للون بشرة الإنسان مليون درجة — ليس أربعًا أو خمسًا — ولا يوجد حدٌّ جغرافي يفصل ذوي الشَّعر الأملس عن ذوي الشعر المجعَّد. إن السمات التي تجعل الناس في جزء من العالم يَبدون مختلفين عن أولئك في جزءٍ آخر تَمتزج وتختلط بطرق تتحدى التصنيف السهل. والأنماط المعقَّدة للتباين البشري إنما تَعكس تاريخًا من التنقل والامتزاج البشري مُستمر منذ ظهورنا في أفريقيا قبل مئات الآلاف من السنين. واقتصر دور التاريخ الحديث على تسريع، وليس بدء، نمطٍ طويل من التنقُّل والامتزاج، وهو النمط الذي بدأ بجماعات من الصيادين وجامعي الثمار والبدو الرُّحَّل قبل آلاف السنين، وتسارعت وتيرته عبر السفر بالقوارب وحركات التنقل الجماعي الحديثة للأفراد بالطائرة.

figure
شكل ١١-٢: تمثِّل أحجار الدومينو استعارةً بصرية لانتشار التباين الجيني. لا يوجد أي ارتباط بين حجر الدومينو الأول والأخير. ومع ذلك ترتبط حركة الحجر الأول بحركة الحجر الذي يليه وهكذا على امتداد الخط. بنفس الوتيرة، يمكن للألائل الانتشار من خلال التزاوج (بتصريحٍ من شركة سيتيز بست ماركتينج، www.c-b-m.com).

(٢) تطور التباين البشري

يَبلغ التباين ذروته حيثما تطول حياة البشر لأقصى مدًى. وقد عاش الناس في أفريقيا فترةً أطول بكثير من أي مكانٍ آخر؛ إذ يُقدِّر علماء الأنثروبولوجيا التطورية مثل كين كيد (الوارد ذكرُه في هذا الفصل) أن السلالة البشرية قد نشأت في أفريقيا منذ فترة تتراوَح ما بين ١٥٠ ألف إلى ٢٠٠ ألف عام. وقد أتاحت هذه الفترة للسكان في أفريقيا مراكمة المزيد من الطفرات، أو التغيرات الجينية الصغيرة التي تُعدُّ المصدر لتبايُنِنا الجيني. ونظرًا لأن جزءًا فقط من السكان الأفارقة قد انتقلوا خارج أفريقيا للشروع في استعمار العالم، فلم يَنتقِل معهم سوى جزء من التبايُن الجيني. ولهذا السبب، يُمثِّل مُعظم التباين الجيني لدى الناس الذين يعيشون خارج أفريقيا شعبة لذلك التبايُن الذي يوجد بين الأفارقة، وحتى اليوم يظلُّ جزء أكبر من التباين في أفريقيا.

