المبارزة

١

كانت الساعة الثامنة صباحًا، وهي الساعة التي يذهب فيها الضباط والموظفون والوافدون عادة للاستحمام في البحر بعد ليلة حارة خانقة، ثم يقصدون المقصف لتناول القهوة أو الشاي. وعندما جاء إيفان أندريتش لايفسكي — وهو شاب في حوالي الثامنة والعشرين، نحيف أشقر، يرتدي عمرة وزارة المالية وشبشبًا — إلى الشاطئ للاستحمام وجد هناك الكثيرين من معارفه، ومن بينهم صديقه الدكتور العسكري صامويلنكو.

كان صامويلنكو هذا، برأسه الكبير الحليق، وانعدام عنقه، ووجهه الأحمر الكبير الأنف، وحاجبيه الأسودَين الكثَّين، وسالفيه الأشيبين، والجسد السمين المترهل، وعلاوة على ذلك بصوته العسكري الأبح، يترك في نفوس الوافدين الجدد انطباعًا منفرًا عن رجل جلف أبح، ولكن ما إن يمر على التعارف الأول يومان أو ثلاثة، حتى يبدأ وجهه يبدو لهم طيبًا بصورة غير عادية، ولطيفًا، بل حتى جميلًا. فرغم هيئته الخرقاء ونبرته الفظة كان رجلًا وديعًا، طيبًا بلا حدود، بشوشًا وخدومًا. كان يعرف جميع أهل المدينة معرفة قريبة، ويقرض الجميع ويعالج الكل ويزوجهم ويصالحهم، ينظِّم النزهات الخلوية التي يشوي أثناءها الكباب ويطهو حساءً لذيذًا للغاية من سمك البوري. وكان دائمًا يسعى لأحدٍّ ما، ويرجو ويفرح دائمًا لأمرٍ ما. كان بإجماع الآراء رجلًا نقيًّا، لا يعيبه إلا شيئان: فقد كان، أولًا، يخجل من طيبته، فيحاول تمويهها بنظرةٍ صارمة وخشونة مصطنعة، وكان، ثانيًا، يحب أن يناديه الممرضون والجنود بلقب «صاحب المعالي» بالرغم من أنه لم يكن سوى مستشار دولة فقط.١

– أجبني على سؤال واحد يا ألكسندر دافيديتش — قال لايفسكي بعد أن نزل هو وصامويلنكو البحر وغاصا حتى أكتافهما — فلنفرض أنك أحببت امرأة واتصلت بها، ولنفرض أنك عشت معها أكثر من عامين، وكما يحدث أحيانًا، لم تعد تحبها وأصبحت تشعر أنها غريبة بالنسبة لك. كيف تتصرف في هذه الحالة؟

– بكل بساطة، اذهبي يا صاحبتي إلى حيث تريدين … وانتهى الأمر!

– ليست المسألة بهذه البساطة! وإذا لم يكن لديها مكان تذهب إليه؟ فهي امرأة وحيدة، بلا أهل، ليس لديها من النقود قرش، لا تجيد العمل …

– فليكن! خمسمائة روبل دفعة واحدة في يدها، أو خمسة وعشرون روبلًا شهريًّا وانتهينا. بكل بساطة.

– فلنفرض أن لديك خمسمائة روبل وخمسة وعشرين شهريًّا، ولكن المرأة التي أتحدث عنها مثقفة وذات كرامة.

فهل تجرؤ حقًّا على أن تعرض عليها نقودًا؟ وبأي صورة؟

أراد صامويلنكو أن يقول شيئًا، ولكن موجة عالية غمرتهما معًا في تلك اللحظة، ثم اصطدمت بالشاطئ وارتدَّت إلى الوراء في صخب فوق الحصى الصغير. وخرج الصديقان إلى الشاطئ وأخذا يرتديان ملابسهما.

وقال صامويلنكو وهو ينفض الرمل عن حذائه: من الصعب طبعًا أن تعيش مع امرأة إذا كنت لا تحبها. ولكن ينبغي يا فانيا أن تتناول الأمر من ناحيةٍ إنسانية. لو حدث هذا لي لما أظهرت لها أبدًا أنني لم أعد أحبها، ولعشت معها إلى الممات.

وفجأة أحس بالخجل مما قاله، فأسرع يقول مستدركًا: لو كان الأمر بيدي لما رغبت أن تكون هناك نساء. فليذهبن إلى الجحيم!

ارتدى الصديقان ملابسهما وذهبا إلى المقصف. وهنا كان صامويلنكو كصاحب البيت، وكانوا يحتفظون له بآنية خاصة. كانوا يقدمون له كل صباح على صينية قدح قهوة وكوبًا طويلًا مضلعًا بماء مثلج وكأسًا من الكونياك. فيشرب أولًا كأس الكونياك، ثم القهوة الساخنة، وبعد ذلك الماء المثلج، وكان ذلك، على ما يبدو، لذيذًا جدًّا، لأن عينيه بعد الشرب تصبحان لامعتَين، ويمسد سالفيه بكلتا يديه ويقول وهو ينظر إلى البحر: منظر في غاية الروعة!

أما لايفسكي، فبعد ليلة طويلة أنفقت في تفكير كئيب عقيم عاقه عن النوم، وبدا كأنما زاد من حدة ظلام الليل وجوِّه الخانق، فكان يشعر أنه مضعضع وذابل. ولم تتحسن حالته حتى بعد الاستحمام والقهوة.

وقال: فلنواصل حديثنا يا ألكسندر دافيديتش. لن أخفي عنك شيئًا، ولأقل لك بصراحة كصديق: إن أموري سيئة مع ناديجدا فيودوروفنا … سيئة للغاية! عفوًا إذا كنت أقحمك في أسراري، ولكني بحاجة إلى أن أفضي بما في قلبي.

كان صامويلنكو يحدس علامَ سيدور الحديث فخفض بصره وبدأ ينقر بأصابعه على الطاولة.

ومضى لايفسكي يقول: لقد عشت معها سنتين، ثم لم أعد أحبها، وبالأصح أدركت أنه لم يكن هناك أي حب … كانت هاتان السنتان خداعًا.

كان من عادة لايفسكي أثناء الحديث أن يتفحص باهتمامٍ راحتيه الورديتين ويقضم أظفاره أو يلوي أساوره بأصابعه. والآن أيضًا كان يفعل ذلك.

وقال: إنني أدرك جيدًا أنك لا تستطيع أن تساعدني، ولكني أتحدث إليك في هذا، لأنه بالنسبة لنا، نحن الفاشلين الضائعين، لا منقذ سوى الأحاديث. ينبغي أن أعمم كل تصرف من تصرفاتي، ينبغي أن أجد تفسيرًا وتبريرًا لحياتي الحمقاء في نظريات علماءٍ ما، وفي الشخصيات الأدبية، وفي أننا نحن النبلاء مثلًا ننقرض وننحط وخلافه … في الليلة الماضية مثلًا كنت أعزي نفسي بأن أفكر طوال الوقت: نعم كم هو محق تولستوي، محق بقسوة! وقد خفف هذا عني. وبالفعل يا أخي، يا له من كاتب عظيم! مهما قلت عنه.

أحس صامويلنكو، الذي لم يقرأ تولستوي قط وينوي كل يوم أن يقرأه، بالحرج وقال: نعم، جميع الكتاب يكتبون من الخيال، أما هو فمن الطبيعة مباشرة … فقال لايفسكي متنهدًا: يا إلهي، إلى أي حد أفسدتنا حضارتنا؟! لقد أحببت امرأة متزوجة، وهي أيضًا أحبتني … في البداية كان لنا قبلات، وأمسيات هادئة، وأيمان، وسبنسر ومثل عليا واهتمامات مشتركة … يا للكذب! لقد هربنا في الواقع من زوجها، ولكننا كذبنا على أنفسنا بأننا نهرب من فراغ حياتنا الذهنية. وبدا لنا مستقبلنا على هذا النحو: في البداية نذهب إلى القوقاز، وإلى أن نتعرف على المكان والناس أرتدي الحلة الرسمية وألتحق بالخدمة، ثم نأخذ قطعة أرض في مكان رحب، ونكد ونعرق، فنغرس كرمًا، ونزرع حقلًا وخلافه. ولو كنت أنت مكاني، أو صاحبك عالم الحيوان فون كورين، فربما عشتما مع ناديجدا فيودوروفنا ثلاثين عامًا وتركتما لورثتكما كرمًا وفيرًا وألف ديسياتينا٢ من الأذرة، أما أنا فأحسست أني مفلس من أول يوم. ففي المدينة حر لا يطاق، وملل ووحدة، وإذا خرجت إلى الحقل يتراءى لك تحت كل أيكة وحجر عناكب وعقارب وثعابين، أما وراء الحقل فليس إلا الجبال والصحراء. أناس غرباء وطبيعة غريبة وثقافة بائسة … وكل هذا يا أخي ليس سهلًا مثل التنزه في شارع نيفسكي٣ في معطف فراء، متأبطًا ذراع ناديجدا فيودوروفنا بينما تحلم بالأماكن البعيدة الدافئة. هنا لا بد من معركة حياة أو موت، وأي مناضل أنا، أنا بائس منهار الأعصاب، مرفه … أدركت من أول يوم أن أفكاري عن حياة الكد وعن الكروم لا تساوي قلامة ظفر. أما بخصوص الحب، فينبغي أن أقول لك إن العيش مع امرأة قرأت سبنسر، ومضت معك إلى آخر الدنيا، ليس طريفًا، تمامًا مثل العيش مع أي أنفيسا أو أكولينا. فمنها أيضًا تفوح رائحة المكواة والبودرة والعقاقير. نفس ورق تجعيد الشعر كل صباح، وخداع النفس عينه.

– المكواة لا غنى عنها في شئون البيت — قال صامويلنكو وهو يتضرج لأن لايفسكي يتحدث معه بصراحة عن امرأة يعرفها — أنت اليوم يا فانيا معتل المزاج كما ألاحظ. ناديجدا فيودوروفنا امرأة رائعة، مثقفة، وأنت شخص نادر الذكاء — ومضى صامويلنكو يقول وهو يتلفت نحو الموائد المجاورة — أنتما بالطبع لم تعقدا قرانكما، ولكن هذا ليس ذنبكما، وعلاوة على ذلك … ينبغي أن نتجرد من التحيز ونقف على مستوى الأفكار الحديثة. أنا أقف في صف الزواج المدني … نعم، ولكني أعتقد أنه طالما اقترنتما فينبغي أن تعيشا معًا حتى الممات.

– بلا حب؟

فقال صامويلنكو: سأوضح لك الآن. منذ حوالي ثماني سنوات كان لدينا هنا وكيل، رجل عجوز، نادر الذكاء. وكان يقول: أهم شيء في الحياة الزوجية هو الصبر. هل تسمعني يا فانيا؟ ليس الحب، بل الصبر. الحب لا يمكن أن يستمر طويلًا. لقد عشت حوالي عامين في ظل الحب، والآن يبدو أن حياتك العائلية دخلت مرحلة عليك فيها، لكي تحافظ على التوازن، كما يقال، أن تستخدم كل ما لديك من صبر.

– أنت تؤمن بما قاله صاحبك الوكيل العجوز، أما بالنسبة لي فنصيحته هراء. عجوزك كان بوسعه أن ينافق، كان بوسعه أن يتمرن على الصبر وفي الوقت نفسه ينظر إلى الشخص الذي لا يحبه باعتباره شيئًا ضروريًّا لتمريناته، ولكني لم أسقط بعد إلى هذه الدرجة من الانحطاط. فإذا ما أردت أن أتمرن على الصبر فسأشتري أثقالًا حديدية أو حصانًا سريعًا، أما الإنسان فسأدعه في حاله.

طلب صامويلنكو نبيذًا أبيض بالثلج. وبعد أن شرب كلٌّ منهما كوبًا سأله لايفسكي فجأة: قل لي من فضلك، ما معنى تليُّن المخ؟

– كيف أشرح لك … إنه … مرض يصبح المخ بسببه أكثر لينًا … أكثر سيولة يعني …

– هل يمكن علاجه؟

– نعم، إذا لم يكن قد استشرى. حمامات باردة، حشرات الذراح … ثم بالطبع شيءٌ ما باطنيًّا.

– مفهوم … وهكذا، فوضعي كما ترى. لا أستطيع أن أعيش معها، هذا فوق طاقتي. أنا معك هنا أتفلسف وأبتسم، أما في البيت فأنهار تمامًا. أشعر بضيق لا يطاق إلى درجة أنه لو قيل لي مثلًا إنني لا بد أن أعيش معها ولو شهرًا آخر لأطلقت على رأسي رصاصة كما أعتقد. وفي الوقت نفسه لا أستطيع أن أهجرها. فهي وحيدة، لا تقدر على العمل، وليس هناك نقود لدي أو لديها … فإلى أين تذهب؟ إلى من تتوجه؟ لا أجد أي حل … وهكذا فلتقل لي ما العمل؟

فدمدم صامويلنكو وهو لا يدري ماذا يقول: أم … هل هي تحبك؟

– نعم، تحبني بالقدر الذي تحتاج فيه في سنها وبطبع كطبعها إلى رجل. فسيكون من الصعب عليها أن تتركني مثلما عليها أن تترك البودرة أو ورق تجعيد الشعر. أنا بالنسبة لها جزء ضروري لا يتجزأ من غرفة نومها.

أحس صامويلنكو بالحرج فقال: أنت اليوم يا فانيا معتل المزاج. يبدو أنك لم تنم.

– نعم، نمت نومًا سيئًا … وعمومًا يا أخي أشعر بحالتي في غاية السوء. في رأسي فراغ، وقلبي متوقف، أحس بضعف لا أعرف كنهه … يجب أن أهرب!

– إلى أين؟

– إلى هناك، إلى الشمال. إلى الصنوبر والفطر، إلى الناس، إلى الأفكار … أنا مستعد أن أعطي نصف عمري مقابل أن أستحم الآن في نهير في مكان ما بمحافظة موسكو أو تولا، وأشعر بالبرد، أتدري، ثم أتسكع ثلاث ساعات ولو مع أبلد طالب وأثرثر، أثرثر … ورائحة الدريس، ما أروعها! هل تذكر؟ أما في الأمسيات، عندما تتجول في البستان، تتناهى إليك من البيت أنغام البيانو، وتسمع ضجيج قطار …

وضحك لايفسكي من المتعة، واغرورقت عيناه بالدموع، ولكي يداريها، مد جسمه إلى الطاولة المجاورة ليأخذ كبريتًا دون أن ينهض من مكانه.

وقال صامويلنكو: أما أنا فلم أذهب إلى روسيا منذ ثمانية عشر عامًا. نسيت كيف تبدو هناك. أعتقد أنه ليس هناك مكان أروع من القوقاز.

– عند فيريشاجين٤ صورة: في قاع بئر سحيقة ألقي بأشخاص حوكموا بالإعدام. قوقازك الرائع يبدو لي مثل هذه البئر تمامًا. لو خيرت بين أمرين: أن أكون منظف مداخن في بطرسبرج أو أميرًا هنا لاخترت وظيفة منظف المداخن.

واستغرق لايفسكي في التفكير. وعندما نظر صامويلنكو إلى جسمه المحني، وعينيه المحدقتين في نقطة واحدة، وإلى وجهه الشاحب العرقان، وصدغيه الغائرين، وإلى أظفاره المقضومة، وإلى شبشبه الذي تدلى من كعبه فكشف جوربًا قد رتق بصورةٍ سيئة، أحس بالشفقة عليه، وربما لأن لايفسكي بدا له كطفل عاجز فقد سأله: هل أمك على قيد الحياة؟

– نعم، ولكننا افترقنا. لم تستطع أن تغفر لي هذه العلاقة.

كان صامويلنكو يحب صديقه. كان يرى في لايفسكي فتى طيبًا، طالبًا، وشخصًا نزيهًا، يمكن معه أن تشرب وتضحك وتتحدث بما في نفسك. وكانت الجوانب التي يفهمها فيه هي التي لا تعجبه أبدًا. فقد كان لايفسكي يشرب كثيرًا وفي الوقت غير المناسب، ويلعب الورق، ويحتقر وظيفته، ويعيش بأكثر مما يسمح به دخله، ويستخدم كثيرًا في حديثه عبارات غير لائقة، ويسير في الشارع بالشبشب، ويتشاجر مع ناديجدا فيودوروفنا أمام الغرباء … وهذا لم يكن يعجب صامويلنكو. أما أن لايفسكي كان في وقتٍ ما طالبًا بكلية الآداب، ومشتركًا الآن في مجلتين من المجلات السميكة، وكثيرًا ما يتحدث بذكاء بحيث لا يفهمه إلا القليلون، ويعاشر امرأة مثقفة … فكل هذا لم يكن صامويلنكو يفهمه، وكان يعجبه، وقد اعتبر لايفسكي أعلى منه واحترمه.

وقال لايفسكي وهو ينفض رأسه: هناك شيء آخر. وليكن هذا بيننا فقط. ما زلت أخفيه عن ناديجدا فيودوروفنا فلا تتفوه به عرضًا أمامها … لقد تلقيت منذ ثلاثة أيام رسالة بأن زوجها توفي من تلين المخ.

فتنهد صامويلنكو وقال: عليه الرحمة … ولماذا تخفي عنها ذلك؟

– اطلاعها على الرسالة سيعني: تفضلي إلى الكنيسة لنعقد قراننا. بينما أولًا ينبغي أن نستوضح علاقتنا. وعندما تتأكد من أننا لا نستطيع أن نعيش معًا سأريها الرسالة. عندها لن يكون ذلك خطرًا.

– أتدري يا فانيا؟ — قال صامويلنكو واكتسى وجهه فجأة بتعبير حزين وضارع، كأنما كان ينوي أن يطلب شيئًا حلوًا للغاية ويخشى أن يرفض طلبه — تزوج يا عزيزي!

– ما الداعي؟

– قم بواجبك إزاء هذه السيدة الرائعة. لقد مات زوجها، وهكذا فهذه هي العناية الإلهية تشير لك بما يجب عمله!

– يا لك من غريب! فلتفهم أن هذا مستحيل. الزواج عن غير حب هو عمل وضيع وغير جدير بالإنسان تمامًا، كأن تؤم الصلاة وأنت غير مؤمن.

– ولكن ذلك واجب عليك!

فسأل لايفسكي بعصبية: ولماذا هو واجب عليَّ؟

– لأنك أخذتها من زوجها وأصبحت مسئولًا عنها.

– ولكني أقول لك باللغة الروسية: أنا لا أحبها!

– إذا لم يكن هناك حب فلتحترمها، ولتبهجها.

فقال لايفسكي مقلدًا نبرته بسخرية: فلتحترمها، ولتبهجها! كأنما هي كبيرة الراهبات … أنت سيكولوجي وفسيولوجي سيئ إذا كنت تعتقد أنك يمكن أن تعيش مع امرأة على الاحترام والإبهاج فقط. المرأة بحاجة قبل كل شيء إلى غرفة نوم.

فقال صامويلنكو بخجل: فانيا، فانيا …

– أنت طفل عجوز، منظِّر، أما أنا فعجوز شاب، وعملي، ولن يفهم أحدنا الآخر أبدًا. من الأفضل أن نترك هذا الحديث — وصاح لايفسكي النادل — يا مصطفى، كم حسابنا؟

فانزعج الدكتور وأمسك بذراع لايفسكي: لا، لا … أنا سأدفع. أنا الذي طلبت — وصاح بمصطفى — سجله على حسابي.

نهض الصديقان وسارا في صمت على الكورنيش. وتوقفا عند مدخل البوليفار وصافح بعضهما بعضًا مودعين.

وقال صامويلنكو متنهدًا: كم أنتم مدللون أيها السادة! لقد ساقت لك الأقدار امرأة شابة، جميلة، مثقفة، وإذا بك ترفضها، ولو أعطاني الله ولو عجوزًا مهدمة، بشرط أن تكون رقيقة وطيبة، لما وسعتني الدنيا من الفرحة! ولعشت معها في كرمنا و…

واستدرك صامويلنكو فقال: ولتعد لي الشاي، هذه الساحرة الشمطاء.

وودع لايفسكي ومضى في البوليفار. وعندما سار في البوليفار، رزينًا، مهيبًا، بتعبير صارم على الوجه، وفي سترته البيضاء الناصعة وحذائه الطويل الملمع بصورةٍ ممتازة، وقد نفخ أمامه صدره المزدان بوسام فلاديمير، في تلك اللحظة أحس بإعجاب شديد بنفسه، وخيل إليه أن العالم كله ينظر إليه بسرور. وتطلع حواليه دون أن يدير رأسه فوجد أن البوليفار منسق جيدًا، وأن أشجار السرو الفتية والكافور، والنخل القبيح الأعجف جميلة جدًّا، وسوف تنشر بمضي الزمن ظلالها الوارفة، وأن الشركس قوم شرفاء وكرماء. وفكر في نفسه: «من الغريب أن القوقاز لا يعجب لايفسكي، غريب جدًّا.»

وقابله خمسة جنود يحملون البنادق فأدوا له التحية. وعلى الرصيف الأيمن للبوليفار مرت زوجة أحد الموظفين مع ابنها التلميذ، فصاح صامويلنكو محييًا وهو يبتسم بارتياح: صباح الخير يا ماريا قسطنطينوفنا! هل كنتِ تستحمين؟ ها … ها … ها … تحياتي لنيكوديم ألكسندريتش!

وواصل سيره وهو لا يزال يبتسم بارتياح، ولكنه عندما رأى ممرضًا عسكريًّا يسير في اتجاهه عبس فجأة واستوقفه وسأله: هل هناك أحد في المستشفى؟

– لا أحد يا صاحب المعالي.

– هه؟

– لا أحد يا صاحب المعالي.

– حسنًا، انصرف.

واتجه وهو يتأرجح بعظمة إلى كشك مرطبات، حيث كانت تجلس امرأة يهودية عجوز كبيرة الصدر، وتدعي أنها جورجية، وقال لها بصوتٍ عالٍ وكأنه يقود فوجًا: لو سمحتِ رجاء، أعطيني ماء صودا!

٢

كان عدم حب لايفسكي لناديجدا فيودوروفنا يتجلى أساسًا في أن كل ما كانت تقوله وتفعله يبدو له كذبًا أو شبيهًا بالكذب، وكل ما كان يقرؤه ضد النساء والحب بدا له منطبقًا أكثر شيء عليه وعلى ناديجدا فيودوروفنا وعلى زوجها. وعندما عاد إلى البيت كانت جالسة بجوار النافذة، وقد ارتدت ملابسها وصففت شعرها، تشرب القهوة بوجه مهموم وتقلب صفحات عدد من مجلة سميكة، ففكر لايفسكي بأن شرب القهوة ليس حدثًا بهذه الأهمية التي تستدعي إضفاء تعبير الهم على الوجه، وأنها عبثًا ضيعت الوقت في تسريحة موضة لأنه لا يوجد هنا من يبدي إعجابه ولا حاجة لذلك. وفي عدد المجلة رأى كذبًا أيضًا. وفكر أنها تتأنق وتصفف شعرها لكي تبدو جميلة، وتقرأ لكي تبدو ذكية.

وسألته: هل هناك مانع أن أذهب اليوم للاستحمام؟

– حسنًا … لو ذهبت أو لم تذهبي فلا أظن أن زلزالًا سيحدث بسبب ذلك.

– كلا، ولكني أسأل لأني أخشى أن يغضب الدكتور.

– اسألي الدكتور إذن. أنا لست دكتورًا.

في هذه المرة كان أكثر شيء لم يعجب لايفسكي في ناديجدا فيودوروفنا عنقها الأبيض المكشوف وخصلاتها المجعدة على قفاها، فتذكر أن آنا كارينينا،٥ عندما لم تعد تحب زوجها لم يعجبها فيه قبل كل شيء أذناه، ففكر: «كم هذا صحيح! كم هو صحيح!» وأحس بضعف وخواء ذهني فاتجه إلى غرفة مكتبه، واستلقى على الكنبة، وغطى وجهه بمنديل لكيلا يزعجه الذباب. وامتدت في ذهنه أفكار ذابلة متثاقلة عن نفس الشيء كقافلة عربات طويلة في مساء خريفي ممطر، فاستولت عليه حالة قهر وخمول. وخيل إليه أنه مذنب في حق ناديجدا فيودوروفنا وزوجها، وأن زوجها مات بسببه. خيل إليه أنه مذنب في حق حياته هو التي أفسدها، في حق عالم الأفكار السامية والمعارف والعمل، فبدا له هذا العالم الرائع ممكنًا وموجودًا ليس هنا، على شاطئ البحر، حيث يتسكع الأتراك الجوعى والأبخازيون الكسالى، بل هناك في الشمال، حيث الأوبرا والمسارح والصحف وكل صور النشاط الذهني. لا يمكن للإنسان أن يكون شريفًا، ذكيًّا، ساميًا وطاهرًا إلا هناك وليس هنا. واتهم نفسه بأنه ليست لديه مُثل عليا وفكرة موجهة في الحياة، رغم أنه كان يفهم ذلك الآن بصورةٍ غامضة. فمنذ عامين، عندما أحب ناديجدا فيودوروفنا، بدا له أنه ما إن يتحد بها ويسافر معها إلى القوقاز حتى ينجو من وضاعة الحياة وخوائها؛ وها هو ذا الآن أيضًا واثق من أنه ما إن يهجر ناديجدا فيودوروفنا ويرحل إلى بطرسبرج حتى يحصل على كل ما يحتاج إليه.

– الهرب! — دمدم وقد جلس وأخذ يقضم أظفاره — الهرب!

وتصور في خياله كيف يستقل السفينة، ثم يفطر، ويشرب البيرة المثلجة، يتحدث على السطح مع السيدات، ثم يستقل القطار في سيفاستوبول ويرحل. مرحبًا أيتها الحرية! وتمرق المحطات الواحدة تلو الأخرى، ويصبح الهواء أكثر برودة وصلابة، وها هي ذي أشجار البتولا والشوح، ها هي ذي كورسك، وموسكو … وفي المقاصف حساء الكرنب، وضأن بالعصيدة، وسمك الحفش، والبيرة، وباختصار ليست تلك النواحي الآسيوية، بل روسيا، روسيا الحقيقية! والمسافرون في القطار يتحدثون عن التجارة والمطربين الجدد، وعن الميول الفرنسية–الروسية. وفي كل مكان تحس بالحياة المثقفة، المهذبة، الحية، النشطة … بسرعة، بسرعة! … وها هو ذا أخيرًا شارع نيفسكي، وشارع البحر الكبير، وها هي ذي حارة كوفنسكي، حيث كان يعيش مع الطلبة في وقتٍ ما، وها هي ذي السماء الرمادية الحبيبة، ورذاذ المطر، والحوذية المبتلون …

وصاح أحد ما في الغرفة المجاورة: إيفان أندريتش! هل أنتم هنا؟

فأجاب لايفسكي: أنا هنا! ماذا تريد؟

– أوراق!

نهض لايفسكي بكسل، وبدوار في رأسه، ومضى إلى الغرفة المجاورة وهو يتثاءب ويقرقع بالشبشب. وعند النافذة المفتوحة وقف في الشارع أحد زملائه الموظفين من الشبان وهو يرتب على حافة النافذة أوراقًا رسمية.

– لحظة يا عزيزي — قال لايفسكي بنعومة وذهب ليبحث عن المحبرة، وعندما عاد إلى النافذة وقَّع على الأوراق دون أن يقرأها وقال — حر!

– نعم. هل ستأتون اليوم إلى العمل؟

– لا أعتقد … متعب قليلًا. قل يا عزيزي لشيشكوفسكي إنني سأمر عليه بعد الغداء.

انصرف الموظف. واستلقى لايفسكي من جديد على الكنبة في غرفة مكتبه وأخذ يفكر: «وإذن، ينبغي أن أزن جميع الأمور وأتدبرها. قبل أن أرحل ينبغي أن أسدد ديوني. أنا مدين بحوالي ألفَي روبل. وليس لديَّ نقود … بالطبع ليس هذا مهمًّا … سأدفع الآن جزءًا كيفما كان، والباقي أرسله بعد ذلك من بطرسبرج. المهم ناديجدا فيودوروفنا … قبل كل شيء ينبغي أن نستوضح علاقاتنا … نعم.»

وبعد فترة قصيرة فكر: أليس من الأفضل أن أذهب إلى صامويلنكو للتشاور؟

وقال في نفسه: «من الممكن أن أذهب، ولكن أي فائدة من ذلك؟ سأحدثه مرة أخرى بلا مناسبة عن غرفة النوم، وعن النساء، وعما هو شريف وغير شريف. يا للشيطان! أي أحاديث يمكن أن تكون عما هو شريف وغير شريف إذا كان من الضروري إنقاذ حياتي بسرعة إذا كنت أختنق في هذا السجن اللعين وأقضي على نفسي؟ عليَّ في النهاية أن أفهم أن الاستمرار في حياة كحياتي وضاعة وقسوة يتضاءل أمامها كل شيء آخر. ينبغي أن أهرب! — دمدم وهو يجلس — أن أهرب!»

أدخل منظرُ الشاطئ المقفر، والقيظ المحرق، ورتابة الجبال الملفعة بغلالة ضبابية ليلكية، والمتشابهة والصامتة أبدًا، والوحيدة أبدًا، على نفس لايفسكي الوحشة، وخيل إليه أنها تخدره وتسرقه. وربما كان ذكيًّا جدًّا، موهوبًا وشريفًا بدرجةٍ رائعة، وربما لو لم تحصره الجبال والبحر من جميع الجهات لأصبح شخصية محلية ممتازة أو رجل دولة وخطيبًا أو كاتبًا صحافيًّا، أو مناضلًا من المتحمسين الغيورين. من يدري! وإذا كان الأمر كذلك فأليس من الغباء أن نناقش ما إذا كان عملًا شريفًا أم غير شريف إذا ما قام إنسان موهوب أو نافع، كالموسيقار أو المصور مثلًا، بكسر جدار السجن وخداع حراسه كي يهرب من الأسر؟ كل شيء شريف بالنسبة لإنسان في وضع كهذا.

في الساعة الثانية جلس لايفسكي وناديجدا فيودوروفنا إلى مائدة الغداء. وعندما قدمت لهما الطاهية حساء أرز بالطماطم قال لايفسكي: كل يوم نفس الشيء. لماذا لا تطهون حساء كرنب؟

– لا يوجد كرنب.

– غريبة. عند صامويلنكو يطهون حساء كرنب، وعند ماريا قسطنطينوفنا حساء كرنب، أنا الوحيد الذي يتوجب عليه لسببٍ ما أن يأكل هذا السائل المائع المسكر. لا يصح هذا يا عزيزتي.

ومثلما لدى الغالبية العظمى من الأزواج لم يكن أي غداء لدى لايفسكي وناديجدا فيودوروفنا قبلًا يخلو من النزوات والمشاحنات، ولكن منذ أن قرر لايفسكي أنه لم يعد يحبها فقد حرص على أن يتنازل أمامها في كل أمر، وكان يخاطبها بنعومة وأدب، ويبتسم ويناديها عزيزتي.

وقال وهو يبتسم: هذا الحساء يشبه بمذاقه عرق السوس — وأجبر نفسه على أن يبدو بشوشًا، ولكنه لم يصبر فقال — لا أحد عندنا يراعي شئون البيت … إذا كنت مريضة إلى هذه الدرجة أو مشغولة بالقراءة فليكن، سأتولى أنا شئون المطبخ.

وكانت قبلًا قد ترد عليه: «تولها.» أو «أنت كما يبدو تريد أن تجعل مني طاهية.» أما الآن فقد نظرت إليه فقط بتهيب، وتضرج وجهها.

فسألها برقة: حسنًا، كيف حالك اليوم؟

– اليوم لا بأس. فقط ضعف بسيط.

– يجب أن تحافظي على نفسك يا عزيزتي. أنا خائف عليك جدًّا.

كانت ناديجدا فيودوروفنا مريضة بشيء ما. وقال صامويلنكو إن عندها حمى منقطعة وأخذ يطعمها الكينا. أما الطبيب الآخر، والمدعو أوستيموفيتش؛ وهو رجل طويل القامة، نحيف، منعزل عن الناس، يجلس نهارًا في البيت ويخرج مساء ويتجول على الكورنيش بهدوء عاقدًا يديه خلفه ومادًّا عصًا بطول ظهره ويسعل، فقد وجد لديها مرضًا نسائيًّا ووصف لها كمادات ساخنة. وفي السابق، عندما كان لايفسكي يحب ناديجدا فيودوروفنا، كان مرضها يثير شفقته وخوفه، أما الآن فكان يرى الكذب حتى في مرضها. فالوجه الأصفر النعسان، والنظرات الذابلة والتثاؤب، التي كانت تطرأ على ناديجدا فيودوروفنا، بعد نوبات الحمى، وتدثرها أثناء النوبة بالحرام بحيث تبدو أكثر شبهًا بصبي منها بامرأة، واختناق الجو في غرفتها ورائحتها غير الطيبة … كل ذلك كان في رأيه محطمًا للأوهام ومضادًّا للحب والزواج.

وكان الطبق الثاني الذي قدم إليه هو سبانخ بالبيض المسلوق، أما ناديجدا فيودوروفنا فقدم إليها، كمريضة، مهلبية فواكه مع اللبن. وعندما لمست المهلبية بالملعقة في البداية بوجه مهموم، ثم أخذت تتناولها بكسل وتبلعها باللبن فيسمع لايفسكي بلعاتها، تملكته كراهية شديدة حتى إنه أحس بحك في رأسه. كان يعي أن مثل هذا الشعور يمكن أن يكون مهينًا حتى تجاه كلب، إلا أنه لم يكن مستاء من نفسه، بل من ناديجدا فيودوروفنا لأنها هي التي أثارت فيه هذا الشعور، وأدرك السبب الذي يدفع بالعشاق أحيانًا إلى قتل عشيقاتهم. وما كان هو بالطبع ليقتل، ولكن لو أنه أصبح في مكان محلف لبرأ القاتل.

Merci يا عزيزتي، قال بعد الغداء وقبل ناديجدا فيودوروفنا في جبينها.

وعندما دخل غرفة مكتبه ظل يذرعها من ركن لركن حوالي خمس دقائق، وهو يتطلع بطرف عينه إلى الحذاء الطويل، ثم جلس على الكنبة ودمدم: الهرب، الهرب! استيضاح علاقاتنا، ثم الهرب!

استلقى على الكنبة وتذكر من جديد أن زوج ناديجدا فيودوروفنا قد مات ربما بسببه.

وأخذ يقنع نفسه وهو مستلقٍ رافعًا ساقيه لكي يرتدي الحذاء الطويل: من الغباء تحميل إنسان الذنب لأنه أحب أو لم يعد يحب. الحب والكراهية لا يخضعان لسلطاننا. أما بخصوص زوجها فربما أكون، بصورةٍ غير مباشرة، أحد أسباب موته، ولكن هل أنا مذنب في أنني أحببت زوجته وهي أحبتني؟

ثم نهض وتناول عمرته، وخرج متوجهًا إلى زميله شيشكوفسكي الذي كان الموظفون يجتمعون عنده يوميًّا للعب الورق وتناول البيرة المثلجة.

وفكر لايفسكي وهو سائر في الطريق: «إنني أشبه هَملِت في ترددي. كم كان شكسبير على حق في ملاحظته! أوه كم كان على حق!»

