الفصل العشرون

مدينة سالم

ثم مدينة سالم، والإسبانيول يقولون لها مدينة «سالي» ويلفظونها بالثاء لا بالسين، وهي في موضع رفيع منيع، وقد كان للعرب فيها قلعة شهيرة، جعلوها من أهم الثغور في وجه الإسبانيول والبلدة المعروفة من قبل العرب ولا تزال فيها آثار رومانية من القرن الأول بعد المسيح إلا أن العرب حصنوها واعتنوا بها وكانت مركزًا عسكريًّا عظيمًا. وكان يقال لمدينة سالم «الثغر الأوسط»، فقد كانوا يقسمون الثغور إلى كور منها: الثغر الأعلى، ويقال له أيضًا الثغر الأقصى، وهذا الثغر هو سرقسطة وكورتها، ثم الثغر الأوسط ويقال له أحيانًا الأدنى، وهو مدينة سالم وكورتها وطليطلة، وكان يوجد ثغر ثالث، وهو ثغر «قويمرة» وربما أضيف إلى الثغر الأوسط بعض الأحيان.

وكان ولاة هذه الثغور قوادًا، وكان أكثرهم من أبناء البيوتات، سواء من العرب، أو من البربر، أو من المولدين، وذلك مثل التجبييين، وبني هود، وبني رزين، وبني ذي النون، وبني قسي، وهؤلاء أسبانيون دانوا بالإسلام، وكان من أشهر قواد الثغور في زمن بني أمية غالب بن عبد الرحمن، فهو الذي في سنة ٣٣٥ هجرية رمم حصون مدينة سالم، بعد أن خربت، وهو الذي في سنة ٣٤٢ زحف على قشتالة، وأوقع بأهلها، وبقي في قيادة الثغر الأوسط إلى زمن الحكم المستنصر، فانتدبه لإمارة الجيوش في أفريقية، عندما عزم على محاربة الأدارسة. وفي إحدى غزواته بين العدوة استصحب معه القاضي محمد بن أبي عامر، فاتصل به، وانعقدت بينهما مودة أكيدة، انتهت بأن غالبًا أزوج محمد بن أبي عامر ابنته، وبواسطة هذه المصاهرة ترقى ابن أبي عامر. وحاز رتبة ذي الوزارتين، ومازال يترقى في الدولة حتى صار هو الحاجب الكبير، وحتى غلب على الدولة كلها، وحجر الخليفة هشام، ولم يبق له إلا اسم الخلافة، وأخيرًا وقعت الوحشة بين القائد الكبير غالب بن عبد الرحمن وصهره محمد بن أبي عامر، الذي تلقب بالمنصور، وذلك بعد أن استفحل أمره، ورأى فيه غالب خطرًا على الدولة، فأدى ذلك إلى الحرب بينهما، وجرح غالب بن عبد الرحمن في الواقعة ومات، وفقدت الدولة الأموية بموته ركنًا من أعظم أركانها.