منذ ما يزيد قليلًا على عقد، وغالبية البيانات الجينية حول العلاقات بين المجموعات السكانية البشرية تتألَّف من المجموعات الفردانية للدنا الميتوكوندري (أو المتقدر)، مع البدء بالمجموعات الفردانية لكروموسوم Y (الأجزاء غير المؤتلفة للكروموسوم Y). ونظرًا لظهور طفراتٍ جديدة على تلك الجزيئات غير المؤتلفة مع تمدُّد المجموعات السكانية البشرية، طُوِّرت خرائط أنماط «الهجرة». كان من الصعوبات المتعلقة بتفسير تلك الخرائط بما تحويه من أنماط ومسارات أعرض للتمدد البشري أن كلًّا منها كانت تُمثِّل جينًا واحدًا فقط له نمط وراثة خاصٌّ بنوعٍ اجتماعيٍّ واحد دون الآخر. على سبيل المثال، زوجة لزعيمٍ قوي جاءت من منطقة/مجموعة سكانية أبعد ربما يكون لها تأثير على تجميعة جينات السكان من خلال أبنائها الذين سيَرِثون السلطة (اللياقة التناسلية) عن أبيهم. غير أن الدنا الميتوكوندري سوف يكون ناقص التمثيل بالمقارنة بالدنا النووي الخاص بها. في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن العشرين، عكفنا وآخرين على تجميع بيانات عن تعدُّد أشكال الصبغي الجسدي في أماكنَ ذاتِ معدَّلات طفراتٍ منخفضة، تعدُّد أشكال النيوكليوتايد المفرد، وكنا بصدد البدء في اكتشاف أن كل تعدُّد أشكالٍّ مستقلٍّ قد أظهر نمطًا مختلفًا من تواتر الألائل حول العالم. كانت بعض الأنماط متشابهة للغاية، ولكن البعض الآخر كان غاية في الاختلاف. وأظهرت البيانات الأولية التي تمَّ تجميعها أن معظم تعدُّدات الأشكال (تعددات أشكال النيوكليوتايد المفرد SNPs التي أطلق عليها عمومًا بعد ذلك تعددات أشكال أطوال أجزاء الحصر RELPs) التي رصدت لدى أشخاص من أصل أوروبي قد ظهرت عبر جميع أنحاء العالم. ولكن مع دراسة المزيد من الأفراد ذوي الأصول الأفريقية، صار واضحًا أن تعدُّدات الأشكال ذات التغاير المُرتفع للزيجوت تواجدت لدى السكان الأفارقة، ولكن ليس لدى أيٍّ من المجموعات السكانية غير الأفريقية. في الوقت ذاته، مع دراسة المزيد من الأنماط الفردانية (وهي عبارة عن توليفات من الألائل تقع على تعددات أشكالٍ متجاورة جزيئيًّا)، وُجدت توليفات أكثر لدى السكان الأفارقة مقارنةً بالسكان غير الأفارقة، وأن السكان غير الأفارقة لديهم مجموعةٌ فرعية من تلك التوليفات الموجودة في أفريقيا. وهكذا تَشترك معظم الأنماط الفردانية مع الدنا الميتوكوندري والدنا الخاص بكروموسوم Y؛ مما يؤدي إلى انخفاضٍ كبير للتباين خارج أفريقيا مقارنةً بما تبقى (ولا يزال موجودًا) في أفريقيا. وكل هذه البيانات أسفرت عن قبول جميع الباحثين تقريبًا لنموذج «الخروج الحديث من أفريقيا».
تؤيد البيانات المجمَّعة المتعلقة بجميع الواسمات الوراثية بشدة الفقدان الكبير للتباين المُرتبِط بالتوسع خارج أفريقيا. وهذا هو الجانب الأوضح والذي أنهى نظرية التطور المستقلِّ للإنسان العاقل الحديث في أفريقيا، وأوروبا، وشرق آسيا والتي قامت على أساس بضعة تشابهات مورفولوجية للمجموعات السكانية الحديثة مع البقايا الأثرية لحفريات ما قبل «الإنسان العاقل الحديث» في نفس المنطقة. وقد صار مقبولًا الآن أن السكان الذين انتَشروا خارج أفريقيا صاروا المؤسسين لكل المجموعات السكانية البشرية غير الأفريقية. وبعيدًا عن هذه النقطة، يوجد قدرٌ محدودٌ نسبيًّا من اليقين فيما يتعلق بالمسارات الدقيقة للتوسُّع والزمن الدقيق الذي احتلت فيه مختلف مناطق العالم في البداية. فغالبًا ما يُجسد التمثيل الخاص للهجرة البشرية من أفريقيا والانتشار اللاحق حول العالم كسلسلة من الأسهم بقدر من الدقة الضمنية قد يزيد أو ينقص، ولكن غالبًا ما يُشار إليها كمسارات للهجرة. والأدق أن نشير إليها في إطار مسارات التوسع، على الأقل فيما يتعلق بالسكان الأصليين للعالم. وقد طُوِّرت نماذج معقَّدة للغاية لتوضيح أن الانحراف الوراثي يتراكم عبر مسارات التوسع، وأن هذا التراكم يتعلق بالمراكز الصبغية الجسدية وكذلك بالدنا الميتوكوندري مع وجود طفراتٍ متراكمة عبر مسار التوسع. وسوف يُسفر الانحراف الوراثي عن فقدان بعض التباين، ولكن سوف يسفر أيضًا عن وصول تبايناتٍ جديدة (مثل طفرةٍ جديدة في الدنا الميتوكوندري، أو الأجزاء غير المؤتلفة للكروموسوم Y، أو الجينات الصبغية الجسدية) إلى مُستوًى مرتفعٍ من التواتُر. وفيما يظهر كلٌّ من الدنا الميتوكوندري والأجزاء غير المؤتلفة للكروموسوم Y، منفردًا، نمطًا فرديًّا كما أشرنا سابقًا، فقد أظهرت كل متعددة أشكال صبغية للنيكليوتيد المفرد نمطًا مختلفًا حول العالم.