٣

لكي يتجنب الدكتور صامويلنكو الملل، واستجابة منه لحاجة الوافدين الجدد والعزاب، الذين لم يكن لديهم مكان يتغدون فيه لعدم وجود فنادق في المدينة، فقد فتح في بيته شيئًا أشبه ﺑ «التابل دوت».٦ وفي الوقت الذي نروي عنه كان يتناول الطعام لديه شخصان فقط: عالم الحيوان الشاب فون كورين، الذي كان يأتي صيفًا إلى البحر الأسود لدراسة علم أجنة قناديل البحر، والشماس بوبيدوف، الذي تخرج حديثًا في المعهد الديني وأُرسل إلى هذه المدينة الصغيرة في مهمة ليتولى أعمال الشماس العجوز المسافر للعلاج. وكان كلٌّ منهما يدفع اثني عشر روبلًا في الشهر مقابل الغداء والعشاء، وأخذ صامويلنكو منهما عهدًا بأنهما سيجيئان للغداء في الساعة الثانية دون تأخير.

وفي العادة كان فون كورين يأتي أولًا. يجلس صامتًا في غرفة الجلوس ويتناول ألبومًا من فوق الطاولة ويتفحص باهتمام الصور الباهتة لرجالٍ ما غير معروفين بسراويل عريضة وقبعات أسطوانية، وسيدات بتنورات مبطنة بالأسلاك وقلنسوات. ولك يكن صامويلنكو يذكر إلا أسماء القليلين منهم، أما أولئك الذين نسيهم فيقول عنهم متنهدًا: «رجل رائع، نادر الذكاء!» وبعد أن يفرغ فون كورين من الألبوم يتناول مسدسًا من الرف، ويزر عينه اليسرى ويسدده طويلًا إلى صور الأمير فورونتسوف، أو يقف أمام المرآة ويتأمل وجهه الأسمر وجبينه العريض وشعره الأسود المجعد كشعر الزنجي، وقميصه المصنوع من قماش شيت كابي اللون بأزهار كبيرة، والذي يشبه سجادة عجمية، وحزامه الجلدي العريض الذي يحل محل الصديري. وكان تأمل النفس يجلب له متعة لا تكاد تقل عن متعة تفحص الألبوم أو المسدس ذي الحلية الثمينة. كان في غاية الرضا عن وجهه، وعن لحيته الجميلة المقصوصة، وعن كتفيه العريضتين اللتين كانتا دليلًا واضحًا على صحته الجيدة وبنيانه القوي. وكان راضيًا عن بدلته الأنيقة ابتداءً برابطة العنق المختارة حسب لون القميص، وانتهاءً بالحذاء الأصفر.

وبينما هو يتفحص الألبوم أو يقف أمام المرآة يسعى صامويلنكو في هذه الأثناء في المطبخ أو بجواره، في المدخل بدون سترة وصديري، عريان الصدر، منفعلًا والعرق يتصبب منه، ويدور حول الطاولات وهو يعد السلاطة أو صلصلة ما، أو يقطع اللحم والخيار والبصل لحساء «الأكروشكا»، وفي الوقت نفسه يحملق بعينين جاحظتين غاضبتين في جندي المراسلة الذي يعاونه ويلوح له مهددًا تارة بالسكين وتارة بالملعقة.

ويأمره: هات الخل! لا، ليس الخل بل الزيت! — ويصيح فيه ويدق بقدميه — إلى أين يا حيوان؟

فيقول الجندي المأخوذ بصوتٍ رفيع متحشرج: لأحضر الزيت يا صاحب المعالي.

– بسرعة. إنه في الصوان! وقل لداريا أن تضع بعض الشبت في برطمان الخيار! الشبت! غط القشدة يا مسطول وإلا سقط فيها الذباب!

وبدا أن البيت كله يئز من صراخه. وقبل أن تبلغ الساعة الثانية بعشر أو خمس عشرة دقيقة يأتي الشماس، وهو شاب، في حوالي الثانية والعشرين، نحيل، طويل الشعر، بلا لحية، وبشارب لا يكاد يلحظ.

وعندما يدخل غرفة الجلوس يرسم علامة الصليب في اتجاه الأيقونة، ويبتسم، ويمد يده إلى فون كورين.

فيرد عالم الحيوان ببرود: مرحبًا. أين كنت؟

– في المرفأ. كنت أصطاد السمك.

– مفهوم طبعًا … يبدو لي أيها الشماس أنك لن تزاول عملًا أبدًا.

فيقول الشماس وهو يبتسم ويدس يديه في جيبَي قفطانه الأبيض العميقين للغاية: ولم لا؟ العمل ليس دبًّا … لن يهرب إلى الغابة.

فيتنهد عالم الحيوان: لا يوجد من يؤدبك!

وتمر خمس عشرة أو عشرون دقيقة أخرى دون أن يدعوهما أحد إلى الغداء، ولا يزال يسمع وقع حذاء الجندي وهو يجري من المدخل إلى المطبخ وبالعكس، وبينما صامويلنكو يصيح: ضعه على الطاولة! إلى أين تمده؟ اغسله أولًا!

ويبدأ الشماس وفون كورين، وقد شعرا بالجوع، في دق الأرض بكعوبهما، معربين بذلك عن نفاد صبرهما كالمشاهدين في أعلى المسرح. وأخيرًا يفتح الباب ويعلن الجندي المعذب: «الأكل جاهز!»

وفي غرفة الطعام يستقبلهما صامويلنكو، محمرًّا، متفصدًا عرقًا بسبب جو المطبخ الخانق، وغاضبًا. وينظر إليهما بغل، ثم يرفع غطاء وعاء الحساء والرعب يكسو وجهه، ويصب لكل منهما طبقًا، وبعد أن يتأكد أنهما يأكلان بشهية وأن الطعام يعجبهما، عندها فقط يتنفس الصعداء ويجلس في فوتيله العميق. ويصبح وجهه ساهمًا، مداهنًا … ويصب لنفسه على مهل كأسًا من الفودكا ويقول: في صحة الجيل الجديد!

وبعد حديثه اليوم مع لايفسكي ظل صامويلنكو طوال الوقت من الصباح إلى الغداء، ورغم مزاجه الرائع، يشعر في قرارة نفسه بانقباض مبهم. كان يشفق على لايفسكي ويرغب في مساعدته. وبعد أن شرب قبل الحساء كأس فودكا تنهد وقال: رأيت اليوم فانيا لايفسكي. مسكين، شقي في حياته. الناحية المادية لديه لا تبشر بخير، والأهم من ذلك أن الناحية السيكولوجية سحقته. إنني أشفق على هذا الشاب.

فقال فون كورين: هذا هو من لا أشفق عليه! لو أن هذا الرجل اللطيف أوشك على الغرق لدفعته بالعصا: اغرق يا أخي، اغرق …

– غير صحيح. ما كنت لتفعل ذلك.

فهز عالم الحيوان كتفيه وقال: ولماذا تظن ذلك؟ أنا أيضًا، مثلك، قادر على عمل الخير.

فسأل الشماس: وهل إغراق إنسان عمل خير؟

وضحك.

– إذا كان لايفسكي، نعم.

فقال صامويلنكو رغبة منه في تغيير مجرى الحديث: يبدو أن الأكروشكا ينقصها شيء ما …

فمضى فون كورين يقول: لايفسكي بلا شك ضار وخطر على المجتمع مثل ميكروب الكوليرا. وإغراقه خدمة.

– ليس مما يشرفك أن تقول هذا عن قريب لك. خبرني، لماذا تكرهه إلى هذا الحد؟

– لا تقل كلامًا فارغًا يا دكتور. إن كراهية ميكروب أو احتقاره حماقة، أما أن نعتبر من الأقربين كل من هب ودب دون تمييز ومهما كان الأمر، فكلا، أشكركم، إن هذا يعني ألا نناقش ونفكر، معناه التخلي عن الموقف العادل تجاه الناس؛ أي نفض اليدين باختصار. إنني أعتبر لايفسكي صاحبك وغدًا ولا أخفي ذلك، وأنظر إليه كوغد بكل ما فيَّ من استقامة. أما أنت فتعتبره من أقربائك، حسنًا فلتعانقه ولتقبله. تعتبره من الأقربين، وهذا معناه أنك تنظر إليه كما تنظر إليَّ وإلى الشماس، أي لا نظرة، أنك عديم الاكتراث بالجميع على حد سواء.

فدمدم صامويلنكو وهو يقطب مشمئزًّا: تسمي الإنسان وغدًا! هذا معيب إلى درجة لا أستطيع أن أصفها لك!

فاستطرد فون كورين: الناس تحاكم بتصرفاتها. فلتحكم أنت يا شماس. سوف أتحدث إليك. فنشاط السيد لايفسكي مبسوط أمامك بوضوح كمخطوط صيني طويل، وبوسعك أن تقرأه من أوله إلى آخره. فما الذي فعله خلال عامين من إقامته هنا؟ فلنعد ذلك على الأصابع … أولًا: علَّم أهل المدينة لعبة الفنت. ولم تكن هذه اللعبة معروفة هنا منذ سنتين، أما الآن فالجميع، حتى النساء والمراهقون، يلعبون الفنت من الصباح إلى ساعة متأخرة من الليل. وثانيًا: علم البرجوازيين الصغار شرب البيرة، التي لم تكن معروفة هنا أيضًا. والبرجوازيون مدينون له كذلك بمعرفة شتى أنواع الفودكا، حتى إنهم يستطيعون الآن بأعين مغمضة أن يميزوا فودكا كوشيليف عن فودكا سميرنوف رقم واحد وعشرين. وثالثًا: كانوا هنا سابقًا يعاشرون زوجات الآخرين سرًّا، لنفس الاعتبارات التي بسببها يسرق اللصوص سرًّا لا علانية، فقد كان الزنا يعد شيئًا يخجل الناس من عرضه للفرجة العامة. أما لايفسكي فكان رائدًا في هذا الصدد؛ فهو يعاشر زوجة رجل آخر بصورةٍ سافرة. ورابعًا …

أكل فون كورين حساءه بسرعة وأعطى الطبق الفارغ للجندي. ومضى يقول مخاطبًا الشماس: لقد فهمت لايفسكي من الشهر الأول لتعارفنا، جئنا إلى هنا في وقتٍ واحد. والناس من أمثاله يحبون جدًّا التصادق والتقارب والتضامن وما إلى ذلك، لأنهم دائمًا بحاجة إلى صحبة للعب الفنت وللشراب والطعام، وفوق ذلك فهم ثرثارون وبحاجة إلى مستمعين. وتصادقنا، أعني أنه كان يتسكع عندي كل يوم، فيعوقني عن العمل ويتصارح معي بخصوص خليلته. ومنذ الوهلة الأولى أذهلني زيفه إلى درجة أثارت فيَّ الغثيان. وكصديقٍ أنبته: لماذا يشرب كثيرًا، ولماذا ينفق أكثر من دخله ويستدين، ولماذا لا يفعل ولا يقرأ شيئًا، ولماذا هو ضعيف الثقافة إلى هذا الحد وقليل المعرفة، فكان يرد على كل أسئلتي بابتسامة مريرة ويتنهد ويقول: «أنا فاشل! أنا إنسان ضائع!» أو «ماذا تريد منا يا أبتاه، نحن حطام نظام القنانة؟» أو «إننا ننقرض …» أو يشرع في التفوه بهراء طويل عن أونيجين وبتشورين وقابيل بايرون وبازاروف، الذين كان يقول عنهم: «إنهم آباؤنا جسدًا وروحًا.»٧ وكأنما يريد منا أن نفهم أنه ليس المذنب في أن المظاريف الرسمية تتكدس بالأسابيع دون أن يفتحها، وفي أنه يشرب ويسكر الآخرون، بل المذنب في ذلك أونيجين وبتشورين وتورجينيف الذي خلق نموذج الإنسان الفاشل الضائع. وكما يرى، فإن سبب الانحلال الفائق وسوء السلوك ليس فيه نفسه، بل في مكان ما خارجه، في الفضاء. وعلاوة على ذلك، ويا لها من حيلة بارعة! فليس هو وحده المنحل والمزيف والوضيع، بل نحن … «نحن جيل الثمانينيات»، «ونحن ذرية عصر القنانة، الذابلة العصبية»، «نحن شوهتنا الحضارة …»، وباختصار فعلينا أن نفهم أن رجلًا عظيمًا مثل لايفسكي عظيم حتى في سقوطه؛ وأن انحلاله وضحله ودناءته تعتبر ظاهرة تاريخية طبيعية تمليها الضرورة، وأن الأسباب هنا عالمية، عفوية، وأنه علينا أن نعلق أمامه قنديلًا لأنه ضحية نحس الزمن والاتجاهات والوراثة وما إلى ذلك. وكان الموظفون والسيدات جميعًا يصغون إليه يتأوهون ويتنهدون، أما أنا فلم أستطع لفترة طويلة أن أفهم مع من أتعامل: مع عياب ساخر أم مع نصاب بارع؟ إن هذه الأنماط من أمثاله الذين يبدون من الخارج مثقفين، مهذبين قليلًا والذين يتحدثون كثيرًا عن نبلهم، يجيدون التظاهر بأنهم شخصيات معقدة للغاية.

فانفجر صامويلنكو: اسكت! لن أسمح في حضوري بأن يتحدث أحد بسوء عن رجل من أنبل الناس!

فقال فون كورين ببرود: لا تقاطعني يا ألكسندر دافيديتش. سأفرغ من كلامي حالًا. إن لايفسكي كيان غير معقد أبدًا. وإليك إطاره الأخلاقي: في الصباح الشبشب والاستحمام والقهوة، ثم بعد ذلك وحتى الغداء الشبشب والتريض والأحاديث، في الساعة الثانية الشبشب والغداء والخمر، وفي الخامسة الاستحمام والشاي والخمر، ثم الفنت والكذب، وفي العاشرة العشاء والخمر، وبعد منتصف الليل النوم وla femme.٨ وجود محصور في هذا البرنامج الضيق كالبيضة في القشرة. وسواء كان يسير، أو يجلس، أو يغضب، أو يكتب، أو يفرح … فكل شيء يئول إلى الخمر والورق والشبشب والمرأة. والمرأة تلعب في حياته دورًا مشئومًا كاسحًا. وهو نفسه يروي أنه أصبح عاشقًا وهو بعدُ في الثالثة عشرة من عمره. وعندما كان طالبًا بالصف الأول الجامعي عاشر سيدة، كان لها تأثير مفيد عليه ويدين لها بثقافته الموسيقية. وفي الصف الثاني حرر بالنقود بغيًّا من بيت دعارة ورفعها إلى مستواه؛ أي اتخذها خليلة، أما هي فعاشت معه نصف عام وهربت لتعود ثانية إلى صاحبة البيت، وسبب له هذا الهرب كثيرًا من المعاناة الروحية. ويا للحسرة! لقد عانى إلى درجة أنه اضطر إلى ترك الجامعة والعيش سنتين بلا عمل في بيت أهله. ولكن ذلك كان مفيدًا. فقد عاشر في البيت أرملة نصحته بأن يترك كلية الحقوق ويلتحق بكلية الآداب. وهذا ما فعله. وبعد أن تخرج في الكلية أحب بشغف صاحبته الحالية … ما اسمها؟ تلك المتزوجة، وكان عليه أن يهرب بها إلى هنا، إلى القوقاز كأنما سعيًا وراء المثل العليا … واليوم أو غدًا سيكف عن حبها ويهرب عائدًا إلى بطرسبرج، وأيضًا سعيًا وراء المثل العليا.

فدمدم صامويلنكو وهو يحدق بغل في عالم الحيوان: ومن أين لك أن تعرف؟ كُل أحسن.

وقدم لهم سمك البوري المسلوق بالصلصة البولندية. ووضع صامويلنكو لكل من نزيليه سمكة كاملة وصب عليها الصلصة بنفسه. ومرت دقيقتان في صمت.

ثم قال الشماس: المرأة تلعب دورًا جوهريًّا في حياة كل إنسان. ولا حيلة لنا في ذلك.

– نعم، ولكن إلى أي مدى؟ المرأة لدى كل منا أم وأخت وزوجة، وصديق، أما لدى لايفسكي فهي كل شيء، وفي الوقت نفسه هي عشيقة فقط. فهي؛ أي معاشرتها، سعادة حياته وغرضها. إنه مرح، حزين، ضجر، خائب الأمل بسبب المرأة. فإذا سئم الحياة فالمرأة هي المذنبة، وإذا أشرق فجر حياة جديدة، وظهرت المثل العليا المفقودة، فلنفتش هنا أيضًا عن المرأة … ولا ترضيه إلا الكتابات أو الصور التي توجد فيها امرأة. وعصرنا في رأيه سيئ وأسوأ من الأربعينيات أو الستينيات فقط لأننا لا نعرف كيف نستسلم لنشوة الغرام وشهوته إلى درجة الذهول. ويبدو أن لدى طالبي اللذة هؤلاء نتوءًا خاصًّا في المخ مثل الورم اللحمي الخبيث، سحق مخهم ويتحكم في كل سيكولوجيتهم. فلتراقب لايفسكي عندما يجلس في أحد المجتمعات. ولتلاحظ أنه عندما تثير أمامه قضية ما عامة، حول الخلية مثلًا أو الغريزة، فستجده يجلس بعيدًا، صامتًا ولا يسمع. ومنظره ساهم، خائب الأمل، لا شيء يثير اهتمامه، وكل شيء وضيع وتافه. ولكن ما إن تتحدث عن الإناث والذكور، عن أن أنثى العنكبوت مثلًا تأكل الذكر بعد عملية الإخصاب، حتى تلمع عيناه بالفضول، ويتهلل وجهه، وباختصار يستيقظ فيه الإنسان. إن كل أفكاره، مهما كانت نبيلة وسامية أو لامبالية، لها دائمًا نقطة التقاء مشتركة. فإذا سرت معه في الشارع وصادفكما حمار مثلًا … «قل لي لو سمحت — يسألك لايفسكي — ماذا يحدث لو جامع الجمل حمارة؟» وأحلامه! هل روى لك أحلامه؟ إنها رائعة! فمرة يحلم بأنهم يزوجونه من القمر، ومرة يستدعونه إلى الشرطة ويأمرونه هناك بأن يتزوج من قيثارة!

وقهقه الشماس بضحكات رنانة، أما صامويلنكو فقد عبس وقطب وجهه بغضب لكيلا يضحك، ولكنه لم يتمالك نفسه فقهقه.

وقال وهو يمسح دموعه: كذاب على طول الخط! أي والله كذاب!

٤

كان الشماس ضحوكًا جدًّا، يضحك لأي سبب تافه إلى حد الألم في الجنب، إلى حد الإغماء. وبدا كأنما لم يكن يحب الاختلاط بالنساء لأن فيهم جوانب مضحكة ولأن من الممكن إطلاق أسماء مضحكة عليهم. وقد سمى صامويلنكو بالعنكبوت وجندي مراسلته بذكر البط، وتملكه الإعجاب عندما وصف فون كورين كلًّا من لايفسكي وناديجدا فيودوروفنا ذات مرة بالنسانيس. وكان يحدق في الوجوه بنهم ويصغي دون أن تطرف عيناه، ويبدو بوضوح كيف تمتلئ عيناه بالضحك، وكيف يتوتر وجهه في انتظار اللحظة المناسبة لينفلت مطلقًا عنان الضحكات.

ومضى عالم الحيوان يقول بينما حملق فيه الشماس بعينين نهمتين في انتظار كلمات مضحكة: إنه نمط فاسق وفاسد. ومن النادر أن تجد مثل هذا التافه. إنه ذابل الجسد، خائر، عجوز، أما ذهنه فلا يتميز عن ذهن تاجرة سمينة لا تفعل شيئًا سوى أن تأكل وتشرب وتنام على فراش من الريش وتتخذ من حوذيِّها عشيقًا.

وقهقه الشماس من جديد.

فقال فون كورين: لا تضحك يا شماس، فهذه، في النهاية، حماقة منك — ثم انتظر حتى كف الشماس عن الضحك واستطرد — ما كنت لألتفت إلى تفاهته، ولكنت تجاهلته، لو لم يكن ضارًّا وخطرًا إلى هذا الحد. وضرره يتجلى قبل كل شيء في أنه يحوز على إعجاب النساء، وبالتالي فهناك احتمال بأن تكون له ذرية، أي أن يهدي العالم دستة من آل لايفسكي، ضعفاء وفاسدين مثله. وثانيًا فهو معدٍ إلى أقصى درجة. ولقد سبق أن تحدثت لك عن لعبة الفنت والبيرة. ولن يمضي عام أو عامان حتى يكون قد غزا شاطئ القوقاز كله. وأنت تعلم إلى أي مدًى تثق الجماهير، وخاصة شريحتها المتوسطة، في المثقفين وخريجي الجامعات، وفي طريقة السلوك الراقية وبلاغة الحديث. فمهما ارتكب لايفسكي من دناءة فإن الجميع يثقون بأن ذلك حسَن، وأن هذا هو ما ينبغي، لأنه شخص مثقف، ليبرالي وجامعي. وعلاوة على ذلك فهو إنسان فاشل، ضائع، مريض بالعصاب، ضحية الزمن، وهذا يعني أن كل شيء مباح بالنسبة له. وهو فتى لطيف، وشخص طيب القلب، وكم يعطف على ضعف البشر. وهو سلس القياد، متساهل، مطواع، غير متكبر، يمكن معه أن تشرب وتغتاب الناس، وتثرثر … الجماهير ميالة دائمًا إلى التجسيد٩ في الدين والأخلاق، وهي تحب أكثر شيء تلك الآلهة التي تتميز بنفس النواقص التي لديها هي. فلتحكم بنفسك إلى أي مدى يمتد مجال عدواه! وعلاوة على ذلك فهو ممثل لا بأس به ومنافق بارع ويعرف جيدًا من أين تؤكل الكتف. انظر إلى حيله وألاعيبه، ولو مثلًا إلى موقفه من الحضارة؛ إنه لم يشم حتى رائحة الحضارة ومع ذلك يقول: «آه، كم أفسدتنا الحضارة! آه، كم أغبط أولئك المتوحشين، أبناء الطبيعة هؤلاء، الذين لا يعرفون الحضارة!» وهكذا فعلينا، كما ترى، أن نفهم أن حضرته كان في العهود الخوالي، من أشد المخلصين للحضارة، وكرس حياته لخدمتها، وسبر كل أغوارها، لكنها أعيته، وخيبت أمله، وخدعته. إنه كما ترى إذن فاوست، تولستوي الثاني … أما شوبنهاور وسبنسر فيستخف بهما كطفلين ويربت على كتفيهما بأبوية: حسنًا، كيف الحال يا أخي سبنسر؟ وهو بالطبع لم يقرأ سبنسر، ولكن ما ألطفه عندما يقول عن سيدته بسخرية خفيفة واستهانة: «إنها قرأت سبنسر!» ويصغون إليه ولا يريد أحد أن يفهم أن هذا المهرج لا يحق له لا أن يذكر سبنسر بهذه النبرة فحسب، بل ولا حتى أن يقبل نعل حذائه! إن تقويض أسس الحضارة، والأسماء الشهيرة، وهياكل الآخرين، وتلويثها بالقاذورات، والغمز نحوها بتهريج، فقط بغية تبرير وإخفاء الضعف الذاتي والبؤس الأخلاقي … كل ذلك لا يصنعه إلا حيوان مغرور جدًّا ومنحط ودنيء.

وقال صامويلنكو وهو ينظر هذه المرة إلى عالم الحيوان لا بغل، بل بنظرةٍ مذنبة: أنا لا أعرف يا كوليا ما الذي تريده منه؟ إنه إنسان ككل الناس. بالطبع لا يخلو من نواقص، ولكنه يقف على مستوى الأفكار الحديثة، ويخدم، ويعود بالفائدة على الوطن. منذ عشر سنوات كان يعمل هنا وكيل عجوز … رجل نادر الذكاء … ولقد قال هذا الرجل …

فقاطعه عالم الحيوان: كفى، كفى! تقول إنه يخدم. فكيف يخدم؟ هل بمجيئه إلى هنا أصبحت الأمور أفضل والموظفون أكثر انضباطًا وأمانة وتأدبًا؟ بالعكس، فكل ما صنعه أنه صادق على فسادهم بسمعته كرجل مثقف، جامعي. إنه لا يكون منضبطًا إلا في العشرين من كل شهر، عندما يتقاضى المرتب، أما في بقية الأيام فهو فقط يحك الأرض بشبشبه في البيت، ويسعى إلى أن يضفي على نفسه تعبيرًا، كأنما هو يقدم خدمة كبيرة للحكومة الروسية بمعيشته في القوقاز. لا يا ألكسندر دافيديتش، لا تدافع عنه. فلست صادقًا من البداية حتى النهاية. فلو كنت حقًّا تحبه وتعتبره من أقربائك، لما كنت قبل كل شيء لامباليًا تجاه نواقصه، ولما عاملته بتسامح، بل لحاولت من أجل مصلحته أن تقضي على ضرره.

– ماذا تعني؟

– أن تقضي على ضرره، ولمَّا كان مستحيلًا إصلاحه فإن القضاء على ضرره ممكن فقط بوسيلة واحدة …

ومر فون كورين بإصبعه أمام عنقه.

وأضاف قائلًا: أو ربما إغراقه … فلمصلحة البشرية، ولمصلحته هو ينبغي القضاء على هؤلاء الناس. من كل بد.

فدمدم صامويلنكو وهو ينهض وينظر بدهشة إلى وجه عالم الحيوان الهادئ البارد: ماذا تقول؟! يا شماس، ماذا يقول؟ هل جننت؟

فقال فون كورين: أنا لا أصر على الحكم بالإعدام. إذا ثبت أن الحكم بالإعدام شيء ضار فلتبتكروا شيئًا آخر. القضاء على لايفسكي غير ممكن، حسنًا، اعزلوه إذن، جردوه من شخصيته، أرسلوه إلى أعمال السخرة …

– ماذا تقول؟ — قال صامويلنكو بارتياع — بالفلفل، بالفلفل! — صاح بصوتٍ يائس عندما رأى الشماس يأكل القرع المحشو بدون فلفل — ماذا تقول، أنت الرجل النادر الذكاء؟ نرسل صديقنا، الرجل الأبي، المثقف إلى أعمال السخرة!

– إذا كان أبيًّا وقاوم، فليكبل بالقيود!

لم يستطع صامويلنكو إزاء هذا أن ينطق بكلمة واحدة، بل حرك أصابعه فقط. ونظر الشماس إلى وجهه المذهول، والمضحك حقًّا، وقهقه.

وقال عالم الحيوان: دعونا من الحديث عن ذلك. ولكن تذكر شيئًا واحدًا يا ألكسندر دافيديتش، تذكر أن البشرية كانت محصنة ضد أمثال لايفسكي بالصراع من أجل البقاء وبالانتخاب الطبيعي. أما الآن فقد أضعفت ثقافتنا إلى حد كبير الصراع والانتخاب، وعلينا أن نهتم نحن بالقضاء على الضعفاء والفاسدين، وإلا فإن أمثال لايفسكي، عندما يتكاثرون، فسيقضون على الحضارة وستنفسخ البشرية تمامًا. وسنكون نحن المذنبين.

فقال صامويلنكو: إذا كان علينا أن نغرق الناس ونشنقهم، فلتذهب حضارتك إلى الشيطان، ولتذهب البشرية إلى الشيطان! إلى الشيطان! اسمع ما سأقوله لك: أنت عالم كبير، ورجل نادر الذكاء، ومفخرة للوطن، لكن الألمان أفسدوك. نعم الألمان! الألمان!

منذ أن غادر صامويلنكو مدينة «دربت» التي درس فيها الطب لم ير الألمان إلا نادرًا، ولم يقرأ كتابًا ألمانيًّا واحدًا، ولكن كل الشر في السياسة والعلم كان في رأيه صادرًا عن الألمان. ولم يكن بوسعه أن يفسر من أين جاء بهذا الرأي، ولكنه كان متمسكًا به بشدة. وردد مرة أخرى: نعم، الألمان! هيا نتناول الشاي.

نهضوا ثلاثتهم وارتدوا قبعاتهم وخرجوا إلى الحديقة وجلسوا هناك في ظل أشجار القبقب والكمثرى والقسطل الشاحبة. جلس عالم الحيوان والشماس على أريكة بجوار الطاولة، أما صامويلنكو فجلس في مقعد مجدول بمسند عريض مائل. وقدم لهم جندي المراسلة الشاي والمربى وزجاجة عصير مُركز.

كانت الحرارة شديدة، حوالي ثلاثين درجة في الظل. وسكن الهواء القائظ وجمد، وتدلت خيوط العنكبوت المنسدلة من القسطل إلى الأرض بضعف ولم تتحرك.

وتناول الشماس القيثارة الموضوعة هناك دائمًا على الأرض بجوار الطاولة، وضبط أوتارها وغنى بصوتٍ خافت رفيع: «صبيان المعهد الديني وقفوا بباب الحانة …» ولكنه صمت على الفور من شدة الحر، ومسح العرق من جبينه ونظر إلى أعلى، إلى السماء الزرقاء الساخنة. وكان النوم يداعب صامويلنكو. فمن الحر والهدوء ونعاس ما بعد الغداء اللذيذ الذي شمل كل أطرافه بسرعة أحس صامويلنكو بالضعف والسكر. تدلت ذراعاه وضاقت عيناه، ومال رأسه على صدره. وتطلع إلى فون كورين والشماس بتأثر دامع ودمدم: الجيل الجديد … نجم العلم وكوكب الكنيسة … ربما صرت يا صاحب القفطان الطويل مطرانًا، إذن سيكون علي أن أقبل يدك لا قدر الله … لا يهم … ليوفقك الله.

وسرعان ما تردد شخير. وشرب فون كورين والشماس شايهما وخرجا إلى الشارع.

وسأل عالم الحيوان: ستذهب ثانية إلى المرفأ لتصيد السمك؟

– كلا، الدنيا حر.

– تعالَ معي. ستساعدني في تغليف الطرد ونسخ بعض الأشياء. وبالمناسبة سنتحدث عما يمكن أن تشغل به نفسك. ينبغي أن تعمل يا شماس. لا يصح هكذا.

فقال الشماس: كلامك صحيح ومنطقي، ولكن ما يغفر لي كسلي هو ظروف حياتي الحالية. فأنت تعلم أن الوضع غير المحدد يساعد كثيرًا على الخمول. الله وحده يعلم هل أرسلوني إلى هنا مؤقتًا أم بصفة دائمة. أنا أعيش هنا في المجهول، أما زوجتي البائسة فتقيم عند أبيها وتشعر بالحنين. وأصارحك بأن الحر قد سيَّح مخي.

فقال عالم الحيوان: كل هذا هراء. الحر يمكن التعود عليه، وبدون زوجتك يمكن أن تتعود على الحياة. دعك من الدلع. ينبغي أن تسيطر على نفسك.

٥

مضت ناديجدا فيودوروفنا صباحًا إلى البحر لتستحم، ومن خلفها سارت طاهيتها أولجا حاملة إبريقًا وطستًا نحاسيًّا وملاءات وإسفنجة. وكانت تقف في الميناء سفينتان غير معروفتين، بمداخن بيضاء قذرة، ويبدو أنهما سفينتا شحن أجنبيتان. وسار على رصيف المرفأ رجال ما يرتدون ملابس بيضاء وأحذية بيضاء وهم يصيحون عاليًا بالفرنسية، فيردون عليهم من السفينتين. ودقت أجراس كنيسة المدينة بحماس.

وتذكرت ناديجدا فيودوروفنا بارتياح: «اليوم الأحد!»

أحست أنها في صحة تامة، وكان مزاجها مرحًا وعيديًّا. وبدت لنفسها لطيفة جدًّا في فستانها الجديد الفضفاض، المصنوع من الحرير الصيني الخشن، وفي قبعة كبيرة من القش كانت حوافها العريضة مطوية بقوة إلى الأذنين، حتى بدا كأن وجهها يطل مباشرة من علبة. وفكرت بأنه لا توجد في المدينة كلها سوى امرأة واحدة، شابة، جميلة، مثقفة، هي هذه المرأة، وأنها وحدها التي تستطيع أن ترتدي ثيابًا رخيصة ولكنها أنيقة ومختارة بذوق. فهذا الفستان مثلًا يساوي اثنين وعشرين روبلًا فقط، ومع ذلك كم يبدو لطيفًا! وهي الوحيدة في المدينة التي يمكن أن تعجب الرجال، وما أكثرهم! ولذلك فعليهم جميعًا، شاءوا أم أبوا، أن يغبطوا لايفسكي.

وسرها أن لايفسكي في الآونة الأخيرة يعاملها ببرود وبأدب متحفظ، وأحيانًا حتى بتهور وخشونة. وكانت من قبل ترد على كل نزواته ونظرات احتقاره الباردة أو الغريبة، وغير المفهومة، بالدموع وبالتأنيب والتهديد بالرحيل عنه أو بقتل نفسها جوعًا، أما الآن فتتضرج ردًّا على ذلك، وتنظر إليه بإحساس بالذنب وتبتهج لأنه لا يتودد إليها. ولو أنه سبها أو هددها لكان ذلك أفضل وأكثر مدعاة للسرور، فهي تشعر بأنها مذنبة في حقه من جميع الوجوه. بدا لها أنها مذنبة، أولًا، في عدم تعاطفها مع أحلامه عن حياة العمل، التي من أجلها هجر بطرسبرج وجاء هنا إلى القوقاز، وكانت واثقة من أنه غاضب عليها في الفترة الأخيرة لهذا السبب بالذات. وعندما توجهت إلى القوقاز خيل إليها أنها ستجد هنا من أول يوم ركنًا آمنًا على الشاطئ، وحديقة مريحة بظلال وعصافير وجداول، حيث يمكن غرس الزهور والخضروات، وتربية البط والدجاج، واستضافة الجيران، ومعالجة الفلاحين الفقراء وتوزيع الكتب عليهم. ولكن اتضح أن القوقاز جبال عارية وغابات ووديان هائلة، وأن عليك أن تختار طويلًا وتسعى وتبني، وليس هنا أي جيران، والحرارة شديدة، وقد يسطو عليك اللصوص. ولم يكن لايفسكي متعجلًا في الحصول على قطعة أرض، وكانت هي سعيدة بذلك، وبدا كأنهما اتفقا معًا دون كلام ألا يذكرا أبدًا أي شيء عن حياة العمل. وظنت أن صمته معناه أنه غاضب منها لأنها صامتة.

وثانيًا، فقد اشترت دون علمه مختلف الأشياء الصغيرة من متجر أتشميانوف خلال عامين بما قيمته حوالي ثلاثمائة روبل. كانت تشتري بكميات قليلة، تارة منسوجات وتارة حريرًا، وتارة شمسية، ودون أن تلاحظ تراكم هذا الدين.

– اليوم سأخبره بذلك …

قررت بينها وبين نفسها، وعلى الفور وجدت أنه لن يكون مناسبًا أن تحدث لايفسكي عن الديون وهو بهذا المزاج.

