الفصل التاسع

داء الأنيميا المنجلية

ليس للسود وحدهم

على الرغم من أن داء الأنيميا المنجلية يُنظر إليه على أنه مرضٌ مقصور على «السود» في الولايات المتحدة، يَشيع الجين المسبِّب له في أجزاء من أفريقيا، والشرق الأوسط، وأوروبا الجنوبية، وجنوب آسيا. وثمَّة اعتقادٌ واسع بأنَّ تمنجُل خلايا الدم الحمراء قد نشأ في الأصل عن طريق الانتخاب الطبيعي كاستجابةٍ وقائية للملاريا. والأشخاص المصابون بالأنيميا المنجلية أقل عرضة للوفاة بسبب الملاريا.

كاثي جيه تاشيرو، أستاذ التمريض بجامعة واشنطن؛ معرض العرق، متحف مينيسوتا للعلوم

يُقدم المتغير الجيني المسمى بالخلية المنجلية مثالًا مثيرًا لكيفية تشكيل التطور البشري للتبايُن. يُعدُّ مرض الخلايا المنجلية، والمتغير الجيني البشري المسمى بسمة الخلايا المنجلية (نسخة من أليل الخلية المنجلية مقارنة بنسختين في داء الخلايا المنجلية)، شأنه شأن لون البشرة، نتائج للعمليات البيوثقافية للتطور والتاريخ الإنساني. في هذه الحالة، يكون عامل الضغط التطوري وحيدًا وواضحًا ألا وهو: الملاريا. فمنذ مواجهة البشر طفيل الملاريا، الذي يَحمله البعوض، عانى البشر وحدثت وفَيات بالملايين. لطالما كانت الملاريا تُقاوم جهود المكافحة ولا تزال تَقتل آلافَ وملايين الأفراد كل عام. غير أن سِمة الخلية المنجلية، وهي عبارة عن وجود نسخةٍ واحدة من التباين الجيني، تبدو وسيطًا جينيًّا فعَّالًا بين الملاريا وداء الخلايا المنجلية. فسِمة الخلية المنجلية تمنح مقاومة للملاريا دون جلب أضرار داء الخلايا المنجلية.

غير أن من الجوانب المُثيرة الأخرى لداء الخلية المنجلية؛ الكيفية التي ترسَّخت بها سِمةٌ ما في ثقافتنا كمرضٍ مقصور على السود أو الأفارقة، في حين أن هذا الارتباط بأفريقيا ارتباطٌ غير سببي.

figure
شكل ٩-١: خلايا دم حمراء طبيعية (شكل أ) وخلايا دم حمراء مُتمنجلة (شكل ب). خلايا الدم الحمراء السليمة، الغنية بالهيموجلوبين الحامل للأكسجين، هي عبارة عن أقراصٍ مُستديرة مَرِنة تتحرَّك بسلاسة عبر الأوعية الدموية الصغيرة. أما خلايا الدم الحمراء الهلالية الشكل، على الجانب الآخر، فيُمكِن أن تتجلَّط وتعلق في الأوعية الدموية الصغيرة، مُسبِّبةً نوبة أنيميا (بتصريح من (أ) شركة أوميكرون، فوتو ريسيرشرز؛ و(ب) © iStockphoto.com/adventtr).

(١) التاريخ الطبي: اكتشاف خلايا دم حمراء غريبة الشكل

اكتُشف «تمنجل» خلايا الدم الحمراء لأول مرة على يد أطباء في الولايات المتحدة وأوروبا. وجاء اكتشافه لدى أفرادٍ من أصولٍ أفريقية. ونُشر أول اكتشاف للخلايا المنجلية الشكل منذ حوالي قرن. وكان هذا في وقت كان غالبًا ما يُنظر فيه إلى الأمراض كأمراض «عرقية» ووقَع داء الخلايا المنجلية ضمن هذا النظام التصنيفي كمرض من أمراض «دم الزنوج». وسرعان ما تمَّ تأطير التمنجل بقوة في الأدبيات الطبية كحالة مميَّزة لما يُسمى بالزنوج. في هذا الوقت وُضِعت مجموعةٌ كبيرة من الأمراض، من أمراض القلب إلى تكيُّسات المبيض، في هذا الإطار العرقي. وبالتأمل في الماضي، نجد أن التصنيفات غالبًا لم يكن لها مُبرِّراتٌ طبية أو بيولوجيةٌ معقولة. غير أن خلال هذه الفترة كان من الاعتقادات الطبية السائدة أن الأوروبيين (البيض) أكثر عُرضة بالفعل إلى ما يُسمى بأمراض الحضارة (وهو تصنيفٌ غريبٌ آخر)، بينما لم يكن السود كذلك. بالطبع نحن نعلم اليوم أن «أمراض الحضارة» هذه، مثل السرطان وأمراض القلب، مميتة للأمريكيين الأفارقة أكثر من الأمريكيين البيض.

فور ربط داء الخلايا المنجلية لأول مرة بالأصول الأفريقية، بات من الصعب كسر هذا الارتباط؛ فالمعرفة الطبية المُفترَض أنها صحيحة يتمُّ تداولها بسهولة من المعلم إلى الطلاب ومن طبعة كتابٍ مدرسي إلى أخرى. والواقع أن هذه الارتباط لداء الخلايا المنجلية بالأصول الأفريقية باقٍ حتى اليوم، على الأقل في الثقافة الشعبية. صحيح، بالطبع، أنه إذا كان الشخص من أصلٍ أفريقي، خاصة من غرب أفريقيا؛ حيث يكون تواتُر السمة في أعلى معدلاته، يكون أكثر عرضة للإصابة بالخلايا المنجلية، ولكنه، كما سنرى، ليس «ملازمًا» للدم الأسود حسب تفسير العرق له.

مع التطوُّر وتزايُد استخدام الميكروسكوب في الطب ومولِّد تخصُّص الدمويات كتخصُّص طبِّي، والذي يُعنى بدراسة الدم وأمراضِه، لم يَستغرق الأمر طويلًا حتى تمَّ اكتشاف أن ليس جميع خلايا الدم الحمراء تتَّخذ نفس الشكل التام؛ ففي معرض كتابته عن رابع حالة من حالات الخلايا المنجلية التي نُشرت في عام ١٩٢٢، كتَب فيرنون ماسون يقول: «من الأهمية بمكانٍ الإشارةُ إلى أن المرض حتى الآن قد شوهد لدى السود فقط» (١٩٢٢: ١٣٢٠). وبعد بضع سنوات، اتَّفق معه مختص الدمويات توماس بي كولي في أن «أنيميا الخلايا المنجلية عرقية بوضوح» (١٩٢٨: ١٢٥٨).