الأمر الواضح هو أن البشر المعاصرين انتشروا خارج أفريقيا خلال المائة ألف عام الأخيرة. وبعض التقديرات الزمنية حدَّدت وقوع هذا الانتشار من جنوب غرب آسيا منذ ٥٠ ألف عام، ويوجد العديد من التقديرات الأخرى تعود إلى ٩٠ ألف عام مضت. وهذه التقديرات المختلفة تقوم على مجموعاتٍ مختلفة من البيانات ونماذج ساعة جزيئية وإجراءات تقدير مختلفة؛ إذ يوجد ندرة في الأدلة الأثرية الدامغة المدعومة بالبيانات الجيدة التي تدعم الزمن.

وقد أظهرت نتائج ذات صلة من مُختبَراتنا أن السكان في شمال شرق أفريقيا كانوا يشتركون في قدرٍ أكبر بكثير من التشابه مع غير الأفارقة أكثر من السكان القادمين من غرب ووسط أفريقيا. ومن تفسيرات ذلك تدفُّق الجينات الحديثة نسبيًّا من السكان غير الأفارقة إلى شمال شرق أفريقيا. وعلى العكس، بدا منطقيًّا الاعتقادُ بأن السكان من شمال شرق أفريقيا هم الذين انتشروا خارج أفريقيا. فلم تكن مجموعةٌ سكانية من غرب أفريقيا أو جنوبها لتُهاجر عبر الأجزاء المتوسطة المأهولة بالفعل من أفريقيا من أجل تأسيس مجموعاتٍ سُكانية غير أفريقية. كذلك كنا نجد أن التغييرات في تواتُرات الألائل تُظهر نمطًا من التغيُّر المستمر عبر المناطق الجغرافية خارج أفريقيا. والتمثيلات النقطية في شكل ١١-۳، هي محاولة للتعبير عن التعقيدات التي كنا نجدها في البيانات الصبغية الجسدية بطريقةٍ واضحة وبسيطة.

شكل ١١-۳: رؤيةٌ نقطية للتطور والتباين البشري قائمة على عمل كينيث كيد (بتصريح من شركة إس تو إن ميديا).

إن أي نوع مُنتشِر على نطاقٍ واسع سوف يكون له بعض التبايُن الجيني عبر نطاقه مع ملاحظة نزوع السكان الأبعد والأكثر تهميشًا إلى مزيد من الاختلافات. وعلى ذلك يتوقَّع المرء أن يكون لدى السكان على أطراف أفريقيا اختلافات في تواتُر الألائل؛ إذ تكون الألائل في بعض المَواضع في أعلى معدَّلات التواتُر في غرب أفريقيا، فيما ستكون الألائل في مواضعَ أخرى عند أعلى معدَّلات التواتر في جنوب أفريقيا … إلخ. وهكذا فمنذ حوالي ١٠٠ عام كان هناك قدرٌ كبير من التباين الجيني داخل وعبر أفريقيا، والذي يُمثَّل على نحوٍ تجريدي في شكل ١١-۳أ بالنقاط المتعدِّدة. لاحظ أن النقاط الفردية لا تمثل فردًا أو مجموعة من السكان بالذات؛ بل إن تنوع الألوان في منطقةٍ ما يُمثِّل قدر التباين الجيني في تلك المنطقة وطبيعته. والاختلافات البسيطة في عدد الألوان في أيِّ منطقة تُمثِّل هذا التباين الجغرافي.

منذ ما يقرب من ١٠٠ ألف عام، وربما بعد ذلك، غادر بعض الأفارقة أفريقيا متجهين إلى جنوب غرب آسيا، كما هو موضَّح في شكل ١١-۳ب. وحملوا معهم ألائل كانت الأكثر شيوعًا بالفعل في شمال شرق أفريقيا. وتُشير الأدلة إلى أنهم كانوا عددًا قليلًا نوعًا ما من الأفراد و/أو أن المجموعة السكانية الجديدة في جنوب غرب آسيا ظلَّت محدودة العدد لزمنٍ طويل قبل التوسع والانتشار داخل بقية أوراسيا. ونتيجةً لذلك، حدث فقدٌ كبير للتباين الذي لا يزال موجودًا في شرق أفريقيا. ومنذ ما لا يزيد على ٤٠ ألف عام، توسَّعت هذه المجموعة السكانية المؤسسة الوحيدة لتشغل الأجزاء الصالحة للسُّكنى من أوراسيا. ويوضِّح شكل ١١-۳ﺟ أن هذا التوسع قد أسفر عن فقدانٍ بسيط للتباين في أوراسيا الشرقية بالنسبة إلى أوراسيا الغربية. ومنذ حوالي ٢٠ ألف عام، هاجَرت مجموعةٌ سكانية من آسيا الوسطى على جسر بيرنجيا الأرضي ومنه إلى بقية أمريكا الشمالية والجنوبية، صاحبه قدرٌ إضافي من الانحراف الوراثي؛ ما أدى إلى تكوين هويةٍ جينيةٍ فريدة نوعًا ما للأمريكيين الأصليين.