وثالثًا، فقد استقبلت مرتين في غياب لايفسكي مفتش الشرطة كيريلين: مرة في الصباح عندما ذهب لايفسكي ليستحم، ومرة في منتصف الليل، عندما كان في الخارج يلعب الورق. وإذ تذكرت ناديجدا فيودوروفنا ذلك تضرج وجهها والتفتت إلى الطاهية وكأنما تخشى أن تكون قد سمعت أفكارها. لقد أدت الأيام الطويلة المملة، الحارة إلى درجة لا تطاق، والأمسيات الرائعة المضنية، والليالي الخانقة، وكل هذه الحياة، عندما لا تعرف من الصباح إلى المساء فيم تنفق الوقت الذي لا لزوم له، والأفكار المتسلطة بأنها أجمل وأصبى امرأة في المدينة، وأن شبابها يضيع هباء، وأن لايفسكي نفسه، شريف وذو عقيدة، ولكنه رتيب ودائمًا يحك الأرض بشبشبه ويقضم أظفاره وممل بنزواته … أدى كل ذلك إلى أن تملكتها الرغبات شيئًا فشيئًا، وأصبحت تفكر كالمجنونة ليل نهار في شيء واحد. لم تكن تحس في أنفاسها، ونظراتها، وفي نبرة صوتها وخطوتها سوى بالرغبة. وأوحى هدير البحر إليها بأنها في حاجة إلى حب، وظلام المساء كذلك، والجبال كذلك … وعندما بدأ كيريلين يغازلها لم يكن في وسعها، ولم تشأ ولم تستطع أن تقاوم، فاستسلمت له …

والآن ذكرتها السفينتان الأجنبيتان والرجال ذوو الملابس البيضاء لسببٍ ما بصالة كبيرة. ورنت في سمعها إلى جانب الأصوات الفرنسية أنغام الفالس فارتعش صدرها بفرحة لا سبب لها. وأحست برغبة في الرقص والتحدث بالفرنسية.

وفكرت بفرح في أن خيانتها لا تنطوي على شيء رهيب. فروحها لم تشارك في هذه الخيانة، بل ما زالت تحب لايفسكي، ويتجلى ذلك في أنها تغار عليه وترثي له وتشعر بالشوق إليه إذا غاب عن البيت. أما كيريلين فقد ظهر أنه لا شيء، فظ إلى حدٍّ ما، رغم أنه جميل، وقد قطعت علاقتها به ولن يتكرر هذا بعد ذلك. ما فات مات، وليس لأحد شأن بذلك، ولو علم به لايفسكي فلن يصدق.

كان على الشاطئ كشك استحمام واحد للنساء، أما الرجال فكانوا يستحمون في العراء. وحينما دخلت ناديجدا فيودوروفنا الكشك وجدت هناك سيدة كبيرة السن، هي ماريا قسطنطينوفنا بيتوجوفا، زوجة أحد الموظفين، وابنتها التلميذة كاتيا التي تبلغ الخامسة عشرة من عمرها. كانتا جالستَين على الأريكة وتخلعان ملابسهما. كانت ماريا قسطنطينوفنا امرأة طيبة، منبهرة ولبقة، وكانت تتكلم ببطء وحماس. وحتى الثانية والثلاثين من عمرها كانت تعمل مربية أطفال، ثم تزوجت من الموظف بيتوجوف، وهو رجل صغير أصلع، يمشط شعره على صدغيه، ووديع جدًّا. وحتى الآن ما زالت مولعة به، وتغار عليه، وتتضرج خجلًا لدى ذكر كلمة «الحب»، وتؤكد للجميع أنها سعيدة جدًّا.

– يا عزيزتي! — قالت بانبهار عندما رأت ناديجدا فيودوروفنا، وأضفت على وجهها تعبيرًا كان يسميه جميع معارفها لوزيا — يا حبيبتي، كم هو لطيف أنك جئت! سوف نستحم معًا، هذا ساحر!

ونزعت أولجا فستانها وقميصها بسرعة وأخذت تنزع ملابس سيدتها.

وقالت ناديجدا فيودوروفنا وهي تنكمش من ملامسة جسد الطاهية العارية الخشن لجسدها: الطقس اليوم ليس حارًّا كما بالأمس، أليس كذلك؟ كدت أموت أمس من الاختناق.

– أوه نعم يا عزيزتي! أنا أيضًا كدت أختنق. هل تصدقين، بالأمس استحممت ثلاث مرات … تصوري يا عزيزتي، ثلاث مرات! حتى لقد قلق عليَّ نيكوديم ألكسندريتش.

«أمن الممكن أن يكون الإنسان قبيحًا إلى هذا الحد؟» فكرت ناديجدا فيودوروفنا وهي تنظر إلى أولجا وعلى زوجة الموظف. وتطلعت إلى كاتيا وفكرت: «لا بأس بجسدها.» ثم قالت: زوجك نيكوديم ألكسندريتش لطيف جدًّا جدًّا! أنا ببساطة مغرمة به!

فضحكت ماريا قسطنطينوفنا بتكلُّف: ها … ها … ها! هذا ساحر!

وعندما تجردت ناديجدا فيودوروفنا من ملابسها واتتها الرغبة في الطيران. وخيل إليها أنها لو رفرفت بذراعيها لارتفعت حتمًا محلقة. ولاحظت بعد أن تعرت أو أولجا تنظر باشمئزاز إلى جسدها الأبيض. كانت أولجا زوجة جندي شابة، تعيش مع زوجها الشرعي، ولذلك كانت تعتبر نفسها أفضل وأعلى منها. وأحست ناديجدا فيودوروفنا أيضًا أن ماريا قسطنطينوفنا وكاتيا لا تحترمانها وتخافان منها. وكان هذا كريهًا، فقالت لكي تعلي من شأنها في أنظارهما: موسم الاصطياف لدينا في بطرسبرج الآن في عزه. وما أكثر المعارف لديَّ ولدى زوجي! ينبغي أن أسافر لأراهم.

فسالت ماريا قسطنطينوفنا بوجل: زوجك مهندس على ما أظن؟

– أنا أتحدث عن لايفسكي. لديه معارف كثيرون جدًّا، ولكن أمه، للأسف، أرستقراطية متكبرة، ضيقة الأفق …

لم تكمل ناديجدا فيودوروفنا كلامها وقفزت إلى الماء.

ونزلت في أثرها ماريا قسطنطينوفنا وكاتيا.

واستطردت ناديجدا فيودوروفنا تقول: لدينا في المجتمع الراقي الكثير من الأحكام المسبقة. والحياة فيه ليست سهلة كما يبدو.

فقالت ماريا قسطنطينوفنا التي عملت مربية لدى عائلات أرستقراطية وخبرت المجتمع الأرستقراطي: أوه، نعم! هل تصدقين يا عزيزتي، كان آل جاراتينسكي يتطلبون ملابس خاصة للإفطار وللغداء، ولذلك كنت أحصل، بخلاف المرتب، على بدل ملابس، وكأني ممثلة!

ووقفت بين ناديجدا فيودوروفنا وكاتيا، وكأنها تفصل ابنتها عن تلك المياه التي كانت تغسل جسد ناديجدا فيودوروفنا. ومن باب كشك الاستحمام المفتوح والمفضي إلى البحر ظهر شخص ما سابحًا عل بعد مائة خطوة من الكشك.

وقالت كاتيا: ماما، إنه أخي كوستيا!

– آه، آه — قالت ماريا قسطنطينوفنا مذعورة كالدجاجة — آه، كوستيا! — وصاحت — عد يا كوستيا! عد!

ولكي يتباهى كوستيا، الصبي ابن الأربعة عشر، بشجاعته أمام أمه وأخته، غطس وسبح أبعد، لكنه تعب فأسرع عائدًا، وبدا من وجهه الجدي المتوتر أنه غير واثق من قواه.

وقالت ماريا قسطنطينوفنا وقد هدأت: مصيبة هؤلاء الصبيان يا عزيزتي! بين لحظة وأخرى قد يكسر عنقه. آه يا عزيزتي ما أجمل أن تكوني أمًّا، وما أصعب ذلك في الوقت نفسه. تخافين من كل شيء.

ارتدت ناديجدا فيودوروفنا قبعتها القش وسبحت من الكشك إلى عرض البحر. ابتعدت حوالي أربع أذرع واستلقت على ظهرها. وكانت ترى البحر حتى الأفق، والسفن، والناس على الشاطئ، والمدينة. وأثارها كل هذا، بالإضافة إلى القيظ والأمواج الشفافة الرقيقة، وهمس لها بأنها لا بد أن تعيش وتعيش … ومر بجوارها بسرعة زورق شراعي وهو يشق الأمواج والهواء بنشاط. وتطلع إليها الرجل الجالس على الدفة، فسرَّها أنه ينظر إليها.

وبعد أن استحمت السيدات لبسن ثيابهن وانصرفن معًا. وقالت ناديجدا فيودوروفنا وهي تلعق شفتيها المالحتين بعد الاستحمام وترد بابتسامة على تحيات المعارف: الحمى تنتابني يومًا بعد يوم، ومع ذلك لا ينقص وزني. كنت دائمًا ممتلئة، والآن يبدو أنني أكثر امتلاء.

– هذا يا عزيزتي بسبب الاستعداد الفطري. من ليس لديه استعداد للسمنة، مثلي أنا، فلن يسمن مهما أكل. ولكنك يا عزيزتي بللت قبعتك.

– لا بأس، ستجف.

ورأت ناديجدا فيودوروفنا مرة ثانية الرجال ذوي الملابس البيضاء وهم يسيرون على الكورنيش ويتحدثون بالفرنسية، ولسببٍ ما تحركت الفرحة في صدرها، وتذكرت بصورةٍ غامضة صالة ما، رقصت فيها في وقتٍ من الأوقات، أو ربما رأتها في الحلم. وهمس لها شيءٌ ما في أعماق روحها بصوتٍ مبهم خافت بأنها امرأة ضحلة، وضيعة، سيئة، تافهة …

توقفت ماريا قسطنطينوفنا أمام بوابة بيتها ودعتها للدخول.

– ادخلي يا عزيزتي — قالت بصوتٍ ضارع، وفي الوقت نفسه نظرت إلى ناديجدا فيودوروفنا بلوعة وأمل: لعلها ترفض الدعوة ولا تدخل!

– بكل سرور — وافقت ناديجدا فيودوروفنا — أنتِ تعرفين كم أحب زيارتك!

ودخلت. وأجلستها ماريا قسطنطينوفنا وقدمت لها القهوة وضيفتها كعكًا دسمًا، ثم فرجتها على صور مخدوميها السابقين آنسات آل جاراتينسكي اللائي تزوجن بعد ذلك، وأطلعتها كذلك على علامات امتحانات كاتيا وكوستيا. كانت علامات جيدة جدًّا، ولكن لكي تبدو أفضل، فقد اشتكت وهي تتنهد من صعوبة الدراسة في المدرسة هذه الأيام … كانت ترعى الضيفة وفي الوقت نفسه تشفق عليها وتعاني من فكرة أن ناديجدا فيودوروفنا يمكن أن تؤثر تأثيرًا سيئًا بحضورها على أخلاق كوستيا وكاتيا، وابتهجت لعدم وجود نيكوديم ألكسندريتش في البيت. ولما كانت تعتقد أن الرجال يحبون «هؤلاء» فقد كان من الممكن أن تؤثر ناديجدا فيودوروفنا تأثيرًا سيئًا على نيكوديم ألكسندريتش أيضًا.

وبينما كانت ماريا قسطنطينوفنا تتحدث مع الضيفة لم تنسَ طوال الوقت أنه ستقام مساء اليوم نزهة خلوية، وأن فون كورين رجاها رجاء حارًّا ألا تخبر النسانيس بذلك، أي لايفسكي وناديجدا فيودوروفنا، ولكن لسانها زل، فتضرجت تمامًا وقالت بارتباك: آمل أن تكوني أنتِ أيضًا هناك!

٦

اتفقوا على المضي سبعة كيلومترات خارج المدينة في الطريق الجنوبي والتوقف قرب «الدوخان»،١٠ عند التقاء النهرين الأسود والأصفر، وهناك يعدون حساء السمك. ورحلوا في بداية الساعة السادسة. في المقدمة سار صامويلنكو ولايفسكي في عربة تشاربوت، ومن خلفهما ماريا قسطنطينوفنا وناديجدا فيودوروفنا وكاتيا وكوستيا في عجلة تجرها ثلاثة خيول. وكان معهم سلة بها مأكولات وأوعية. وفي العربة التالية كان مفتش الشرطة كيريلين وأتشميانوف الشاب، ابن ذلك التاجر أتشميانوف الذي كانت ناديجدا فيودوروفنا مدينة له بثلاثمائة روبل. وجلس قبالتهما على المقعد نيكوديم ألكسندريتش، منكمشًا، طاويًا ساقيه، صغيرًا مهندمًا، بصدغين مصففي الشعر. وخلف الجميع سارت عربة فون كورين والشماس. وعند قدمي الشماس استقرت سلة بها سمك.

– إلى اليمييين!

كان صامويلنكو يصيح بأعلى صوته عندما تقابلهم عربة أو أبخازي على ظهر حمار.

وقال فون كورين للشماس: بعد عامين، عندما يتوفر لي المال اللازم والناس سأمضي في بعثة. سأبحر بمحاذاة الساحل من فلاديفوستوك على مضيق بهرنج، ثم من المضيق إلى مصب نهر ينيسي. سنرسم خريطة وندرس عالم الحيوان والنبات، وننكب بجد على الجيولوجيا والأبحاث الأنثروبولوجية والإثنوجرافية. إن مجيئك معي يتوقف عليك وحدك.

فقال الشماس: هذا مستحيل.

– لماذا؟

– أنا رجل مرتبط، صاحب أسرة.

– ستسمح لك زوجتك. سنكفل لها سبل العيش. والأفضل لو استطعت أن نقنعها، لصالح القضية العامة، أن تحلق شعرها وتدخل ديرًا. فهذا يعطيك أنت الفرصة لكي تحلق شعرك وتأتي معنا في البعثة راهبًا. أستطيع أن أرتب لك ذلك.

لزم الشماس الصمت.

فسأله عالم الحيوان: هل تعرف أمور اللاهوت جيدًا؟

– لا، قليلًا.

– أم … أنا لا أستطيع أن أقدم لك أي نصائح في هذا الصدد لأن معرفتي باللاهوت ضعيفة. أعطني قائمة بأسماء الكتب المطلوبة وسوف أرسلها لك من بطرسبرج شتاءً. وسيكون عليك أيضًا أن تقرأ مذكرات الرحالة الدينيين، يوجد بينهم إثنوجرافيون جيدون وخبراء في اللغات الشرقية. وبعد أن تتعرف على أساليبهم سيصبح من السهل عليك أن تشرع في العمل. ولكن إلى حين وصول الكتب لا تضيع الوقت عبثًا، تردد علي وسأعلمك استخدام البوصلة، وأطلعك على علم الأرصاد. فكل هذا مطلوب.

فدمدم الشماس ثم ضحك: هذا صحيح ولكن … لقد طلبت تعييني في روسيا الوسطى، ووعدني عمي، وهو كبير كهنة، بالمساعدة. ولو سافرت معك فسيكون معناه أنني أزعجته بلا داعٍ.

– لست أفهم ترددك. فباستمرارك في العمل شماسًا عاديًّا، عليه أن يقيم الصلاة في الأعياد فقط وفي بقية الأيام يتسكع، ستظل حتى بعد عشر سنوات كما أنت الآن، ولن تزيد شيئًا، اللهم إلا شاربًا ولحية، في حين أنك، بعد عودتك من البعثة وبعد نفس السنوات العشر، ستكون إنسانًا آخر، وستزداد غنًى بإدراكك أنك صنعت شيئًا.

وترددت من عربة النساء صرخات فزع وإعجاب. فقد كانت العربات تسير على طريق حفر في شاطئ صخري شديد الانحدار، فبدا للجميع أنهم يجرون فوق رف مثبت إلى جدار عالٍ، وأن العربات سوف تسقط الآن في الهوة. وإلى اليمين امتد البحر، وعلى اليسار جدار غير مستوٍ، بني اللون ببقع سوداء وعروق حمراء وجذور زاحفة، ومن فوقٍ أطلت إلى أسفل شجرات صنوبر كثة منحنية كأنما عن رهبة وفضول. وبعد دقيقةٍ تردد العويل والضحك ثانية، فقد مروا تحت صخرة ضخمة معلقة.

وقال لايفسكي: لست أدري أي شيطان دفعني إلى المجيء معكم. ما أغبى هذا وأوضعه! ينبغي أن أذهب إلى الشمال، أن أهرب، أن أنجو، بينما أذهب لسببٍ ما إلى هذه النزهة الحمقاء.

فقال له صامويلنكو عندما انعطفت الخيول يسارًا فانكشف منظر وادي النهير الأصفر، ولمعت مياه النهير الصفراء، العكرة، المجنونة: انظر أي بانوراما!

فأجاب لايفسكي: لا أرى يا ساشا أي شيء جميل في ذلك. إن إبداء الإعجاب الدائم بالطبيعة يعني إظهار فقر الخيال. فبالمقارنة مع ما يمكن أن يقدمه لي خيالي ليست كل هذه النهيرات والأحجار سوى حقارة ولا شيء أكثر.

كانت العربات الآن تسير على شاطئ النهير. وبدأت الشطآن الصخرية المرتفعة تلتقي شيئًا فشيئًا. والوادي يضيق حتى بدا في الأمام شعبًا. وكان الجبل الصخري الذي ساروا بجواره قد ركبته الطبيعة من أحجار ضخمة يضغط بعضها فوق بعض بقوة رهيبة، حتى إن صامويلنكو كان يزحر لا إراديًّا كلما نظر إليها. وفي بعض المواضع تشق هذا الجبل الجميل العابس شقوق وشعاب، هبت منها على السائرين رطوبة وغموض. وعبر الشعاب لاحت جبال أخرى، بنية، ووردية، وليلكية، ومضببة أو جبال يغمرها ضوء ساطع. وأحيانًا، عندما كانوا يمرون بجوار الشعاب كان يسمع صوت مياه تسقط أعلى الأحجار من علٍ في مكانٍ ما.

وتنهد لايفسكي: يا للجبال اللعينة! كم أضجرتني!

في نقطة التقاء النهير الأسود بالأصفر، حيث كانت المياه السوداء التي تشبه الحبر تلوث المياه الصفراء وتتصارع معها، وغير بعيد عن الطريق انتصب «دوخان» التتري كربلاي، بعلم روسي على سطحه ولافتة مكتوب عليها بالطباشير: «الدوخان اللطيف». وكانت بجواره حديقة صغيرة محاطة بسياج مجدول، وضعت فيها طاولات وأرائك، ووسط الحرج البائس الشائك انتصبت شجرة سرو وحيدة، جميلة وداكنة.

وقف كربلاي، التتري الصغير الخفيف الحركة، مرتديًا قميصًا أزرق ومريلة بيضاء على الطريق، وأمسك ببطنه وهو ينحني بشدة محييًا العربات المارة، ويبتسم كاشفًا عن أسنانه البيضاء البراقة.

وصاح به صامويلنكو: مرحبًا يا كربلاي! سنبتعد قليلًا، أما أنت فلتحضر إلى هناك السماور والكراسي. بسرعة!

وهز كربلاي رأسه الحليق ودمدم بشيء ما، لم يسمعه سوى ركاب العربات الأخيرة: «عندنا سمك السلطان يا صاحب المعالي.»

فقال له فون كورين: هاته، هاته!

ابتعدت العربات حوالي خمسمائة خطوة عن الدوخان ثم توقفت. واختار صامويلنكو مرجًا صغيرًا تناثرت فيه بعض الصخور التي تصلح للجلوس عليها، وتمدد جذع شجرة أسقطتها العاصفة، بجذور منزوعة متشعبة وإبر صفراء جافة. ومن هنا امتد عبر النهر جسر متهالك من جذوع الأشجار، وعلى الشاطئ الآخر، في المقابل تمامًا انتصبت على أربع دعائم حظيرة لتجفيف الذرة، تشبه كوخ الحكايات الأسطوري المُقام على سيقان دجاج. ومن باب الحظيرة تدلَّى سلم صغير إلى الأرض.

كان الانطباع الأول لدى الجميع أنهم، كما خيل إليهم، لن يستطيعوا الإفلات من هنا. فحيثما نظروا، ومن جميع الجهات، تكتلت الجبال مطبقة عليهم، ومن ناحية الدوخان وشجرة السرو الداكنة زحفت عليهم بسرعةٍ ظلال المساء، ولهذا بدا وادي النهير الأسود، الضيق المتعرج، أكثر ضيقًا، والجبال أكثر ارتفاعًا. وتناهت زمجرة النهر المستمرة وأزيز الجنادب المتصل.

وقالت ماريا قسطنطينوفنا وهي تشهق بعمق من شدة الانبهار: ساحر! انظروا يا أولاد إلى هذا الجمال! يا للهدوء!

– بالفعل جميل — قال لايفسكي الذي أعجبه المنظر، ثم لسببٍ ما شعر فجأة بالحزن عندما نظر إلى السماء وإلى الدخان الأزرق المتصاعد من مدخنة الدوخان، وكرر — نعم، جميل.

وقالت ماريا قسطنطينوفنا بصوتٍ مغرورق بالدموع: صف هذا المنظر يا إيفان أندريتش!

فسألها لايفسكي: وما الداعي؟ الانطباع أفضل من أي وصف. فهذه الثروة من الألوان والأصوات، التي يحصل عليها أي شخص من الطبيعة عن طريق الانطباعات يثرثر بها الكتاب بصورةٍ قبيحة مطموسة المعالم.

– أهكذا؟

سأله فون كورين ببرود، وقد اختار لنفسه أكبر حجر قرب المياه، ومضى يتسلقه ليجلس عليه. وكرر وهو يحدق في عيني لايفسكي مباشرة: أهكذا؟ وروميو وجولييت؟ وليل أوكرانيا عند بوشكين مثلًا؟١١ على الطبيعة أن تأتي وتنحني عرفانًا.

– ربما — وافقه لايفسكي الذي زهد كسلًا في النقاش والمعارضة. ولكنه قال بعد فترة قصيرة — وعلى العموم ما هي روميو وجولييت في الحقيقة؟ إنه حب جميل، شاعري، مقدس. إنها ورود يريدون بها إخفاء العفن من تحتها. فروميو حيوان كالآخرين جميعًا.

– عن أي موضوع يدور الحديث فإنك تحصره في اﻟ…

والتفت فون كورين إلى كاتيا ولم يكمل جملته.

فسأله لايفسكي: في ماذا أحصره؟

– عندما يقول لك أحد مثلًا: «ما أجمل عنقود العنب!» ترد عليه: «نعم، ولكن ما أقبحه عندما يمضغونه ويهضمونه في المعدة.» لأي غرض تقول ذلك؟ ليس هذا جديدًا و… وعمومًا فهو أسلوب غريب.

كان لايفسكي يعرف أن فون كورين لا يحبه، ولذلك كان يخشاه ويشعر بنفسه في حضرته كما لو كان المكان ضيقًا على الجميع، وكأن أحدًا ما يقف خلف ظهره. فلم يرد بشيء، وابتعد وشعر بالأسف لأنه جاء.

وأصدر صامويلنكو أوامره: يا سادة، هيا لإحضار حطب للنار!

وتفرقوا كلٌّ إلى جهة، ولم يبقَ في مكانه سوى كيريلين وأتشميانوف ونيكوديم ألكسندريتش. وأحضر كربلاي كراسي، وفرش سجادة على الأرض ووضع عدة زجاجات نبيذ. وكان مفتش الشرطة كيريلين، ذلك الرجل الوسيم، والذي يرتدي المعطف الرسمي أيًّا كان الطقس، يشبه بقامته المتكبرة ومشيته المهمة، وصوته الأجش، الأبح قليلًا، مفتشي الشرطة المحليين الشبان. وكان تعبير وجهه حزينًا ناعسًا، كأنما أيقظوه من النوم توًّا رغمًا عنه.

وسأل كربلاي وهو يلفظ على مهل كل كلمة: ما هذا الذي أحضرته أيها الحيوان؟ لقد أمرتك أن تحضر نبيذ كفاريلي، فماذا أحضرت أيتها السحنة التترية؟ هه؟ من؟

فقال نيكوديم ألكسندريتش بوجل وأدب: لدينا خمر كثير يا يجور أليكسيتش.١٢

– ماذا؟ ولكني أريد أن يكون هنا خمري أنا. إنني مشترك في النزهة وأعتقد أن لي مطلق الحق في أن أساهم بنصيبي. أﻋﺘ…ﻘ…ﺪ! أحضر عشر زجاجات كفاريلي!

– ولماذا كل هذه الكمية؟ — دهش نيكوديم ألكسندريتش الذي كان يعرف أن كيريلين لا يملك نقودًا.

فصاح كيريلين: عشرين زجاجة! ثلاثين!

فهمس له أتشميانوف: لا بأس، دعه. أنا سأدفع.

كانت ناديجدا فيودوروفنا في مزاج مرح، عابث. وكانت تود لو تقفز، وتقهقه، وتصرخ، وتشاكس، وتتدلل. وبدت لنفسها في فستانها الشيت الرخيص ذي البقع الزرقاء وحذائها الأحمر، ونفس القبعة القش، صغيرة، بسيطة خفيفة ورقيقة كفراشة. ركضت على الجسر المتهالك وحدقت دقيقة في الماء لكي يدور رأسها، ثم صرخت وجرت وهي تضحك إلى الشاطئ الآخر نحو حظيرة التجفيف، وخيل إليها أن جميع الرجال، بمن فيهم كربلاي، معجبون بها. وعندما اتحدت الأشجار بالجبال والعربات بالخيول في الظلمة الهابطة بسرعة، وومض ضوء في نوافذ الدوخان، صعدت على الدرب الملتوي بين الصخور والخمائل الشائكة، وتسلقت الجبل وجلست على صخرة. وفي الأسفل كانت النار مشتعلة، وبجوارها تحرك الشماس مشمرًا عن ساعديه، بينما دار ظله الطويل حول النار في نصف دائرة. كان يضع الحطب في النار ويقلب في القدر بملعقة مثبتة إلى عصًا طويلة. وسعى صامويلنكو بجوار النار بوجه نحاسي أحمر، كما يفعل في مطبخه، وهو يزأر بوحشية: أين الملح يا سادة؟ هل نسيتموه؟ ما لكم جلستم هكذا كالإقطاعيين وأنا وحدي الذي أعمل؟

وعلى جذع الشجرة الملقى جلس لايفسكي ونيكوديم ألكسندريتش متجاورين وهما ينظران إلى النار ساهمين.

وكانت ماريا قسطنطينوفنا وكاتيا وكوستيا يستخرجون آنية الشاي والأطباق من السلال. ووقف فون كورين عاقدًا يديه على صدره، وواضعًا إحدى قدميه على حجر على الشاطئ قرب المياه تمامًا وهو يفكر في شيءٍ ما. وتحركت على الأرض بقع حمراء من النار مع الظلال بجوار أشباح الناس المظلمة، وارتعشت على الجبل وعلى الأشجار، وعلى الجسر، وعلى حظيرة التجفيف. وكان الشاطئ الآخر الشديد الانحدار المليء بالحفر مضاءً كله، يومض وينعكس في النهير بينما مزقت المياه المتدفقة الهادرة انعكاساته إربًا.

ومضى الشماس ليحضر السمك الذي كان كربلاي ينظفه ويغسله عند الشاطئ، لكنه توقف في منتصف الطريق وتطلع حوله، وفكر: «يا إلهي، ما أجمل هذا! ناس وأحجار ونار، وغسق، وشجرة مشوهة، ولا شيء أكثر، ولكن ما أجمله!»

وظهر على الشاطئ الآخر بجوار حظيرة التجفيف أناس غرباء. ولأن الضوء كان يومض ودخان النار يتجه إلى تلك الناحية لم يكن من الممكن تمييز هؤلاء الأشخاص كلهم دفعة واحدة، بل كان يظهر على أجزاء تارة قبعة فراء كثة ولحية بيضاء، وتارة قميص أزرق، وتارة خرق تنسدل من الكتفين إلى الركبتين وخنجر بعرض البطن، وتارة وجه شاب أسمر بحاجبين أسودين، كثيفين ومحددين كأنما رُسِما بقلم الفحم. وجلس خمسة منهم حلقة على الأرض، أما الخمسة الآخرون فاتجهوا إلى حظيرة التجفيف. ووقف أحدهم في الباب وظهره إلى النار، عاقدًا يديه خلفه، وراح يروي شيئًا ما، يبدو شيقًا جدًّا، لأنه عندما أضاف صامويلنكو حطبًا فتأججت النار وتطاير منها الشرر وأضاءت حظيرة التجفيف بنورٍ ساطع، لاح واضحًا من باب الحظيرة وجهان هادئان، ينمان عن الاهتمام الشديد، بينما استدار الجالسون حلقة وأخذوا يصغون إلى الرواية. وبعد ذلك بقليل شرع الجالسون يغنون بصوتٍ خافت أغنية بطيئة منغمة، كأغنية الصيام الكبير الكنسية … وفكر الشماس وهو يصغي إليهم فيما سيحدث له بعد عشر سنوات عندما يعود من البعثة: كبير كهنة شاب، مبشر، مؤلف معروف وذو ماضٍ رائع، وسوف يعينونه أرشميندريتًا، ثم مطرانًا، ويقوم بالصلاة في كاتدرائية. يخرج إلى منصة المذبح، في قلنسوة الأسقف الذهبية وشارته، ويهل على الجموع بنور شموعه ويعلن بصوتٍ مجلجل: «أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك، ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض.» فيرد الأطفال بصوتٍ ملائكي: «إلهنا المقدس …»

وتردد صوت صامويلنكو: أين السمك يا شماس؟

وعاد الشماس إلى النار وتصور المسيرة الدينية في يوم حار من شهر يوليو، على طريق مترب: في المقدمة يسير الفلاحون حاملين الرايات، والفلاحات والبنات حاملات الأيقونات، ومن ورائهن الصبيان المرتلون ثم القندلفت، معصوب الخد وفي شعره القش. ويمضي الموكب بالترتيب: هو الشماس في المقدمة، ثم يتبعه القسيس في قلنسوة وبصليب، ومن ورائهم الفلاحون والفلاحات والصبيان مثيرين الغبار؛ وفي وسط هذا تسير زوجة الشماس وزوجة القسيس على رأسيهما منديلان. ويغني المرتلون، ويعول الأطفال، وتصيح طيور السمان، وتصدح القبرات … وها هم أولاء قد توقفوا ليرشوا بالماء المقدس قطيع بقر … وتابعوا سيرهم ثم صلوا طلبًا للمطر، راكعين على ركبهم. وبعد ذلك الطعام، والأحاديث …

وفكر الشماس: «وهذا أيضًا جميل …»

٧

صعد كيريلين وأتشميانوف على الدرب إلى الجبل. وتخلف أتشميانوف فتوقف، أما كيريلين فاقترب من ناديجدا فيودوروفنا وقال وهو يؤدي التحية العسكرية: مساء الخير!

– مساء الخير.

– نعم! … — قال كيريلين وهو يتطلع إلى السماء ويفكر.

– ماذا «نعم»؟ — سألته ناديجدا فيودوروفنا بعد أن صمتت قليلًا وقد لاحظت أن أتشميانوف يراقبهما.

فشرع الضابط يقول ببطء: وإذن فهكذا … ذبل حبنا من قبل أن تتفتح أزهاره، كما يقال. كيف تريدين مني أن أفهم هذا؟ هل هو نوع من الدلال من جانبك، أم أنك تعتبرينني أهبل يمكن أن تفعلي به ما يحلو لكِ؟

– كانت غلطة! دعني وشأني! — قالت ناديجدا فيودوروفنا بحدة وهي تنظر إليه برعب في هذا المساء الرائع الساحر، وتسأل نفسها بدهشة — أمن المعقول أنه كانت هناك لحظة أعجبت فيها بهذا الإنسان وكان قريبًا إليها؟

– هكذا! … — قال كيريلين، ووقف قليلًا في صمت، ثم فكر وقال — طيب. فلننتظر حتى يعتدل مزاجك، أما الآن فأود أن أؤكد لك أنني رجل محترم، ولن أسمح لأحد بأن يشك في ذلك. لن يلعب بي أحد! Adieu.١٣

ورفع يده بالتحية العسكرية وابتعد شاقًّا طريقه بين الخمائل. وبعد ذلك بقليل اقترب أتشميانوف مترددًا.

وقال بلكنة أرمنية خفيفة: مساء جميل اليوم!

كان وسيم التقاطيع، يلبس حسب الموضة، ويتصرف ببساطة، كشاب مهذب، ولكن ناديجدا فيودوروفنا لم تكن تحبه لأنها كانت مدينة لأبيه بثلاثمائة روبل. وضايقها أيضًا أنهم دعوا إلى النزهة صاحب الدكان، كما ضايقها أنه تحدث إليها بالذات في هذا المساء الذي كانت تشعر فيه بطهارة روحها.

وقال بعد صمت: عمومًا النزهة موفقة.

فأمنت موافقة: نعم … — ثم قالت بلا اكتراث وكأنها تذكرت دَينها الآن فقط — نعم، أخبرهم في محلكم بأن إيفان أندريتش سيأتي قريبًا ويسدد الثلاثمائة روبل … أو لا أذكر كم!

– أنا مستعد أن أقدم ثلاثمائة روبل أخرى، فقط من أجل ألا تذكِّرينا كل يوم بهذا الدين. ما الداعي لهذه التوافه؟

فضحكت ناديجدا فيودوروفنا. وواتتها فكرة مضحكة: فلو لم تكن قويمة الخلق، لو أنها شاءت، لاستطاعت في لحظة أن تتخلص من الدين. لو أنها مثلًا، أدارت رأس هذا الأحمق الشاب الجميل! وبالفعل كم كان ذلك سيبدو مضحكًا وغبيًّا وفظيعًا! وفجأة أحست برغبة في أن تجعله يقع في غرامها، فتنهبه، ثم تهجره، وتنظر ما الذي يحدث بعد ذلك.

وقال أتشميانوف بخجل: اسمحي لي أن أقدم لك نصيحة. أرجوك أن تحذري كيريلين. إنه يقول عنكِ في كل مكان أشياء فظيعة.

– لا يهمني أن أعرف ما الذي يقوله عني كل أحمق — قالت ناديجدا فيودوروفنا ببرود وتولاها القلق — وفجأة فقدت فكرتها المضحكة باللعب بأتشميانوف الشاب الجميل كل سحرها.

وقالت: ينبغي أن نهبط. إنهم يدعوننا.

كان حساء السمك قد أصبح جاهزًا في الأسفل. وملئوا به الأطباق وأخذوا يأكلون بخشوع، مثلما يحدث في النزهات الخلوية فقط. واعترف الجميع بأن الحساء لذيذ جدًّا، وأنهم لم يأكلوا أبدًا في البيت شيئًا بهذه اللذة. وكما يحدث في جميع النزهات فقد ضلت الأيدي طريقها وسط المناديل الكثيرة واللفائف والأوراق المهملة المشبعة بالدهن والمتقلبة مع الريح، ولم يعرف أحد أين كأسه أو أين قطعة خبزه، وسكبوا الخمر على السجادة وعلى حجورهم، وبعثروا الملح، وكان الظلام محيطًا بهم، ولم تعد النار تشتعل بقوة كما في السابق، بينما تكاسل كل منهم عن النهوض وإلقاء الحطب فيها. وشرب الجميع خمرًا، وحتى كوستيا وكاتيا أعطوا كلًّا منهما نصف كوب منه. وشربت ناديجدا فيودوروفنا كوبًا، ثم آخر، وثملت، ونسيت كيريلين.