حالَ تصنيف المرض كمرضٍ عرقي دون تشخيص أنيميا الخلايا المُنجلية لدى أي شخص أوروبي. في البداية مضى الأطباء الذين اكتشفوا الخلايا المنجلية لدى مريضٍ أوروبي، حسبما يفُترض، يبحثون عن أدلة على وجود اختلاط بدمٍ أفريقي بدلًا من تحدي التمييز العرقي للمتغيِّر الجيني (تابر ١٩٩٥). على سبيل المثال، يتحدَّث تي إس لورانس، وهو طبيبٌ أمريكي، عن احتمال وجود حالة خلايا منجلية لدى شخص أوروبي فيقول: «أوليتُ انتباهًا خاصًّا إلى مسألة الامتزاج العرقي بدمٍ زنجي في العائلة، ولكن تعذَّر الحصول على دليلٍ على ذلك — لا بد مِن توخِّي بعض الحذر في تسمية هذا المرض بأنيميا الخلايا المنجلية؛ إذ تعذَّر العثور على دليل على وجود دمٍ زنجي» (لورانس ١٩٢٧: ٤٤).

أعمى ربْطُ الأعراق كفئاتٍ مختلفة بأمراض مختلفة الأطباءَ عن احتمالية أن تكون الخلية المنجلية مرضًا لا يقتصر على السود على نحوٍ بحت. ولا يزال ارتباط داء الخلية المنجلية بطريقةٍ ما باللون الأسود أمرًا مسلَّمًا به على نطاقٍ واسع حتى اليوم. وسوف نبدأ هنا بتوضيح المقصود بالخلية المنجلية، وكيف تطوَّرت، ولِم تُعدُّ الخلية المنجلية مثالًا للانتخاب، والتطور، والتاريخ وليس العرق؟

(٢) ما المقصود بالخلية المنجلية؟ الوراثة والعواقب الفسيولوجية

الخلية المنجلية هي متغيِّر لخلية الدم الحمراء (انظر شكل ٩-١). وهي متغيرٌ نمَطي ظاهري يُمكن مشاهدته من خلال فحص خلايا الدم تحت ميكروسكوب. وقد اكتُشف هذا المُتغير النمطي الظاهري قبل حوالي قرن. والمسألة الخاصة بمسبِّباتها ولماذا تحدث مسألة ذات أهمية من الناحية الطبية.

تتَّسم معظم التبايُنات الظاهرية، مثل لون البشرة أو خطر الإصابة بأمراض القلب، بتعقيدٍ ملحوظ؛ فهي ليست نتاج امتزاج جيناتٍ متعدِّدة وظروفٍ بيئية فحسب، بل إن هذا المزيج يتغيَّر من شخصٍ إلى آخَر وعلى مدار عُمرِ الشخص؛ ولذلك لا يمكن بسهولة تحديد أسبابٍ فردية أو القول، في بعض الأحيان، بأن «س» هو سبب «ص» بالمائة من الحالة. ولو أننا استَطعنا القيامَ بذلك، لكان أداؤنا أفضل كثيرًا في الوقاية من الأمراض ومعالجتها، وفي حلِّ الكثير من المشكلات.

كما هو الحال في الحياة، تميل التبايُنات إلى التعقيد؛ فثمَّة شقيقان يَنشآن في نفس المنزل، ولديهما نفس الألائل إلى حدٍّ كبير، ويشتركان في قدرٍ كبير من البيئة والوراثيات، ولكن يُمكن أن يكون بينهما اختلافٌ لافت في نواحٍ مهمة؛ فمُعظم الأنماط الظاهرية بمنزلة ألغازٍ معقَّدة.

ولحُسنِ الحظ أن الخلية المنجلية بسيطة كفَهمِك لها تقريبًا. فهي تُصنَّف كحالةٍ جينيةٍ بسيطة (يُمكن أن نُسمِّيها مرَضًا أو اضطرابًا، ولكن هذه التوصيفات تبدو تقييمية حتى لو لم يكن ذلك هو المقصود منها.) والحالة الجينية البسيطة هي حالةٌ ناتجة عن تغيير في جينٍ فرديٍّ ويُعبَّر عنها بوضوح في إطار النمط الظاهري. فيُمكن رُؤية نتاج ذلك التغيير ولا يوجد الكثير من التدرُّجات في المنتصف. بمعنى أنَّ التباين في الناتج النمَطي الظاهري محدود. ويكون الأليل شفافًا، وهو ما يُسمى بالانتفاذ.

وباستثناء الجينات الموجودة على كروموسومات X وY لدى الذكور، يستقبل الفرد نسختَين من كل جين؛ ومن ثم يحظى بفرصتَين لتفعيل الجين وتكوين الناتج الجيني. وفي الحالة المعروفة الخاصة بالخلية المنجلية، يَحمل الجين شفرة جزء من جزيء الهيموجلوبين. وخلاصة كل هذا هو أن الجين يوجد على كروموسوم ١١. وهو يُنتج ما يُسمى بسلسلة بيتا أو جزيء بيتا جلوبين، وهو عبارة عن سلسلة من ١٤٦ حمضًا أمينيًّا أساسية لتكوين جزيء الهيموجلوبين. وعند المَوضع السادس حدثت طفرةٌ نقطيةٌ بسيطة وبدَّلت الحرف A إلى G، ما أدى إلى تحويل الحامض الأميني من جوانين (guanine) إلى فالين (valine). على نفس النسق، تَلتفُّ سلسلة بيتا على نحوٍ مُختلف. فاكتساب واحد أو اثنين مِن ألائل الخلية المنجلية يُحدث اختلافًا كبيرًا. فنسخة واحدة = اكتساب سِمة الخلية المنجلية؛ نسختان = إصابة بداء الخلايا المنجلية.

ويعدُّ الهيموجلوبين جزيئًا استثنائيًّا؛ فهو عبارة عن بروتين له أربع أذرع (أو سلاسل) للحمض الأميني يتَّصل بها جزيءُ حديد (انظر شكل ٩-٢). وللتصميم الاستثنائي للهيموجلوبين نتائجه فيما يتعلَّق بشكل خلايا الدم الحمراء. غير أن وظيفته الأساسية في الحياة هي السماح لخلايا الدم الحمراء بنقل الأكسجين من الرئتين إلى الخلايا؛ حيث يتمُّ استخدامه. ويرجع اللون الأحمر للدم إلى تغيرٍ يطرأ على جزيء الهيموجلوبين حين يَلتصق الأكسجين بجزيء الحديد. وكلما ازداد الدم حمرة، كان ذلك أفضل.

figure
شكل ٩-٢: تركيب الهيموجلوبين. تتألَّف جزيئات الهيموجلوبين لدى الإنسان البالغ من أربع سلاسل من الأحماض الأمينية (أو سلاسل متعدِّدة الببتيدات) وأربع مجموعات من الهيم أو الصباغ. في هذا «النموذج الشريطي» تتَّخذ سلاسل ألفا α اللون الأحمر وسلاسل بيتا β اللون الأزرق. تَحمل كل سلسلة مجموعةً من الهيم، وهو عبارة عن جزيء يحتوي على ذرة من الحديد يُمكن بدورها أن تحمل جزيئًا من الأكسجين. ومجموعاتُ الهيم محدَّدة هنا باللون الأخضر. هذه الصورة مِن تصميم مركز الأبحاث التعاونية لبنك بيانات البروتينات التابع لمركز البحوث التعاونية للمعلوماتية الحيوية الهيكلية ID 1GZX باستخدام برنامج باي مول (بتصريحٍ من ريتشارد ويلر).
figure
شكل ٩-٣: كيف يُمكن أن يرث الأفراد داء الخلايا المنجلية وسمة الخلية المنجلية. في هذا المثال، نجد فردَين كلاهما يَحمل سمة الخلية المنجلية ولديهما أطفال (بتصريح من متحف مينيسوتا للعلوم، سي جونسون).
figure
شكل ٩-٤: قطاع مُستعرِض لوعاءٍ دموي يحمل خلايا دم حمراء ذات شكل طبيعي (أ) وخلايا دم حمراء متمنجلة (ب). يُمكن للخلايا المتمنجلة أن تتجلَّط وتواجه صعوبةً أكبر بكثير في حمل الأكسجين (بتصريح من المعهد الوطني للقلب والرئة والدم، المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، التابعة لوزارة الصحة والخدمات البشرية الأمريكية).