ومن العوامل المُعقِّدة لإعادة الهيكلة الكاملة لإعمار العالم (بما فيه أفريقيا) موجات الهجرة اللاحقة للشعوب والتي تنتج عن ظواهرَ مناخيةٍ وجيولوجية. نحن لا نعرف ما إذا كان البشر قد وصَلوا بالفعل إلى جنوب شرق آسيا منذ ٧٥ ألف عام، ولكن من الواضح تمامًا أن ثوران بركان بحيرة توبا الهائل كان من شأنه أن يُخلِّف أثرًا مهلكًا على الجماعات السكانية من الهند مرورًا بجنوب الصين، والفلبين، وأجزاء مما يُعرَف اليوم بالأرخبيل الإندونيسي. (هل ساعد هذا على إبقاء إنسان فلوريس (أو الإنسان القزم) معزولًا؟) لقد كان من شأن الرماد والكبريت في الغلاف الجوي العلوي، واللذَين نتَجا عن ذلك الثوران، أن يُؤدِّيا إلى حدوثِ تبريدٍ عالَمي لعدة سنوات على الأقل؟ وهذا التبريد لسائر أجزاء الأرض كان من شأنه التأثير على الحياة النباتية والحيوانية في كل مكان؟ وربما كان ليُحدَّ من إحجام السكان من البشر؛ مما يُعزِّز من آثار الانحراف الوراثي وربما يكون قد أسفر عن تأثير الانتخاب على بعض الألائل في بعض الجينات. كان من الأحداث الكبرى الأخرى تقدُّم وتراجع الأنهار الجليدية خلال المائة ألف عام الماضية. فمع الزيادة في معدَّلات التجلد، انخفضَت مُستويات البحر. فكان الجزء الأكبر من إندونيسيا التي نعرفها اليوم من شأنه أن يكون كتلةً يابسةً واحدة منذ ٢٠ ألف عام. وهكذا أدى انسحاب السكان من الشمال نظرًا لتقدُّم الأنهار الجليدية ثم إعادة التوسع اللاحقة في تلك المناطق في عهدٍ أقربَ كثيرًا، كل ذلك يعمل على تعقيد الصورة الحديثة. على الرغم من ذلك، تُقدِّم الرسومات التوضيحية النقطية التي وُضعت منذ ما يزيد على عقد نظرةً عامةً واضحة للتبايُن البشري الحديث حتى موجات الهجرة الواسعة خلال الحقب التاريخية.

ويُمثِّل شكل ١١-۳أ، بشكلٍ مجرَّدٍ وأسلوبيٍّ للغاية، التباين الجيني الذي تراكم بالفعل لدى البشَر المُعاصرين على المستوى التشريحي في أفريقيا في حوالي ٢٠٠ ألف عام؛ ويُمثَّل هذا التباين الجيني بالنقاط الملوَّنة المختلفة. لاحظ أن الألوان غير موزَّعة بالتساوي عبر القارة كما هو متوقَّع من عزلة وانفصال مفروضَين بموجب نموذج التباعد. فثمة المزيد من اللون «الأحمر» في الجنوب من أفريقيا؛ فيما يوجد المزيد من اللون «الأزرق» و«الأصفر» في شمال شرق أفريقيا.