وفي مدينة سالم هذه دفن المنصور بن أبي عامر، كما هو معروف في التاريخ، وكان قد توفي في الغزوة الأخيرة١ فاحتملوه إلى مدينة سالم، ودفن فيها. قال ابن خلدون: هلك المنصور أعظم ما كان ملكًا، وأشد استيلاءً، سنة أربع وتسعين وثلاثمائة بمدينة سالم، منصرفه من بعض غزواته، ودفن هناك. وذلك لسبع وعشرين سنة من ملكه. ا.ﻫ. وزاد المقري على ذلك في النفح الطيب: مما حكى أنه مكتوب على قبر المنصور رحمه الله تعالى:
آثاره تنبيك عن أخباره
حتى كأنك بالعيان تراه
تالله لا يأتي الزمان بمثله
أبدًا ولا يحمي الثغور سواه
قال: وعن شجاع مولى المستعين بن هود: لما توجهت إلى أذفونش، وجدته في مدينة سالم، وقد نصب على قبر المنصور بن أبي عامر سريره، وامرأته متكئة إلى جانبه، فقال لي: يا شجاع أما تراني قد ملكت بلاد المسلمين، وجلست على قبر ملكهم؟ قال: فحملتني الغيرة أن قلت له: لو تنفس صاحب هذا القبر وأنت عليه، ما سمع منك ما يكره سماعه، ولا استقر بك قرار! فهمّ بي، فحالت امرأته بيني وبينه وقالت له: قد صدقك فيما قال، أيفخر مثلك بمثل هذا؟ وقال في موضع آخر: وتوفي رحمه الله في غزاته للإفرنج بصفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، وحمل في سريره على دولته ستًا وعشرين سنة، غزا فيها اثنتين وخمسين غزوة. قال انتهى كلام ابن سعيد وفي بعضه مخالفة لبعض كلام ابن خلدون. ثم نعود إلى الكلام على مدينة سالم فنقول: إن ياقوت الحموي يذكرها في المعجم تحت اسم «سالم» ويقول: مدينة الأندلس، تتصل بأعمال باورشة،٢ وكانت من أعظم المدن وأشرفها، وأكثرها شجرًا وماءً، وكان طارق لما افتتح الأندلس ألفاها خرابًا، فعمرت في الإسلام، وهي الآن بيد الإفرنج.ا.ﻫ.
fig8
شكل ٢٩-١: المنصور بن أبي عامر يجود بنفسه بين أيدي ابنه وقواده وأطبائه.

وجاء في صبح الأعشى: مدينة سالم قال ابن سعيد: وهي بالجهة المشهورة بالثغر من شرقي الأندلس (والحقيقة أنها من شماليها إلى الشرق أو من جوفيها على رأي الأندلسيين) قال: وهي مدينة جليلة. قال في تقويم البلدان: وبها قبر المنصور بن أبي عامر.

وفي مدينة سالم قبور عائلة إسبانيولية نبيلة يقال لها عائلة دوق مدينة سالم Duc du Medinaceli. وكورة مدينة سالم قاحلة، قليلة الزرع والضرع، ويكثر في أرضها الجفصين.
وعلى مسافة ثلاثين كيلومترًا من مدينة سالم بلدة شنتا مرية Santa Maria de Huerta. وبالقرب من شنتا مرية هذه، بينها وبين «أديزه» Ariza خرابات مدينة أيبيرية قديمة يظن أنها مدينة أركوبريقه Arcobriga. ثم تمر ببلدة أريزة، وهي داخلة في حدود أراغون، وحول هذه المدينة الصغيرة كهوف ومغاور كانت مسكونة في القديم. والغالب على أرض هذه البلدة الصخور والجنادل، ولون التراب أحمر إلى السواد، ويمر بها نهر شلون٣وماؤه يميل إلى الحمرة، وكانت من ملحقات مدينة سالم في أيام العرب بلدة يقال لها «شمّونت» قال ياقوت: شمّونت بالفتح والتشديد وسكون الواو وفتح النون، قرية من أعمال مدينة سالم بالأندلس، لها ذكر في أخبارهم، انتهى. وقال أبو الفداء: إن مدينة سالم كانت قاعدة الثغر الأوسط، وقال الإدريسي إنها مدينة عامرة ذات بساتين ورياض. وجاء في الإنسيكلوبيدية الإسلامية ما معناه إن مدينة سالم واقعة في نصف الطريق بين مجريط وسرقسطة، وارتفاعها عن سطح البحر ألف متر. وليست هي مدينة ابن السالم، التي هي من ملحقات أشبيلية، وكانت في زمان العرب مركز الجيوش المرابطة في الثغور، ومنها تخرج إلى قتال العدو، وإليها تتراجع، وبها تعتصم في حال الفشل. وكانت قد سقطت مكانتها حينًا من الدهر، إلى أن تولى الخليفة الناصر، فأعاد عمرانها في سنة ٣٣٥ للهجرة، عن يد القائد غالب، وبقيت في أيدي المسلمين إلى أن استرجعها المسيحيون. ثم المسلمون فاسترجعوها. ثم عاد المسيحيون فأجلوهم عنها، عندما أخذ الإسلام في الأندلس بالتقهقر.٤