لمزيد من التعمُّق، لقد عرفنا منذ زمن أن الجين يَحمل شفرات لمُتوالية الحمض الأميني الخاص بسلاسل جزيء الهيموجلوبين. ويوجد عدد مِن التبايُنات المعروفة في الجين الخاص بالهيموجلوبين يُسفر عنها متوالياتٌ مختلفة للحمض الأميني. ويأتي تباين الخلية المنجلية نتيجةً لاستبدالٍ فردي للحمض الأميني بآخر. ويُسفر عن الناتج تغيُّر شكلِ الجُزيء؛ ما يؤدِّي بالتالي إلى تصلُّب والتصاق خلايا الدم الحمراء، واتخاذها شكل الهلال، أو شكل المنجل. وخلايا الدم الحمراء، في وضعها الطبيعي، تتَّخذ شكل أقراصٍ دائرية. ولا تحمل الخلايا المتمنجلة الأكسجين بنفسِ الفاعلية، وقد تعلقُ في الأوعية الدموية الصغيرة؛ ما يعوق تدفُّق الدم، وهو ما يسبب الأنيميا، وآلامَ المفاصل، وتلف العظام، والرئتَين، والكُليتَين، والعينَين، والأعضاء الأخرى. يَستقبِل كلُّ واحدٍ منا نسختين من كل جين، بواقع جينٍ من كلا الأبوين. فإذا كان لدى كلا الأبوين نسخةٌ واحدة من جين الخلية المنجلية، تكون فرصة الإصابة بداء الخلايا المنجلية لكل طفل من أطفالهما واحدًا إلى أربعة. ولكن الأطفال الذين يَرِثون نسخةً واحدة فقط من جين الخلية المنجلية لا يُصابون بداء الخلايا المنجلية، ولديهم أيضًا مُقاوَمةٌ إضافية للملاريا.

والسؤال الذي يَعتقد علماء الأنثروبولوجيا التطورية أنهم قد أجابوا عليه هو: لماذا يُمكن أن يُصبح متغيِّرٌ مثل هذا يُمكن أن يؤدي إلى مرض، وهو مرض الخلايا المنجلية، شائعًا إلى هذه الدرجة. والإجابة على هذا اللغز تكمن في هذه المُقاوَمة للملاريا. والتفاصيل مدهشة.

(٣) قصة الخلايا المنجلية: التاريخ غير الطبيعي للبعوض والبشر والملاريا

figure
شكل ٩-٥: الزراعة في المناخات الرطبة والتي تؤدِّي إلى بِرَك من المياه الراكدة تُعدُّ سببًا من أسباب الملاريا. ونفس الطفرة الجينية التي تُسبِّب داء الخلايا المنجلية تُوفِّر وقايةً أيضًا من الملاريا. والأشخاص الذين يَنتمي أسلافهم لمناطق شاعت فيها الملاريا أكثر عُرضة لحمل تبايُن جين الخلايا المنجلية. التاريخ والتطور يُفسِّران وجود الخلية المنجلية © iStockphoto.com/dannyzhan.
figure
شكل ٩-٦: «الأنوفيلة الصغيرة» لكي تحدُث الإصابة بالملاريا، لا بد أن يُلامس البشر البعوض (بتصريحٍ من المراكز الأمريكية لمُكافحة الأمراض والوقاية منها، التابعة لوزارة الصحة والخدمات البشرية الأمريكية).
figure
شكل ٩-٧: مسار إصابة الأفراد بالملاريا. تُصاب بعوضةٌ من جنس الأنوفيلة بالحيوان البوغي للملاريا في أحشائها. تقوم البعوضة بلدغ إنسانٍ ويَنتقل الحيوان البوغي إلى الإنسان، ويتحوَّل، ويَتكاثر، ويهاجم خلايا الدم الحمراء (أعيد طبع الصورة بإذنٍ من شركة ماكميلان بابليشرز المحدودة. من كتاب: الطبيعة، الأساس المرضي للملاريا، تأليف لويس ميلر، ودرور باروخ، وكيفين مارش، وأوجوبارا دومبو، حقوق الطبع محفوظة لمجموعة نيتشر للنشر ٢٠٠٢، مجموعة نيتشر للنشر).

الملاريا مرضٌ طُفيليٌّ موهن، يَنتقل إلى البشر عن طريق لدغة بعوضةٍ حاملة لطُفيل الملاريا. بمجرد نقل الطُّفيل، يُمكن أن يَتكاثر داخل خلايا الدم الحمراء، والتي تتمزَّق بدورها وتَنقُل العدوى إلى خلايا الدم الحمراء الأخرى. وعادةً ما تبدأ أعراض الملاريا بعد مرور ما بين عشرة أيام وبضعة أسابيع على اللدغة الأولى. ومن تبعات العدوى الأنيميا، والتي تنتج عن تدمير خلايا الدم الحمراء.

تُشكل الملاريا تهديدًا خطيرًا للصحة. فقد قدَّر مركز مكافحة الأمراض أن هناك ما يُقدَّر ﺑ ٥٠٠ مليون حالة ملاريا كل عام، إلى جانب وفاة أكثر من مليون شخص سنويًّا. وتظلُّ الملاريا هي السبب الرئيس للوفاة في أفريقيا للأطفال دون الخمس سنوات. ويُعزى استمرار الملاريا جزئيًّا إلى استمرار الظروف — المياه الراكدة في المناخات الحارة الرطبة — التي دائمًا ما كانت تؤدِّي إلى ملامسة البعوض حامل العدوى للبشر. علاوة على ذلك، يُطوِّر البعوض الذي يحمل الملاريا، وخاصة بعوض «الأنوفيلة»، مقاوَمة لمبيدات الحشرات، كما يُمكن للطُّفيل نفسه تطوير مقاومة للمضادات الحيوية.