منذ حوالي ١٠٠ ألف عام، هاجرت بعض الشعوب من شمال شرق أفريقيا إلى جنوب غرب آسيا كما هو موضَّح في شكل ١١-۳أ. ولما كان مَن هاجروا نشئوا من الجماعات التي تسكن شمال شرق أفريقيا، فقد كانوا بمنزلة عيِّنة من هذه التجميعة الجينية المنحرفة جزئيًّا بالفعل، وهذا «الخطأ في الاستعيان» أبرز فقدان التبايُن. ولم يُمثَّل سوى جزءٍ بسيط من التبايُن الجيني في أفريقيا ككل في تلك الجماعة السكانية «غير الأفريقية» الأولى. وتلك الجماعة السكانية في جنوب غرب آسيا هي التي تزايَدت في الأعداد بعد ذلك وانتشرت جغرافيًّا لتحتلَّ كامل منطقة أوراسيا وميلانيزيا الأسترالية قبل حوالي ٥٥ ألف عام، كما هو موضَّح في شكل ١١-۳ﺟ. ولم يكن يوجد ما يكفي من الوقت لظهور قَدرٍ كبير من التباين الجيني الجديد داخل الجماعات السكانية التي وصلت في نهاية المطاف إلى شرق آسيا. على الجانب الآخر، فُقد بعضٌ من التبايُن الذي تراكم في جنوب غرب آسيا.

منذ فترة أحدث من ٤٠ ألف عام، هاجرَت بعضُ الجماعات من سيبيريا والساحل الشرقي لآسيا إلى الأمريكتين وتوسعوا ليحتلُّوا كلًّا من أمريكا الشمالية والجنوبية. وفي أثناء ذلك الاستعمار فُقد قدرٌ إضافي من التبايُن، ولكن كان التأثير أقل من أن يكون مرتبطًا بالهجرة من أفريقيا.

(٤) الامتزاج والتنقُّل

لقد خرجنا من أفريقيا ولم نتوقَّف قط عن التنقُّل والامتزاج. فلم يكن هناك جبلٌ عالٍ بما يكفي لصدِّنا.

معرض العرق، متحف مينيسوتا للعلوم
figure
شكل ١١-٤: المسار الرئيس للهجرة الجينية (بتصريح من متحف مينيسوتا للعلوم، روجر بوم).

على الرغم من أن كين كيد كان يقول إن مسارات الهجرة البشرية ليست محددة كما هي في شكل ١١-٤، فإن الخريطة تَمنحنا إدراكًا للأنماط الرئيسة المتنوِّعة للهجرة البشرية. ربما يُعاد بناء هذه الأنماط بناءً على التبايُن الجيني وتؤيد بالأدلة الأثرية. ونحن نميل إلى اعتبار أمريكا الشمالية قبل الاحتكاك الأوروبي أرضًا مستقلة نسبيًّا مؤلفة من جماعاتٍ صغيرة ومنعزلة نسبيًّا، مثل هنود الشمال الشرقي، وهنود السهول، وهنود الجنوب الغربي، الذين ربما يكونون قد مارَسوا التبادل التجاري معًا على مستوًى محلي (على الرغم من الأشياء التي وُجدت في ديكسون ماوندز بمنطقة المسيسيبي الوسطى، بولاية إلينوي، وهي قريةٌ صغيرةٌ فقيرة كانت مأهولة منذ ألف عام، يُمكن تتبع أصلها إلى أطراف أمريكا الشمالية).

figure
شكل ١١-٥: خريطة تُوضِّح كيف تظهر الأشياء التي تُصنع في منطقة ما في منطقةٍ أخرى. تعد هذه الخريطة، بناء على الأدلة الأثرية، تجميعًا لمسارات التجارة التي كانت موجودة منذ ما يتراوَح بين ٨٠٠ إلى ١٠٠٠ عام تقريبًا. وهي تُمثِّل لقطة للمنظومة الديناميكية للتبادل التجاري التي ربطت الناس عبر مسافاتٍ كبيرة عبر التاريخ. المسارات الأفريقية، والآسيوية، والأوروبية منقولة من مقال أندرو شيرات (٢٠٠٤) «المسارات التجارية: نمو التجارة العالمية»، أرك أطلس، فبراير ٢٠١٠، الطبعة ٤، http://www.archatlas.org/Trade/Trade.php، تاريخ الدخول: ٦ يناير، ٢٠١٢. قام بتجميع المسارات الشمالية والجنوبية الأثري إد فليمنج، متحف مينيسوتا للعلوم (بتصريح من متحف مينيسوتا للعلوم، بول مورين).