وقال لايفسكي وقد داخله المرح من الخمر: نزهة فاخرة، مساء ساحر، ولكني أفضل على ذلك كله شتاءً جيدًا. «وعلى فراء الياقة قد لمعت ذرات الثلج الفضية».

فرد فون كورين: لكلٍّ ذوقه الخاص.

فشعر لايفسكي بالحرج. كان حر النار يلفحه في ظهره، وكراهية فون كورين في صدره ووجهه. هذه الكراهية من رجل قويم ذكي، والتي تنطوي فيما يبدو على سبب وجيه، كانت تسبب له المهانة والضعف، ولما لم يكن قادرًا على مواجهتها فقد قال بنبرة مداهنة: أنا أحب الطبيعة بشغف وآسف أنني لست عالمًا طبيعيًّا. إنني أغبطك.

فقالت ناديجدا فيودوروفنا: أما أنا فلا آسف ولا أغبط. أنا لا أفهم كيف يمكن الاهتمام جديًّا بالحشرات والهوام بينما الشعب يعاني!

كان لايفسكي يشاطرها هذا الرأي. ولم تكن لديه أي معرفة بالعلوم الطبيعية، ولذلك لم يستطع أبدًا أن يسلم بتلك اللهجة الواثقة وهيئة العلماء وذوي الفكر العميق لأناس يدرسون شوارب النمل أو سيقان الصراصير، وكان دائمًا يشعر بالحنق لأن هؤلاء الناس، على أساس الشوارب والسيقان وشيء ما اسمه البروتوبلازما (ولسببٍ ما كان يتصورها في هيئة محارة بحرية) يتصدون لحل قضايا تشمل أصل الإنسان وحياته. ولكن الكذب تبدى له في كلمات ناديجدا فيودوروفنا، فقال من أجل أن يعارضها فقط: العبرة ليست في الهوام، بل في الاستنتاجات!

٨

بدءوا يستقلون العربات، استعدادًا للعودة، في ساعة متأخرة، في حوالي الحادية عشرة. جلسوا جميعًا ما عدا ناديجدا فيودوروفنا وأتشميانوف اللذين كانا يتسابقان على الشاطئ الآخر للنهر ويقهقهان.

وصاح بهما صامويلنكو: أسرعوا يا سادة!

فقال فون كورين بصوتٍ خافت: ما كان ينبغي تقديم الخمر للسيدات.

ومضى لايفسكي نحو ناديجدا فيودوروفنا، مرهقًا من النزهة ومن كراهية فون كورين ومن أفكاره الخاصة، وعندما أمسكت به من كلتا يديه وهي تلهث وتقهقه مرحة، سعيدة، وتحس بنفسها خفيفة كالريشة، ووضعت رأسها على صدره، تراجع لايفسكي خطوة إلى الوراء وقال بصرامة: أنت تتصرفين مثل اﻟ… الغانية.

كان ما قاله فظًّا جدًّا، حتى إنه أحس بالإشفاق عليها. وقرأت هي في وجهه الغاضب المتعب الكراهية والإشفاق والحنق على نفسه، فأحست فجأة بالخور. وأدركت أنها بالغت وسلكت مسلكًا مستهترًا، فمضت حزينة، وهي تشعر بأنها ثقيلة، بدينة، فظة وثملة، فجلست مع أتشميانوف في أول عربة خالية صادفتها. وجلس لايفسكي مع كيريلين، وعالم الحيوان مع صامويلنكو، والشماس مع السيدات. وتحرك الموكب.

وراح فون كورين يقول وهو يتدثر بمعطف خفيف وقد أغمض عينيه: هذه هي النسانيس … أسمعت؟ إنها لا تريد أن تشغل نفسها بالحشرات والهوام لأن الشعب يعاني. هكذا تنظر جميع النسانيس إلى أمثالنا. يا لها من قبيلة ذليلة، ماكرة، أرهبها السوط والقبضات حتى الجد العاشر. إنها ترتعد وتتملق وتطلق البخور للقوة فقط، ولكن ما إن تخرج النسناسة إلى أفق حر، حيث لا يوجد من يقبض عليها، حتى تتنمر وتفصح عن نفسها. انظر إليها كم تبدو جريئة في معارض الصور والمتاحف والمسارح، أو عندما تتحدث عن العلم. إنها تنتفخ، وتحرن، وتسب، وتنتقد … وحتمًا تنتقد، فيا لها من سمة للعبيد! فلنُصخِ السمع، وستجد أنهم يسبون ذوي المهن الحرة أكثر مما يسبون المحتالين؛ وهذا لأن ثلاثة أرباع المجتمع من العبيد، من مثل هذه النسانيس. إن العبد لا يمكن أن يمد يده إليك ليشكرك بإخلاص على أنك تعمل.

فقال صامويلنكو متثائبًا: أنا لا أدري ماذا تريد؟ لقد رغبت هذه المسكينة ببساطتها في أن تتحدث معك عن أشياء ذكية، أما أنت فتسرع بإصدار الأحكام. أنت غاضب منه لسببٍ ما، وبالمرة غاضب منها. ولكنها امرأة رائعة!

– أوه، كفاك! إنها خليلة عادية، منحلة ومبتذلة. اسمع يا ألكسندر دافيديتش … أنت عندما ترى امرأة بسيطة، لا تعاشر زوجها، ولا تفعل شيئًا سوى الضحكات والقهقهات، فإنك تقول لها: دعيك من هذا، واعملي. فلماذا تجبن هنا وتخشى أن تقول الحقيقة؟ هل فقط لأن ناديجدا فيودوروفنا تعيش كخليلة لموظف وليس لبحار؟

فغضب صامويلنكو وقال: وماذا أفعل لها؟ أأضربها؟

– لا تنافق الرذيلة. إننا نلعن الرذيلة فقط في السر، وهذا يشبه التلويح بالقبضة داخل الجيب. أنا عالم حيوان أو اجتماع، وكلاهما شيء واحد، وأنت طبيب. والمجتمع يثق بنا. ومن واجبنا أن نشير له إلى الضرر الرهيب الذي يتهدده ويتهدد الأجيال المقبلة من وجود سيدة مثل ناديجدا إيفانوفنا هذه.

فقال صامويلنكو مصححًا: ناديجدا فيودوروفنا. وما الذي ينبغي على المجتمع أن يفعله؟

– المجتمع؟ هذا شأنه هو. في اعتقادي أن أسلم وأقصر طريق هو العنف. فباﻟ Manu militari١٤ ينبغي إعادتها إلى زوجها، فإذا لم يقبلها ترسل إلى الأشغال الشاقة أو إلى مؤسسة إصلاحيةٍ ما.

– أف! — زفر صامويلنكو، وصمت قليلًا، ثم سأله — منذ أيام قلت إن أناسًا مثل لايفسكي ينبغي القضاء عليهم … خبرني، لو أن الدول يعني … لنفرض أن الدولة أو المجتمع كلفك بالقضاء عليه، فهل كنت … تجرؤ؟

– ولما اهتزت ذراعي.

٩

وصل لايفسكي وناديجدا فيودوروفنا إلى البيت ودلفا إلى غرفهما المظلمة الخانقة المملة. وكان كلاهما صامتين. أشعل لايفسكي شمعة، وجلست ناديجدا فيودوروفنا، ودون أن تنزع المانتو أو القبعة، رفعت إليه عينين حزينتين مذنبتين. وفهم أنها تنتظر منه شرحًا، ولكن الشرح سيكون مملًّا، عقيمًا، ومرهقًا، كما كان يشعر بانقباض لأنه لم يتمالك نفسه وتفوه بعبارة خشنة. ووقعت يده في جيبه بالصدفة على الرسالة التي كان يزمع في كل يوم أن يقرأها لها، ففكر بأنه لو أطلعها الآن عليها فسوف يحول ذلك انتباهها إلى ناحية أخرى.

وفكر: «حان الوقت لاستيضاح علاقتنا. فلأعطها لها، وليكن ما يكون.»

وأخرج الرسالة وأعطاها لها: اقرئي. هذا يخصك.

وبعد أن قال هذه العبارة مضى إلى غرفة مكتبه واستلقى على الكنبة في الظلام بلا وسادة. وقرأت ناديجدا فيودوروفنا الرسالة، وخيل إليها أن السقف هبط والجدران اقتربت منها. فجأة أصبح المكان ضيقًا ومظلمًا ومرعبًا.

فرسمت علامة الصليب بسرعة وتمتمت: ارحمه يا رب … ارحمه يا رب …

وأجهشت بالبكاء.

ونادته: فانيا! إيفان أندريتش!

ولم تسمع جوابًا. وظنت أن لايفسكي جاء ووقف خلف مقعدها، فشهقت كطفل وهي تقول: لماذا لم تقل لي من قبل إنه مات؟ ما كنت ذهبت إلى النزهة، ولما ضحكت بهذه الفظاعة … كان الرجال يقولون لي كلامًا مبتذلًا … يا للخطيئة! يا للخطيئة! أنقذني يا فانيا، أنقذني … أنا جننت … أنا ضعت …

وسمع لايفسكي شهقاتها. كان يحس باختناق لا يطاق، بينما دق قلبه بعنف ونهض في كآبة، ووقف في وسط الغرفة، وتحسس في الظلام بحثًا عن كرسي المكتب وجلس.

«وهذا سجن — فكر في نفسه — ينبغي أن أذهب … لا أستطيع.»

كان الوقت متأخرًا للعب الورق، ولم يكن في المدينة مطاعم. فرقد من جديد، وسد أذنيه لكيلا يسمع الشهقات، وفجأة تذكر أنه من الممكن الذهاب إلى صامويلنكو. وحتى لا يمر بجوار ناديجدا فيودوروفنا خرج من النافذة إلى الحديقة، وعبر السياج إلى الشارع. كان الجو مظلمًا. وكانت هناك سفينة وصلت لتوها، ويبدو من أنوارها أنها سفينة ركاب كبيرة … وقرقعت سلسلة المرساة. ومن الشاطئ تحرك ضوء أحمر بسرعة نحو السفينة. كان ذلك زورق الجمارك.

«الركاب يغطون في النوم داخل الكبائن …» فكر لايفسكي وهو يغبط طمأنينة الآخرين.

كانت نوافذ بيت صامويلنكو مفتوحة. وأطل لايفسكي في إحداها، ثم في الأخرى: كان الظلام والسكون يلفان الغرف.

ونادى: ألكسندر دافيديتش، هل أنت نائم؟ ألكسندر دافيديتش!

وتردد سعال وصيحة جزع: من هناك؟ أي شيطان؟

– إنه أنا يا ألكسندر دافيديتش. عفوًا.

فتح الباب بعد قليل، ومضَ ضوء مصباح ناعم، وظهر صامويلنكو الضخم، متشحًا كله بالبياض، وفي طرطور أبيض.

– ماذا حدث؟ — سأل وهو يلهث إثر النوم ويحكُّ جسمه — انتظر، سأفتح.

– لا تُتعب نفسك، سأدخل من النافذة.

دلف لايفسكي من النافذة، واقترب من صامويلنكو، وأمسك بذراعه. وقال بصوتٍ متهدج: ألكسندر دافيديتش، أنقذني! أتوسل إليك، أستحلفك، افهمني أرجوك! وضعي مضنٍ. ولو استمر يومًا أو يومين فسأشنق نفسي كاﻟ… كالكلب!

– مهلًا … عن أي شيء تتحدث؟

– أشعل شمعة.

– أوه، أوه … تنهد صامويلنكو وهو يشعل الشمعة يا إلهي، يا إلهي … الساعة تدور في الثانية يا أخي.

فقال لايفسكي وهو يشعر بارتياح كبير من الضوء ووجود صامويلنكو: اعذرني، ولكني لا أستطيع البقاء في البيت … أنت يا ألكسندر دافيديتش صديقي الوحيد، أقرب الأصدقاء … أملي كله فيك. وسواء شئت أم لم تشأ أنقذني من أجل الله. لا بد أن أسافر من هنا بأي حال. أقرضني نقودًا.

فتنهد صامويلنكو وهو يحك جسمه: يا إلهي، يا إلهي! … بدأت أنعس فسمعت صفارة سفينة وصلت، ثم جئت أنت … هل تريد مبلغًا كبيرًا؟

– على الأقل ثلاثمائة روبل. يجب أن أترك لها مائة، ومائتان لي للطريق … أنا مدين لك بحوالي أربعمائة، ولكني سأرسلها لك … كلها …

قبض صامويلنكو بيد واحدة على كلا سالفيه، وباعد بين ساقيه واستغرق في التفكير.

– هكذا … — دمدم مفكرًا — ثلاثمائة … نعم … ولكني لا أملك هذا المبلغ. ينبغي أن أقترض من أحدٍ ما.

فقال لايفسكي وهو يرى في وجه صامويلنكو أنه يرغب في إعطائه النقود وحتمًا سيعطيه: اقترض من أجل الله، اقترض وسأردها لك حتمًا. سأرسلها من بطرسبرج بمجرد وصولي. كن واثقًا من ذلك. ثم قال منتعشًا — اسمع يا ساشا، هيا نشرب بعض الخمر!

– هكذا … هذا ممكن.

وذهبا إلى غرفة الطعام.

سأل صامويلنكو وهو يضع على الطاولة ثلاث زجاجات وطبقًا به خوخ: وماذا عن ناديجدا فيودوروفنا؟ هل هي ستبقى؟

فقال لايفسكي وهو يشعر بموجة سعادة مفاجئة: سأدبر كل شيء، سأدبر كل شيء … سأرسل لها نقودًا فيما بعد فتأتي إليَّ … وهناك نستوضح علاقتنا. في صحتك يا صديقي.

– مهلًا! — قال صامويلنكو — اشرب هذا أولًا … هذا من كرمتي. وهذه الزجاجة من كرمة نفاريدزه، وهذه من أختولوف … جرب الأنواع الثلاثة وقل لي بصراحة … نبيذي يبدو حامضًا قليلًا. هه؟ أليس كذلك؟

– نعم، لقد خففت عني يا ألكسندر دافيديتش. شكرًا لك … دبت فيَّ الروح.

– حامض؟

– الشيطان يعلم، أنا لا أعرف. ولكنك رجل رائع، ساحر.

وتطلع صامويلنكو إلى وجهه الطيب الشاحب المنفعل، وتذكر رأي فون كورين بضرورة القضاء على أمثال هؤلاء، فبدا له لايفسكي طفلًا ضعيفًا عاجزًا، في مقدور أي شخص أن يهينه ويقضي عليه.

فقال له: عندما ترجع تصالح مع أمك. هذا عيب.

– نعم، نعم، ضروري.

وصمتا قليلًا. وبعد أن شربا أول زجاجة قال صامويلنكو: هلا تصالحت مع فون كورين؛ كلاكما شخصان ذكيان، رائعان، بينما تتعاملان كالذئاب.

– نعم، إنه شخص رائع، ذكي — قال لايفسكي مؤمنًا، وكان مستعدًّا الآن أن يمتدح الجميع ويغفر لهم — إنه رجل ممتاز، ولكني لا أستطيع أن أصادقه. كلا! إن شخصياتنا جد مختلفة. أنا شخصية ذابلة، ضعيفة، خاضعة، وربما في لحظة صفاء مددت له يدي، ولكنه سيشيح بوجهه عني … باحتقار.

وجرع لايفسكي الخمر وتمشَّى من ركن إلى ركن، ثم استطرد واقفًا في وسط الغرفة: أنا أفهم فون كورين جيدًا. إنه شخصية صلبة، قوية، طاغية. هل سمعت؟ إنه يتحدث دائمًا عن البعثة، وليست هذه كلمات فارغة. إنه بحاجة إلى صحراء، إلى ليل مقمر. ومن حوله ينام في الخيام وفي العراء رجاله الجوعى والمرضى الذين عذبتهم المسيرات الطويلة … القوزاق، والأدلة والحمالون، والطبيب، والقسيس، وهو وحده الذي لا ينام، ومثل ستانلي،١٥ يجلس على كرسي سفري ويشعر بأنه ملك الصحراء وسيد هؤلاء الناس. ويسير، يسير، يسير إلى جهةٍ ما، ورجاله يثنون ويتساقطون الواحد تلو الآخر، بينما هو يمضي في سيره، وفي النهاية يلاقي هو أيضًا حتفه، ولكنه يبقى رغم ذلك طاغية وملك الصحراء، لأن الصليب على قبره يبدو مرئيًّا للقوافل من بعد ثلاثين أو أربعين ميلًا مهيمنًا على الصحراء.

إن ما يؤسفني هو أن هذا الشخص ليس في الخدمة العسكرية. كان من الممكن أن يصبح قائدًا ممتازًا، عبقريًّا. بوسعه أن يغرق خيوله في النهر ويصنع من الجثث جسورًا، وهذه الجسارة في الحرب أهم من أي تحصينات وتكتيكات. أوه، كم أفهمه جيدًا! قل لي: لماذا يتسكع هنا؟ ما الذي يبغيه؟

– إنه يدرس حيوانات البحر.

فتنهد لايفسكي قائلًا: لا، لا يا أخي لا. لقد أخبرني أحد العلماء المسافرين ونحن في السفينة أن البحر الأسود فقير فيما يخص عالم الحيوانات، وأن الحياة العضوية في أعماقه مستحيلة بسبب وفرة كبريتيد الأيدروجين فيها. جميع علماء الحيوان الجادين يعملون في المحطات البيولوجية في نابولي أو Villefranche، ولكن فون كورين مستقل وعنيد … إنه يعمل في البحر الأسود لأن أحدًا لا يعمل هنا. لقد قطع صلته بالجامعة، ولا يريد أن يقيم علاقات بالعلماء والزملاء لأنه قبل كل شيء طاغية، ثم بعد ذلك عالم حيوان. وسترى أنه سيبلغ شأوًا بعيدًا. إنه منذ الآن يحلم بأنه عندما يعود من البعثة فسوف يطهر جامعاتنا من الدسائس والضحالة ويلوي قرون العلماء. الطغيان قوي أيضًا في العلم مثلما هو في الحرب. إنه يعيش في هذه المدينة العفنة للصيف الثاني لأنه من الأفضل أن تكون الأول في قرية على أن تكون الثاني في مدينة. فهو هنا ملك وصقر. إنه يطبق على جميع السكان بقبضة حديدية وينيخ عليهم بهيبته. لقد أجبر الجميع على الخضوع له، وهو يتدخل في شئون الآخرين، وكل شيء يهمه، والجميع يخشونه. أما أنا فأنزلق من تحت مخلبه، وهو يشعر بذلك ويمقتني. ألم يقل لك إنه يجب القضاء عليَّ أو إرسالي إلى أعمال السخرة؟

فضحك صامويلنكو قائلًا: بلى.

فضحك لايفسكي هو الآخر وشرب خمرًا. وقال وهو يضحك ويمز بالخوخ: ومثله العليا أيضًا طغيانية. فالبسطاء العاديون عندما يعملون لخير الجماعة فإنهم يقصدون بذلك أقرباءهم: أنا، أنت؛ أي الإنسان باختصار. ولكن بالنسبة لفون كورين فالناس كلاب وأشياء تافهة، أتفه من أن يكونوا غاية حياته. إنه يعمل، وسيذهب في بعثة، وسيدق هناك عنقه لا باسم حب الأقرباء، بل باسم مفاهيم مجردة كالإنسانية والأجيال القادمة، وسلالة البشرية المثالية … فما هي السلالة البشرية؟ إنها أوهام، سراب … لقد كان الطغاة دائمًا ذوي أوهام. إنني أفهمه جيدًا يا أخي. أنا أقدره ولا أنكر قيمته. فالعالم يقوم على أناس من أمثاله، ولو أن العالم تُرك لنا فقط لصنعنا به، رغم كل طيبتنا ونوايانا الحميدة، ما فعل الذباب بهذه اللوحة. نعم.

وجلس لايفسكي بجوار صامويلنكو وقال بحماس صادق: أنا إنسان تافه، فارغ، ساقط، والهواء الذي أتنفسه، وهذا الخمر، والحب، وباختصارٍ هذه الحياة كنت أشتريها حتى الآن بالكذب والفراغ والجبن. حتى الآن كنت أخدع الناس وأخدع نفسي، وأعاني من ذلك، وكانت معاناتي رخيصة ومبتذلة. إنني أحني ظهري بهيبة أمام كراهية فون كورين، لأنني أحيانًا أكره نفسي وأحتقرها.

وعاد لايفسكي فتمشى من ركن إلى ركن بانفعال وقال: إنني سعيد لأني أرى عيوبي وأعيها. فسوف يساعدني ذلك على أن أبعث إنسانًا آخر. آه يا عزيزي لو كنت تدري بأي شغف وأي شوق أنتظر تجددي. وأقسم لك إنني سأصبح إنسانًا، سأصبح! لست أدري هل هي الخمر التي تحرك لساني الآن، أم أن الأمر هو كذلك في الواقع، إلا أنه يخيل إليَّ أنني منذ زمن بعيد لم أمر بلحظات مشرقة، صادقة كتلك التي أمر بها الآن عندك.

فقال صامويلنكو: آن أن ننام يا صاحبي.

– نعم، نعم … عفوًا … سأنصرف حالًا. وبحث لايفسكي عن عمرته وهو يتخبط بين الأثاث والنوافذ، ثم دمدم متنهدًا: شكرًا … شكرًا … الحنان والكلمة الطيبة أسمى من الصدقة، أنت رددت إليَّ روحي.

وعثر على عمرته فتوقف، ونظر إلى صامويلنكو نظرة مذنبة، وقال بصوتٍ ضارع: ألكسندر دافيديتش!

– ماذا؟

– اسمح لي يا عزيزي أن أبيت عندك!

– على الرحب والسعة … ولمَ لا!

ورقد لايفسكي على الكنبة، وظل طويلًا يحادث الدكتور.

١٠

بعد النزهة بحوالي ثلاثة أيام جاءت ماريا قسطنطينوفنا إلى ناديجدا فيودوروفنا فجأة، ودون أن تحيي أو تنزع قبعتها أمسكت بكلتا يديها وضمتهما إلى صدرها وقالت بانفعال شديد: آه يا عزيزتي، كم أنا منفعلة، مذهولة. لقد أبلغ دكتورنا العزيز اللطيف بالأمس نيكوديم ألكسندريتش بأن زوجك توفي … قولي لي يا عزيزتي، خبريني هل هذا صحيح؟

فأجابت ناديجدا فيودوروفنا: نعم، صحيح، لقد توفي.

– هذا فظيع، فظيع يا عزيزتي! ولكن رب ضارة نافعة. لقد كان زوجك، في الغالب، رجلًا مدهشًا، رائعًا، قديسًا، ومثل هؤلاء مطلوبون في السماء أكثر مما على الأرض.

وارتعشت كل الخطوط والنقط في وجه ماريا قسطنطينوفنا كأنما تواثبت تحت جلده إبر صغيرة، فابتسمت ابتسامة لوزية وقالت بانهيار وهي تختنق: وهكذا، فأنت حرة يا عزيزتي. بوسعك الآن أن ترفعي رأسك عاليًا وتنظري في عيون الناس بجرأة. ومنذ الآن يبارك الله والناس ارتباطك بإيفان أندريتش. هذا ساحر. إنني أرتجف من الفرحة، ولا أجد ما أقوله. يا عزيزتي، سأكون خاطبتك … لقد أحببناكما أنا ونيكوديم ألكسندريتش، فلتسمحا لنا بأن نبارك ارتباطكما الشرعي الطاهر. متى، متى تفكرين في عقد القران؟

فقالت ناديجدا فيودوروفنا وهي تحرر يديها: أنا لم أفكر في ذلك.

– مستحيل يا عزيزتي. لقد فكرت، فكرت!

فضحكت ناديجدا فيودوروفنا وقالت: أي والله لم أفكر. وما الداعي لعقد القران؟ أنا لا أرى في ذلك أي ضرورة. سنعيش كما كنا نعيش.

فارتاعت ماريا قسطنطينوفنا: ماذا تقولين! يا إلهي، ماذا تقولين!

– لن تكون الأمور أفضل بعقد قراننا. بالعكس ستصبح أسوأ. سنفقد حريتنا.

فصرخت ماريا قسطنطينوفنا وهي تتراجع وتشيح بيديها: يا عزيزتي، يا عزيزتي، ماذا تقولين! أنت متهورة! عودي إلى رشدك! اكبحي نفسك!

– ما معنى اكبحي نفسك؟ أنا لم أعش بعد وأنت تقولين اكبحي نفسك!

تذكرت ناديجدا فيودوروفنا أنها لم تعش بعدُ بالفعل. فقد تخرجت في المعهد وتزوجت برجل لم تحبه، ثم ارتبطت بلايفسكي وعاشت معه طوال الوقت على هذا الساحل الممل المقفر في انتظار شيء أفضل. فهل هذه حياة؟

وفكرت في نفسها: «ولكن من الواجب عقد القران …» ثم تذكرت كيريلين وأتشميانوف فتضرجت خجلًا، وقالت: كلا. هذا مستحيل. وحتى لو ركع إيفان أندريتش على ركبتيه طالبًا مني هذا لرفضت.

جلست ماريا قسطنطينوفنا حوالي دقيقة على الكنبة، صامتة، حزينة، جادة، وهي تحدق في نقطة واحدة، ثم نهضت وقالت ببرود: وداعًا يا عزيزتي. اعذريني على إزعاجك. ورغم أن هذا صعب عليَّ، لكني ينبغي أن أقول لك إن كل شيء انتهى بيننا من هذه اللحظة، ورغم كل احترامي لإيفان أندريتش فإن باب بيتي مغلق أمامكما.

قالت ذلك بمهابة احتفالية، وكانت هي نفسها ترزح تحت وطأة نبرتها الاحتفالية. وارتعش وجهها مرة ثانية، واكتسب تعبيرًا ناعمًا لوزيًّا، ثم مدت كلتا ذراعيها إلى ناديجدا فيودوروفنا المذعورة المرتبكة وقالت بضراعة: يا عزيزتي، اسمحي لي أن أكون أمك أو شقيقتك الكبرى ولو لدقيقة واحدة! سأكون صريحة معك كأم.

وشعرت ناديجدا فيودوروفنا في داخلها بدفء وفرحة وشفقة على نفسها كما لو أن أمها بعثت بالفعل ووقفت أمامها. فهمت نحو ماريا قسطنطينوفنا باندفاع وعانقتها، وألصقت وجهها بكتفها. وأجهشتا بالبكاء معًا، جلستا على الكنبة وظلتا بضع دقائق تنشجان دون أن تنظر إحداهما إلى الأخرى وغير قادرتين على نطق كلمة واحدة.

ثم شرعت ماريا قسطنطينوفنا تقول: يا طفلتي العزيزة، سوف أقول لك حقائق قاسية، ولن أشفق عليك.

– اعملي معروفًا، اعملي معروفًا!

– ضعي ثقتك فيَّ يا عزيزتي. تذكري أنني الوحيدة من بين كل النساء هنا التي استقبلتك، لقد روعتني من أول يوم، ولكني لم أقوَ على أن أعاملك بلا اكتراث كما يعاملك الجميع. وكنت أقاسي من أجل إيفان أندريتش العزيز الطيب وكأنه ابني. شخص شاب، في أرض غريبة، عديم الخبرة، ضعيف، بلا أم، فأخذت أقاسي وأقاسي … وكان زوجي يعارض التعرف به، ولكني أقنعته … جعلته يعدل عن رأيه … وأصبحنا نستقبل إيفان أندريتش، وأنت معه بالطبع، وإلا لشعر بالإهانة. وأنا عندي ابنة وابن … وأنت تدركين كم هي سريعة التأثر عقول الأطفال وقلوبهم البريئة … ومن شكك أحد هؤلاء الصغار …١٦ كنت أستقبلك وأنا أرتعش خوفًا على أطفالي. أوه، عندما تصبحين أمًّا ستفهمين خوفي. وكان الجميع يدهشون من استقبالي لك كسيدة محترمة، عفوًا، ويلمحون لي … ثم بالطبع القيل والقال، والظنون … كنت في قرارة نفسي أدينك، ولكنك كنت بائسة، تعيسة، متهورة، فكنت أعاني من الشفقة عليك.

فسألت ناديجدا فيودوروفنا وبدنها كله يرتجف: ولكن لماذا؟ لماذا؟ ماذا فعلت بهم؟

– أنت ارتكبت خطيئة رهيبة. لقد خنت العهد الذي أعطيته لزوجك أمام المذبح. أنت أغويت شابًّا رائعًا، لو لم يلقاك فربما اتخذ له شريكة حياة شرعية من أسرة طيبة من محيطه، ولكان الآن مثل الجميع. أنت قضيت على شبابه. لا تجادلي، لا تجادلي يا عزيزتي! أنا لا أصدق أن الرجل هو المسئول عن خطايانا. النساء دائمًا هن المخطئات. الرجال في الحياة المنزلية مستهترون، يعيشون بعقولهم لا بقلوبهم، ولا يفهمون الكثير، لكن المرأة تفهم كل شيء. عليها يتوقف كل شيء. لقد وُهبَت الكثير، إذن فلتحاسب على الكثير. آه يا عزيزتي، لو أنها كانت في هذه الناحية أضعف أو أغبى من الرجال لما ائتمنها الرب على تربية البنين والبنات. وفوق ذلك يا عزيزتي فقد عبرتِ حد الخطيئة ونسيت كل خجل. ولو كانت أخرى مكانك لتوارت عن الناس، ولأغلقت عليها باب بيتها، ولما رآها الناس إلا في معبد الرب، شاحبة، متشحة بالسواد، باكية، ولقال كل واحد بحسرة صادقة: «يا إلهي، هذا الملاك الخاطئ عائد إليك ثانية …» ولكنك يا عزيزتي نسيت أي تواضع، وعشت حياة سافرة، متهورة، كأنما تفتخرين بالخطيئة، كنت تعبثين وتقهقهين، وكنت أرتعش من الرعب وأنا أنظر إليك، وأخشى أن يرسل الرب صاعقة من السماء على بيتنا وأنت عندنا — وصاحت ماريا قسطنطينوفنا وقد لاحظت أن ناديجدا فيودوروفنا تهم بالكلام — لا تجادلي يا عزيزتي، لا تجادلي! ضعي ثقتك فيَّ ولن أخدعك، لن أخفي عن أنظار روحك حقيقة واحدة. فلتسمعيني إذن يا عزيزتي … إن الله يصِم كبار الخاطئين، وكنت أنت موصومة. تذكري كيف كانت فساتينك كلها فظيعة!

كانت ناديجدا فيودوروفنا تقدر فساتينها دائمًا أعلى تقدير، ومن ثم كفت عن البكاء وتطلعت إليها بدهشة.

فاستطردت ماريا قسطنطينوفنا تقول: نعم فظيعة! كان في وسع أي إنسان أن يحكم على سلوكك من واقع ثيابك المنتقاة الزاهية. كان الجميع عندما يتطلعون إليك يتضاحكون ويهزون أكتافهم، أما أنا فكنت أقاسي، أقاسي … ثم إنك، واعذريني يا عزيزتي، لست نظيفة! عندما التقينا في كشك الاستحمام، جعلتني أرتجف. كانت ملابسك الخارجية محتملة يعني … ولكن الجونلة الداخلية والقميص … إنني أحمر خجلًا يا عزيزتي! ولا أحد يعقد لإيفان أندريتش المسكين ربطة عنقه كما يجب، وكان واضحًا من ملابس المسكين وحذائه أن أحدًا لا يهتم به في البيت، وهو دائمًا جوعان، هذا العزيز، وبالفعل، إذا لم يكن هناك في البيت من يهتم بإعداد الشاي والقهوة، فستضطرين رغمًا عنك إلى إنفاق نصف مرتبك في المقصف … أما عندك في البيت فشيء رهيب، رهيب! لا أحد في المدينة كلها لديه ذباب، أما عندك فلا مهرب منه، وكل الآنية والأطباق سوداء. وعلى النوافذ وعلى الطاولات، انظري: غبار وذباب ميت، وأكواب … ما الداعي للأكواب هنا؟ وحتى الآن يا عزيزتي لم تنظف المائدة. ويخجل المرء من دخول غرفة نومك … الملابس ملقاة في كل ركن، وعلى الجدران تعلقين شتى الأشياء الكاوتشوك، وهناك آنية ما … يا عزيزتي! الزوج لا ينبغي أن يعرف شيئًا، وعلى الزوجة أن تكون أمامه نظيفة طاهرة كملاك! أنا أستيقظ كل يوم في الفجر وأغسل وجهي بالماء البارد لكيلا يلاحظ زوجي نيكوديم ألكسندريتش عليه أثر النوم.

فقالت ناديجدا فيودوروفنا وهي تنتحب: هذه أمور تافهة لو كنت سعيدة، ولكني تعيسة جدًّا!

فتنهدت ماريا قسطنطينوفنا وهي لا تكاد تقوى على منع نفسها من البكاء: نعم، نعم، أنت تعيسة جدًّا! وستواجهين في المستقبل مصيبة رهيبة. الشيخوخة والوحدة، والأمراض، ثم الحساب في يوم القيامة … فظيع، فظيع! القدر نفسه يمد لك الآن يد العون، وأنت تنحينها برعونة. اعقدي قرانك، وبسرعة!

فقالت ناديجدا فيودوروفنا: نعم ضروري، ضروري. ولكن هذا مستحيل!

– وما السبب؟

– مستحيل! آه لو تدرين!

أرادت ناديجدا فيودوروفنا أن تحدثها عن كيريلين، وعن لقائها مساء الأمس في المرفأ بأتشميانوف الشاب الجميل، وكيف واتتها فكرة مضحكة مجنونة بالتخلص من دين الثلاثمائة روبل، وكيف كان ذلك مضحكًا للغاية، وكيف عادت إلى البيت في ساعة متأخرة وهي تشعر بنفسها ساقطة، مرتزقة بلا رجعة. لم تكن هي نفسها تعرف كيف حدث ذلك. وأرادت الآن أن تقسم أمام ماريا قسطنطينوفنا بأنها سترد الدين حتمًا، لكن النحيب والخجل منعاها من الكلام.

ثم قالت: سأرحل. فليبقَ إيفان أندريتش، أما أنا فسأرحل.

– إلى أين؟

– إلى روسيا.

– وعلى أي شيء ستعيشين هناك؟ فليس لديك شيء.

– سأعمل في الترجمة أو … أو أفتتح مكتبة …

– دعيك من الأوهام يا عزيزتي … المكتبة بحاجة إلى نقود. حسنًا، سأتركك الآن، فاهدئي وفكري، وتعالي إليَّ غدًا مرحة. سيكون هذا ساحرًا! حسنًا. وداعًا يا ملاكي. هاتي أقبلك.

وقبلت ماريا قسطنطينوفنا ناديجدا فيودوروفنا في جبينها ورسمت عليها علامة الصليب وخرجت في هدوء.

كان الظلام قد حل، فأشعلت أولًا الضوء في المطبخ. ومضت ناديجدا فيودوروفنا إلى غرفة النوم وهي تواصل البكاء، ورقدت على السرير. وبدأت تخضها حمى شديدة. ونزعت عنها فستانها وهي راقدة وداسته تحت قدميها، وانطوت على نفسها كالكعكة تحت البطانية. شعرت بظمأ ولم يكن هناك من يقدم لها الماء.