ولعلَّ من أفضل الوسائل لمُقاومة الملاريا؛ واحدة من أقدمها، ألا وهي التكيُّف الوراثي. تمَّ الكشف عن قصة الخلية المنجلية عن طريق بعض الجهد الاستقصائي العلمي الجاد لعالم الأنثروبولوجيا فرانك ليفينجستون وآخرين كانوا يَعملون في نفس التوقيت تقريبًا. وتضمُّ المجموعةُ التي عكفَت في نفس التوقيت على تفسير التطوُّر الغامض للخلية المنجلية أيضًا العالمَ الحائز على جائزة نوبل لاينوس بولينج. ساعَد بولينج في اكتشاف أن الأنيميا المنجلية يُسبِّبها تغيُّر في البنية الجزيئية لبروتين الهيموجلوبين. وقد نشرت ورقته البحثية حول هذا الاكتشاف، وكانت بعنوان «الأنيميا المنجلية، مرضٌ جزيئي» في دورية «ساينس» في عام ١٩٤٩، وقادت علماء الوراثة والأنثروبولوجيا فيما بعدُ إلى حلِّ لُغز تطور الخلية المنجلية.

منذ حوالي ٥ إلى ٨ آلاف عام بدأت الزراعة في الانتشار في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية بما فيها منطقة غرب أفريقيا، والبحر المتوسط، وجنوب الهند، وشبه الجزيرة العربية؛ وهي المناطق التي كانت مأهولةً بالبعوض أيضًا. صاحب الزراعة نمو في عدد السكان؛ مما زاد احتمال احتكاك الإنسان بالبعوض الحامل للملاريا. من المحتمل أيضًا أن تكون بِرَك البعوض ذات المياه البطيئة الحركة قد زادت بفعل تسوية الأرض؛ ما يعني أن كثافة البشر والبعوض قد زادت في نفس الوقت وفي نفس المكان.

figure
شكل ٩-٨: توزيع الملاريا. تُمثِّل هذه الخريطة توزيع انتشار الملاريا قبل اتِّساع نطاق استخدام المبيدات الحشرية التي قلَّلت من أسراب البعوض الحامل للمرض (بتصريحٍ من متحف مينيسوتا للعلوم، بول مورين).

تُصنَّف الملاريا، كما هو واضح، ضمن أكثر الأمراض الفتاكة والموهنة؛ ومن ثم فإذا كان هناك مرضٌ استحَقَّ التكيُّف الوراثي له التكلفة المدفوعة من أجله، فهو الملاريا. في الواقع، توجد مجموعةٌ مُتنوِّعة من المتواليات المختلفة لجزيء الهيموجلوبين، يُصعِّب بعضها على طفيل الملاريا، فيما يبدو، أن يُحدِث التدمير. والخلية المنجلية واحدة من تلك المتواليات. يبدو الأمر أنه حالة من تعدُّد مُتوازن للأشكال، وهي حالةٌ وراثية يُنتخب فيها النمط الجيني المُتغايرَ الزيجوت على حساب الحالة المُتماثِلة الزيجوت. والتوازن هنا هو توازنٌ معقَّد بين مساوئ امتلاك جرعةٍ مضاعفة من الخلية المنجلية أو انخفاض المقاوَمة للملاريا. ووجود نسخةٍ واحدة يوفر الميزة المثالية بين الملاريا من جانب ومرض الخلايا المنجلية على الجانب الآخر.

figure
شكل ٩-٩: توزيع التباين الجيني الذي يُسبِّب مرض الخلايا المنجلية. وُجدت السمة لدى أولئك ذوي الأصل الشرق أوسطي، والهندي، والمتوسطي، والأفريقي. ويُعاني الملايين حول العالم من مضاعَفات مرض الخلايا المنجلية. وتوجد الخلية المنجلية بتواتُراتٍ عالية في المناطق التي شهدت الملاريا المُتوطِّنة؛ بسبب إزالة الغابات من أجل الأراضي الزراعية (بتصريحٍ من متحف مينيسوتا للعلوم، بول مورين).

كل هذا يدخل في عداد التنظير. ومع ذلك، فإذا كان هناك دليلٌ قاطع لا يَقبل الشك في هذه القصة الشبيهة بالقصص البوليسية، فهو خريطة توزيع تواتر أليل الخلية المنجلية مقارنةً بخريطةٍ للمناطق التي ترتفع بها نسبة السكان من البشر، والزراعة، وبصفةٍ خاصة المناطق التي يوجد بها بَعوض الأنوفيلة. فتصل سمة الخلية المنجلية إلى أعلى معدلاتها على نحوٍ واضح في أماكن مثل غرب أفريقيا؛ حيث تتوافر جميع الشروط لوجودها. بل يبدو أن هناك أربعة أماكن تبلُغ فيها سمة الخلية المنجلية ذروتها، ومن الممكن جدًّا أن يكون الانتخاب قد رجَّح كفة هذه السمة وانتشرت في أربع مناطق على نحوٍ مُستقل.

(٤) العرق والخلية المنجلية

ختامًا، يبدو أن الخلية المنجلية هي نتاج التاريخ والتطور البشري، وليس للعرق أيُّ صلة بالتكيُّف الوراثي. وهذا صحيحٌ على مستوًى نظري. فالتفسير السابق لم يُورد ذكرًا للعِرق، ولا حاجة لذكر العرق في أيٍّ من أجزائه. وهكذا يكون الربط الأوَّلي لمرض الخلايا المنجلية بوصفه «مرضًا لذوي الدم الأسود»؛ خاطئًا بشدة. يمكن أيضًا أن نرى من واقع خرائط توزيع الخلية المنجلية شيوع سمة الخلية المنجلية لدى الأفراد غير «السود» والعكس صحيح أيضًا. فالكثير من «السود»، كأولئك القادمين من أفريقيا الشمالية والجنوبية، لا يُحتمَل أن يكون لديهم الخلية المنجلية.

المعايير والعرق: نقص الحديد

توجد طريقتان على الأقل يتداخل بهما العرق مع الطب. يقف على أحد الطرفين المعرفة غير الرسمية والمكتسبة فرديًّا. فقد يَنظر أعضاء الوسط الطبي إلى المرضى كأفراد عرق بعينه. وحينئذٍ يَتفاعلون ويتصرَّفون بناءً على ما يعتقدون أنهم يعرفونه بشأن أفراد ذلك العرق. هل يشتكون من أدنى قدرٍ من الألم؟ إذا ما طُلب منهم تناول دواءٍ ما، فهل سيتناولونه؟ هل سيَستوعِبون التعليمات؟ هل هم عرضة للإصابة بمرضٍ معيَّن؟ وأمام وجود معلوماتٍ رسميةٍ محدودة عن الاختلافات العرقية، تُسهم هذه الانطباعات والأنماط الفردية بقدرٍ كبير في الأمر.