شكل ١١-٥، وهو عبارة عن خريطة لمسارات التجارة، وشكل ١١-٦، وشكل ١١-٧، اللذَين يُظهران أشياءَ أثريةً، هي جميعًا أشكالٌ مُذهِلة؛ نظرًا لأنها تكشف الحركة عبر صور الطبيعة. فما يتمُّ صنعه في مكان يُكتَشف في مكانٍ آخر، والذي ربما يكون شيئًا مُتداوَلًا تجاريًّا. الأمر نفسه يسري على الجينات. فإذا عرفنا أن التبادل قد حدث، فمِن المُحتمَل أن يكون التزاوج قد تمَّ أيضًا، وبالتالي حدثَت عمليات نقل للجينات. فالناس يتفاعَلون ومن ثم تجوب فِكَرهم، وأشياؤهم، وجيناتهم العالم. لا وجود تقريبًا لأيِّ عوازل تناسُلية. فنحن جماعةٌ توالديةٌ واحدةٌ كبيرة.

figure
شكل ١١-٦: صُنعت حلية الأذن هذه، من صدفة من ساحل الخليج، فيما بين عامي ١١٥٠ و١٣٥٠م، وتمَّ العثور عليها في مقاطعة بيرس، بولاية ويسكونسن. وقد اكتُشفت حليٌّ بوجوه مشابهة، مصنوعة من النحاس، والعظام، والصدف، عبر أنحاء الجنوب والغرب الأوسط (بتصريح من متحف مينيسوتا للعلوم).
figure
شكل ١١-٧: منذ حوالي ٢٦٠٠ عام، أصبحت الحُلي المصنوعة من اليشب مثل هذه القلادة الكوستاريكية، رموزًا للمكانة عبر أنحاء أمريكا الوسطى. وتعدُّ المناجم في جواتيمالا هي المصدر الوحيد المعروف في المنطقة لهذا الحجر الكريم وربما كان مصدر الإمداد لليشب الذي كان يُتداول تجاريًّا عبر أنحاء أمريكا الوسطى وشرقًا في الهند الغربية (بتصريحٍ من متحف مينيسوتا للعلوم).

وجهات نظر حول علم الأنساب الوراثي

توجهنا بالسؤال إلى أربعة علماء وباحث قانوني بشأن استخدام علم الوراثة من أجل إعادة بناء تسلسل النَّسَب. لم نَسألهم عن العرق، ولكن إجاباتهم ربما كانت تتَّسق مع رسالة هذا الكتاب. غير أن علم الوراثة قد مضى ليشمل مجموعةً مثيرة من القصص عن تاريخ الأفراد والأنساب. فمن المُمكن أن يكون علم الوراثة فعَّالًا للغاية في تحديد ماهية الفرد على المستوى الوراثي، وربما يُمكن أن نستخلص من علم الوراثة استنتاجات فيما يتعلق بالأصول الثقافية والاجتماعية للأفراد.

علم الوراثة: ما الذي يُمكن أن يُخبرنا به حقًّا؟
يُتيح علم الأنساب الوراثي للأفراد استكشاف أصولهم باستخدام مجموعة أدوات تجارية تَختبر الدنا الخاص بهم. فيُمكن للمُستهلِكين الاختيار من ثلاثة اختبارات مختلفة لتلقِّي تقرير عن الأصل الجغرافي للدنا الخاص بهم. يقوم أحد هذه الاختبارات بفحص الدنا الميتوكوندري الذي يَنتقِل من الأم إلى أبنائها. ويقوم آخر بفحص الدنا الخاص بكروموسوم Y الذي ينتقل من الأب إلى أبنائه من الذكور. وثمة اختبار ثالث يبحث عن «واسمات معلومات النسب» في الدنا الخاص بالشخص. ما الذي تَكشفه نتائج هذه الاختبارات عن النَّسب والهوية الشخصيَّين؟
شكل ١١-٨: هنري جريلي (الصورة بعدسة ستيف جلادفلتر).

فيما يلي خمس وجهات نظر:

•••

«عيوب علم الأنساب الوراثي»

نظرًا لأن علم الوراثة القائم على الدنا الميتوكوندري أو الدنا للكروموسوم Y يتتبع خطًّا واحدًا فقط للنسب؛ فهو يغفل الغالبية العظمى للعدد الإجمالي لأسلاف الشخص. إذا عدنا عشرة أجيال للوراء، أي حوالي ثلاثمائة عام، نجد أن اختبارًا للدنا الميتوكوندري أو للدنا الخاص بالكروموسوم Y يكشف معلومات عن حوالي ١ من ١٠٢٤ من إجمالي الأسلاف في ذلك الجيل، فيما تُغفل الاختبارات بقية الأسلاف الآخرين. إن اختبارات الدنا مثل هذه يُمكنها أن تخبرك الكثير عن نسبك، ولكن لا بد أن تكون واعيًا بما لا «يُمكنها» أن تخبرك به.
هنري جريلي، أستاذ القانون بجامعة ستانفورد: معرض العرق، متحف مينيسوتا العلوم
شكل ١١-٩: ريك كيتلز.