– سأسدد! — قالت لنفسها، وخيل إليها في الهذيان أنها تجلس بجوار إحدى المريضات، وأنها هي نفسها تلك المريضة — سأسدد. من الحماقة الظن بأن النقود هي السبب في … سأسافر وأرسل له النقود من بطرسبرج. في البداية مائة … ثم مائة … ثم مائة …

وجاء لايفسكي في ساعة متأخرة من الليل.

فقالت له ناديجدا فيودوروفنا: في البداية مائة … ثم مائة …

– هلا أخذت الكينا … قال لها ثم فكر: «غدًا الأربعاء، تقلع السفينة ولن أسافر فيها. إذن سيكون علي أن أعيش هنا إلى السبت.»

ونهضت ناديجدا فيودوروفنا في السرير على ركبتيها. وسألته وهي تبتسم وتزر عينيها من ضوء الشمعة: ألم أقل شيئًا الآن؟

– لا شيء. ينبغي استدعاء الطبيب غدًا. نامي.

وأخذ وسادة ومضى إلى الباب. بعد أن استقر قراره على السفر وترك ناديجدا فيودوروفنا، أصبحت تثير فيه الشفقة والشعور بالذنب. وكان يحس في حضورها بقليل من تأنيب الضمير، كما في حضور فرس مريضة أو عجوز قرروا إعدامها. وتوقف عند الباب والتفت إليها.

– لقد كنت متضايقًا أثناء النزهة وأغلظت القول. اعذريني أرجوك.

قال ذلك ومضى إلى غرفة مكتبه، ورقد، ولكنه لم يستطع طويلًا أن ينام.

في اليوم التالي، بعد أن جاء صامويلنكو مرتديًا، بمناسبة العطلة الرسمية، حُلته الرسمية الكاملة، بالكتفيات والأوسمة، وجس نبض ناديجدا فيودوروفنا، ونظر إلى لسانها ثم خرج من غرفة النوم، سأله لايفسكي الواقف بجوار العتبة في قلق: ماذا هناك؟ ماذا؟

كان وجهه ينم عن الخوف والقلق البالغ والأمل.

فقال صامويلنكو: اطمئن، ليس هناك شيء خطر … حمى عادية.

فكشر لايفسكي بنفاد صبر: أنا لا أسألك عن هذا. هل حصلت على النقود؟

– اعذرني يا عزيزي — همس صامويلنكو وهو يتطلع نحو الباب ويشعر بالحرج — أرجوك اعذرني. لا أحد لديه نقود زيادة. جمعت حتى الآن من هذا خمسة ومن ذاك عشرة. كل المتحصل مائة وعشرة. سأتحدث اليوم إلى بعض الأشخاص. اصبر قليلًا.

فهمس لايفسكي وهو يرتعد من نفاد الصبر: لكن أقصى موعد يوم السبت! بحق كل القديسين، قبل السبت! إذا لم أسافر يوم السبت فلست بحاجة إلى شيء … أبدًا! لا أفهم كيف لا يكون لدى الدكتور نقود!

– هذه مشيئتك يا ربي — همس صامويلنكو بسرعة وتوتر حتى إن شيئًا صر في حلقه — سحبوا مني كل ما عندي، هم مدينون لي بسبعة آلاف، وأنا مدين للجميع. هل الذنب ذنبي؟

– إذن فستحصل عليها حتى السبت؟ نعم؟

– سأحاول.

– أتوسل إليك يا عزيزي. بحيث تكون النقود في يدي صباح الجمعة.

وجلس صامويلنكو، وكتب وصفة من الكينا بمحلول Kalii bromate ومنقوع الراوند وtincturae gentianae aquae foeniculi، وكل ذلك في مزيج واحد، وأضاف إليه قليلًا من شربات الورد حتى لا يكون مرًّا، ثم انصرف.

١١

– منظرك يبدو كأنك قادم لتلقي القبض عليَّ — قال فون كورين عندما رأى صامويلنكو يدخل عليه في حلته الرسمية.

– كنت مارًّا من هنا فقلت لنفسي: فلأعرج لأرى عالم الحيوان — قال صامويلنكو وهو يجلس إلى طاولة كبيرة صنعها عالم الحيوان بنفسه من ألواح بسيطة — مرحبًا يا أبانا المقدس — وأومأ برأسه إلى الشماس الذي كان جالسًا بجوار النافذة ينسخ شيئًا ما — سأجلس دقيقة ثم أركض إلى البيت لآمر بإعداد الغداء. حان الوقت … ألم أعطلكما؟

– أبدًا — قال عالم الحيوان وهو يفرش على الطاولة أوراقًا مكتوبة بخط دقيق — إننا نقوم بالنسخ.

– هكذا … أوه، يا إلهي، يا إلهي … — تنهد صامويلنكو، وتناول من فوق الطاولة بحذر كتابًا معفرًا كان يستقر فوقه عنكبوت ميت جاف، وقال — يا سلام! تصور مثلًا أن خنفسة خضراء تسير لأمر من أمورها، وإذا بها تقابل في الطريق هذا الملعون. إنني أتصور مدى رعبها!

– نعم، طبعًا.

– هل منح السم ليحمي به نفسه من الإعدام؟

– نعم، ليحمي نفسه، وليهاجم.

– هكذا، هكذا، هكذا … كل شيء في الطبيعة يا أحبائي حكيم ومفهوم — وتنهد صامويلنكو — ولكني لا أفهم التالي. اشرح لي أنت، أيها الرجل النادر الذكي. هناك، أتدري، حيوانات صغيرة، لا تزيد عن حجم العرسة، وتبدو جميلة المظهر، ولكنها، وأقول لك، في غاية اللؤم والخسة. ويسير مثل هذا الحيوان في الغابة مثلًا، وإذا به يرى عصفورًا، فيمسكه ويلتهمه. ويواصل سيره، فيرى في العشب عشًّا به بيض، ورغم أنه لا يريد أن يأكل بعد، فهو شبعان، لكنه مع ذلك يكسر بيضة ويبعثر الأخريات بمخلبه بعيدًا عن العش. ثم يقابل ضفدعة فيبدأ في اللهو بها. ويقتل الضفدعة ثم يمضي وهو يلعق شواربه فتقابله خنفسة. فيهوي على الخنفسة. بمخلبه … يسير وهو يفسد ويدمر كل شيء في طريقه … يقتحم جحور الحيوانات الأخرى، ويدمر أعشاش النمل عبثًا، ويقرقض القواقع … وإذا صادفته عرسة اشتبك معها في عراك، وإذا رأى ثعبانًا صغيرًا أو فأرة فلا بد أن يسعى إلى خنقها. وهكذا طول النهار. قل لي إذن، ما الحاجة إلى مثل هذا الحيوان؟ ولماذا خلق؟

فقال فون كورين: أنا لا أعرف عن أي حيوان تتحدث. يبدو أنك تقصد أحد أكلة الحشرات. حسنًا، فماذا؟ لقد وقع العصفور في يده لأنه غير حذر. وقد حطم العش مع البيض لأن الطائر ليس حاذقًا، وصنع عشه بصورةٍ سيئة ولم يموهه جيدًا. أما الضفدعة فيبدو أن لديها عيبًا في الصبغة اللونية، وإلا لما استطاع أن يكتشفها. وهكذا دواليك. إن حيوانك لا يقضي إلا على الضعفاء وغير الحاذقين، أي باختصار من لديهم عيوب لا ترى الطبيعة ضرورة في نقلها إلى الخلف. ولا يبقى على قيد الحياة إلا الأكثر مهارة، المحاذرون، الأقرباء، والمتطورون. وهكذا فإن حيوانك، دون أن يدرك ذلك، يخدم أهداف الرقي العظيمة.

– نعم، نعم، نعم … بالمناسبة يا أخي — قال صامويلنكو متبسطًا — أعطني مائة روبل سلفًا.

– حسنًا. هناك حيوانات طريفة جدًّا من بين أكلة الحشرات. مثلًا حيوان الخلد. يقال عنه إنه نافع لأنه يقضي على الحشرات الضارة. ويحكى أن أحد الألمان أرسل إلى الإمبراطور غليوم الأول معطف فراء من جلود الخلد، ويقال إن الإمبراطور أمر بتوبيخه لأنه أهلك هذا العدد الكبير من الحيوانات النافعة. بينما لا يقل الخلد في قسوته عن حيوانك، وعلاوة على ذلك فهو ضار للغاية؛ لأنه يلحق بالمراعي أضرارًا بالغة.

وفتح فون كورين علبة وأخرج منها ورقة بمائة روبل. واستطرد قائلًا وهو يغلق العلبة: القفص الصدري لدى الخلد قوي جدًّا، مثلما لدى الوطواط. وعظامه وعضلاته متطورة إلى درجة رهيبة، وفمه مسلح بصورةٍ خارقة. ولو كان بحجم الفيل لأصبح حيوانًا مدمرًا لا يهزم. ومن الطريف أنه عندما يلتقي خلدان تحت الأرض، يشرعان فورًا، وكأنما عن اتفاق، في حفر فسحة. والغاية من هذه الفسحة أن تعطيهما مجالًا أكبر للحركة أثناء العراك. وما إن يحفراها حتى يشتبكا في قتال ضارٍ، ويتقاتلان إلى أن يسقط الأضعف فيهما — ثم قال فون كورين وقد خفض نبرة صوته — خذ المائة روبل، ولكن بشرط ألا تكون من أجل لايفسكي.

فانفجر صامويلنكو: فلتكن حتى من أجله! ما دخلك أنت؟

– لا أستطيع أن أعطيك نقودًا من أجل لايفسكي أنا أعرف أنك تحب إعطاء القروض، ولو طلب منك (كريم) اللص قرضًا لأعطيته، ولكن اعذرني، أنا لا أستطيع أن أساعدك في هذا الاتجاه.

فنهض صامويلنكو وقال وهو يلوح بذراعه اليمنى: نعم، أنا أطلب من أجل لايفسكي! نعم! من أجل لايفسكي! ولا يملك أي شيطان أو عفريت الحق في أن يعلمني كيف ينبغي أن أتصرف في نقودي. أنت لا تريد أن تعطيني؟ نعم؟

وقهقه الشماس.

فقال عالم الحيوان: دعك من الانفعال وفكر بروية. إن البِر بسيد مثل لايفسكي هو في رأيي عمل أحمق، مثل ري الأعشاب الضارة أو إطعام الجراد.

فصرخ صامويلنكو: وفي رأيي أننا ملزمون بمساعدة أقربائنا!

– في هذه الحالة فلتساعد هذا التركي الجائع الذي ينام هناك بجوار السور! فهو عامل، وأكثر ضرورة ونفعًا من صاحبك لايفسكي. أعطه المائة روبل هذه! أو تبرع لي بمائة روبل من أجل البعثة!

– إنني أسألك، هل ستعطيني النقود أم لا؟

– قل لي بصراحة: ما حاجته إلى النقود؟

– هذا ليس سرًّا. إنه بحاجة إلى السفر يوم السبت إلى بطرسبرج.

فقال فون كورين ببطء: هكذا إذن! آها … مفهوم. وهي، هل ستسافر معه أم ماذا؟

– ستبقى هنا مؤقتًا. سيرتب أموره في بطرسبرج ثم يرسل إليها نقودًا، وعندئذ ستسافر.

فقال عالم الحيوان: يا للبراعة! — وضحك ضحكًا قصيرًا رفيعًا — يا للبراعة! يا للتدبير المحكم!

واقترب من صامويلنكو بسرعة، ووقف أمامه وجهًا لوجه، وحدق في عينه وسأله: قل لي بصراحة: هل كف عن حبها؟ نعم؟

قل: كف عن حبها. نعم؟

– نعم … — نطق صامويلنكو. وتصبب عرقًا.

– يا للدناءة! — قال فون كورين وظهر على وجهه الإحساس بالاشمئزاز — واحدة من اثنتين يا ألكسندر دافيديتش: إما أنك متواطئ معه، أو أنك، لا مؤاخذة، أهبل. ألا تفهم حقًّا أنه يضحك عليك كأنك طفل، بطريقة في غاية الانحطاط؟ أليس واضحًا كالشمس أنه يريد التخلص منها وتركها هنا؟ وستبقى عالة عليك، ومن الواضح كالشمس أنه سيكون عليك أن تسفرها إلى بطرسبرج على حسابك. أمن المعقول أن صديقك الرائع قد أعماك بفضائله إلى هذه الدرجة فأصبحت لا ترى حتى أبسط الأشياء؟

فقال صامويلنكو وهو يجلس: هذه مجرد افتراضات.

– افتراضات؟ إذن فلماذا يسافر وحده وليس معها؟ ولتسأله لماذا لا تسافر هي أولًا وهو بعدها؟ هذا المحتال اللئيم!

خار صامويلنكو فجأة وقد صدمته الشكوك والريب المفاجئة بخصوص صديقه، فهبطت نبرته. وقال وهو يتذكر الليلة التي بات فيها لايفسكي عنده: ولكن هذا مستحيل! إنه يعاني جدًّا!

– وماذا يعني ذلك؟ اللصوص والمخربون أيضًا يعانون!

فقال صامويلنكو مفكرًا: لنفرض حتى إنك على حق … لنفرض … ولكنه شاب، في أرض غريبة … طالب، ونحن أيضًا طلبة، ولا يوجد هنا أحد غيرنا يمكن أن يسانده.

– تساعده في صنع الدناءات، فقط لأنكما كنتما في أوقات مختلفة طلاب جامعة، وكلاكما لم تفعلا هناك شيئًا! ما هذا الهراء!

– مهلًا، دعنا نفكر بأعصاب باردة. أعتقد أنه من الممكن أن نفعل هكذا … قال صامويلنكو مفكرًا وهو يلعب أصابعه سأعطيه النقود، ولكني سآخذ منه كلمة شرف نبيلة بأن يرسل في طلب ناديجدا فيودوروفنا بعد أسبوع.

– وسيعطيك كلمة شرف، بل وستدمع عيناه، وسيصدق نفسه، لكن ما قيمة هذه الكلمة؟ لن يفي بها، وعندما ستلقاه بعد عام أو عامين في شارع نيفسكي متأبطًا ذراع حب جديد، سيبرر لك ذلك بأن الحضارة أفسدته، وبأنه نسخة من رودين.١٧ دعك منه، اعمل معروفًا! ابتعد عن القذارة ولا تنقب فيها بكلتا يديك!

ففكر صامويلنكو دقيقة ثم قال بحسم: ومع ذلك سأعطيه النقود. كما تشاء. أنا لا أستطيع أن أرفض رجاءً لشخص على أساس الافتراضات وحدها.

– عظيم جدًّا. فلتهنأ به.

فرجاه صامويلنكو بوجل: أعطني إذن المائة روبل.

– لن أعطيك.

وحل الصمت. خار صامويلنكو تمامًا. واكتسب وجهه ملامح الذنب والاستحياء والتزلف. وكان من الغريب أن ترى هذا الوجه البائس الخجول كطفل لرجل ضخم يحمل الكتفيات والأوسمة.

وقال الشماس وهو ينحي القلم.

– قداسة الأسقف المحلي يطوف على أبرشيته لا في عربة بل على ظهر حصان. منظره وهو راكب على الحصان مؤثر للغاية … بساطته وتواضعه مفعمتان بعظمة توراتية.

فسأل فون كورين الذي سره تغير مجرى الحديث: هل هو شخص طيب؟

– وكيف لا؟ لو لم يكن طيبًا فهل كانوا يرسمونه أسقفًا؟

فقال فون كورين: يوجد بين الأساقفة أشخاص طيبون جدًّا وموهوبون، المؤسف فقط أن الكثيرين منهم يعيبهم أنهم يتصورون أنفسهم رجال دولة. فبعضهم يمارس الترويس،١٨ والبعض الآخر ينتقد العلوم. ليس هذا من شأنهم. الأفضل لو ترددوا أكثر على إدارتهم الدينية.

– رجل الدنيا لا يستطيع أن يحكم على الأساقفة.

– لماذا يا شماس؟ الأسقف شخص مثلي تمامًا.

فغضب الشماس وتناول القلم: مثلك وليس مثلك. لو كنت مثله لحلت بك البركة ولأصبحت أسقفًا، وما دمت لست أسقفًا فمعناه أنك لست مثله.

فقال صامويلنكو بضيق: كف عن الهراء يا شماس! — وقال مخاطبًا فون كورين — اسمع، لقد وجدت حلًّا. لا تعطني المائة روبل هذه. أنت ستطعم عندي ثلاثة أشهر أخرى حتى الشتاء، إذن فلتعطني مقدمًا عن هذه الأشهر الثلاثة.

– لن أعطيك.

طرف صامويلنكو بعينيه وتضرج، وسحب بحركة آلية الكتاب ذا العنكبوت وتطلع إليه، ثم نهض وتناول قبعته. وشعر فون كورين بالشفقة عليه.

فقال وهو يركل بقدمه في غضب إحدى الأوراق إلى الركن: فلتحاول أن تعيش وتصنع شيئًا بمثل هؤلاء السادة! فلتفهم أن هذه ليست طيبة قلب، ليس حبًّا، بل جبنًا، تسيبًا، سمًّا! ما يفعله العقل تدمره قلوبكم المترهلة العاجزة! عندما كنت تلميذًا ومرضت بالتيفود، أطعمتني خالتي فطرًا مخللًا رأفة بحالي فكدت أموت. فلتفهم أنت وخالتي أن حب الشر لا ينبغي أن يكون في القلب أو في الجوانح أو في الخصر، بل هنا!

وخبط فون كورين على جبينه. ثم قال: خذ!

وألقى بالورقة ذات المائة روبل.

فقال صامويلنكو بوداعة وهو يطوي الورقة: عبثًا تغضب يا كوليا. إنني أفهمك تمامًا. ولكن … ضع نفسك في مكاني.

– أنت امرأة عجوز ليس إلا!

فقهقه الشماس.

وقال فون كورين بحرارة: اسمع يا ألكسندر دافيديتش، رجاء أخير! عندما تعطي النقود لذلك النذل اعرض عليه هذا الشرط: فإما أن يسافر مع سيدته، وإما يسفرها أولًا، وبغير ذلك لا تعطه. لا مجال للتحرج معه. هكذا قل له. وإذا لم تقل فأقسم لك بشرفي إنني سأذهب إليه في مكتبه وأسحبه على الدرج، ولن أعرفك بعد ذلك. فلتعلم هذا!

فقال صامويلنكو: حسنًا، لو سافر معها أو أرسلها قبله فسيكون ذلك أفضل له. بل سيكون مسرورًا لذلك. طيب، وداعًا.

ودَّع برقةٍ وخرج، ولكن قبل أن يغلق الباب خلفه التفت إلى فون كورين، وأصبح وجهه مرعبًا، وقال: إنهم الألمان الذين أفسدوك يا أخي! نعم! الألمان!

١٢

في اليوم التالي، الخميس، احتفلت ماريا قسطنطينوفنا بعيد ميلاد ابنها كوستيا. ودعي الجميع لتناول الكعكة ظهرًا، ولشرب محلول الشوكولاتة مساء. وعندما وصل لايفسكي وناديجدا فيودوروفنا في المساء، مال فون كورين، الذي كان جالسًا في غرفة الجلوس يشرب محلول الشوكولاتة، على صامويلنكو وسأله: هل تحدثت معه؟

– ليس بعد.

– انتبه، لا تتحرج معه. أنا لا أفهم وقاحة هؤلاء السادة. إنهما يعلمان جيدًا نظرة هذه الأسرة إلى علاقتهما غير الشرعية ومع ذلك يقحمان أنفسهما هنا.

فقال صامويلنكو: لو راعيت كل تحيز مغرض فسيكون عليك ألا تخرج إلى أي مكان.

– وهل اشمئزاز العامة من علاقة الحب غير المشروعة ومن الانحلال … تحيز مغرض؟

– طبعًا تحيز مغرض وحقد. فالجنود عندما يرَون فتاة خليعة يقهقهون ويصفرون، فلتسألهم من يكونون هم؟

– ليس عبثًا يصفرون. فعندما تخنق البغايا أطفالهن الحرام ويمضين إلى الأشغال الشاقة، وعندما تلقي أنا كارينينا بنفسها تحت عجلات القطار، وعندما يلوثون الأبواب بالقطران في القرى،١٩ وعندما لسببٍ ما يعجبني وإياك في كاتيا طهارتها، وعندما يشعر كلٌّ منا بالحاجة المبهمة إلى الحب الطاهر، رغم أنه يعلم أن مثل هذا الحب غير موجود … فهل هذا كله تحيز مغرض؟ إن هذا يا أخي هو الشيء الوحيد الذي تبقَّى من قانون الانتخاب الطبيعي، ولولا هذه القوة المجهولة التي تنظم العلاقة بين الجنسين لأدرك السادة آل لايفسكي الويل، ولتفسخت البشرية في غضون عامين.

دخل لايفسكي غرفة الجلوس وسلم على الجميع، وابتسم بتزلف وهو يصافح فون كورين. وانتظر فرصة مناسبة وقال لصامويلنكو: عفوًا يا ألكسندر دافيديتش، أريدك في كلمتين.

ونهض صامويلنكو، وضمه إليه من خصره، وذهبا معًا إلى غرفة مكتب نيكوديم ألكسندريتش.

وقال لايفسكي وهو يقضم أظافره: غدًا الجمعة … هل حصلت على ما وعدتني به؟

– حصلت فقط على مائتين وعشرة. الباقي سأحصل عليه اليوم أو غدًا. كن مطمئنًا.

فتنهد لايفسكي وارتعشت يداه من الفرحة: الحمد لله! … لقد أنقذتني يا ألكسندر دافيديتش، وأقسم لك بالله، بسعادتي، بكل ما تريد، إنني سأرسل إليك هذه النقود بمجرد وصولي. ودَيني القديم سأرسله.

فقال صامويلنكو وهو يمسك بذرار لايفسكي ويتضرج: اسمع يا فانيا … اعذرني إذا كنت أتدخل في شئونك العائلية، ولكن … لماذا لا تسافر مع ناديجدا فيودوروفنا؟

– يا لك من غريب، وهل هذا ممكن؟ لا بد أن يبقى أحدنا، وإلا جن جنون الدائنين. فأنا مدين لأصحاب المحلات بحوالي سبعمائة روبل، أو أكثر. انتظر، سأرسل لهم النقود، وأسد أفواههم، وعندها ستسافر هي أيضًا من هنا.

– طيب … ولماذا لا تسفرها هي أولًا؟

فقال لايفسكي بجزع: آه يا إلهي، وهل هذا ممكن؟ إنها امرأة، فما الذي ستستطيع أن تفعله هناك؟ ما الذي تعرفه؟ سيكون هذا مجرد تعطيل وتبديد للنقود بلا معنى.

فقال صامويلنكو في نفسه: «معقول …»، ولكنه تذكر حديثه مع فون كورين فأطرق وقال عابسًا: أنا لا أستطيع أن أوافقك على رأيك. فإما أن تسافر معها، وإما أن تسفرها أولًا، وإلا … وإلا فلن أعطيك النقود. هذا آخر كلام عندي …

وتقهقر بظهره وناخ به على الباب، وخرج إلى غرفة الجلوس محمرًّا، في غاية الارتباك.

وفكر لايفسكي وهو يعود إلى غرفة الجلوس: «الجمعة … الجمعة … الجمعة …»

وقدموا له كوب شوكولاتة، ولسعت الشوكولاتة الساخنة شفتيه ولسانه ومضى يفكر: «الجمعة … الجمعة …»

لسببٍ ما لم تترك كلمة «الجمعة» ذهنه، فلم يفكر في شيء آخر سوى الجمعة، وأصبح واضحًا له فقط، ولكن ليس في رأسه، بل في مكان ما تحت قلبه، أنه لن يستطيع السفر يوم السبت. ووقف أمامه نيكوديم ألكسندريتش مهندمًا، بصدغين ممشطين، وراح يرجوه: تفضل كل، لو تكرمت …

وعرضت ماريا قسطنطينوفنا على الضيوف علامات كاتيا المدرسية وهي تقول ببطء: أصبحت الدراسة الآن صعبة جدًّا، جدًّا! يطالبونهم بأشياء كثيرة …

فتئن كاتيا: ماما!

ولا تعرف أين تخفي وجهها من الخجل والمديح.

وشاهد لايفسكي أيضًا العلامات وامتدحها. وقفزت أمام عينيه مواد الدين، واللغة الروسية، والسلوك، والخمسات والأربعات،٢٠ وبدا له ذلك كله، بالإضافة إلى الجمعة التي ألحت عليه، وصدغي نيكوديم ألكسندريتش الممشطين، وخدي كاتيا الأحمرين، بدا له وحشة لا تحد ولا تقهر حتى إنه كاد يصرخ يأسًا، وسأل نفسه: «أحقًّا، أحقًّا لن أسافر؟»

ووضعوا طاولتي لعب متجاورتين وجلسوا ليلعبوا «ساعي البريد». وجلس لايفسكي أيضًا.

«الجمعة … الجمعة … — فكر وهو يبتسم ويخرج قلمًا من جيبه — الجمعة …»

وأراد أن يفكر في أمره، وفي الوقت نفسه خاف من التفكير. كان مخيفًا أن يعترف بأن الدكتور كشف خداعه الذي أخفاه طويلًا وبعناية عن نفسه. ففي كل مرة فكر فيها في مستقبله لم يكن يترك الحرية الكاملة لأفكاره. سيستقل القطار ويرحل … وبهذا تحل قضية حياته، ولم يكن يترك أفكاره تمضي إلى أبعد. وكضوء كابٍ بعيد في حقل كانت تومض في رأسه أحيانًا فكرة، بأنه في مكان ما، بإحدى حارات بطرسبرج، في المستقبل البعيد، سيضطر إلى كذبة صغيرة لكي يفترق عن ناديجدا فيودوروفنا ويسدد الديون. سيكذب مرة واحدة فقط، ثم يأتي التجدد الشامل. وهذا حسن؛ فبكذبة صغيرة سيشتري الحقيقة الكبيرة.

أما الآن، وعندما ألمح الدكتور بصراحة فجة إلى خداعه حين رفض طلبه، فقد أصبح واضحًا لديه أنه سيلجأ إلى الكذب لا في المستقبل البعيد فحسب، بل اليوم، وغدًا، وبعد شهر، وربما حتى إلى آخر العمر. وبالفعل، فلكي يرحل سيكون عليه أن يكذب على ناديجدا فيودوروفنا وعلى الدائنين وعلى رؤسائه. وبعد ذلك، ولكي يحصل في بطرسبرج على نقود، سيضطر إلى الكذب على أمه فيقول لها إنه انفصل فعلًا عن ناديجدا فيودوروفنا. ولن تعطيه أمه أكثر من خمسمائة روبل، وإذن فقد خدع الدكتور أيضًا، لأنه لن يكون قادرًا على إرسال النقود إليه في وقتٍ قريب. وبعد ذلك، وعندما تأتي ناديجدا فيودوروفنا إلى بطرسبرج، سيكون عليه أن يلجأ إلى سلسلة كاملة من الأكاذيب الصغيرة والكبيرة لكي ينفصل عنها. ومن جديدٍ: الدموع، الملل، والحياة المقرفة، والندم، وإذن فلن يكون هناك أي تجدد. الخداع ولا شيء سواه. وارتفع في خيال لايفسكي تل كامل من الأكاذيب. ولكي يقفز من فوقه دفعة واحدة ولا يلجأ إلى الكذب على دفعات، لا بد من الإقدام على خطوة حاسمة، كأن ينهض مثلًا، دون كلمة واحدة، ويرتدي قبعته، ويرحل فورًا بدون نقود، ودون كلمة واحدة، ولكن لايفسكي كان يشعر بأن هذا مستحيل بالنسبة له.

«الجمعة … الجمعة … — فكر لايفسكي — الجمعة …»

كانوا يكتبون رسائل قصيرة، ويطوونها نصفين، ويضعونها في قبعة نيكوديم ألكسندريتش الأسطوانية القديمة، وعندما يتجمع منها عدد كافٍ، يقوم كوستيا، الذي يمثل دور ساعي البريد، بالطواف على المائدة وتوزيعها عليهم. وكان الشماس وكاتيا وكوستيا، الذين تلقوا رسائل مضحكة ويحاولون كتابة رسائل أكثر إضحاكًا، كانوا في قمة الإعجاب.

«نحن بحاجة إلى أن نتحدث.» قرأت ناديجدا فيودوروفنا في الرسالة. تبادلت النظر مع ماريا قسطنطينوفنا فابتسمت هذه ابتسامة لوزية وأومأت برأسها.

«وعم نتحدث؟ — فكرت ناديجدا فيودوروفنا — إذا لم يكن من الممكن أن أروي كل شيء فلا معنى للحديث.»

قبل أن تخرج إلى الزيارة عقدت للايفسكي ربطة عنقه، فملأ هذا العمل التافه روحها بالرقة والحزن. وأوحى إليها القلق المرتسم على وجهه، ونظراته الشاردة وشحوبه، والتغير غير المفهوم الذي طرأ عليه في الأيام الأخيرة، وكتمانها عنه سرًّا رهيبًا شنيعًا، وارتعاش يديها عندما كانت تعقد ربطة عنقه … كل ذلك أوحى إليها لسببٍ ما بأنه لم يبقَ لهما إلا وقت قصير للحياة معًا. وأخذت تتطلع إليه كما تتطلع إلى أيقونة، بخوف وندم، وهي تقول في خاطرها: «سامحني، سامحني …» وكان أتشميانوف جالسًا قبالتها إلى الطاولة ولا يحول عنها عينيه السوداوين العاشقتين. وأثارتها الرغبات، فخجلت من نفسها وخافت من أنه حتى الكآبة والحزن لن يمنعها من الاستسلام للشهوة المدنسة، إن لم يكن اليوم فغدًا، وأنها، كالسكير المدمن، لم تعد قادرة على التوقف.

ولكيلا تمضي في هذه الحياة المشينة لها، والمهينة للايفسكي، فقد قررت أن ترحل. سوف تضرع إليه باكية أن يدعها ترحل، فإذا عارض فسوف تتركه خفية. ولن تخبره بما حدث. فتبقى ذكراها لديه طاهرة.

«أحبك، أحبك، أحبك …» — قرأت في الورقة — إنها من أتشميانوف.

وستعيش في مكان ناءٍ، وستعمل، وترسل إلى لايفسكي «من مجهول» بالنقود والقمصان المطرزة، والتبغ، ولن ترجع إليه إلا في الشيخوخة، وفي حالة ما إذا مرض مرضًا خطيرًا واحتاج إلى من يرعاه. وعندما يعلم في الشيخوخة بالأسباب التي جعلتها ترفض أن تصبح زوجته وتتركه، فسوف يقدر تضحيتها ويغفر لها.

«أنفك طويل»، يبدو أنها من الشماس أو من كوستيا.

وتخيلت ناديجدا فيودوروفنا كيف ستعانق لايفسكي بشدة عند الوداع، وتقبل يده، وتقسم له بأنها ستظل تحبه طوال العمر، وكيف ستفكر بعد ذلك كل يوم، وهي تعيش في المكان النائي، بين أناس غرباء، بأن لديها صديقًا، حبيبًا، طاهرًا، نبيلًا، ساميًا، يحفظ لها ذكرى طاهرة.

«إذا لم تحددي لي اليوم موعدًا فسأتخذ إجراءاتي، أؤكد لك بشرفي. الناس المحترمون لا يعاملون بهذه الصورة، ينبغي أن تفهمي ذلك.» هذه من كيريلين.

١٣

وصلت لايفسكي رسالتان، ففض إحداهما وقرأ: «لا تسافر أيها الغالي.»٢١

«من يا ترى كاتب هذا؟ — فكر لايفسكي — بالطبع ليس صامويلنكو … وليس الشماس لأنه لا يعرف أنني أريد أن أسافر. أهو فون كورين إذن؟»

كان عالِم الحيوان منكبًّا على الطاولة يرسم هرمًا. وخيل إلى لايفسكي أن عينيه تبتسمان.

وفكر لايفسكي: «يبدو أن صامويلنكو ثرثر عفوًا …»

وفي الرسالة الثانية، التي كانت مكتوبة بنفس الخط المكسر، بحروف ذات ذيول طويلة وزخارف، قرأ: «هناك شخص لن يسافر يوم السبت.»

وفكر لايفسكي: «سخرية سخيفة. الجمعة، الجمعة …»

وصعد شيء ما إلى حلقه. فتحسس لايفسكي ياقة قميصه وسعل، ولكن بدلًا من السعال انطلق من حلقه الضحك.

– ها … ها … ها! — قهقه لايفسكي — ها … ها … ها!

وفكر: «ما هذا، ما الذي أضحكني؟»

– ها … ها … ها!

وحاول أن يكبح نفسه، وسد فمه براحته، ولكن الضحك ضغط على صدره وعنقه، لم تستطع يده أن تسد فمه.

«ما أغبى هذا مع ذلك! — فكر وهو يتلوى من الضحك — هل جننت أم ماذا؟»

تعالت الضحكات أكثر فأكثر وتحولت إلى ما يشبه نباح كلب صغير. وأراد لايفسكي أن ينهض ويغادر الطاولة ولكن قدميه لم تطاوعاه، بينما قفزت يده اليمنى بصورةٍ غريبة ورغمًا عنه فوق الطاولة، وأخذت تلتقط الأوراق بعصبية وتعصرها. ورأى أمامه عيونًا مندهشة، ووجه صامويلنكو الجاد المذعور، ونظرة عالم الحيوان المليئة باستهزاء بارد وتقزز، فأدرك أنه أصيب بحالة هستيريا.

«يا للخزي، يا للفضيحة — فكر لايفسكي وهو يشعر بدفء الدموع على وجهه — آه، آه، يا للعار! لم يحدث لي هذا أبدًا من قبل …»

وها هم أولاء قد رفعوه من تحت إبطيه وقد أسندوا رأسه من الخلف، وجروه إلى مكانٍ ما. وها هو ذا كوب يلمع أمام عينيه ويصطدم بأسنانه، فينسكب الماء على صدره. وها هي ذي غرفة صغيرة في وسطها سريران متجاوران مغطيان بغطاءين نظيفين أبيضين كالثلج. وتهالك على أحدهما وانخرط في النحيب.

– لا بأس، لا بأس … — قال صامويلنكو — هذا يحدث … هذا يحدث …

كانت ناديجدا فيودوروفنا متثلجة الأطراف من الخوف، وبدنها كله يرتجف وهي تتوقع حدوث شيء رهيب. ووقفت بجوار السرير تسأل لايفسكي: ماذا بك؟ ماذا؟ قل لي أرجوك …

وفكرت: «أيكون كيريلين قد كتب له شيئًا ما؟»

فقال لايفسكي وهو يضحك ويبكي: لا شيء … اخرجي من هنا … يا عزيزتي.

لم يكن وجهه يعبر عن الكراهية أو الاحتقار، إذن فهو لا يعلم بشيء. واطمأنت ناديجدا فيودوروفنا قليلًا وخرجت إلى غرفة الجلوس.

– لا تقلقي يا عزيزتي — قالت لها ماريا قسطنطينوفنا وهي تجلس إلى جوارها وتمسك يدها — هذا سيمر. الرجال أيضًا ضعفاء مثلنا نحن الخاطئات. أنتما الاثنان تمران الآن بأزمة … هذا مفهوم تمامًا! حسنًا يا عزيزتي، إنني أنتظر الرد. هيا نتحدث.

فقالت ناديجدا فيودوروفنا وهي تصغي إلى نحيب لايفسكي: كلا، لن نتحدث … عندي انقباض … اسمحي لي أن أذهب.