ولكن العلم يحب وضع فئاتٍ تصنيفية وإضفاء طابع أكثر رسمية على الأمور. هل نحتاج إلى معادلاتٍ مختلفة لتقدير طول قامة شخصٍ مكسيكي (انظر «الطول، والتاريخ، والتباين البشري» في الفصل السابع)؟ هل نُعطي جرعةً مُختلفة من عقارٍ ما للنساء الصينيات. هل نُبدِّل الأماكن على جهازٍ للأشعة مع المرضى السود؟ هل نُشخِّص سوء التغذية على نحوٍ مختلف لدى الأطفال السود والبيض؟

تُقدِّم الأبحاث التي أجريت على العرق والأنيميا مثالًا مفيدًا للتداعيات البالغة على الصحة العامة؛ لافتراض أن الاختلافات داخل الجماعات حقيقية وشاملة للأعراق. في سبعينيات القرن العشرين، قام ستانلي جارن وزملاؤه بعرض بياناتٍ عن توزيع معدَّلات الهيموجلوبين لدى السود والبيض. كان جارن خريج برنامج جامعة هارفرد للأنثروبولوجيا. وشارَكَ في تأليف كتاب «الأعراق» مع كون في عام ١٩٥٠، ومضى يؤسِّس مسارًا مهنيًّا حافلًا بالأرقام القياسية في مجال الأنثروبولوجيا الطبيعية بجامعة ميشيجان (كون وآخرون، ١٩٥٠).

سجَّل جارن وزملاؤه متوسِّط فرق تقريبيٍّ قدره ١٫٠ جرام/ديسيلتر في حجم الهيموجلوبين (أقل في السود عن البيض؛ جارن وآخرون ١٩٧٤، ١٩٧٥؛ جارن ١٩٧٦). عقب هذا العمل طرح اقتراح بأخذ عيناتٍ منفصلة لتشخيص الأنيميا لدى السود والبيض، وهو اقتراح لا يزال يحظى بتأييدٍ واسع (بان وهابيكت ١٩٩١).

أعاد روبرت جاكسون (١٩٩٠، ١٩٩٢، ١٩٩٣؛ آر جاكسون وإف إل سي جاكسون، ١٩٩١) فحص بعض من نفس هذه البيانات وقدَّم بياناتٍ جديدة. وقد سعى إلى التحكم، قدر الإمكان، في العوامل البيئية الواضحة، مثل المقدار المأخوذ من الحديد، وأزال من التحليل قيَم الهيموجلوبين المُنخفِضة التي قد تَرتبِط بأنواع الأنيميا الوراثية. ويرى جاكسون وجاكسون أن مُتوسِّط فرق الهيموجلوبين بين السود والبيض قد انخفض إلى نطاقٍ يتراوح بين ٠٫٢-٠٫٣ جرام/الديسيلتر عند التحكم في هذه العوامل البيئية الواضحة ومتغيرات الهيموجلوبين. علاوةً على ذلك، لا يُشير التباين المُتضارب بين الرضَّع السود والبيض، على سبيل المثال، حيث كانت قيم الهيموجلوبين لدى الرضَّع السود أعلى قبل سنِّ ستة أشهر، وأعلى لدى الرضع البيض بعد سن ستة أشهر؛ إلى وجود أسبابٍ وراثية (جاكسون ١٩٩٣).

على الرغم من هذه البيانات، لا يزال حتى أوسع الباحثين اطلاعًا مثل، بان وهابيكت (١٩٩١)، يُطالبون بعيِّنات هيموجلوبين منفصلة من أجل تصنيف الأنيميا لدى السود والبيض. ما هي التداعيات السياسية لأخذ عيِّناتٍ مُنفصلة من السود والبيض؟ إذا انخفضَت العيِّنة الخاصة بالسود بمقدار ٠٫٥ جرام/ديسيلتر فقط، من ١٢٫٠ جرام/ديسيلتر إلى ١١٫٥ جرام/ديسيلتر؛ أي نصف الفرق الذي اقترحه جارن وآخرون (١٩٧٤)، فإن انتشار الأنيميا لدى النساء السُّود غير الحوامل وغير المرضعات (١٨–٤٤ عامًا) يُقدَّر بأنه قد انخفض «على الورق» من ٢٠ إلى ١٠ بالمائة (بان وهابيكت ١٩٩١)، مما يترتب عليه آلاف بل ملايين من حالات الأنيميا التي لا تلقى العلاج الكافي.

غير أن العيِّنات المنفصلة لا تزال تَحظى بتأييدٍ على الرغم من حقيقة أن الفارق المزعوم بين الأعراق في التمثيل الغذائي للحديد ليس له أساسٌ وراثيٌّ معروف، لا سيما ذلك الفارق الذي يُشير إلى أن السود أكثر كفاءةً دائمًا من البيض في تمثيلهم الغذائي للحديد، أو أنهم بشكلٍ ما لا يتأثَّرون عندما يقلُّ معدَّل الهيموجلوبين بمقدار ٠٫٥ جرام/ديسيلتر. ولم يَثبت أيضًا أن الفارق يشمل كل الأعراق. بالإضافة إلى ذلك، فإن المسألة أكثر من مجرد مسألةٍ نظرية؛ فالعيِّنات المُنفصلة تؤدِّي إلى تداعياتٍ صحيةٍ شديدة الوطأة عند تأمُّل بعضٍ من العواقب الوظيفية (في التعلم، والعمل، والقدرة المناعية) لانخفاض قيم الهيموجلوبين في نطاقاتٍ قريبة من قيم عينات الأنيميا (سكريمشو ١٩٩١).

أنا مصاب بالخلية المنجلية

حين ولدتُ في عام ١٩٧٦، راح الأطباء يأخذون عينةً تلو الأخرى من الدم من قدمي، دون أن يُخبروا أمي بالسبب مطلقًا. كان واضحًا أن هناك شيئًا مختلفًا بشأني، ولكنهم لم يَستطيعوا تحديده. وتبيَّن أن لديَّ الخلية المنجلية، ولكنهم لم يُجروا لي اختبارات لذلك لأنني أبيض؛ فأمي مهاجرة من إيطاليا حاصلة على الجنسية الأمريكية، وأبي مولود في صقلية. بل إنني كنت أعاني من بعض الأعراض الجانبية للمرض، مثل تضخُّم الطحال. ولكنهم ظلوا لا يُفكِّرون في إجراء اختبارات لي في هذا الإطار.

شكل ٩-١٠: فرانك جياكوماتسا وابنته أنجلينا (بتصريح من فيكي جياكوماتسا).

في عام ١٩٨٦، وبعد ١٠ سنوات من المعاناة من ألمٍ شديد في المفاصل، إلى جانب الإحباط، والارتباك، شُخِّصتْ حالتي بإصابتي بنوع من مرض الخلايا المنجلية. وأخيرًا صار لألمي اسمٌ وطريقة لعلاجه! غير أن معظم الناس ظلوا لا يُصدقونني، وحتى الأطباء الجدد واجهوا صعوبة في تجاوُز لوني للمُساعدة في علاجي. ونظرًا للقيود المفروضة عليَّ، أُضطَر لشرح مرَضي للأطباء، وأطباء الأسنان، وأصحاب الأعمال، والأقران.

في عام ٢٠٠٤ أنجبت زوجتي ابنتنا أنجلينا، وجاءت فحوصات التقصِّي لوليدتها غير طبيعية وأنها تَحمل الخلية المنجلية. حين أجرت لها عائلتي فحوصات لتحديد ما تَحمله بالضبط، اعتقد جميع الأطباء أن ثمة خطأً ما. ودُهشوا للغاية من أن طفلتنا الصغيرة الشقراء ذات العينين الخضراوين تحمل سِمَة الخلية المنجلية بالفعل!