هوامش

(١) هذه الغزاة يسميها العرب بغزاة قنالش والدير، لأن المنصور وصل فيها إلى قنالش، وهي على مقربة من ناجرة ولوكروني من مقاطعة ريوجه Rioja. وأما الدير فالمرجح أنه دير سان ميلان، شفيع قشتالة. وقد هدمه المنصور بتلك الغزاة فيما هدم من الأديار، ووجدت كتابة من شانجه الكبير ملك نبارة مؤرخة في ١٠٢٧ تدل على هذا الحادث، وكان المنصور عندما قام رحمه الله بهذه الغزاة يشكو المرض، ولم يقعده ذلك عن الزحف بنفسه، وعبثًا حاول الأطباء أن يمنعوه من الخروج، فإنه أصر وصمم على الغزو، وكان معتقدًا أن مرضه غير قابل للشفاء. فلما خرج للغزو اشتدت به الآلام وأصبح غير قادر على الاستقلال بجواده، حملوه في محفة على أكتاف الرجال وبقي يحمل في المحفة أربعة عشر يومًا، ولما وصل إلى مدينة سالم استدعى ولده الأكبر عبد الملك، وأمره بالرجوع إلى قرطبة، وتسليم قيادة الجيش إلى أخيه عبد الرحمن وذلك لأن المنصور كان يتوجس عند موته خيفة الانتقاض في قرطبة على الدولة العامرية، وكان يحتاط لأجل توطيد الحكم لأولاده، فلما ذهب عبد الملك راجعًا إلى قرطبة أفاق المنصور بعض الشيء، واستدعى كبار القواد، وودعهم، وأوصاهم بما يجب على مثله أن يوصي به في وقت كهذا، ثم أسلم الروح في ليلة الاثنين ١٠ أغسطس عام ١٠٠٢ من التاريخ المسيحي، وكانت تلك الغزاة مقرونة بالنصر لغيرها من غزوات المنصور التي قيل إنها بلغت أربعًا وخمسين غزوة، وقيل ستًا وخمسين، وقيل سبعين غزوة.
قال لسان الدين بن الخطيب: واصل رحمه الله الغزو بنفسه فيما يناهز سبعين غزوة، وفتح فيها البلاد، وخضد شوكة الكفر، وأذل الطواغيت، وفض مصاف الكفار، وكسر الصلبان، وبلغ الأعماق، وضرب على العدو الضرائب، إلى أن تلقاه عظيم الروم نفسه ببنته، وأتحفه بها في سبيل الرغبة في مهره، فكانت أحظى عقائله، وأبرت في الدين والفضل على سائر أزواجه. انتهى. نقل هذا دوزي في كتابه «المباحث عن تاريخ أسبانية وآدابها في القرون الوسطى» وقد سمى المؤرخون غزاة المنصور الأخيرة التي توفي على أثرها بغزاة قلعة أنيازور Calatanazor وزعم مؤرخو الإسبانيول مثل لوكاس دوتوي Lucas de Tuy ولذريق الطليطلي Rodrigue de Tolède أن المنصور انكسر في تلك الغزاة، وقد فند دوزي زعمهم بما سنذكره في القسم التاريخي من هذا الكتاب، عند الوصول إلى أخبار الدولة العامرية.
وجاء في نفح الطيب نقلًا عن ابن حيان: ثم خرج المنصور لآخر غزواته، وقد مرض المرض الذي مات فيه، وواصل شن الغارات، وقويت عليه العلة، فاتخذ له سرير خشب، ووطئ عليه ما يقعد عليه، وجعلت عليه ستارة، وكان يحمل على أعناق الرجال، والعساكر تحف به، وكان هجر الأطباء في تلك العلة، لاختلافهم فيها، وأيقن بالموت، وكان يقول: إن زماني يشتمل على عشرين ألف مرتزق، ما أصبح فيهم أسوأ حالة مني. ولعله يعني من حضر معه تلك الغزاة وإلا فعساكر الأندلس ذلك الزمان أكثر من ذلك العدد، واشتغل ذهنه بأمر قرطبة، وهو في مدينة سالم، فلما أيقن بالوفاة أوصى ابنه عبد الملك وجماعته، وخلا بولده، وكان يكرر وصياته، وكلما أراد