«استعادة الماضي»

تتبايَن أهمية الاختبارات الوراثية القائمة على الدنا الميتوكوندري والدنا الخاص بالكروموسوم Y بين الجماعات. ولمثل هذه الاختبارات قيمةٌ كبيرة، بالنِّسبة إلى الأمريكان الأفارقة، خاصة علماء الوراثة النَّهِمين منهم، لما توفره من أدله يمكن استخدامها للمساعدة في استرداد التاريخ والثقافة والمعرفة؛ الذين أُنكروا عليهم لزمنٍ طويل. فقد أدَّت تجارة الرقيق الأفارقة عبر المحيط الأطلنطي على نحوٍ أساسي إلى محو جوانبَ مهمةٍ من قصص الأجداد الأولين؛ ونتيجة لذلك، لا يستطيع الكثير من الأمريكيين الأفارقة نسب تاريخ عائلاتهم إلى أفريقيا. وقد ثبَت أن المعلومات الجينية عن أصل الأب والأم مصدرٌ مثالي لتَكمِلة الوثائق التاريخية وتعزيز استرداد ماضيهم.
ريك كيتلز، أستاذ علم الوراثة، بجامعة إلينوي بشيكاغو، والمدير العلمي بشركة أفريكان أنستري: معرض العرق، متحف مينيسوتا للعلوم
شكل ١١-١٠: ألوندرا نيلسون (الصورة بعدسة ليلى أمة الله بارين).

«مسألة تأويل»

إنني أقوم بدراسة كيف ولماذا يَستخدم الأمريكيون الأفارقة اختبارات علم الوراثة الجينية. غالبًا ما يَعتقد مستخدمو علم الوراثة الجيني أنهم يُزوَّدون بأدلةٍ علميةٍ قاطعة على أُصولهم. ولكني أرى أن نفس هؤلاء المُستخدِمين قد يَلعبون دورًا في تأويل هذه البيانات لتُلائم توقُّعاتهم. فقد أجرَت إحدى السيدات في دراستي بحثًا وراثيًّا تقليديًّا قادها إلى الاعتقاد بأن أجدادَها للأم جاءوا من جنوب أفريقيا. ولكن اختبارًا للدنا الميتوكوندري لتسلسُل النَّسَب من ناحية الأم استنتج أن أصولها تعود إلى غرب أفريقيا. وقد وفَّقت السيدة بين هاتين الروايتين المختلفتين الخاصتَين بنسبها بتلفيق قصة عن الهجرة الأفريقية لأسلافها من الغرب إلى الجنوب.

ألوندرا نيلسون، أستاذ علم الاجتماع، بجامعة كولومبيا: معرض العرق، متحف مينيسوتا للعلوم
شكل ١١-١١: كيمبرلي تولبير (الصورة بعدسة جون كاماتا).

«ادعاء الهوية»

يُروج بعض الناس لتحليل الدنا كوسيلة لتحديد المنتمي «للأمريكيين الأصليين» ومن لا ينتمي لهم جينيًّا. وهذا النهج يقتضي ضمنًا إمكانية ظهور هُوياتٍ أمريكيةٍ أصلية، بل وحتى انتماءات لقبائل بعينها، في الدنا. غير أن القبائل هي عبارة عن كياناتٍ حية أعادت تشكيل تعريفاتها للانتماء للجماعة مرارًا عبر خطوطٍ سياسية وخطوط قرابةٍ معقدة ومتغيرة. إن علم الوراثة وحده لا يجعل شخصًا ما أمريكيًّا أصليًّا؛ فهي مسألة ثقافة وأسلوب حياة. كذلك تُدافع القبائل الأمريكية الأصلية عن حقوق الحكم بناء على سلطتها التاريخية ككياناتٍ ذات سيادة. ومبعث قلقي أن يشجع اختبار الدنا بعض الناس على المطالبة بالسلطة السياسة القبَلية بناءً على شكلٍ ضيِّق من النسب الجيني، ما يترتَّب عليه تحجيم السلطات السيادية السياسية والثقافية القبلية.