نحن محظوظون أننا نحيا حياةً طبيعية، وتعلَّمتُ كيف أُحجِّم نوبات الأنيميا المنجلية التي تصيبني وأسيطر عليها. ومع ذلك، لا يزال الناس يَعتقدون أن الخلايا المنجلية مرض لا يصيب سوى الأشخاص المُنحدِرين من أصولٍ أفريقية (فرانك جياكوماتسا).

(٥) العرق والأداء الرياضي

حوار مع جوزيف جريفز
جوزيف إل جريفز، الابن: هو مُساعد العميد للأبحاث وأستاذ الدراسات البيولوجية بالكلية المشتركة لعلوم النانو وهندسة النانو، التي تتولى إدارتها جامعة ولاية كارولاينا الشمالية للعلوم الزراعية والتقنية وجامعة جرينسبورو بكارولاينا الشمالية بإدارةٍ مشتركة. بالاستعانة بخلفيته في علم الأحياء التطوُّري، استفاض أيضًا في الكتابة عن خرافات ونظريات العرق في المجتمع الأمريكي، وبخاصة عن العرق والأداء الرياضي.

هل ثمة أيُّ صلة بين العرق والجينات والرياضة؟

سوف أبدأ بفكرة أن الكثير من الناس يعتقدون أن الأشخاص ذوي الأصول الأفريقية في أمريكا يَملكون براعةً رياضيةً خاصة. يعتقد معظم الناس على نحوٍ ما أن الأمريكيين الأفارقة لديهم استعدادٌ وراثي لأن يكونوا عدَّائين أسرع، أو لاعبي كرة سلة أفضل، أو لأن يكونوا ظهيرًا خلفيًّا أفضل في الدوري الوطني لكرة القدم. ويوجد أيضًا الآن بعض الدراسات العلمية التي تسعى لتناول الاختلافات القائمة على السكان في الجينات والتي تَرتبِط بالعديد من جوانب الأداء الفسيولوجي فيما يتعلق بالمهارة الرياضية.

الآن حين نَنظر، على مستوًى ما، إلى التباين الجسماني البشري، نجد بعض الاختلافات بين الجماعات السكانية التي ربما ترتبط بالأداء الرياضي. على سبيل المثال، إذا نظرنا إلى الأشخاص القادمين من المناخات الشمالية، الذين كانوا سكانًا أصليين للمناخات الشمالية؛ نجدهم يَميلون إلى القامة القصيرة والجسد المُمتلئ، بدلًا من القامة الطويلة والنحافة. وثمة أسبابٌ فيزيائية وجيهة لذلك. إذا كنتَ قد نشأتَ في المناخات الشمالية، مثل سكان الإسكيمو أو الأليوت، فإن قصر القامة والجسد المُمتلئ يُيسِّران عملية الاحتفاظ بالحرارة. أما إذا نشأتَ في المناطق الاستوائية، حيث البيئة شديدة الحرارة، فإن طول القامة والنحافة يُيسِّران عملية فقدان الحرارة؛ ومن ثم سوف ترى فوارق في تناسُبات الجسم على هذا النطاق.

الآن، إذا سألت نفسك: «هل من المحتمل أن يُصبح شخص من الإسكيمو المنتمين إلى ألاسكا لاعب وسط في الدوري الوطني لكرة القدم؟» حسنًا، ربما لا؛ لأن الطول له صلة بأدائك في ذلك الموقع في الدوري الوطني لكرة القدم. إذن، يُمكن أن نرى أنه من المحتمل، على النطاق العام، أن يكون للفروق البدنية علاقة بالأشكال المُتعددة للأداء الرياضي.

ولكن عند الحديث عن أشياءَ دقيقة، مثل أن تكون جماعةٌ معينة من السكان هي الأسرع في العَدْو، لا يصبح الأمر بهذه البساطة. الحقيقة هي أن غالبية أصحاب الأرقام القياسية العالمية في سباق ١٠٠ متر عَدوٍ من أصولٍ غرب أفريقية، ولكنهم يَميلون أيضًا لأن يكونوا أمريكيِّين من أصلٍ أفريقي اختلطوا مع الأوروبيين والهنود الأمريكيين. لذا فليس من السهل علينا أن نحدِّد ما إذا كان الانتماء إلى أصلٍ أفريقي يَرتبط بسرعتهم الفائقة، أو ما إذا كانت حقيقة أن لديهم أصولًا أوروبية وهندية أمريكية ربما تكون قد ساعدَتْهم على أن يكونوا بهذه السرعة الفائقة.

وكل هذه العوامل الوراثية يَنبغي ضبطها في إطار البيئة التي يتدرَّب فيها الأفراد. على سبيل المثال، إذا نظرت إلى العدَّائين ذوي الأصول الغرب أفريقية، تجدهم جميعًا قد حصدوا أرقامهم القياسية؛ لأنهم تلقَّوا تدريبهم في الولايات المتحدة، أو كندا، أو بريطانيا العُظمى، أو حتى في جزر الكاريبي. وإذا نظرتَ إلى دول غرب أفريقيا التي يُفترض أن أسلاف أولئك العدَّائين قد جاءوا منها، تجد أن أيًّا من تلك الدول لم تُخرج أيًّا من حائزي الأرقام القياسية العالمية في مسابقات العَدْو.

إذن لو كان من الأمور الفريدة بشأن كونك أفريقيًّا أنه يجعلك عدَّاءً سريعًا، لتوقعتَ أن دول غرب أفريقيا كانت تحوز كل هذه الأرقام القياسية أيضًا، ولكنها في الواقع لا تحوز أيًّا منها؛ فالأمر يرتبط بالاستعداد الوراثي، ويرتبط بالبيئة، ويرتبط بنظم التدريب، لا سيما على مستوى الأداء الرياضي العالمي.

من العوامل التي تُبيِّن كيفية تأثير موقع الجماعات السكانية في مختلف المناطق الجغرافية على الاستعداد لمُمارسة الرياضة؛ الارتفاع. فربما يَرتبِط نجاح الكينيِّين في العدْو لمسافات طويلة بحقيقة أن الكينيِّين المنتمين لعرق الكالينجين قادمون من منطقةٍ مرتفعة في كينيا. ولكن الكينيِّين القادمين من ارتفاعاتٍ منخفضة لا يَبرعون في العَدْو لمسافاتٍ طويلة؛ ومن ثم فهو شيء لا يتعلق بكونك كينيًّا، بل يتعلق بالعيش عند تلك الارتفاعات العالية.

الآن، في ماراثون بوسطن الأخير، الذي تنبَّأ أحدهم بأن الفائز به سيكون كينيًّا من مجموعة كالينجين العرقية، كان الفائز به في الواقع من كوريا الجنوبية؛ فكوريا أيضًا دولةٌ جبلية، ومن الوارد تمامًا أن يكون هذا الشخص قد تدرَّب على الأقل على ارتفاعٍ عالٍ. أما المركز الثاني، فقد فاز به إكوادوري، والإكوادور تُعدُّ أيضًا دولةً جبلية، ومن المحتمل أن يكون هو أيضًا قد تدرَّب على ارتفاعٍ عالٍ.