أن ينصر يرده، وعبد الملك يبكي، وهو ينكر عليه بكاءه، ويقول: وهذا من أول العجز. وأمره أن يستخلف أخاه عبد الرحمن على العسكر، وخرج عبد الملك إلى قرطبة، ومعه القاضي أبو زكوان، فدخلها أول شوال، وسكن الأرجاف بموت والده، وعرف الخليفة كيف تركه، ووجد المنصور خفة فأحضر جماعة بين يديه، وهو كالخيال لا يبين الكلام، وأكثر كلامه بالإشارة كالمسلم المودع، وخرجوا من عنده، فكان آخر العهد به. ومات لثلاث بقين من شهر رمضان، وأوصى أن يدفن حيث يقبض، فدفن في قصره بمدينة سالم، واضطرب العسكر، وتلوم ولده أيامًا، وفارقه بعض العسكر إلى هشام، وقفل هو إلى قرطبة، فيمن بقي معه، ولبس فتيان المنصور المسوح والأكسية، بعد الوشي والحبر والخز، وقام ولده عبد الملك المظفر بالأمر، وأجراه هشام الخليفة على عادة أبيه، وخلع عليه، وكتب له السجل بولاية الحجابة. وكان الفتيان قد اضطربوا، فقوم المائل، وأصلح الفاسد، وجرت الأمور على السداد، وانشرحت الصدور بما شرع فيه من عمارة البلاد. انتهى.
(٢) أظن باروشة هذه تصحيف أروشة وأن هذه البلدة هي أريزة عند الإسبانيول وقد سألت الأستاذ المحقق السيد علال الفاسي الجد الفهري رأيه في هذه المسألة فأجابني بما يلي: «أما أريزة أو أريسة فأنا لا أرى بعيدًا أن تكون هي المسماة «باروشة» فقد جاء في دائرة المعارف للبستاني: أريزة بلدة في إسبانيا تبعد سبعين ميلًا عن سرقسطة إلى الجنوب الغربي. وفي معجم البلدان يقول ياقوت الحموي عن باروشة: بلد من غربي سرقسطة، من نواحي الأندلس شرقي قرطبة، تقرب من أرض الإفرنج. فأنتم ترون التقارب في التحديد بينها وبين سرقسطة. ومع ذلك فأرى أن أريسة — وإن لم أستطع تعيينها — كانت تعرف كذلك عند العرب، أي لم يلحقها تحريف، إذ حفظ لنا التاريخ اسم شخصين يدعيان بالأريسي، أحدهما أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد الأريسي، المعروف بالجزائري، الشاعر الشهير، المترجم له في «عنوان الدراية» في علماء بجاية، صفحة ١٣٤٤، والثاني جده محمد بن أحمد الأريسي، مترجم له أيضًا في هذا الكتاب صفحة ١٤٤. فيغلب على ظني أن هذه العائلة منسوبة إلى بلدة أريسة. والله أعلم. ا.ﻫ.
(٣) Jalon.
(٤) شنتامرية التي تقدم ذكرها في الكلام على مدينة سالم قد ورد ذكرها في معجم البلدان قال ياقوت: شنت مرية بفتح الميم وكسر الراء وتشديد الياء، وأظنه يراد به مريم بلغة الإفرنج: حصن من أعمال شنتبرية، وبها كنيسة عظيمة عندهم، ذكر أن فيها سواري فضة، لم ير الراءون مثلها، لا يحرم الإنسان واحدة منها، مع طول مفرط، قال أبو محمد عبد الله ابن السيد البطليوسي النحوي:
تنكرت الدنيا لنا بعد بعدكم
وحفت بنا من معضل الخطب ألوان
أناخت بنا في أرض شنت مرية
هواجس ظن خان والظن خوان
رحلنا سوام الحمد عنا لغيرنا
فلا ماؤها صدى ولا النبت سعدان
قلنا جاء في دليل بديكر أن في شنت مرية هذه ديرًا فيه مكان مائدة صنعة بنائه فرنسية، ولم يحدث عن سواري فضة، ولا شيء مما رواه ياقوت بدون تحقيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