كيمبرلي تولبير، قسم العلوم البيئية والسياسة والإدارة، جامعة كاليفورنيا، بيركلي: معرض العرق، متحف مينيسوتا للعلوم
شكل ١١-١٢: ديوانا فولويلي.

«أقل من معلن»

«تبدو» نتائج اختبار واسمات معلومات النسب أكثر وضوحًا بكثيرٍ مما تبدو عليه في الواقع. فعلى مستوى القاعدة، تَعمل مثل هذه الاختبارات على أساس احتمالية أن التبايُنات، التي عادةً ما يُشار إليها ﺑ «واسمات» في الدنا لشخصٍ ما، توجد بين «الأفارقة»، و«الأوروبيين»، و«الآسيويين»، و«الأمريكيين الأصليين». ولكن هذه المتغيِّرات الجينية ليست مقتصرة على أيِّ مجموعةٍ سكانية بعينها على نحوٍ صارم. على سبيل المثال، توجد الواسمات التي يتمُّ تحديدها بواسطة الاختبار بوصفها «للأمريكيين الأصليين» أيضًا بين الأشخاص المنحدرين من وسط آسيا؛ ومن ثم قد تقول النتائج إن الواسمات لشخص من أصل «أمريكي أصلي»، في حين قد يكون إرث الشخص، في الواقع، أوزبكيًّا. وهذه الأنواع من اختبارات «تحديد الأصل وفقًا للدنا» يُمكن أن تقدم بعض المعلومات عن الواسمات الجينية التي يشترك فيها الشخص مع الناس حول العالم. غير أن هذه المادة المشتركة في الدنا ليست بالضرورة أن تكون من سلفٍ مُشترَك، وهو ما يُعدُّ العنصر المضلل هنا؛ فالكثير من الناس حول العالم، في الواقع، «يشتركون في حيازة» واسماتٍ من شتى الأنواع لكثير من الأسباب الإيكولوجية والتطورية المختلفة. يبدو هذا أقل إثارة من النَّسَب الموروث المباشر من أفريقيا، أو أي مكانٍ آخر، ولكنه غالبًا ما يكون أدق.

ديوانا فولويلي، أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة هارفرد: معرض العرق، متحف مينيسوتا للعلوم

ملاحظات ختامية

في هذا القسم تتبَّعنا المعرض المتحفي والموقع الإلكتروني وتناولنا بمزيد من الشرح بالصور والكلمات لماذا لا يُفسِّر العرقُ التبايُنَ البشري. في الوقت ذاته، نأمل أن نكون قد قدمنا بعضًا من التاريخ المثير لدراسة التبايُن البشري. إن الحكمة القائلة بأننا نرى ما يريدنا عقلنا أن نراه تبدو صحيحة. ولعل ما هو أهم أننا قد أوضحنا مدى روعة التبايُن البشري. ولكن كيف نتبايَن؟ إن بِنية التبايُن البشري ليست كما كنا نعتقد على الإطلاق.

قراءاتٌ أخرى

مصادر أخرى
  • Davis, D. S.:
    2004 Genetic Research and Communal Narratives. Hastings Center Report 34(4): 40–49.
  • Elliott C., and P. Brodwin:
    2002 Identity and Genetic Ancestry Tracing. British Medical Journal 325: 1469–1471.
  • Kittles R. A., and K. M. Weiss:
    2003 Race, Ancestry, and Genes: Implications for Defining Disease Risk. Annual Review of Genomics and Human Genetics 4: 33–67.
  • Lee, S., D. A. Bolnick, T. Duster, P. Ossorio, and K. TallBear:
    2009 The Illusive Gold Standard in Genetic Ancestry Testing. Science 325(5936): 38-39.
  • Rosenberg, N. A., J. K. Pritchard, J. L. Weber, H. M. Cann, K. K. Kidd, L. A. Zhivotovsky, M. W. Feldman:
    2002 Genetic Structure of Human Populations. Science 298: 2381–2385.
  • Templeton, A. R.:
    2003 Human Races in the Context of Recent Human Evolution: A Molecular Genetic Perspective. In Genetic Nature/Culture: Anthropology and Science beyond the Two-Culture Divide. A. H. Goodman, D. Heath, M. S. Lindee, eds. Berkeley: University of California Press, 234–257.
  • Tempelton, A. R.:
    2007 Genetics and Recent Human Evolution. Evolution 61(7): 1507–1519.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