إذن لدينا تكيُّفٌ وراثي قصير المدى يَحدث عن طريق التدرُّب على ارتفاعٍ عالٍ، ولدينا أيضًا تكيُّفاتٌ وراثية طويلة المدى على العيش على ارتفاعٍ عالٍ قد تَنبُع من الجماعات السكانية التي تَعيش في تلك المناطق. ومرة أخرى، لا يَتوافق أيٌّ من هذه الأشياء مع مفاهيمنا عن العِرق التي تَرجع إلى القرن التاسع عشر؛ لأن في نفس الدولة لا يؤدي الكينيُّون الذين يعيشون على ارتفاعٍ مُنخفِض على نحوٍ جيد في عَدوِ المسافات الطويلة، فيما يؤدِّي الكينيون الذين يعيشون على ارتفاعاتٍ عالية أداءً جيدًا.

إذن لا يُمكننا التوصُّل إلى أيِّ قاعدةٍ صارمة بشأن كيفية تأثير الأصل الوراثي على قُدرة الفرد على الأداء في حدَثٍ رياضيٍّ ما. أعتقد أن أبسط شيء يُمكن فعله هو النظر إلى تاريخ الفرد، ومدى قوة تدريبه، وأين تلقَّى تدريبه، وأي أنواعٍ من الموارد استُثمرت لجعله قادرًا على المشاركة في الألعاب الرياضية العالمية، وأن الأمر عبارة عن مزيجٍ من كل هذه الأشياء، وأننا لن نحصل مطلقًا على إجابةٍ جينيةٍ بسيطة مفادها: «لأنك جئتَ من هذه المنطقة من العالم، فسوف تكون لك الغلبة في السباحة أو عَدوِ المسافات الطويلة.» لا أظن أننا سوف نحصل على تلك الإجابة إطلاقًا.

هل المناقشات الخاصة بالمهارة الرياضية الفائقة دائمًا ما تدلُّ ضمنيًّا على النقص والقصور في مجالاتٍ أخرى، مثل التفكير؟

لقد صنَع المجتمع الأمريكي أساطير بشأن الذَّكر الأمريكي الأفريقي على وجه الخصوص. فإذا كان رجلٌ أمريكيٌّ أفريقي يَسير في حرم إحدى الجامعات الكبرى، يميل الآخرون إلى الاعتقاد بأنه رياضي أو مُدرِّب لإحدى الفرق الرياضية أكثر من الاعتقاد بأنه عضوٌ بهيئة التدريس. في حرم جامعتي، حين أتوجَّه لإلقاء محاضراتي، غالبًا ما يأتيني الطلاب ويسألونني إن كنتُ مدرِّب فريق كرة القدم الأمريكية أو مدرِّب فريق كرة السلة. وأخبرهم قائلًا: «كلا، أنا أستاذ بقسم علوم الحياة.» وحين أدخل لتدريس علم الوراثة في الخريف، يكون ٩٩٪ من الطلاب الأمريكيين ذوي الأصول الأوروبية في فصلي لم يَسبق لهم أن رأوا أستاذًا جامعيًّا أمريكيًّا من أصلٍ أفريقي يُدرِّس منهج علوم في الوقت الذي سجَّلوا فيه أسماءهم في دورات العلوم.

إذن لدينا تاريخٌ اجتماعي من الاعتقاد بأن الأمريكيِّين الأفارقة لا يستطيعون الأداء على المستوى الفكري. فمُعظم الأمريكيين حين يرون الأمريكيين الأفارقة، يكون ذلك في سياق الرياضة والترفيه. إذا نظرت إلى البرامج التليفزيونية والتغطية التليفزيونية للأمريكيين الأفارقة، تجد ما يراه غالبية الأمريكيين في نشرات الأخبار ليلًا هو أخبار الأمريكيين الأفارقة في الرياضة — وللأسف صار رموزُ الرياضة من الأمريكيين الأفارقة مؤخرًا يتورَّطون في مشكلاتٍ قانونية — والأمريكيين الأفارقة في مجال الترفيه، أو الأمريكيين الأفارقة في مجال الكوميديا. إذن ها نحن نعود نوعًا ما إلى تاريخ عروض الأغاني الشعبية الكوميدية، من ناحية الطريقة التي يُعامَل بها الأمريكيون الأفارقة في الحياة الاجتماعية الأمريكية.

كيف تغيَّرت الجماعات المهيمنة على رياضات بعينها على مر الزمن؟

من الأشياء الطريفة بشأن القوة البدنية والرياضة كيفية تَغيُّر التوقُّعات الخاصة بالأداء الرياضي على مدى السنين. على سبيل المثال، كان الجميع خلال حقبة الستينيات يَعتقدون أن الأفارقة يتميَّزون بالسرعة؛ ومن ثم كانوا يتوقَّعون فوز الأمريكيين الأفارقة بسباقات العَدو لمسافاتٍ قصيرة، ولكن سباقات المسافات الطويلة سوف يكون الفوز فيها جميعًا من نصيب الأوروبيين أو الشرق أوسطيِّين. بعدها جاء الكينيون وشرعوا في الهيمنة على سباقات المضمار للمسافات الطويلة.

حين انطلَقت كرة السلة للمُحترفين لأول مرة، كانت واحدةٌ من أفضل الفرق تتألَّف بالأساس من يهود شرق أوروبا، وقيل إن السبب في براعتهم الفائقة في كرة السلة أن صفة «المُراوغ الماكر» المأخوذة من الثقافة اليهودية قد جعلتهم بارعين في هذه الرياضة.

كذلك كان يوجد، في المُلاكَمة، في مطلع القرن، الكثير من جماعات الأوروبيين المهاجرين، خاصة الأيرلنديين، الذين كانت لهم مكانتهم في الملاكمة [وكذلك اليهود]. وقد تغيَّر ذلك كله؛ ففي سباقات المسافات القصيرة، وسباقات المضمار والميدان، كان يُقال إن الأفارقة والأمريكيين الأفارقة يتميَّزون بالسرعة؛ ومن ثم يمكنهم العَدوُ لمسافاتٍ قصيرة، ولكن المسافات الطويلة كانت ملكًا للأوروبيين. ولكن مرةً أخرى، جاء الكينيون وأثبتوا خطأ هذه النظرية ودحضوها تمامًا.

وحتى نحن نرى اليوم رياضات كانت السيطرة فيها تقتصر تقليديًّا على أشخاص من الطبقات العليا والوسطى، مثل التنس والجولف — كظهور الشقيقتَين ويليامز في التنس وتايجر وودز في الجولف — مما دفَع بعض الناس إلى الاعتقاد بأن هناك شيئًا عامًّا بشأن الانتماء لأصلٍ أفريقي أو لأصلٍ أمريكيٍّ أفريقي يجعلك متفوقًا في الألعاب الرياضية.