فقالت ماريا قسطنطينوفنا بجزع: ماذا تقولين يا عزيزتي! أتظنين حقًّا أنني أتركك تذهبين بدون عشاء؟ فلنأكل أولًا ثم اذهبي في رعاية الله.

فهمست ناديجدا فيودوروفنا: عندي انقباض … — وتشبثت بذراع المقعد بكلتا يديها حتى لا تسقط.

– عنده تشنج! — قال فون كورين بمرح وهو يدلف إلى غرفة الجلوس، ولكنه أحرج عندما رأى ناديجدا فيودوروفنا فخرج.

وعندما انتهت الهستيريا جلس لايفسكي على السرير الغريب وفكر: «يا للعار، تملكني البكاء كطفلة! لا بد أنني مضحك ومقزز. فلأنصرف من الباب الخلفي … ولكن سيكون معنى ذلك أنني أولي أهمية كبيرة لهذه الهستيريا. من الأفضل تحويل الأمر إلى مزحة …»

وتطلع في المرآة، ثم جلس بعض الوقت، وخرج إلى غرفة الجلوس.

– ها أنا ذا! — قال مبتسمًا. كان يشعر بخجل مضنٍ، وأحس أن الآخرين يعانون أيضًا من الخجل في حضوره. فقال وهو يجلس — ما أغرب ما يحدث أحيانًا. كنت جالسًا، وفجأة، أتدرون … أحسست بألم رهيب يخزني في جنبي … ألم لا يطاق، فلم تتحمل أعصابي و… وحدث هذا الأمر السخيف. نحن في عصر القلق، فما العمل!

أثناء العشاء كان يشرب الخمر ويتحدث، ويزفر أحيانًا بتوتر وهو يمسح على جنبه كأنما ليظهر أن الألم لم يزايله تمامًا. ولم يصدقه أحد، سوى ناديجدا فيودوروفنا، ورأى هو ذلك.

في حوالي الساعة العاشرة ذهبوا للتنزه في البوليفار. وخافت ناديجدا فيودوروفنا أن يتحدث كيريلين إليها، فحاولت طوال الوقت أن تظل إلى جوار ماريا قسطنطينوفنا والأولاد. أحست بالضعف من الخوف والضيق، وأدركها التعب وهي تشعر باقتراب نوبة الحمى، فسارت تجرجر قدميها، ولكنها لم تنصرف إلى البيت لأنها كانت واثقة من أن كيريلين أو أتشميانوف، أو الاثنين معًا سيتبعانها. وسار كيريلين خلفها مع نيكوديم ألكسندريتش وهو يدندن بصوت خافت: لن أسمح باللعب بي! لن أسمح!

انعطفوا من البوليفار إلى المقصف، ثم ساروا على الشاطئ، وظلوا ينظرون طويلًا إلى مياه البحر الفوسفورية المضيئة. ومضى فون كورين يشرح هذه الظاهرة.

١٤

عليَّ أن أذهب للعب الفنت … إنهم في انتظاري — قال لايفسكي — وداعًا يا سادة.

– وأنا معك، انتظر — قالت ناديجدا فيودوروفنا وتأبطت ذراعه.

وودعا الجماعة وانصرفا … وودع كيريلين أيضًا، وقال إنه في نفس اتجاههما، وسار إلى جوارهما.

«فليكن ما يكون … فكرت ناديجدا فيودوروفنا فليكن …»

وخيل إليها أن كل الذكريات السيئة خرجت من رأسها وتسير في العتمة إلى جوارها وتلهث بتوتر، أما هي، فكانت كالذبابة التي وقعت في حبر، تسير بصعوبة في الشارع وتلوث جنب لايفسكي ويده بالسواد. وفكرت: «لو أقدم كيريلين على ارتكاب عمل سيئ فلن يكون هو المذنب في ذلك، بل هي. ألم يكن هناك زمن لم يتحدث فيه أي رجل معها كما يتحدث كيريلين، وهي نفسها التي قطعت ذلك الزمن كما يقطع الخيط وقضت عليه دون رجعة … فمن المذنب في ذلك؟ لقد أعمتها رغباتها فأخذت تبتسم لرجل غريب عنها تمامًا، ربما فقط لأنه فخم الهيئة وفارع الطول، وأضجرها بعد لقاءين اثنين فهجرته، أفلا يحق له لهذا السبب — فكرت الآن — أن يعاملها كما يحلو له؟»

وتوقف لايفسكي عن السير وقال: هنا يا عزيزتي سأودعك. سيوصلك إيليا ميخايليتش. وانحنى لكيريلين، ومضى بسرعة بعرض البوليفار، وعبر الشارع إلى منزل شيشكوفسكي، حيث لاح الضوء من النوافذ، وتناهى بعد ذلك صوت باب السياج وهو يغلقه خلفه.

وبدأ كيريلين يقول: فلتسمحي لي أن أستوضح منك. أنا لست صبيًّا، لست أحد هؤلاء الأتشكاسوف أولاتشكاسوف، زاتشكاسوف … أنا أطالبك باهتمام جدي!

دق قلب ناديجدا فيودوروفنا بعنف. ولم ترد بشيء.

فمضى كيريلين يقول: في البداية فسرت تحولك الحاد في التعامل معي بأنه دلال. أما الآن فأرى أنكِ ببساطة لا تجيدين معاملة الناس المحترمين. لقد أردت ببساطة أن تلعبي بي، مثلما تلعبين بهذا الصبي الأرمني، ولكني رجل محترم وأطالب بأن أعامل كرجل محترم. وهكذا فأنا تحت أمرك …

– أنا عندي انقباض … — قالت ناديجدا فيودوروفنا وبكت، ولكي تخفي دموعها حولت وجهها.

– أنا أيضًا عندي انقباض، ولكن ماذا يترتب على ذلك؟

وصمت كيريلين قليلًا، ثم قال بوضوح وبطء: أكرر لك يا سيدتي أنه إذا لم تحددي لي اليوم لقاء، فسوف أثير اليوم فضيحة.

– دعني اليوم أرجوك … قالت ناديجدا فيودوروفنا وهي لا تتعرف على صوتها إذا كان رفيعًا يثير الشفقة.

– يجب أن ألقنكِ درسًا … اعذريني على هذه اللهجة القاسية، ولكن من الضروري أن ألقنك درسًا. نعم، للأسف ينبغي أن ألقنك درسًا. أنا أطلب لقاءين: اليوم وغدًا. بعد غد أنت حرة تمامًا ويمكنك أن تمضي إلى حيث تشائين ومع من تريدين. اليوم وغدًا.

اقتربت ناديجدا فيودوروفنا من باب سور بيتها وتوقفت. وهمست وبدنها كله يرتجف وهي لا ترى أمامها شيئًا في الظلام سوى سترة بيضاء: اتركني أرجوك! أنت على حق، أنا امرأة فظيعة … أنا مذنبة، ولكن اتركني … أرجوك … — ولمست يده الباردة فانتفضت — أتوسل إليك …

فزفر كيريلين قائلًا: وا أسفاه، وا أسفاه! ليس في نيتي أن أتركك، أريد فقط أن ألقنك درسًا، أجعلك تفهمين. وعلاوة على ذلك يا مدام فأنا لا أثق كثيرًا في النساء.

– أنا عندي انقباض …

أصغت ناديجدا فيودوروفنا إلى صخب البحر المنتظم، ونظرت إلى السماء المرصعة بالنجوم، فأحست بالرغبة في الانتهاء من كل هذا بسرعة، والتخلص من الإحساس اللعين بالحياة ببحرها ونجومها ورجالها وحُمَّاها …

فقالت ببرود: فقط ليس عندي في البيت … خذني إلى أي مكان.

– فلنذهب إلى مريدوف. أفضل مكان.

– أين هذا؟

– قرب الجسر القديم.

مضت في الشارع بسرعة، ثم انحرفت إلى حارة تفضي إلى الجبال. كان الجو مظلمًا. وهنا وهناك تناثرت على أرض الشارع خطوط ضوئية شاحبة من النوافذ المضاءة، فخيل إليها أنها كالذبابة، تارة تسقط في الحبر، وتارة أخرى تخرج منه إلى النور. وسار كيريلين خلفها. وفي أحد الأماكن تعثر وكاد أن يسقط فضحك.

وفكرت ناديجدا فيودوروفنا: «إنه سكران … سيان … سيان … فليكن …»

وبعد فترة قصيرة ودع أتشميانوف أيضًا الجماعة، ومضى في إثر ناديجدا فيودوروفنا لكي يدعوها لنزهة في قارب، اقترب من بيتها، ونظر عبر الحديقة: كانت النوافذ مفتوحة على مصاريعها ولا ضوء فيها.

ونادى: ناديجدا فيودوروفنا!

ومرت دقيقة، فنادى ثانية.

– من هناك؟

سمع صوت أولجا.

– ناديجدا فيودوروفنا موجودة؟

– لا. لم تأتِ بعد.

«غريبة … غريبة جدًّا … فكر أتشميانوف وقد بدأ يشعر بقلق شديد — لقد انصرفت عائدة إلى البيت …»

وتمشي في البوليفار، ثم في الشارع، وأطل في نوافذ دار شيشكوفسكي. كان لايفسكي يجلس إلى الطاولة بدون سترة ويحدق في أوراق اللعب باهتمام.

– غريبة، غريبة … دمدم أتشميانوف، وأحس بالخجل عندما تذكر الهستيريا التي أصابت لايفسكي إذا لم تكن في البيت فأين هي؟

وذهب ثانية إلى بيت ناديجدا فيودوروفنا، ونظر إلى النوافذ المظلمة.

«هذا خداع، خداع …»، فكر وهو يتذكر أنها هي التي وعدته بالتنزه معه مساء في القارب عندما التقى بها ظهر اليوم عند آل بيتوجوف.

كانت نوافذ المنزل الذي يقطنه كيريلين مظلمة، وجلس شرطي على الأريكة قرب البوابة مستغرقًا في النوم. وعندما نظر أتشميانوف إلى النوافذ وإلى الشرطي أدرك كل شيء. وقرر أن يعود إلى بيته، ومضى، ولكنه وجد نفسه من جديد بالقرب من بيت ناديجدا فيودوروفنا. وهنا جلس على الأريكة، ونزع قبعته وهو يشعر برأسه يحترق من الغيرة والحنق.

كانت ساعة كنيسة المدينة لا تدق إلا مرتين في اليوم: في الظهر وفي منتصف الليل. وبعد أن دقت معلنة منتصف الليل بقليل تناهى صوت خطوات مستعجلة.

– إذن غدًا مساء عند مريدوف ثانية! — سمع أتشميانوف فعرف صوت كيريلين — في الثامنة. إلى اللقاء!

وظهرت ناديجدا فيودوروفنا بجوار حديقة المنزل. ولم تلحظ أتشميانوف وهو جالس على الأريكة فمرت بجواره كالظل، وفتحت باب السور وتركته مفتوحًا ودلفت إلى البيت. وأشعلت في غرفتها شمعة، ونزعت ثيابها بسرعة، ولكنها لم تذهب إلى الفراش، بل جثت على ركبتيها أمام الكرسي، واحتضنته، وألصقت جبينها به.

وعاد لايفسكي إلى البيت والساعة تدور في الثالثة.

١٥

قرر لايفسكي ألا يكذب دفعة واحدة، بل على أجزاء؛ فتوجه في اليوم التالي إلى صامويلنكو ليطلب نقودًا ليرحل يوم السبت من كل بد. كان من المستحيل أن يبقى في المدينة بعد نوبة الهستيريا بالأمس، والتي أضافت إلى حالته النفسية السيئة إحساسًا حادًّا بالخجل. فإذا ما أصر صامويلنكو على شروطه — فكر لايفسكي — فسيوافقه عليها ويأخذ النقود، ثم يقول له غدًا، في لحظة الرحيل الأخيرة إن ناديجدا فيودوروفنا رفضت أن تسافر. وسيعمل في المساء على إقناعها بأنه يفعل كل ذلك من أجل مصلحتها. أما إذا رفض صامويلنكو، الواقع تحت تأثير فون كورين الواضح، أن يعطيه النقود بتاتًا، أو تقدم بشروط جديدة، فإن لايفسكي سيرحل اليوم مباشرة على سفينة بضائع أو في قارب شراعي إلى «نوفي أفون»، أو «نوفوروسيسك»، ويرسل من هناك برقية ذليلة إلى أمه، ويبقى هناك إلى أن ترسل له أمه أجرة الطريق.

عندما وصل إلى بيت صامويلنكو وجد في غرفة الجلوس فون كورين. كان عالِم الحيوان قد جاء لتوه لتناول الغداء، وكالعادة فتح الألبوم وراح يتفحص الرجال ذوي القبعات الأسطوانية والنساء ذوات القلنسوات.

وفكر لايفسكي عندما رآه: «جاء في غير وقته يمكن أن يفسد الأمر.»

– مرحبًا!

– مرحبًا — أجاب فون كورين دون أن ينظر إليه.

– ألكسندر دافيديتش موجود؟

– نعم. في المطبخ.

توجه لايفسكي إلى المطبخ، ولكنه رأى من الباب أن صامويلنكو مشغول بإعداد السلاطة، فعاد إلى غرفة الجلوس وجلس. كان يشعر في حضرة عالم الحيوان دائمًا بالحرج، أما الآن فكان يخشى أنه سيضطر إلى الحديث عن نوبة الهستيريا. ومر أكثر من دقيقة في صمت. وفجأة رفع فون كورين عينيه إلى لايفسكي وسأله: كيف حالك بعد نوبة الأمس؟

فأجاب لايفسكي وهو يتضرج: رائع. في الواقع لم يحدث شيء يذكر …

– حتى الأمس كنت أعتقد أن الهستيريا لا تصيب إلا السيدات، ولذلك ظننت في البداية أنك أصبت بالرقاص.

فابتسم لايفسكي بتزلف وفكر: «يا لها من عدم لباقة من جانبه … إنه يعلم جيدًا أنني في حالة صعبة …»

وقال وهو لا يزال يبتسم: نعم، كانت حادثة مضحكة. لقد أخذت أضحك اليوم طول الصباح. المفارقة في نوبة الهستيريا أنك تعلم أنها سخيفة، وتسخر منها في نفسك، وفي الوقت نفسه تنتحب. إننا في عصرنا القلِق هذا عبيد أعصابنا … فهي أسيادنا وتفعل بنا ما تشاء. وفي هذا الصدد فقد أسدت الحضارة إلينا خدمة كخدمة الدب لصاحبه …

كان لايفسكي يتحدث ويشعر بالضيق من أن فون كورين يصغي إليه بجدية واهتمام، ويحدق فيه بإمعان دون أن تطرف عيناه، وكأنه يدرسه. وأحنقه من نفسه أنه رغم كل نفوره من فون كورين، لم يستطع أبدًا أن يمسح عن وجهه ابتسامته المتزلفة.

ومضى يقول: وإن كان عليَّ أن أعترف بأنه كانت هناك أسباب مباشرة للنوبة، وأسباب لها ما يبررها. لقد تدهورت صحتي بشدة في الآونة الأخيرة. أضف إلى ذلك الملل، والإفلاس المستمر … وعدم وجود ناس أو اهتمامات مشتركة …

وضعي في سوء ما بعده سوء.

فقال فون كورين: نعم، وضعك بلا مخرج.

هذه الكلمات الهادئة الباردة، التي لا يعرف إن كانت تنطوي على سخرية أم على نبوءة متطفلة، أهانت لايفسكي. وتذكر نظرة عالم الحيوان بالأمس، المليئة بالسخرية والاشمئزاز، فصمت قليلًا، ثم سأل وقد كف عن الابتسام: ومن أين عرفت بوضعي؟

– أنت تحدثت عنه بنفسك الآن، ثم إن أصدقاءك يُبدون تعاطفًا حارًّا معك، إلى درجة أننا لا نسمع طوال اليوم إلا عنك.

– أي أصدقاء؟ تقصد صامويلنكو؟

– نعم، وهو أيضًا.

– أرجو من ألكسندر دافيديتش، وعمومًا من أصدقائي، أن يقللوا من اهتمامهم بي.

– ها هو ذا صامويلنكو بنفسه، فلتطلب منه أن يقلل من اهتمامه بك.

فدمدم لايفسكي: أنا لا أفهم لهجتك هذه … — وتملكه إحساس كأنما أدرك الآن فقط أن عالم الحيوان يكرهه ويحتقره ويهزأ به، وأن عالم الحيوان هو أخبث وألد أعدائه. فقال بصوتٍ خافت وهو لا يقوى على الكلام بصوتٍ عالٍ من الكراهية التي ضغطت على صدره وعنقه كرغبته في الضحك أمس — وفِّر هذه اللهجة لشخص آخر غيري …

ودخل صامويلنكو بدون سترة، عرقانًا، أحمر من جو المطبخ الخانق.

وقال: آه، أنت هنا؟ مرحبًا يا عزيزي. هل تغديت؟ لا تتكلف وقل، تغديت؟

فقال لايفسكي ناهضًا: ألكسندر دافيديتش. إذا كنت قد قصدتك في طلب شخصي فإن هذا لا يعني أنني أعفيتك من مسئولية أن تكون متواضعًا وتحترم أسرار الآخرين.

فدهش صامويلنكو: ماذا هناك؟

فمضى لايفسكي يقول رافعًا صوته ومبدلًا قدميه من شدة الانفعال: إذا لم يكن لديك نقود، فلا تعطِ، ارفض الطلب، ولكن ما الداعي للصراخ في كل حارة بأن وضعي بلا مخرج وخلافه؟ أنا لا أطيق أعمال الخير هذه، عندما تساوي الأعمال درهمًا والأقوال قنطارًا! يمكنك أن تتفاخر بأعمال خيرك هذه كما يحلو لك، ولكن أحدًا لم يعطك الحق في إفشاء أسراري!

– أي أسرار؟ — سأل صامويلنكو بدهشة وقد بدأ يغضب — إذا كنت قد جئت لتتشاجر فلتذهب. عد فيما بعد!

وتذكر القاعدة التي بمقتضاها ينبغي على المرء، إذا غضب من قريبه، أن يعد في ذهنه إلى المائة، وعندئذ يهدأ، فبدأ يعد بسرعة.

واستطرد لايفسكي: أرجوك ألا تهتم بي! لا تلقِ إليَّ بالًا. وما دخل الآخرين بي وبحياتي؟ نعم، أنا أريد أن أسافر! نعم، أنا أستدين، وأسكر، وأعاشر زوجة رجل آخر، وعندي هستيريا، أنا مبتذل، ولست عميق التفكير كبعضهم، ولكن ما دخل الآخرين بذلك؟ فلتحترموا الفرد!

فقال صامويلنكو وقد عد إلى الخامسة والثلاثين: اعذرني يا صاحبي، ولكن …

فقاطعه لايفسكي: احترموا الفرد! هذه الأقاويل المستمرة في حق الآخرين، هذه الآهات والتأوهات، هذه المراقبة المستمرة والتسمع، هذا العطف الودي … إلى الشيطان! يقرضونني النقود ويعرضون عليَّ شروطًا كأنني طفل! يزدرونني، الشيطان يعلم مثل ماذا! لا أريد شيئًا! صاح لايفسكي مترنحًا من الانفعال وخاف أن تنتابه الهستيريا مرة أخرى. «إذن فلن أسافر يوم السبت» — ومضى هذا الخاطر في ذهنه — أنا لا أريد شيئًا! أرجوكم فقط أن ترحموني من وصايتكم! أنا لست طفلًا ولست مجنونًا، فأرجو أن ترفعوا عني هذه المراقبة!

ودخل الشماس، وعندما رأى لايفسكي شاحبًا يشيح بيديه، ومتوجهًا بخطابه الغريب إلى صورة الأمير فورونتسوف، وقف بجوار الباب متسمرًا.

واستطرد لايفسكي يقول: إن استراق النظر الدائم إلى ما في داخلي يهين كرامتي الإنسانية؛ ولذا أرجو من المخبرين المتطوعين أن يكفوا عن تجسسهم! كفى!

– ماذا قلت؟ سأل صامويلنكو وقد عد إلى المائة، واقترب من لايفسكي بوجه محتقن.

فكرر لايفسكي متناولًا قبعته وهو يكاد يختنق: كفى!

فقال صامويلنكو ببطء: أنا طبيب روسي من النبلاء ومستشار دولة! — ثم صرخ بصوتٍ مرتعش مشددًا على الكلمة الأخيرة — أنا لم أكن جاسوسًا أبدًا ولن أسمح لأحد بإهانتي. اخرس!

لم يسبق للشماس أبدًا أن رأى الدكتور مهيبًا، منتفخًا، محتقنًا ورهيبًا بهذا الشكل، فسد فمه بيده وركض إلى المدخل وانفجر هناك بالضحك. وكما من خلال ضباب رأى لايفسكي كيف نهض فون كورين، ووضع يديه في جيبَي سرواله، ووقف في وضع يوحي وكأنما ينتظر ما الذي سيحدث بعد ذلك. وبدا هذا الوضع الهادئ للايفسكي وقحًا ومهينًا إلى أقصى درجة.

وصرخ صامويلنكو: اسحب كلامك أرجوك!

فأجاب لايفسكي، الذي لم يعد يذكر ما هو الكلام الذي قاله: دعني وشأني! أنا لا أريد شيئًا! أريد فقط أن تتركني وشأني أنت وأبناء اليهود الألمان هؤلاء! وإلا فسأتخذ إجراءاتي! سوف أتعارك!

فقال فون كورين خارجًا من وراء الطاولة: الأمر الآن مفهوم. السيد لايفسكي يريد قبل السفر أن يرفه عن نفسه بمبارزة. بوسعي أن أتيح له هذه المتعة. يا سيد لايفسكي، لقد قبلت التحدي.

– التحدي؟ — قال لايفسكي بصوتٍ خافت مقتربًا من عالم الحيوان وناظرًا بحقد إلى جبينه الأسمر وشعره المجعد — التحدي! حسنًا! تفضل! إنني أكرهك! أكرهك!

– سعيد جدًّا. غدًا في الصباح المبكر قرب كربلاي، مع كل التفاصيل التي ترضي ذوقك. أما الآن فاغرب من هنا!

فقال لايفسكي بصوتٍ خافت وهو يلهث: أكرهك! من زمان أكرهك! المبارزة! نعم!

– أبعده من هنا يا ألكسندر دافيديتش أو أذهب أنا. إنه سيعضني.

أطفأت لهجة فون كورين الهادئة ثائرة الدكتور، فعاد إلى وعيه فجأة واسترد رشده، فأمسك بخصر لايفسكي بكلتا يديه، وأبعده عن عالم الحيوان، ودمدم بصوتٍ رقيق متهدج من الانفعال: يا أصدقائي … يا أصدقائي الطيبين … لا داعي … تشاجرتم وكفى … كفى … يا أصدقائي الطيبين …

وعندما سمع لايفسكي صوتًا ناعمًا، ودودًا أحس بأنه قد وقع في حياته الآن توًّا شيء لم يسبق له مثيل، شيء رهيب، وكأنما كاد يدهمه قطار. وأوشك أن يبكي، فأشاح بيده، واندفع من الغرفة راكضًا.

«أن أحس بوقع كراهية الآخرين لي، وأظهر نفسي أمام شخص يكرهني في أبأس وأحقر وأعجز صورة، أوه يا إلهي ما أصعب ذلك! — فكر لايفسكي بعد فترة، وهو جالس في المقصف، وقد أحس كأنما على جسده بقعة صدأ من وقع كراهية الغير التي عاناها لتوه — يا إلهي، يا له من شيء فج!»

وأنعشته المياه المثلجة والكونياك. وتصور بوضوح وجه فون كورين الهادئ المتغطرس، ونظرته بالأمس، وقميصه الذي يشبه السجادة، وصوته، ويديه البيضاوَين، فتململت في قلبه كراهية ثقيلة، كراهية مستعرة، جوعى، تطالب بالإشباع. وطرح في خياله فون كورين أرضًا وراح يدوسه بقدميه. وتذكر ما حدث بأدق التفاصيل، وأدهشه من نفسه كيف رضي بأن يبتسم بتزلف لشخص تافه، وعمومًا كيف يقيم وزنًا لرأي أناس حقراء، لا يعرفهم أحد، يعيشون في مدينة تافهة، ربما ليست مذكورة حتى في الخرائط، مدينة لا يعلم بوجودها أي شخص محترم في بطرسبرج. ولو أن هذه المدينة الحقيرة غابت فجأة في جوف الأرض أو احترقت لقرءوا في روسيا هذا النبأ بنفس الملل الذي يقرءون به إعلانًا عن بيع أثاث مستعمل. وأن يقتل غدًا فون كورين أو يتركه حيًّا هو أمر غير مجدٍ وغير طريف بنفس الدرجة على حدٍّ سواء. فليطلق النار على ساقه أو ذراعه، وليجرحه، ثم يضحك منه بعد ذلك وهو يختفي بآلامه المكبوتة في غمرة الناس التافهين مثله كما تختفي الحشرة المقطوعة الساق وسط العشب.

ذهب لايفسكي إلى شيشكوفسكي وروى له كل ما حدث، ودعاه أن يكون شاهده. ثم ذهبا معًا إلى مدير إدارة البريد والبرق ووجها إليه الدعوة أن يكون شاهدًا، ثم بقيا عنده للغداء. وأثناء الغداء مزحوا كثيرًا وضحكوا. وسخر لايفسكي من أنه لا يعرف تقريبًا كيف يطلق النار، وسمى نفسه رامي البلاط ووليام تل.

وقال: ينبغي تلقين هذا السيد درسًا …

وجلسوا ليلعبوا الورق بعد الغداء. وكان لايفسكي يلعب ويشرب الخمر ويفكر بأن المبارزة عمومًا شيء سخيف وأخرق، لأنها لا تحل القضية، بل تزيدها تعقيدًا، ولكن أحيانًا لا يمكن الاستغناء عنها. في هذه الحالة مثلًا … فليس من المعقول أن يذهب إلى القاضي ويشكو فون كورين! والناحية الأخرى الجيدة في المبارزة القادمة أنه سيكون من المستحيل عليه بعدها أن يبقى في المدينة. وثمل قليلًا، وسرَّى عنه اللعب فأحس بأنه في حالة طيبة.

ولكن عندما غربت الشمس وهبط الظلام تملكه القلق. لم يكن ذاك خوفًا من الموت، فقد ترسخت في نفسه أثناء الغداء واللعب لسببٍ ما ثقة بأن المبارزة لن تنتهي بشيء. كان ذاك خوفًا من شيء مجهول سيقع في حياته لأول مرة صباح الغد، وخوفًا من الليل المقبل … كان يعلم أنها ستكون ليلة طويلة، مسهدة، وأنه سيكون عليه أن يفكر لا في فون كورين وكراهيته فحسب، بل وفي ذلك التل من الأكاذيب الذي كان عليه أن يجتازه والذي لم يكن لديه لا القدرة ولا المهارة للالتفاف من حوله. وبدا كأنما داهمه المرض بغتة، ففقد فجأة كل اهتمام باللعب والناس، وأخذ يتصرف بقلق ويرجو أن يدَعوه ينصرف إلى البيت. كان يريد أن يأوي إلى الفراش بسرعة ويكف عن الحركة ويرتب أفكاره للَّيل. وأوصله شيشكوفسكي ومدير البريد إلى داره، ثم ذهبا إلى فون كورين ليبحثا أمر المبارزة.

وجد لايفسكي قرب البيت أتشميانوف. كان الشاب يلهث وبدا منفعلًا.

وقال للايفسكي: إنني أبحث عنك يا إيفان أندريتش. أرجوك هيا معي بسرعة …

– إلى أين؟

– هناك سيد لا تعرفه يريد أن يراك في أمر مهم جدًّا. وهو يرجوك بشدة أن تأتي لدقيقة واحدة. إنه يريد أن يقول لك شيئًا … وهذا بالنسبة له مسألة حياة أو موت …

كان أتشميانوف منفعلًا فتحدث بلكنة أرمنية شديدة بدت واضحة في تحويره لنطق الكلمات.

وسأل لايفسكي: ومن هو؟

– طلب ألا أذكر لك اسمه.

– قل له إنني مشغول. ليكن غدًا إذا شاء …

فروع أتشميانوف: كيف هذا! إنه يريد أن يقول شيئًا مهمًّا جدًّا بالنسبة لك … مهمًّا جدًّا! إذا لم تذهب فستقع مصيبة.

– غريبة … — دمدم لايفسكي وهو لا يفهم لماذا يبدو أتشميانوف مضطربًا هكذا، وأي أسرار يمكن أن توجد في هذه المدينة المملة التي لا ضرورة لها — عجيبة! كرر وهو يفكر — طيب، فلنذهب. سيان.

انطلق أتشميانوف أمامه بسرعة وسار هو من خلفه. عبرا الشارع ثم سارا في حارة.

وقال لايفسكي: يا له من شيء ممل!

– حالًا، حالًا … أصبحنا قريبًا.

وعند الجسر القديم مرَّا في حارة ضيقة بين خرابتين مسيجتين، ثم دلفا إلى فناء كبير، واتجها إلى منزل صغير …

فسأل لايفسكي: أليس هذا منزل مريدوف؟

– بلى.

– فلماذا جئنا من الشوارع الخلفية، أنا لا أفهم؟ كان بإمكاننا أن نأتي من الشارع الرئيسي … هناك أقرب.

– لا بأس، لا بأس …

بدا للايفسكي غريبًا كذلك أن أتشميانوف قاده إلى المدخل الخلفي، وأشار بيده كأنما يدعوه إلى السير بهدوء وفي صمت.

– هنا، هنا … — قال أتشميانوف وهو يفتح الباب بحذر ويدلف إلى المدخل على أطراف أصابعه — حاسب، حاسب، أرجوك … قد يسمعوننا.

وأصاخ السمع، واسترد أنفاسه بقوة، ثم قال هامسًا: افتح هذا الباب وادخل … لا تخف.

فتح لايفسكي الباب مندهشًا، ودخل غرفة بسقف منخفض ونوافذ مسدلة الستائر. وكانت هناك شمعة مشتعلة على طاولة.

– من تريد؟ — سأل صوت في الغرفة المجاورة — أهو أنت يا مريدوف؟

تحول لايفسكي إلى تلك الغرفة فرأى كيريلين وبجواره ناديجدا فيودوروفنا.

لم يسمع ما قيل له، وتراجع بظهره، ولم يلحظ كيف أصبح في الشارع. تبدد من قلبه كل شيء فجأة: كراهية فون كورين، والقلق. وبينما كان عائدًا إلى المنزل أخذ يهز ذراعه اليمنى بحركة نافرة، وينظر تحت قدميه باهتمام محاولًا أن يسير على الأماكن المستوية. وفي غرفة مكتبه في البيت أخذ يفرك راحتيه ويحرك كتفيه وعنقه على نحو أخرق، كأنما كانت السترة والقميص ضيقين عليه، وذرع الغرفة من ركن إلى ركن، ثم أشعل شمعة وجلس إلى المكتب.

١٦

– إن العلوم الإنسانية التي تتحدث عنها لن ترضي الفكر الإنساني إلا عندما تلتقي في حركتها بالعلوم الدقيقة فتسير إلى جوارها. ولست أدري هل سيلتقيان تحت عدسة المجهر، أم في منولوجات هاملت الجديد، أم في دين جديد، ولكني أعتقد أن الجليد سيغطي وجه الأرض قبل أن يحدث هذا اللقاء. إن أكثر المعارف الإنسانية ثباتًا وقدرة على الحياة هي بالطبع تعاليم المسيح، ولكن انظر، حتى هي، كم يختلف فهمها! إنها تعلمنا أن نحب جميع أقربائنا وتستثني من ذلك الجنود والمجرمين والمجانين: فتسمح لنا بقتل المذكورين أولًا في الحرب، وبعزل أو إعدام المذكورين ثانيًا، أما المذكورين ثالثًا فتحرم عليهم الزواج. وهناك شراح آخرون يعلموننا أن نحب جميع الأقرباء بلا استثناء، دون تمييز بين ما لهم وما عليهم. وحسب تعاليمهم، إذا جاءك مجدور أو قاتل أو صريع يطلب يد ابنتك فلتزوجها له. وإذا هاجم الأوغاد أناسًا أصحاء العقل والبدن، فيسلم لهم هؤلاء رءوسهم. إن هذه الموعظة بالحب من أجل الحب، مثل الفن من أجل الفن، لو قدر لها أن تصبح سارية المفعول، لأفضت بالبشرية في نهاية المطاف إلى الفناء التام، ولتحقق عندئذ أكبر شر من الشرور التي وقعت في وقتٍ ما على سطح الأرض. إن الشروح كثيرة، وطالما هي كثيرة فإن الفكر الجاد لا يرضى بأي منها فيسارع إلى إضافة شرحه هو إلى هذه الكمية الكبيرة من الشروح. ولذلك فلا تضع القضية أبدًا، كما تقول، على أساس فلسفي أو على ما يسمى بالأساس المسيحي، فإن ذلك لن يؤدي إلا إلى الابتعاد بك عن حل القضية.

أصغى الشماس بانتباه إلى عالم الحيوان، ثم فكر قليلًا وسأله: القانون الأخلاقي المميز لكل فرد من البشر … هل اخترعه الفلاسفة، أم خلقه الله مع الجسد؟

– لا أدري. ولكن هذا القانون عام لجميع الشعوب والعصور إلى درجة يبدو لي معها أنه ينبغي علينا الاعتراف بأنه مرتبط عضويًّا بالإنسان. إنه ليس ابتكارًا، بل هو موجود وسيوجد. لن أقول لك إننا سنراه في وقتٍ ما تحت عدسة المجهر، ولكن ارتباطه العضوي تثبته الآن بالفعل الدلائل الجلية؛ فجميع آلام المخ وكل ما يسمى بالأمراض النفسية تنعكس قبل كل شيء في فساد القانون الأخلاقي على حد علمي.

– حسنًا، إذن فكما تريد المعدة أن تأكل يريد الشعور الأخلاقي منا أن نحب أقرباءنا. هكذا؟ ولكن طبيعتنا تقاوم صوت الضمير والعقل بسبب حبها لذاتها، ولهذا تثور قضايا محيرة كثيرة. فإلى من نلجأ لحل هذه القضايا إذا كنت لا تريد منا أن نضعها على أساس فلسفي؟

– فلتلجأ إلى تلك المعارف الدقيقة القليلة التي هي بحوزتنا. ثق في جلاء الحقائق ومنطقها. بالطبع هذا شحيح، ولكنه في المقابل ليس مزعزعًا ومبهمًا كالفلسفة. فلنفرض أن القانون الأخلاقي يتطلب أن تحب الناس. حسنًا، ليكن. ينبغي إذن أن يكمن الحب في إزالة كل ما يلحق الضرر بالإنسان بهذه الصورة أو تلك ويهدده بالخطر في الحاضر والمستقبل. ومعارفنا والحقائق الجلية تشير إليك بأن الخطر الذي يتهدد البشرية يأتي من جانب الأشخاص المنحرفين خلقيًّا وبدنيًّا. وإذا كان الأمر كذلك فلتقاوم المنحرفين. فإذا لم تكن قادرًا على رفعهم إلى المستوى السوي فستكون قادرًا على التخلص من ضررهم؛ أي القضاء عليهم.

– إذن فالحب يكمن في أن ينتصر القوي على الضعيف؟

– بلا جدال.

فقال الشماس بحرارة: ولكن الأقوياء صلبوا ربنا يسوع المسيح!