ولكن في اعتقادي أن التاريخ يُبيِّن لنا أنه مع تبدُّل الفرص في المجتمع، تُستدرج جماعاتٌ مختلفة إلى الساحات الرياضية، وحسب الفرصة والتدريب المتاحَين، مرةً أخرى، إلى جانب الحافز لدى الفرد، يكون من شأن ذلك أن يحدد من يصير البطل. ولا أظن أن الأمر يعتمد كثيرًا على الاستعداد الوراثي من منطقة بعينها من العالم، وبالتأكيد لا يعتمد على العرق؛ لأنه حسبما أشرنا في هذا البرنامج من أنه [منقول بلا تعديل] لا يوجد أعراقٌ بيولوجية في الجنس البشري.

لذا فقد شهدنا، لا سيما في الألعاب الرياضية الاحترافية على مدار العقدَين الماضيَين، تغيُّرًا في بنيتها. ففي خمسينيات القرن العشرين، كان التمييز العنصري يمنع الرياضيين الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية من العمل في مجال البيسبول، أو في كرة القدم الأمريكية، أو في كرة السلة. والآن زال هذا التمييز وصار للأشخاص ممَّن يملكون مهارةً رياضية من العرقيات كافة فرصة لدخول عالم الرياضة، وفي تلك الفترة الزمنية تفوَّق الأمريكيُّون الأفارقة. ويذهب بعض الناس إلى أن هذا بالضرورة نتاج التفوق الوراثي للرياضي الأمريكي ذي الأصول الأفريقية.

أما أنا، فأذهب إلى أننا ليس لدينا دراية بهذا، بل سيكون من الصعب أن نزعم هذا بناء على جميع الأشياء المطلوبة للتفوق في رياضةٍ ما. علاوة على أن كرة القدم الأمريكية، وكرة السلة، والبيسبول ليست الرياضات الوحيدة في أمريكا. فإذا نظرنا إلى الرياضات الأخرى، مثل كرة القدم، أو اللكروس، أو الكرة الطائرة، لا نرى هيمنة للأمريكيين الأفارقة على تلك الرياضات. والأداء الجيد في تلك الرياضات يتطلب نفس القدر من المهارة الرياضية التي يتطلبها البيسبول، وكرة السلة، وكرة القدم الأمريكية.

إذن يوجد جوانبُ ثقافيةٌ قوية لنوعية الألعاب الرياضية التي يختار الأفراد ممارستها، إلى جانب إمكانية ممارستها والتدريب عليها، ترتبط بأداء الفرد؛ ومن ثم لا أعتقد أننا سنستطيع أبدًا عزل جين الأداء الرياضي لدى الأمريكي الأفريقي. ولا أعتقد أن مثل هذا الجين له وجود؛ ففي ضوء ما نعرفه بشأن تشابُك الجماعات السكانية والتركيب الجيني، أعتقد أنه من غير المحتمل إلى حدٍّ كبير أن هذا الجين وحده كان [ليُفسِّر] الاختلافات في المقدرة الرياضية.

إن الأمر يَرتبط بتفاعل الخلفية الوراثية للفرد، والفرصة، والتدريب، وأعتقد أننا ينبغي أن نعتاد فكرة أن ذلك هو ما سيتسنَّى لنا معرفته، وأننا يجب ألَّا نقلق بشأن حقيقة أننا لا نستطيع تحديد موضع الجين الرياضي.

(نُسخت بتصريح من كاليفورنيا نيوزريل.)

ملاحظاتٌ ختامية

توضِّح لنا الخلية المنجلية مدى رغبتنا في وضع سماتنا في صناديق. بعدها نرغب، فيما يبدو، في ضربها بنفس المطرقة ذات الرأس الجلدي إلى أن تُفسِّر لنا شيئًا. ولكنها غالبًا ما تتحطَّم بدلًا من أن تبوح لنا بشيءٍ مفيد وصحيح. والأسوأ هو أننا قد أمضينا الكثير من الوقت نَستخدم المفهوم الخاطئ، أو الأداة الخاطئة، إلى حدِّ أننا قد نسينا السؤال الأصلي. كيف ينشأ التبايُن؟ ولماذا؟ والآن امضِ في شرح الخلية المنجلية لصديق أو أحد أفراد العائلة. جرِّب.

المراجع

  • Ashley-Koch, A. Q. Yang, and R. S. Olney:
    1998 Hemoglobin S Allele and Sickle Cell Disease. American Journal of Epidemiology 151(9): 839–45. http://www.cdc.gov/genomics/hugenet/reviews/sickle.htm, accessed September 2003.
  • Cooley, Thomas B.:
    1928 Likenesses and Contrasts in the Hemolytic Anemias of Childhood. American Journal of Diseases of Childhood 36(6): 1257–1262.
  • Garn, S. M., N. J. Smith, and D. C. Clark:
    1974 Race Differences in Hemoglobin Levels. Ecology of Food & Nutrition 3: 299–301.
  • Garn, S. M., A. S. Ryan, G. M. Owen et al.:
    1975 Income Matched Blackwhite Differences in Hemoglobin Levels after Correction for Low Transferrin Saturations. American Journal of Clinical Nutrition 28: 563–568.
  • Garn, S. M.:
    1976 Problems in the Nutritional Assessment of Black Individuals. American Journal of Public Health 66: 262–267.
  • Jackson, R. T.:
    1992 Hemoglobin Comparisons between African American and European American Males with Hemoglobin Values in the Normal Range. Journal of Human Biology 4: 313–318.
  • Jackson, R. T., and F. L. C. Jackson:
    1991 Reassessing hereditary interethnic differences in anemia status. Ethnicity and Disease 1: 27–41.
  • Johns Hopkins University, Baltimore, MD:
    N.d. Mendelian Inheritance in Man, Online Mendelian Inheritance in Man (TM). MIM No.141900. http://www.ncbi.nlm.nih.gov/entrez/query.fcgi?db=OMIM, accessed September 2003.
  • Joint Center for Sickle Cell and Thalassemic Disorders:
    N.d. How Does Sickle Cell Cause Disease? http://sickle.bwh.harvard.edu/scd_background.html, accessed September 2003.
  • Lawrence, J. S.:
    1927 Elliptical and Sickle-Shaped Erythrocytes in the Circulating Blood of White Persons. Journal of Clinical Investigations 5(1): 31–49.
  • Mason, V. R.:
    1922 Sickle Cell Anemia. Journal of the American Medical Association 79(16): 1318–1320.
  • Pan, W. H., and J. P. Habicht:
    1991 The Non-iron-deficiency-related Differences in Hemoglobin Concentration Distribution between Blacks and Whites and between Men and Women. American Journal of Epidemiology 134: 1410–16.
  • Scrimshaw, Nevin:
    1991 Iron Deficiency. Scientific American (October), 46–62.
  • Tapper, Melbourne:
    1995 Interrogating Bodies: Medico-Racial Knowledge, Politics, and the Study of a Disease. Comparative Studies of Society and History 37: 76–93.

مصادر أخرى

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