– بل إن المسألة هي أن الضعفاء، لا الأقوياء، هم الذين صلبوه. لقد أضعفت الحضارة الإنسانية الصراع من أجل الوجود، والانتخاب الطبيعي، وتسعى إلى جعلهما يقتربان من الصفر. ومن هنا تجد هذا التكاثر السريع للضعفاء وتفوقهم على الأقوياء. فلتتصور أنك تمكنت من أن تقنع النحل بالأفكار الإنسانية في صورتها الجنينية غير المدروسة. فما الذي سيترتب على ذلك؟ ستبقى على قيد الحياة ذكور النحل التي من المفروض أن تقتل، وسوف تلتهم العسل وتفسد النحلات وتخنقها، وفي النتيجة يتفوق الضعفاء على الأقوياء ويفنى الأواخر. وهذا ما يحدث الآن للبشرية، فالضعفاء يضطهدون الأقوياء. ولدى المتوحشين، الذين لم تمسهم الحضارة بعد، تجد الأقوى، والأحكم والأقوم خلقًا يسير دائمًا في المقدمة. إنه الزعيم والحاكم. أما نحن المتحضرين فقد صلبنا المسيح وما زلنا نصلبه. إذن فهناك شيء ما ينقصنا … وهذا «الشيء الما» ينبغي أن نستعيده، وإلا فلن تكون هناك نهاية لهذه الأخطاء.

– ولكن ما هو المعيار لديك للتمييز بين الأقوياء والضعفاء؟

– المعارف وجلاء الحقائق، إن المجدورين والمصابين بتدرن العقد العنقية يُعرفون بأمراضهم، أما المنحلون والمجانين فبتصرفاتهم.

– ولكن الخطأ محتمل!

– نعم، ولكن هل تخشى البلل إذا كان الطوفان يتهددنا؟

فضحك الشماس وقال: هذه فلسفة.

– أبدًا. لقد أفسدتك فلسفة المعهد الديني إلى درجة أنك تريد أن ترى في كل شيء مجرد ضباب. فالعلوم المجردة، التي حشا بها رأسك الشاب، إنما تسمى كذلك لأنها تجرد ذهنك من جلاء الحقائق. انظر مباشرة في عينَي الشيطان، فإذا كان شيطانًا فلتقل إنه شيطان، ولا تتطفل على كانط أو هيجل طلبًا للتفسيرات.

وصمت عالم الحيوان قليلًا ثم استطرد: اثنان في اثنين يساوي أربعة، والحجر هو حجر.

غدًا ستكون لدينا مبارزة. سنقول إن هذه سخافة وحماقة، وإن المبارزات انتهى عهدها، وإن المبارزة الأرستقراطية لا تختلف في الواقع عن شجار سكْر في حانة، ولكننا لن نتراجع، بل سنمضي ونتقاتل. إذن فهناك قوى أقوى من أحكامنا. إننا نصرخ بأن الحرب قرصنة وهمجية وفظاعة وقتل أشقاء، ولا نستطيع أن نرى الدم دون أن نصاب بالإغماء. ولكن ما إن يهيننا الفرنسيون أو الألمان حتى نشعر فورًا بالحمية، ونصيح «هورا» من صميم القلب ونهجم على العدو، وأما أنت فستبتهل إلى الرب أن يبارك سلاحنا، وستثير بطولاتنا الإعجاب الشامل، والصادق في الواقع. وإذن فمرة أخرى هناك قوة، إن لم تكن أسمى، فهي أقوى منا ومن فلسفتنا. وليس بإمكاننا أن نوقفها، كما لا نستطيع إيقاف هذه الغيمة القادمة من وراء البحر. فلا تنافق إذن، ولا تهددها بقبضة داخل الجيب ولا تقل: «أوه، هذا سخيف! هذا قديم، هذا لا يتفق والكتاب المقدس!»، بل حدق مباشرة في عينيها، واعترف بشرعيتها الحكيمة، وإذا ما أرادت، مثلًا، أن تقضي على قبيلة ضعيفة، موبوءة، منحلة، فلا تعرقلها بعقاقيرك وبمقتطفات من إنجيلٍ أُسيء فهمه. توجد لدى ليسكوف٢٢ شخصية دانيلا ذي الضمير الحي. وقد وجد دانيلا خارج المدينة مجذومًا فآواه وأطعمه باسم المحبة والمسيح. ولو كان دانيلا هذا يحب الناس حقًّا لجر ذلك المجذوم بعيدًا عن المدينة وألقى به في الخور، وذهب ليخدم الأصحاء. أظن أن المسيح أوصانا بالحب العاقل والمدرك والنافع.

فضحك الشماس وقال: يا لك من مخادع! أنت لا تؤمن بالمسيح، فلماذا تذكره كثيرًا في كلامك؟

– كلا، بل أومن. ولكن بالطبع على طريقتي الخاصة وليس على طريقتك. آه يا شماس! يا شماس! — وضحك عالم الحيوان. وأمسك بخصر الشماس وقال بمرح — ماذا؟ هل تذهب معي غدًا إلى المبارزة؟

– الرتبة لا تسمح، وإلا ذهبت.

– وما معنى الرتبة؟

– أنا مرسوم. مُنِحتُ بركة الله.

– آه يا شماس، يا شماس — كرر فون كورين ضاحكًا — كم أحب الحديث معك!

فقال الشماس: أنت تقول إن لديك إيمانًا. ما هو هذا الإيمان؟ أما أنا فعندي عمٌّ قسٌّ، يؤمن إلى درجة أنه يذهب إلى الحقل في وقت الجفاف ليسأل الله مطرًا، يأخذ معه مظلة ومعطفًا جلديًّا لكيلا يبلله المطر في طريق العودة. هذا هو الإيمان! وعندما يتحدث عن المسيح يشع نورًا، وتبكي جميع النساء والرجال بحرقة. ولو كان هنا لأوقف هذه الغيمة، ولجعل أي قوة تتحدث عنها تلوذ بالفرار. نعم … الإيمان يحرك الجبال.

وضحك الشماس، وربت على كتف عالم الحيوان، واستطرد: هكذا بالضبط … ها أنت ذا تدرس، وتكتشف أعماق البحر، وتميز بين الضعفاء والأقوياء، وتؤلف الكتب وتتحدى للمبارزة … ومع ذلك يبقى كل شيء كما كان. ولكن قد يأتي شخص ما، عجوز ضعيف، فيتمتم باسم الروح القدس بكلمة واحدة، أو يقدم من الجزيرة العربية محمد جديد على متن جواد، شاهرًا سيفه، فينقلب كل شيء لديك رأسًا على عقب، ولا يبقى في أوربا حجر على حجر.

– هذا يا شماس كلام في الهواء!

– الإيمان بلا عمل جسد ميت، أما العمل بلا إيمان فأسوأ من ذلك، ليس إلا مضيعة للوقت لا أكثر.

وظهر الدكتور على الكورنيش. وعندما رأى الشماس وعالم الحيوان توجه إليهما.

وقال وهو يلهث: يبدو أن كل شيء جاهز. الشهود: جفروفسكي وفويكو. سيمران صباحًا، في الساعة الخامسة. كم تلبدت! — قال وهو ينظر إلى السماء — أظلمت تمامًا.

– سيسقط المطر الآن.

وسأله فون كورين: ستأتي معنا كما آمل؟

– كلا، أعوذ بالله. يكفيني ما لقيته من عذاب.

سيذهب أوستيموفتش بدلًا مني. لقد أخبرته بذلك.

ومض البرق بعيدًا وراء البحر، وتردد هزيم رعد مكتوم.

وقال فون كورين: يا للجو الخانق قبل العاصفة! أراهن أنك زرت لايفسكي وبكيت على صدره.

فأجاب الدكتور مرتبكًا: ولماذا أذهب إليه؟ ما لي به؟

قبل الغروب قطع البوليفار والشارع عدة مرات على أمل أن يرى لايفسكي. كان يشعر بالخجل من ثورته ومن نوبة الطيبة المفاجئة التي أعقبت ذلك. أراد أن يعتذر للايفسكي بلهجة مازحة يزجره ويطمئنه ويقول له إن المبارزة شيء من مخلفات همجية القرون الوسطى، إلا أن العناية الإلهية هي التي أشارت إليهما بالمبارزة كوسيلة للتصالح؛ فغدًا سيتبادلان، هما الرجلان الرائعان، النادرا الذكاء، الطلقات في الهواء فيقدر كلٌّ منهما نبل الآخر ويصبحان صديقين؛ إلا أنه لم يصادف لايفسكي ولا مرة.

وردد صامويلنكو: ولماذا أذهب إليه؟ لست أنا الذي أهنته بل هو الذي أهانني. قل لي لو تكرمت، لماذا انقضَّ عليَّ؟ أي سوء صنعت به؟ دخلت غرفة الجلوس وإذا فجأة: أهلًا، أنت جاسوس! أما غريبة! خبرني، كيف بدأت بينكما؟ ماذا قلت له؟

– قلت له إن وضعه بلا مخرج. وكنت على حق. الشرفاء والنصابون هم فقط الذين يستطيعون إيجاد مخرج من أي وضع. أما من يريد أن يكون شريفًا ونصابًا في آن واحد فليس لديه مخرج. ولكن يا سادة، الساعة بلغت الحادية عشرة، وغدًا علينا أن نستيقظ مبكرًا.

وفجأة هبت الريح، وأثارت التراب على الكورنيش وزوبعت، وزأرت فغطت على هدير البحر.

فقال الشماس: عاصفة! فلنذهب، عيناي امتلأتا بالتراب.

وعندما مضوا تنهد صامويلنكو وقال وهو يثبت عمرته بيده: يبدو أنني لن أنام الليل.

فضحك عالم الحيوان قائلًا: لا تقلق، كن مطمئنًا، فلن تنتهي المبارزة بشيء. سيطلق لايفسكي النار في الهواء بسماحة، فهو لا يستطيع بدون ذلك، أما أنا فلن أطلق النار عمومًا فيما يبدو. فأن أقدم للمحاكمة من جراء لايفسكي وأضيع الوقت لعبة لا تساوي ثمنها. وبالمناسبة، ما هو الجزاء الذي يوقع بسبب المبارزة؟

– الاعتقال، وفي حالة وفاة الخصم السجن في القلعة حتى ثلاث سنوات.

– قلعة بطرس وباول؟

– كلا، في القلعة الحربية على ما أظن.

– وإن كان ينبغي أن ألقن هذا الفتى درسًا!

ومضى البرق خلفهم فوق البحر، وأضاء للحظة أسطح المنازل والجبال. وافترق الأصدقاء عند البوليفار. وعندما اختفى الدكتور في الظلام وخف وقع خطواته صاح فون كورين له: أخشى أن يعوقنا الطقس غدًا!

– محتمل جدًّا! يا ليت هذا يكون!

– ليلة سعيدة!

– ليلة ماذا؟ ماذا قلت؟

كان من الصعب تمييز ما يقال في صخب الريح والبحر وهزيم الرعد. فصاح عالم الحيوان: لا شيء!

وأسرع إلى المنزل.

١٧

… في ذهني المسحوق بالكآبة
أفكاري الثقال تزدحم،
والذكريات صمتت أمامي،
شريطها الطويل ينسحب،
أشحت باحتقار إذ قرأت
في طية أيام عمري وارتجفت،
كم لعنت!
بثثت مر شكواي … ذرفت أدمعي السخينة،
لكنني لم أمحُ تلك الأسطر الحزينة.
بوشكين

سيان إذا ما قتلوه غدًا أم سخروا به، أي تركوا له هذه الحياة، فهو في كلا الحالتين قد انتهى. وسواء قتلت هذه المرأة المجللة بالعار نفسها من اليأس والخزي أم أمضت في الشقاء بقية أيامها التعيسة، فهي في كلا الحالتين قد انتهت …

هكذا كان لايفسكي يفكر وهو جالس إلى المكتب في ساعة متأخرة ولا يزال يفرك راحتيه. وفجأة انفتحت النافذة واصطفقت، واندفعت إلى الغرفة دفقة ريح قوية فتطايرت الأوراق من فوق المكتب. وأغلق لايفسكي النافذة، وانحنى ليجمع الأوراق من الأرض. وأحس في جسده بشيء جديد، نوع من اضطراب الحركة لم يصبه من قبل، فلم يعد يتعرف على حركاته. كان يسير في وجل، ويتدافع مرفقاه جانبًا وتتقافز كتفاه، وعندما جلس إلى المكتب عاد يفرك راحتيه. لقد فقد جسده مرونته.

على المرء قبيل الموت أن يكتب إلى أقرب الناس.

وكان لايفسكي يذكر ذلك. فتناول القلم وكتب بخط مرتعش: «أماه».

أراد أن يكتب إلى أمه بأن تأوي من أجل الله الرحيم الذي تؤمن به وتسبغ عطفها وحنانها على هذه المرأة البائسة التي سلبها شرفها، هذه المسكينة الوحيدة الفقيرة، وأن تنسى وتغفر كل، كل، كل شيء، لتكفِّر بالتضحية ولو عن جزء من خطيئة ابنها … ولكنه تذكر كيف تخرج أمه، هذه العجوز الممتلئة الثقيلة الحركة، إلى الحديقة صباحًا في قلنسوة من الدانتلا، ومن خلفها تسير ربيبتها مع كلب بولونيز، وكيف تصيح أمه في البستاني والخدم بصوتٍ آمِر، وكيف يبدو وجهها أبيًّا متغطرسًا … تذكر كل هذا فشطب الكلمة التي خطها.

لمع البرق بقوة في النوافذ الثلاث جميعًا، وتبعه دوي رعد هادر متدحرج، جاء في البداية مكتومًا، ثم بعد ذلك مجلجلًا صاخبًا، قويًّا إلى درجة هزت زجاج النوافذ فأرسل رنينًا. ونهض لايفسكي فاقترب من النافذة، وألصق جبينه بالزجاج. كانت في الخارج عاصفة رعدية قوية جميلة. وعند الأفق كان البرق يلقي من السحب إلى البحر أشرطة بيضاء بلا توقف فتضيء الأمواج السوداء العالية إلى مسافة بعيدة. ومن يمين المنزل، ومن يساره، وربما أيضًا من أعلاه ومضت البروق.

– العاصفة! — دمدم لايفسكي. أحس برغبة في أن يصلي لأحدٍ ما أو لشيءٍ ما، ولو للبرق أو السحب — يا عاصفتي الحبيبة!

وتذكر كيف كان يخرج في طفولته راكضًا إلى الحديقة ساعة العاصفة، حاسر الرأس، ومن خلفه تركض فتاتان شقراوان بعيون زرقاء فيبللهم المطر. كانوا يقهقهون من شدة الإعجاب، ولكن عندما تدوي قصفة رعد قوية تلتصق الفتاتان به باستسلام وبراءة، أما هو فيرسم علامة الصليب ويسارع إلى التمتمة: «قدوس، قدوس، قدوس …»، أوه، أين، أنت، في أي بحر غبت يا منابع الحياة الرائعة النقية؟ لم يعد يخاف العاصفة، ولا يحب الطبيعة، ولم يعد لديه إله، وكل الفتيات البريئات اللاتي عرفهن في وقتٍ ما قد قضى عليهن هو وأترابه، ولم يغرس في حديقة داره طوال حياته شجرة واحدة ولم يزرع نبتة واحدة، وعاش بين الأحياء دون أن ينقذ ذبابة واحدة، بل كان يدمر، ويهلك، ويكذب يكذب …

«ما الذي في ماضيَّ ليس رذيلة؟» سأل نفسه وهو يحاول أن يتشبث بأي ذكرى مشرقة كما يتشبث الساقط في الهاوية بغصون الشجيرات.

المدرسة؟ الجامعة؟ لكن ذلك خداع. كان يدرس بصورةٍ سيئة وقد نسي ما تعلمه. خدمة المجتمع؟ هذا أيضًا خداع، لأنه لم يكن يفعل شيئًا في الخدمة، بل كان يتقاضى الراتب دون وجه حق، وخدمته نفسها هي اختلاس حقير لا يقدم مرتكبه إلى المحكمة.

لم يكن بحاجة إلى الحقيقة، فلم يبحث عنها. وكان ضميره نائمًا أو صامتًا وقد سحرته الرذيلة والكذب. كان كالغريب أو الأجير من كوكب آخر لا يشارك في الحياة العامة للناس، غير مبالٍ بآلامهم وأفكارهم وأديانهم ومعارفهم وبحثهم وصراعهم، ولم يقل للناس كلمة طيبة واحدة، ولم يكتب سطرًا مفيدًا غير مبتذل واحدًا، ولم يفعل مثقال ذرة خيرًا للناس، بل كان يأكل خبزهم، ويشرب خمرهم، ويسرق زوجاتهم، يعيش على أفكارهم، ولكي يبرر حياته المزرية الطفيلية أمامهم وأمام نفسه سعى دائمًا إلى أن يضفي على نفسه مظهر من هو أرفع وأفضل منهم. كذب، كذب …

وتذكر بوضوح ما رأه مساء في منزل مريدوف، فأحس بانقباض لا يطاق من التقزز والكآبة. نعم، كيريلين وأتشميانوف كريهان، ولكنهما يواصلان ما بدأه هو. إنهما شريكاه وتلميذاه. لقد سلب سيدة شابة ضعيفة وثقت به أكثر من ثقتها بأخيها، سلبها زوجها، ومعارفها، ووطنها وجاء بها إلى هنا، إلى القيظ والحمى والملل. وكان عليها يومًا بعد يوم أن تعكس كما المرآة فراغه، وفساده وكذبه، وبهذا، بهذا وحده امتلأت حياتها الضعيفة الذابلة البائسة. وبعد ذلك شبع منها وأبغضها، ولكن أعوزته الشجاعة أن يهجرها، فسعى إلى أن يكبلها بقوة بحبال كذبه كالعنكبوت … أما الباقي فأكمله هذان الشخصان.

كان لايفسكي تارة يجلس إلى المكتب، وتارة يقترب من النافذة، ومرة يطفئ الشمعة ومرة يشعلها. كان يلعن نفسه بصوتٍ مسموع ويبكي ويشكو ويسأل الصفح. وجرى عدة مرات إلى المكتب في يأس ليكتب «أماه!»

لم يكن لديه من الأهل والأقارب أحد سوى أمه. ولكن كيف كان بوسع أمه أن تساعده؟ وأين هي؟ وأراد أن يهرع إلى ناديجدا فيودوروفنا لكي يجثو أمامها ويقبل يديها وقدميها ويتوسل منها الصفح، ولكنها كانت ضحيته، وكان يخاف منها وكأنما هي ميتة.

وتمتم وهو يفرك راحتيه: ضاعت حياتي! يا إلهي، لماذا لا أزال حيًّا؟!

لقد دُفع من السماء نجمه الكابي فهوى واختفى أثره في ظلام الليل. ولن يعود إلى السماء، لأن الحياة تُمنح مرة واحدة لا تتكرر. ولو كان بمقدوره أن يسترجع الأيام والسنوات الماضية لاستبدل بكذبها الحقيقة وبالفراغ العمل، وبالملل الفرحة، ولأعاد الطهارة إلى من سلبهم إياها، ولوجد الله والعدالة، ولكن ذلك أيضًا مستحيل كاستحالة إعادة النجم الغارب إلى السماء من جديد. ولأن ذلك مستحيل فقد تملكه اليأس.

عندما انتهت العاصفة كان جالسًا بجوار النافذة المفتوحة يفكر بهدوء فيما سيحدث له. في الغالب سيقتله فون كورين؛ فتفكير هذا الرجل الواضح البارد يجيز تصفية الضعفاء والتافهين. فإذا خانه تفكيره في اللحظة الحاسمة فستساعده الكراهية والإحساس بالتقزز اللذان يثيرهما فيه لايفسكي. وإذا ما أخطأ فون كورين الهدف، أو جرحه فقط، أو أطلق النار في الهواء لكي يسخر من خصمه البغيض، فما العمل حينئذ؟ وإلى أين يذهب؟

وسأل لايفسكي نفسه: أسافر إلى بطرسبرج؟ ولكن هذا معناه أن أبدأ حياتي القديمة التي ألعنها. ومن يبحث عن الخلاص في تغيير المكان، كالطير المهاجر، فلن يجد شيئًا لأن الأرض كلها بالنسبة له واحدة. أيبحث عن الخلاص في الناس؟ فيمن منهم، وكيف؟ فطيبة صامويلنكو وسماحته لا يعول عليهما في الخلاص، مثلهما مثل مرح الشماس أو كراهية فون كورين. يجب أن يبحث عن الخلاص في نفسه فقط، فإذا لم يجده فلا داعي لتضييع الوقت، فليقتل نفسه وانتهى الأمر …

تردد وقع عربة. وكان ضوء الفجر قد لاح. ومرت العربة أمامه، وانحرفت وتوقفت بجوار المنزل وعجلاتها تصر فوق الرمل المبلل. وكان يجلس في العربة شخصان.

فقال لهما لايفسكي من النافذة: انتظرا، سآتي حالًا! أنا لست نائمًا. هل حان الوقت حقًّا؟

– نعم. الساعة الرابعة، وإلى أن نصل …

ارتدى لايفسكي المعطف والعمرة، ووضع السجائر في جيبه، ووقف متفكرًا. خيل إليه أنه ينبغي أن يفعل شيئًا آخر. ومن الخارج تناهى حديث الشاهدين الخافت وشخير الخيول، فملأت هذه الأصوات المترددة في الصباح الرطب، والناس جميعًا نيام، والسماء لا تكاد تضيء، روح لايفسكي باكتئاب أشبه بهاجس سيئ. ووقف متفكرًا بعض الوقت، ثم ذهب إلى غرفة النوم.

كانت ناديجدا فيودوروفنا مستلقية في سريرها، ممددة بطول جسدها ومغطاة بالحرام حتى رأسها. لم تكن تتحرك. فبدت، خاصة برأسها، أشبه بمومياء مصرية. وسألها لايفسكي الصفح في سره وهو ينظر إليها في صمت، وفكر في أنه إذا لم تكن السماء خاوية وفيها إله حقًّا، فسوف يصون هذه المرأة، وإذا لم يكن هناك إله، فلتهلك إذن، فلا داعي لأن تعيش.

وفجأةً هبت وجلست في الفراش. وسألت لايفسكي وهي ترفع نحوه وجهها الشاحب وتنظر برعب: أهو أنت؟ هل انتهت العاصفة؟

– انتهت.

وتذكرت ما حدث، فوضعت كلتا يديها فوق رأسها وارتجف بدنها كله.

وقالت: كم أتعذب! آه لو تدري كم أتعذب! — ومضت تقول وقد أغمضت عينها — كنت أنتظر أن تأتي وتقتلني، أو تطردني من البيت في العاصفة تحت المطر، ولكنك كنت تتباطأ … تتباطأ …

عانَقها باندفاع وقوة وانهال على ركبتيها ويديها تقبيلًا، وبعد ذلك، وبينما كانت تتمتم له بكلمات ما وتنتفض من الذكريات أخذ يمسد شعرها، وأدرك وهو يحدق في وجهها أن هذه المرأة التعيسة الخاطئة هي الإنسان الوحيد القريب والحبيب لديه.

وعندما خرج من البيت وجلس في العربة أحس بالرغبة في العودة إلى البيت حيًّا.

١٨

نهض الشماس، وارتدى ملابسه، وأخذ عصاه الغليظة المعقدة وخرج من البيت في هدوء. كان الجو مظلمًا فلم يرَ الشماس في اللحظات الأولى عندما سار في الشارع حتى عصاه البيضاء. ولم تكن في السماء نجمة واحدة، وبدا كأن المطر سيسقط ثانية. وفاحت رائحة الرمل الرطب والبحر.

«الخوف أن يهجم التشتشين.» فكر الشماس وهو يسمع كيف تدق عصاه على أرض الشارع وكيف تتردد هذه الدقات رنانة وحيدة في سكون الليل.

وعندما أصبح خارج المدينة بدأ يرى الطريق وعصاه وظهرت في السماء هنا وهناك بقع عكرة، وبعد قليل أطلت نجمة واحدة، وطرفت بعينها الوحيدة في وجل، كان الشماس يسير على الشاطئ الصخري المرتفع ولا يرى البحر، الذي كان نائمًا في الأسفل، وأمواجه غير المرئية تضرب الشاطئ بكسل وتثاقل وكأنها تتنهد: أف! وكم كانت بطيئة! ضربت موجة، وعدَّ الشماس حتى ثماني خطوات وعندئذٍ ضربت موجة أخرى، وبعد ست خطوات ضربت الثالثة. هكذا لم يكن يرى شيئًا، وفي الظلام تردد صخب البحر الكسول النعسان في ذلك الزمن البعيد بلا نهاية وغير المتصور، عندما كان روح الله يرف على فوضى الكون.

أحس الشماس بالرهبة. وخاف في سره من أن يعاقبه الله لأنه يصاحب أناسًا غير مؤمنين، بل يذهب حتى لمشاهدة مبارزتهم. ستكون مبارزة تافهة، بلا سفك دماء، مضحكة، ولكن أيًّا كان الأمر فهي مشهد وثني، ولا يليق أبدًا برجل دين أن يشهدها. وتوقف وفكر: ألا ينبغي أن يعود؟ بيد أن حب الاستطلاع القوي المقلق تغلب على الشكوك، فواصل سيره.

وراح يهدئ نفسه: «رغم أنهم ليسوا مؤمنين، إلا أنهم أناس طيبون، وستكتب لهم النجاة. حتمًا ستكتب لهم النجاة!» قالها بصوتٍ مسموع وأشعل لفافة.

بأي معيار ينبغي أن تقيس فضائل الناس لكي نحكم عليهم بالعدل؟ تذكر الشماس عدوه؛ مفتش المعهد الديني، الذي كان يؤمن بالله، ولا يتقاتل في المبارزات، ويعيش عفيفًا، ولكنه في وقتٍ ما كان يطعم الشماس خبزًا مخلوطًا برمل، وكاد أن يقطع له أذنه ذات مرة. وإذا كانت الحياة البشرية قد رُتبت بهذه الصورة غير الحكيمة بحيث كان الجميع في المعهد يحترمون هذا المفتش القاسي الغشاش الذي كان يسرق طحين العهدة، ويصلون من أجل صحته وخلاصه، فهل من العدل أن يتجنب أناسًا مثل فون كورين ولايفسكي فقط لأنهما غير مؤمنين؟ وراح الشماس يبحث هذه المسألة ولكنه تذكر كم كان منظر صامويلنكو اليوم مضحكًا فقطع عليه هذا حبل أفكاره. أوه! كم سيضحك غدًا! تصور الشماس كيف سيقبع تحت إحدى الخمائل ويسترق النظر، وعندما يشرع فون كورين غدًا أثناء الغداء في التباهي بنفسه، فإن الشماس سيقص عليه وهو يضحك كل تفاصيل المبارزة.

وسيسأله عالم الحيوان: «من أين عرفت كل شيء؟» فيرد عليه: «تلك هي المسألة. هكذا. كنت جالسًا في البيت ولكني أعرف.»

وكم يكون طريفًا لو كتب وصفًا مضحكًا للمبارزة! فسوف يقرؤه حموه ويضحك، فحموه يفضل ألا تطعمه شيئًا ولكن قُصَّ عليه أو اكتب له أي شيء مضحك.

انكشف أمامه وادي النهير الأصفر. أصبح النهير من المطر أعرض وأشرس، ولم يعد يزمجر كما كان في السابق، بل يزأر. وبدأ الفجر يشرق. وبدا الصباح الرمادي الكابي، والسحب الراكضة نحو الغرب لتحلق بغيمة العاصفة، والجبال المطوقة بالضباب، والأشجار المبللة … بدا كل ذلك للشماس قبيحًا وغاضبًا … واغتسل من جدول، وقرأ صلوات الصباح، وهفت نفسه إلى الشاي والشطائر الساخنة بالقشدة التي يقدمونها عند حميه كل صباح. وتذكر زوجته و«العهد الذي لن يعود» الذي تعزفه على البيانو. أي امرأة هي؟ لقد عرَّفوا الشماس عليها، وخطبوها له، وزوجوه بها في أسبوع واحد، وعاش معها أقل من شهر ثم أرسلوه في مهمة إلى هنا، حتى إنه لم يعرف حتى الآن أي شخص هي. ومع ذلك فهو يشعر بالملل بدونها.

وفكر: «ينبغي أن أكتب لها رسالة …»

ابتلت الراية فوق الدوخان وتهدلت، وبدا الدوخان نفسه بسقفه المبلل أدكن وأقصر مما كان عليه سابقًا. وبجوار الباب وقفت عربة جر. وكان كربلاي وشخصان أبخازيان، وامرأة تترية شابة في سروال فضفاض، ربما كانت زوجة كربلاي أو ابنته، ينقلون من الدوخان أجولةً ما ويضعونها في العربة فوق عيدان الذرة الجافة. وبجوار العربة وقف زوجان من البغال منكسي الرأس. وبعد أن رصوا الأجولة أخذ الأبخازيان والتترية يغطونها بعيدان الذرة، بينما مضى كربلاي يسرج العربة على عجل.

وفكر الشماس: «يبدو أنه تهريب.»

وها هي ذي الشجرة الممددة ذات الإبر الجافة، وها هي ذي البقعة السوداء المتخلفة عن النار. وخطرت له النزهة بكل تفاصيلها … النار، وغناء الأبخازيين، والأحلام المعسولة عن منصب الكاهن والموكب الديني … وأصبح النهير الأسود من المطر أشد سوادًا وأعرض. وعبر الشماس بحذر الجسر الواهي الذي أصبحت الأمواج القذرة تطاله بذؤاباتها، وصعد على السلم إلى حظيرة التجفيف.

«عقل رائع! — فكر في فون كورين وهو يتمدد على القش — عقل طيب، فليعطه الله الصحة. لكن فيه قسوة …»

ترى لماذا يكره لايفسكي، وذلك يكرهه؟ ولماذا سيتقاتلان في المبارزة؟ لو أنهما عرفا منذ الطفولة تلك الفاقة التي عرفها الشماس، ولو أنهما تربيا وسط أناس أجلاف، غلاظ القلوب، جشعين، يعيرون بكسرة الخبز، أفظاظ خشنين في المعاملة، يبصقون على الأرض ويتجشئون على الغداء وأثناء الصلاة، ولو لم تدللهما منذ الطفولة ظروف الحياة الطيبة ودائرة الأصدقاء المختارين، إذن لتمسك كلٌّ منهما بصاحبه، ولغفر له عن طيب خاطر كل عيوبه، ولقدر فيه ما يتحلى به. فما أقل الناس المستقيمين، ولو ظاهريًّا، في هذه الدنيا! صحيح أن لايفسكي عابث، منحل، غريب، ولكنه لن يسرق، ولن يبصق على الأرض بصوتٍ عالٍ، ولن يؤنب زوجته: «تلتهمين ولا تعملين»، ولن يقدم على ضرب طفل باللجام أو يُطعم خدمه قديدًا عفنًا … أفلا يكفي هذا لكي ننظر إليه بتسامح؟ وعلاوة على ذلك فهو أول من يعاني من عيوبه، كالجريح من جراحه. وبدلًا من أن يبحثوا، بسبب الملل وسوء فهمٍ ما، كلٌّ في صاحبه عن التحلل والانقراض والوراثة وغيرها من الأشياء الصعبة الفهم، أفلا يجدر بهم أن يهبطوا إلى أسفل لكي يوجهوا كراهيتهم وسخطهم إلى هناك حيث تضج شوارع بأكملها بالأنين من الجهل الفظ والجشع والتعبير والقذارة والسب وولولة النساء …

تردد وقع عربةٍ فقطع على الشماس حبل أفكاره. وأطل من الباب فرأى عجلة فيها ثلاثة: لايفسكي وشيشكوفسكي ورئيس مكتب البريد والبرق.

وقال شيشكوفسكي: قف!

وهبط ثلاثتهم من العجلة وتطلعوا بعضهم إلى بعض.

وقال شيشكوفسكي وهو ينفض عنه الوحل: لم يأتوا بعد. حسنًا. إلى أن يبدأ الأمر هيا بنا نبحث عن مكانٍ مناسب. المكان هنا ضيق جدًّا.

ومضوا إلى أعلى النهر، وسرعان ما غابوا عن الأنظار. وجلس الحوذي التتري في العجلة وأمال رأسه على كتفه ونعس. وانتظر الشماس حوالي عشر دقائق ثم خرج من حظيرة التجفيف، ونزع قبعته السوداء حتى لا يلاحظوه، وأخذ يتسلل على الشاطئ بين الخمائل وأعواد الذرة وهو ينكمش نحو الأرض ويتلفت. وتساقطت عليه قطرات كبيرة من الأشجار والخمائل، وكان العشب والذرة مبللين.

– يا للعار! — دمدم وهو يلملم أطرافه المبللة الملوثة — لو كنت أدري لما جئت.

وسرعان ما سمع أصواتًا ثم رأى الناس. كان لايفسكي يسير بسرعة غدوةً ورواحًا في فسحة صغيرة وقد دس يديه في جيبيه وأحنى ظهره. وقف شاهداه عند الشاطئ تمامًا يلفان لفائف تبغ.

«غريبة — فكر الشماس مستغربًا مشية لايفسكي — كأنه عجوز.»

وقال رئيس البريد وهو ينظر في ساعته: يا لها من قلة ذوق من جانبهم! ربما كان التأخير في رأي العلماء شيئًا طيبًا، أما في رأيي فهو سفالة.

وأصغى شيشكوفسكي، ذلك الرجل البدين ذو اللحية السوداء، ثم قال: قادمون!

١٩

– أول مرة في حياتي أرى هذا! يا للروعة! — قال فون كورين وقد ظهر في الفسحة، مادًّا كلتا يديه نحو الشرق — انظروا: أشعة خضراء!

امتد من خلف الجبال ناحية الشرق شعاعان أخضران، وكان ذلك جميلًا بالفعل. كانت الشمس تشرق.

– مرحبًا! — واصل عالم الحيوان كلامه مومئًا برأسه نحو شاهدَي لايفسكي — هل تأخرت؟

سار من خلفه شاهداه؛ بويكو وجفروفسكي، اثنان من الضباط الشُّبان جدًّا، من طولٍ واحد، في سترتين بيضاوين، ثم الدكتور أوستيموفتش، النحيل المنطوي، الذي كان يحمل في إحدى يديه لفةً ما، بينما وضع الأخرى خلف ظهره. وكالعادة كان هناك عصًا ممدودة بطول ظهره. وضع اللفة على الأرض ودون أن يحيي أحدًا، أرسل يده الثانية أيضًا وراء ظهره وأخذ يتمشى في الفسحة.

أحس لايفسكي بذلك التعب والحرج الذي ينتاب شخصًا ربما سيموت بعد قليل؛ ولذلك يستلفت أنظار الجميع. وأراد أن يسرعوا بقتله أو بحمله إلى البيت. كانت هذه أول مرة يرى فيها شروق الشمس وبدا له هذا الصباح الباكر، والأشعة الخضراء، والرطوبة، وهؤلاء الناس ذوو الأحذية المبللة، بدَوا زائدين في حياته، لا لزوم لهم، وضايَقوه. لم يكن لكل هذا أي علاقة بالليلة التي مرت به، وبأفكاره وإحساسه بالذنب ولذلك كان يود عن طيب خاطر لو انصرف دون انتظار المبارزة.

وكان فون كورين بادي الانفعال، وحاول أن يخفي ذلك، متظاهرًا بأنه مهتم أكثر شيء بالأشعة الخضراء. وكان الشهود محرجين، يتبادلون النظرات، كأنما يتساءلون لماذا هم هنا وماذا يفعلون. وقال شيشكوفسكي: أعتقد يا سادة أنه لا داعي للابتعاد أكثر. المكان هنا لا بأس.

فوافق فون كورين: نعم، طبعًا.

وحل الصمت. وفجأة انحرف أوستيموفتش، الذي كان يتمشى، واتجه إلى لايفسكي وقال بصوتٍ خافت وهو يزفر في وجهه: من المحتمل أنهم لم يتمكنوا بعد من إبلاغك بشروطي. كل طرف يدفع لي خمسة عشر روبلًا، وفي حالة وفاة أحد الخصمين يدفع الباقي على قيد الحياة الثلاثين روبلًا كلها.

كان لايفسكي يعرف هذا الرجل من قبل، إلا أنه رأى لأول مرة بوضوح عينيه الكابيتين، وشاربه المتصلب وعنقه النحيل المسلول: مرابٍ لا دكتور! وكان لأنفاسه رائحة لحم بقري كريهة.

وفكر لايفسكي: «ما أغرب ما يوجد في هذه الدنيا من أشخاص!» وأجاب: حسنًا.

وأومأ الدكتور برأسه وعاد إلى مشيه، وكان واضحًا أنه ليس بحاجة أبدًا إلى النقود، بل كان يطلبها بدافع الكراهية. وأحس الجميع أنه قد حان الوقت للبدء، أو للانتهاء مما بدأ بالفعل، ولكنهم لم يبدءوا ولم ينهوا، بل ساروا ووقفوا ودخنوا. وكان الضابطان الشابان، اللذان يشهدان مبارزة لأول مرة في حياتهما، وأصبحا الآن لا يثقان كثيرًا في هذه المبارزة المدنية التي لا ضرورة لها في رأيهما، كانا يتفحصان باهتمام سترتيهما ويمسحان أكمامهما.

واقترب منهما شيشكوفسكي وقال بصوتٍ خافت: يا سادة، ينبغي علينا أن نبذل كل جهودنا من أجل ألا تقع هذه المبارزة. يجب أن نصالحهما.

وتضرج ثم استطرد: بالأمس جاءني كيريلين واشتكى من أن لايفسكي ضبطه بالأمس مع ناديجدا فيودوروفنا، والذي منه.

فقال بويكو: نعم، نحن أيضًا نعرف ذلك.

– إذن … وكما ترون … لايفسكي يداه ترتعشان، والذي منه … لن يقوى الآن حتى على رفع المسدس. إن مقاتلته الآن غير إنسانية كمقاتلة ثمل أو محموم. فإذا لم يتم التصالح فمن الضروري يا سادة أن نعمل شيئًا … ربما تأجيل المبارزة … يا للشيطان، لو أني ما رأيت هذا!

– هلا تحدثتَ مع فون كورين؟

– أنا لا أعرف قواعد المبارزة عليها ألف لعنة، ولا أريد أن أعرفها. وربما ظن لو كلمته أن لايفسكي جَبُن ودفعني إليه. وعمومًا فليظن ما يشاء، سأكلمه.

توجه شيشكوفسكي إلى فون كورين بتردد وهو يعرج قليلًا كأنما تخدرت ساقه، وكانت هيئته كلها تطفح كسلًا وهو يسير ويزحر.

وشرع يقول وهو يتفحص الأزهار على قميص فون كورين باهتمام: إليك ما أريد أن أقوله يا سيدي. هذا شيء سري بيننا … أنا لا أعرف قواعد المبارزة عليها ألف لعنة، ولا أريد أن أعرفها، وأتحدث لا كشاهد والذي منه، بل كإنسان وخلافه.

– نعم، وماذا؟

– عندما يعرض الشهود التصالح، فعادة لا يصغي أحد إلى كلامهم، ويعتبر ذلك مسألة شكلية. غرور وخلافه ولكني أرجوك لو تكرمت أن تنتبه إلى إيفان أندريتش. إنه اليوم ليس في حالة طبيعية، ليس في وعيه كما يقال، وبائس. لقد حلت به مصيبة. إنني لا أطيق الأقاويل — وتضرج شيشكوفسكي وتلفت حوله — ولكن بسبب المبارزة أجد من الضرورة أن أبلغك؛ ففي مساء الأمس وجد … مدامه في بيت مريدوف. مع … أحد السادة.

– يا للقرف! — دمدم عالم الحيوان. وشحب وجهه، وامتعض وبصق بصوتٍ عالٍ — أتفو!

ارتعشت شفته السفلى. وابتعد عن شيشكوفسكي وهو لا يرغب في سماع المزيد، وبصق مرة أخرى بصوتٍ عالٍ وكأنه ذاق عن غير قصد شيئًا مرًّا، وتطلع بكراهية إلى لايفسكي لأول مرة في هذا الصباح. كان انفعاله وحرجه قد زايلاه فهز رأسه وقال بصوتٍ عالٍ: إنني أسألكم يا سادة، ماذا ننتظر؟ لماذا لا نبدأ؟

تبادل شيشكوفسكي النظرات مع الضابطين وهز كتفيه. ثم قال بصوتٍ عالٍ ودون أن يخاطب أحدًا: يا سادة! يا سادة! نحن نعرض عليكما التصالح.

فقال فون كورين: فلننتهِ بسرعة من الشكليات. لقد تحدثتم عن التصالح. ما هي الشكليات الأخرى الآن؟ لتسرعوا يا سادة، فالوقت ضيق.

فقال شيشكوفسكي بنبرة مذنبة كشخص مضطر إلى التدخل في شئون الآخرين: ولكننا نصر على التصالح مع ذلك — وتضرج، ووضع يده على قلبه واستطرد — يا سادة، نحن لا نرى علاقة سببية بين الإهانة والمبارزة. ليس هناك شيء مشترك بين الإهانة التي يوجهها أحدنا للآخر أحيانًا بسبب ضعفنا الإنساني، وبين المبارزة. كلاكما شخصان جامعيان، مثقفان، وبالطبع تعتبران المبارزة أحد الشكليات البالية الجوفاء فحسب والذي منه. ونحن أيضًا ننظر إليها نفس النظرة وإلا لما جئنا، لأننا لا نستطيع السماح في حضورنا بأن يطلق الناس النار بعضهم على بعض وخلافه — ومسح شيشكوفسكي العرق من فوق وجهه واستطرد — صفِّيا يا سادة خلافكما، ومُدا أيديكما لبعضكما البعض، ولنذهب إلى البيت لنحتفل بالصلح. أقسم بشرفي يا سادة!

لزم فون كورين الصمت. ولما لاحظ لايفسكي أنهم ينظرون إليه قال: أنا ليس لدي شيء ضد نيقولاي فاسيليفتش. إذا كان يعتبر إنني مخطئ فأنا على استعداد للاعتذار إليه.

وغضب فون كورين وقال: من الواضح يا سادة أنكم ترغبون في أن يعود السيد لايفسكي إلى البيت رجلًا سمحًا، فارسًا، ولكني لا أستطيع أن أتيح لكم وله هذه المتعة. لم يكن هناك داعٍ للنهوض مبكرًا والرحيل عشرة كيلومترات خارج المدينة لكي نشرب احتفالًا بالصلح ونمز، ولكي توضحوا لي أن المبارزة هي أحد الشكليات البالية. المبارزة هي المبارزة ولا ينبغي أن تجعلوها أسخف وأزيف مما هي عليه فعلًا. أنا أرغب في القتال!

وحل الصمت. وأخرج الضابط بويكو من الصندوق مسدسين مد أحدهما إلى فون كورين، والآخر إلى لايفسكي، ثم وقع ارتباك بعث المرح لفترة قصيرة في نفس فون كورين والشهود. فقد اتضح أنه لا يوجد من بين جميع الحاضرين شخص واحد شهد مبارزة طوال حياته. ولم يكن أحد يعرف على وجه الدقة كيف ينبغي أن يقف المتبارزان وما الذي يجب أن يقوله ويفعله الشهود. ولكن بويكو تذكر بعد قليل وأخذ يشرح لهم وهو يبتسم.

وسأل فون كورين مبتسمًا: يا سادة، من الذي يذكر كيف وصف ليرمونتوف ذلك؟ وعند تورجينيف أيضًا تقاتل بازاروف مع شخصٍ ما …٢٣

فقال أوستيموفتش بعجلة وقد توقف عن المشي: وما الداعي الآن للتذكر؟ قيسوا المسافة وانتهينا. وخطا ثلاث خطوات كأنما يبين لهم كيف يقيسون. وقاس بويكو المسافة بالخطوات بينما شهر رفيقه سيفه خدش به الأرض عند نقطتي البدء لكي يحدد الخط الفاصل.

وشغل الخصمان مكانيهما والصمت يخيم على الجميع. «حيوانات الخلد»، تذكَّر الشماس وهو قابع في الخميلة.

وقال شيشكوفسكي شيئًا ما، وعاد بويكو فأوضح شيئًا ما، ولكن لايفسكي لم يسمعهما، أو بالأحرى سمعهما لكنه لم يفهم. وعندما حان الوقت شد الزناد ورفع فوهة المسدس الثقيل البارد إلى أعلى. ونسي أن يفك أزرار المعطف فأحس بضغط شديد على كتفه وتحت إبطه وارتفعت ذراعه بصعوبة بالغة وكأنما كان كمه مصنوعًا من الصفيح. وتذكر كراهيته بالأمس لذلك الجبين الأسمر والشعر المجعد، وفكر بأنه حتى بالأمس، في سَوْرة حقده وغضبه، ما كان ليقوى على إطلاق النار على إنسان. وخوفًا من أن تنطلق الرصاصة عفوًا بطريقة ما فتصيب فون كورين أخذ يرفع المسدس أعلى فأعلى، وأحس أن هذه السماحة المبالغ في إظهارها ليست لبقة ولا سمحاء، ولكنه لم يكن يعرف أو يستطيع أن يتصرف على نحوٍ آخر. وفكر لايفسكي وهو ينظر إلى وجه فون كورين الشاحب الباسم بسخرية، والذي كان فيما يبدو واثقًا منذ البداية من أن غريمه سيطلق النار في الهواء، فكر بأن كل شيء سينتهي الآن والحمد لله، وأنه عليه فقط أن يضغط بقوة على حرك المسدس …

وأحس بصدمةٍ قوية في كتفه، ودوت طلقة، وتجاوب صداها في الجبال: باخ … طاخ!

ورفع فون كورين الزناد، ونظر ناحية أوستيموفتش الذي كان يتمشى كما في السابق، عاقدًا يديه خلف ظهره، غير مهتم بأي شيء.

وقال له عالم الحيوان: يا دكتور، أرجوك، لا تتمشى كالبندول. بصري يزوغ من حركتك.

وتوقف الدكتور. وأخذ فون كورين يسدد نحو لايفسكي. «خلاص!» فكر لايفسكي.

فوهة المسدس، المصوب مباشرة إلى الوجه، وتعبير الكراهية والاحتقار في وقفة فون كورين وفي هيئته كلها، وهذا القتل الذي سيقدم عليه شخص شريف في وضح النهار على مرأى من أناس شرفاء، وهذا الهدوء، وتلك القوة المجهولة التي أجبرت لايفسكي على الوقوف ومنعته من الهرب … كم يبدو ذلك كله غامضًا، غير مفهوم، ورهيبًا! وبدا الزمن الذي قضاه فون كورين في التسديد للايفسكي أطول من تلك الليلة. وتطلع إلى الشهود ضارعًا، إلا أنهم لم يتحركوا وكانوا شاحبين.

«هيا أطلق، بسرعة!» فكر لايفسكي وشعر بأن وجهه الشاحب المرتعش البائس لا بد أن يثير في نفس فون كورين مزيدًا من الكراهية.

«سأقتله الآن — فكر فون كورين وهو يسدد إلى جبين لايفسكي ويتحسس حرك المسدس بإصبعه — نعم، طبعًا، سأقتله …»

– إنه سيقتله! — ترددت فجأة صرخة يائسة من مكانٍ قريب جدًّا.

وعلى الفور دوت الطلقة. وعندما رأى الجميع أن لايفسكي واقف في مكانه لم يسقط، نظروا إلى الجهة التي صدرت منها الصرخة فرأوا الشماس. كان واقفًا بين أعواد الذرة على الشاطئ الآخر، شاحبًا، مبللًا كله وملطخًا بالوحل وشعره المبلل ملتصق بجبينه وخدَّيه، وهو يبتسم ابتسامة غريبة ويلوح بقبعته المبللة. وضحك شيشكوفسكي من الفرحة ثم بكى، وانتحى جانبًا …

٢٠

بعد ذلك بقليل التقى فون كورين بالشماس عند الجسر. كان الشماس منفعلًا، يلهث ويتحاشى النظر في عيني فون كورين. كان يشعر بالخجل من خوفه ومن ملابسه القذرة المبللة.

ودمدم الشماس: خُيِّل إليَّ أنك كنت تريد أن تقتله … كم أن هذا منافٍ للطبيعة الإنسانية! وإلى أي درجة هو غير طبيعي!

فسأله عالم الحيوان: ولكن كيف جئت إلى هنا؟

فأشاح الشماس بيده: لا تسأل! أغواني الشيطان أن أذهب … وها قد ذهبت، فكدت أموت من الخوف بين أعواد الذرة. ولكن الحمد لله الآن، الحمد لله … أنا راضٍ عنك تمامًا — دمدم الشماس — وجدنا العنكبوت سيكون راضيًا أيضًا … كم كان ذلك مضحكًا، كم كان مضحكًا! ولكني أرجوك بشدة ألا تقول لأحد إنني كنت هنا، وإلا فإن الرؤساء سيصفعونني على قفاي في الغالب. سيقولون كان الشماس شاهدًا.

فقال فون كورين: يا سادة، الشماس يرجوكم ألا تخبروا أحدًا بأنكم رأيتموه هنا، قد يسبب له ذلك مشاكل.

وتنهد الشماس: كم أن هذا منافٍ للطبيعة الإنسانية! أرجوك أن تسامحني ولكن منظر وجهك جعلني أعتقد أنك ستقتله حتمًا.

فقال فون كورين: راودني إغراء شديد بأن أقضي على هذا الوغد، ولكنك صرخت وأنا أصوب فأخطأت الهدف. ومع ذلك فهذه العملية كلها كريهة، غير معتادة، وقد أرهقتني يا شماس. أحس بضعف شديد. هيا، اركب.

– لا، أرجوك دعني أعود ماشيًا. ينبغي أن أجفف ثيابي، فقد تبللت تمامًا وبردت.

– كما تشاء … — قال عالم الحيوان بصوتٍ فاتر واهن وهو يجلس في العجلة مغمضًا عينيه — كما تشاء.

وبينما كانوا يتحركون بجوار العربات ويستقلونها، وقف كربلاي بجوار الطريق وقد أمسك بطنه بكلتا يديه، وأخذ ينحني بشدة ويكشف عن أسنانه. كان يظن أن السادة قد جاءوا للاستمتاع بالطبيعة وتناول الشاي فلم يفهم لماذا يستقلون العربات. وتحرك الركب والجميع صامتون، ولم يبقَ بجوار الدوخان سوى الشماس.

وقال الشماس لكربلاي: أدخل دوخان، أشرب شاي. نفسي عايز يأكل.

كان كربلاي يتحدث الروسية جيدًا، ولكن الشماس ظن أن التتري سيفهمه أسرع لو خاطبه بروسية ركيكة.

– بيض أقلي، جبنة أعطي …

فقال كربلاي منحنيًا: تعالَ، تعالَ يا قسيس. سأعطيك كل شيء … عندنا جبن وعندنا خمر … كل ما تشاء.

وسأله الشماس وهو يدخل الدوخان: كيف يُسمَّى الإله بالتترية؟

فقال كربلاي دون أن يفهمه: إلهك وإلهي واحد. الإله واحد عند الجميع، ولكن الناس مختلفون. منهم الروس، ومنهم الأتراك ومنهم الإنجليز … الناس كثيرون والإله واحد.

– حسنًا. إذا كان جميع الشعوب يعبدون إلهًا واحدًا، فلماذا إذن تعتبرون، أنتم المسلمين، أن المسيحيين هم أعداؤكم الأبديون؟

فقال كربلاي قابضًا على بطنه بكلتا يديه: لماذا أنت زعلان؟ أنت قسيس وأنا مسلم. أنت تقول: أريد أن آكل، وأنا أعطيك … الغني فقط هو الذي يميز من هو ربك ومن هو ربي، أما الفقير فلا فرق لديه. تفضل كل.

بينما دار هذا الحديث الديني في الدوخان كان لايفسكي يتذكر وهو عائد في العربة إلى البيت كيف كان يشعر بالرهبة من الرحيل في الفجر، عندما كانت الطريق والصخور والجبال مبللة ومظلمة، وبدا له المستقبل المجهول رهيبًا كالهوة التي لا يرى قرارها، أما الآن فكانت قطرات المطر العالقة بالعشب والصخور تشع في الشمس كالماسات، والطبيعة تبتسم بفرح، والمستقبل الرهيب أصبح وراء ظهره. وأخذ ينظر بين الحين والحين إلى وجه شيشكوفسكي الباكي العابس، وإلى العربتين السائرتين في الأمام، حيث يجلس فون كورين وشاهداه والدكتور، وخُيِّل إليه أنهم جميعًا عائدون من المقابر، حيث دفنوا لتوهم شخصًا صعبًا بغيضًا كان ينغِّص على الجميع حياتهم.

«انتهى كل شيء.» فكر لايفسكي في ماضيه وهو يحك رقبته بأصابعه في حذر.

ظهر لديه ورم صغير في الناحية اليمنى من رقبته بجوار الياقة بطول وسُمك الإصبع الخنصر، وأحس بألم هناك وكأن أحدًا مر بمكواة على عنقه. وكان ذلك من أثر لفح الرصاصة.

وبعد أن وصل إلى البيت امتد بالنسبة له نهار طويل، غريب، عذب ومضبب كالغيبوبة. وأخذ كمن أُطلق سراحه من سجن أو مستشفى يتفحص الأشياء المألوفة له منذ زمن بعيد ويدهش من أن الطاولات والنوافذ والكراسي وضوء النهار والبحر، تثير فيه فرحة طفولية حية لم يشعر بها منذ عهد بعيد. ولم تفهم ناديجدا فيودوروفنا التي شحبت، وهزلت بشدة، صوته الوديع ومشيته الغريبة. وأسرعت تروي له كل ما حدث لها … وبدا لها أنه على الأرجح لا يسمع ولا يفهم جيدًا ما تقوله، وأنه لو عرف كل شيء فسيلعنها ويقتلها، أما هو فكان يسمعها ويمسح على وجهها وشعرها، ويحدق في عينيها ويقول: ليس عندي أحد سواك …

وبعد ذلك جلسا طويلًا في حديقة الدار متلاصقين، صامتين، أو تبادلا بعض الجمل القصيرة المبتورة وهما يحلمان بصوتٍ مسموع بحياتهما السعيدة المقبلة، وخُيِّل إليه أنه لم يتحدث أبدًا من قبل بمثل هذا الاسترسال والجمال.

٢١

مر أكثر من ثلاثة أشهر بقليل.

وحلَّ اليوم الذي حدده فون كورين موعدًا لرحيله. هطل منذ الصباح الباكر مطر غزير بارد وهبَّت رياح شمالية شرقية فارتفعت أمواج البحر عاليًا. وقيل إنه من المستبعد في جو كهذا أن ترسو السفينة في الميناء. وكان من المفروض حسب جدول المواعيد أن تأتي في العاشرة صباحًا. ولكن فون كورين، الذي خرج إلى الكورنيش في منتصف النهار وبعد الغداء، لم يرَ عبر المنظار شيئًا سوى الأمواج الرمادية والمطر الذي كان يحجب الأفق.

وفي آخر النهار توقف المطر وهدأت الريح بدرجةٍ ملحوظة. وكان فون كورين قد استسلم لفكرة أنه لن يتمكن من الرحيل اليوم وجلس يلاعب صامويلنكو الشطرنج. ولكن عندما هبط الظلام أبلغهم جندي المراسلة أنه قد لاحت أضواء في البحر وشوهد صاروخ إشارة.

ونهض فون كورين على عجَل. وعلق الحافظة في كتفه وتبادل القبلات مع صامويلنكو والشماس، وبلا أي داعٍ طاف بالغرف جميعًا، وودع الجندي والطاهية، وخرج إلى الشارع بإحساس كأنما نسي شيئًا ما عند الدكتور أو في شقته. سار في الشارع بجوار صامويلنكو، وتبعهما الشماس حاملًا صندوقًا، ومن خلف الجميع سار الجندي حاملًا حقيبتين. ولم يرَ الأضواء الكابية في البحر سوى صامويلنكو والجندي، أما الباقون فحدقوا في الظلام ولم يروا شيئًا كانت السفينة تقف بعيدًا عن الشاطئ.

– بسرعة، بسرعة — قال فون كورين بعجلة — أخشى أن تقلع!

وعندما مروا بجوار منزل بثلاث نوافذ، كان لايفسكي قد انتقل إليه عقب المبارزة، لم يتمالك فون كورين نفسه وأطل في النافذة. كان لايفسكي يجلس محنيًّا على المكتب، يكتب شيئًا ما وظهره إلى النافذة.

فقال عالم الحيوان بصوتٍ خافت: إنني مندهش كيف كبح نفسه هكذا!

فتنهد صامويلنكو: نعم، جدير بالدهشة … هكذا يجلس من الصباح إلى المساء، يجلس ويعمل. ويريد أن يسدد ديونه.

ويعيش يا أخي أبأس من شحاذ.

مر نصف دقيقة في صمت. وقف عالم الحيوان والدكتور والشماس قرب النافذة وهم لا يحولون أنظارهم عن لايفسكي.

وقال صامويلنكو: وهكذا لم يسافر المسكين من هنا. أتذكُر كيف كان يلح على السفر؟

فردد فون كورين: نعم، كبح نفسه بشدة. زواجه، وهذا العمل طول النهار من أجل لقمة الخبز، وهذا التعبير الجديد في وجهه، وحتى مشيته … كل هذا غير مألوف إلى درجة أني لا أعرف كيف أسميه — وأمسَك عالم الحيوان بكُم صامويلنكو ومضى يقول بانفعال — أبلغه وأبلغ زوجته أنني قبيل رحيلي أبديت دهشتي بهما وتمنيت لهما كل خير … وأطلب منه ألا يذكرني بسوء إن كان يستطيع. إنه يعرفني، يعرف أنه لو كان بوسعي أن أتنبأ آنذاك بهذا التحول لأصبحتُ أصدق أصدقائه.

– ادخل وودِّعه.

– كلا. هذا محرج.

– ولماذا؟ من يدري، فربما لا تراه بعد ذلك أبدًا.

وفكر عالم الحيوان قليلًا، ثم قال: هذا صحيح.

طرق صامويلنكو النافذة بإصبعه طرقات خفيفة، فانتفض لايفسكي والتفت.

فقال صامويلنكو: يا فانيا، نيقولاي فاسيليتش يريد أن يودعك. إنه مسافر الآن.

نهض لايفسكي من أمام المكتب وذهب إلى المدخل لكي يفتح الباب.

ودلف صامويلنكو وفون كورين والشماس إلى البيت.

– جئت لدقيقة واحدة — قال عالم الحيوان وهو ينزع خف حذائه في المدخل، وقد أحس بالأسف لأنه استسلم لأحاسيسه ودخل إلى هنا بدون دعوة. وفكر «كما لو كنت أفرض نفسي عليه. هذا سخيف.» وقال وهو يدخل في أثر لايفسكي إلى غرفته — آسف على هذا الإزعاج، ولكني مسافر الآن، وشعرت برغبة في أن أراك. فمن يدري إن كنا سنلتقي بعد.

– سعيد جدًّا … تفضل أرجوك — قال لايفسكي ووضع الكراسي أمام الضيوف بطريقةٍ خرقاء، وكأنما يريد أن يسد عليهم الطريق، ووقف في وسط الغرفة يفرك يديه.

وفكر فون كورين: «كان ينبغي أن أترك هؤلاء الشهود في الخارج.» ثم قال بنبرة حازمة: لا تذكُرني بسوء يا إيفان أندريتش. بالطبع لا يمكن نسيان الماضي، فهو محزن إلى درجة، كما أني لم آتِ إلى هنا لأعتذر أو لأؤكد أنني لم أكن مخطئًا. لقد تصرفت عن إخلاص ولم أغير معتقداتي منذ ذلك الحين … صحيح أنني أرى الآن ولسروري البالغ أنني أخطأت بشأنك، ولكن قد يتعثر المرء على أرضٍ مستوية، وذلك هو قدر الإنسان؛ إذا لم تخطئ في الشيء الرئيسي فستخطئ في الجزئيات. لا أحد يعرف الحقيقة الأصيلة.

فقال لايفسكي: نعم، لا أحد يعرف الحقيقة …

– حسنًا، وداعًا … أرجو من الله لك كل خير.

ومد فون كورين يده إلى لايفسكي، فشد هذا عليها وانحنى.

وقال فون كورين: لا تذكرني بسوء إذن. أبلغ تحياتي إلى زوجتك وقل لها إنني أسفت جدًّا لعدم تمكني من توديعها.

– إنها هنا.

مضى لايفسكي نحو الباب وقال متجهًا إلى الغرفة الأخرى: يا نادية، نيقولاي فاسيليتش يريد أن يودعك. ودخلت ناديجدا فيودوروفنا. وقفت بجوار الباب ونظرت إلى الضيوف بوجل. كان وجهها يعبر عن الفزع والإحساس بالذنب، وشدت يديها كتلميذة تصغي إلى توبيخ.

وقال فون كورين: إنني مسافر الآن يا ناديجدا فيودوروفنا. وقد جئت لأقول الوداع.

مدَّت له يدها بتردد، بينما انحنى لايفسكي.

وفكر فون كورين: «يا لهما من بائسين حقًّا. هذه الحياة تكلفهما غاليًا.»

وسأل: سأكون في موسكو وبطرسبرج، ألا ترغبان في شيء أرسله لكما من هناك؟

– ماذا؟ — قالت ناديجدا فيودوروفنا وتبادلت النظرات مع زوجها بقلق — أعتقد لا شيء …

– نعم، لا شيء … — قال لايفسكي وهو يفرك يديه — أبلغ تحياتنا.

لم يدرِ فون كورين ما الذي يمكن أو ينبغي أن يقوله بعد، أما قبل أن يدخل إلى هنا فقد ظن أنه سيقول الكثير من الكلمات الطيبة والدافئة والمهمة. وصافح لايفسكي وزوجته في صمت وخرج من عندهما بشعورٍ منقبض.

وقال الشماس بصوتٍ خافت وهو يسير خلفهم: يا لهم من ناس! يا إلهي، يا لهم من ناس! حقًّا يمناك يا رب غرست هذا الكرم! يا إلهي، يا إلهي! أحدهم هزم الآلاف والآخر عشرات الآلاف — وقال بإعجاب — يا نيقولاي فاسيليتش، أتدري أنك انتصرت اليوم على ألد أعداء الإنسان … على الكبرياء!

– كفاك يا شماس! أي منتصرين أنا وهو؟! المنتصرون يبدون كالنسور، أما هو فبائس، وجِل، ذليل، ينحني كالمعتوه، وأنا … وأنا حزين.

وتردد خلفهم وقع خطوات. كان لايفسكي يلحق بهم ليودعه. وفي المرفأ وقف جندي المراسلة مع الحقيبتين، وغير بعيد عنه أربعة بحارة.

وقال صامويلنكو: يا للريح الباردة … بررر … لا بد أن العاصفة تعربد الآن في البحر! ليس وقتًا مناسبًا للسفر يا كوليا.

– أنا لا أخشى دوار البحر.

– لا أقصد هذا … أخشى أن يقلبك في البحر هؤلاء الأغبياء. كان ينبغي أن تركب زورق الوكالة، وصاح في البحارة: أين قارب الوكالة؟

– أقلع يا صاحب المعالي.

– وقارب الجمارك؟

– أيضًا أقلع.

وغضب صامويلنكو: ولماذا لم يبلغوني؟ هؤلاء الحمقى!

فقال فون كورين: لا يهم، اطمئن … حسنًا، وداعًا، ليحفظك الله.

وعانق صامويلنكو فون كورين ورسم علامة الصليب ثلاثًا.

– لا تنسني يا كوليا … اكتب … سوف ننتظرك في الربيع القادم.

– وداعًا يا شماس — قال فون كورين شادًّا على يد الشماس — شكرًا لك على صحبتك، وعلى الأحاديث الممتعة. فكر بخصوص البعثة.

فضحك الشماس وقال: يا إلهي، ولو إلى آخر الدنيا! وهل أنا أعارض؟

وتعرف فون كورين في الظلام على لايفسكي فمد له يده في صمت. وكان البحارة قد وقفوا في الأسفل ممسكين بالزورق الذي كان يصطدم بقوائم الرصيف، رغم أن حاجز الأمواج كان يحميه من الموج العالي.

وهبط فون كورين على السلم، وقفز في الزورق، وجلس إلى الدفة.

وصاح صامويلنكو له: اكتب لنا! حافظ على صحتك!

«لا أحد يعرف الحقيقة الأصيلة.» فكر لايفسكي وهو يرفع ياقة معطفه ويدس يديه في جيبيه.

ودار القارب بهمة من حول الرصيف وخرج إلى المياه المكشوفة. واختفى بين الأمواج، ولكنه قفز على الفور من هوة عميقة إلى تل مرتفع حتى بدا واضحًا ركابه، بل حتى مجاديفه. وقطع القارب حوالي ثلاث أذرع ثم ألقت به الأمواج إلى الوراء مقدار ذراعين.

وصاح صامويلنكو: اكتب! أي شيطان دفعك للرحيل في هذا الجو!

«نعم، لا أحد يعرف الحقيقة الأصيلة.» فكر لايفسكي وهو ينظر بأسًى إلى البحر الهائج المظلم.

ومضى يفكر: «البحر يدفع القارب إلى الوراء. يتقدم خطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الوراء، ولكن البحارة عنيدون، يضربون بالمجاديف بلا كلل ولا يخشون الأمواج العالية. ويمضي القارب إلى الأمام قدمًا، وها هو ذا يختفي عن الأنظار، وما إن ينقضي نصف ساعة حتى يرى البحارة أضواء السفينة بوضوح، وبعد ساعة سيكونون عند سلم السفينة. وهكذا الحياة … يخطو الناس بحثًا عن الحقيقة خطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الوراء. وتدفعهم الآلام والأخطاء وملل الحياة إلى الوراء، ولكن الشوق إلى الحقيقة والعزيمة الصلبة تدفعهم إلى الأمام قدمًا. ومن يدري؟ ربما يبلغون شاطئ الحقيقة الأصيلة.»

وصاح صامويلنكو: مع السلاﻣ…ا…ا…ﺔ!

وقال الشماس: لا حس ولا خبر … طريق السلامة!

وأمطرت السماء رذاذًا.

١  رتبة مدنية في روسيا القيصرية من الدرجة الخامسة كانت تعادل رتبة العميد العسكرية. (المعرب)
٢  الديسياتينا مقياس روسي لمسطح الأرض يساوي ١٫٠٩٢ من الهكتار. (المعرب)
٣  شارع رئيسي في بطرسبرج. (المعرب)
٤  فاسيلي فيريشاجين (١٨٤٢–١٩٠٤م) مصور روسي شهير من أنصار الواقعية في الفن. اشتهر بصور المعارك الحربية التي أظهر جماهير الشعب فيها باعتبارها القوى المحركة الرئيسية للأحداث الحربية. (المعرب)
٥  آنا كارينينا بطلة رواية تحمل نفس الاسم للكاتب الروسي العظيم ليف تولستوي (١٨٢٨–١٩١٠م). (المعرب)
٦  عن الفرنسية Table d’hóte وجبة طعام تقدم في وقتٍ معين وبسعر محدد. (المعرب)
٧  يفجيني أونيجين بطل رواية شعرية للشاعر الروسي بوشكين تحمل نفس الاسم. وبتشورين بطل رواية «بطل من هذا الزمان» للشاعر الروسي، خليفة بوشكين، ميخائيل ليرمنتوف. وكلا البطلين نموذج للجيل الضائع في أوائل القرن التاسع عشر في ظروف الحكم القيصري المطلق. وقابيل بطل قصيدة مسرحية تحمل نفس الاسم للشاعر البريطاني اللورد بايرون. أما بازاروف فبطل رواية الكاتب الروسي إيفان تورجينيف «الآباء والأبناء». (المعرب)
٨  المرأة (بالفرنسية في الأصل).
٩  التجسيد أو التشبيه: خلع الصفات البشرية على الله أو على ظواهر الطبيعة. (المعرب)
١٠  مطعم صغير أشبه بمقصف لبيع الخمور والأطعمة في جبال القوقاز. والكلمة مأخوذة عن «الدكان» العربية. (المعرب)
١١  الإشارة هنا إلى قصيدة الشاعر الكبير ألكسندر بوشكين بعنوان «بولتافا» يصف فيها ليل أوكرانيا. (المعرب)
١٢  في موضع آخر من الرواية أطلق الكاتب على كيريلين، سهوًا، اسمًا آخر هو إيليا ميخايلوفتش. (المعرب)
١٣  وداعًا! (بالفرنسية في الأصل).
١٤  بالقوة العسكرية (باللاتينية في الأصل).
١٥  هنري مورتون ستانلي (١٨٤١–١٩٠٤م) رحالة بريطاني وصل لأول مرة إلى مناطق نائية في أفريقيا. (المعرب)
١٦  «وَمَن أَعثَرَ أَحَدَ هؤُلاَءِ الصِّغَارِ المُؤمِنِينَ بِي فَخَيرٌ لَهُ أَن يُعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ حَجَرُ الرَّحَى وَيُغرَقَ فِي لُجَّةِ البَحرِ»؛ الكتاب المقدس، العهد الجديد، إنجيل متى، الإصحاح الثامن عشر (٦). (المعرب)
١٧  رودين بطل إحدى روايات الكاتب إيفان تورجنيف. مثقف عاجز متردد. أحد الرموز البارزة للجيل الخائب في القرن التاسع عشر، أو كما كانوا يسمونهم «الأشخاص الزائدين عن الحاجة». (المعرب)
١٨  أي تحويل الأشخاص من غير الروس إلى روس. (المعرب)
١٩  كان من العادات القديمة في الريف إذا ظهر أن العروس لم تكن عذراء أن يلوثوا باب بيتها بالقطران الأسود. (المعرب)
٢٠  كان نظام تقدير الدرجات المدرسية والجامعية في روسيا نظامًا خمسيًّا (أعلى درجة خمسة وأقل درجة واحد). وما زال هذا النظام ساريًا حاليًا. (المعرب)
٢١  مطلع أغنية غجرية كانت ذائعة في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر. (المعرب)
٢٢  نيقولاي ليسكوف (١٨٣١–١٨٩٥م) كاتب روسي اشتهر بقصصه وروايته المأخوذة من واقع الحياة الشعبية. (المعرب)
٢٣  في رواية «بطل من هذا الزمان» لميخائيل ليرمونتوف، ورواية «الآباء والأبناء» لإيفان تورجينيف. (المعرب)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