الفصل الأول

مشكلة الإرادة الحرة

(١) ما هي مشكلة الإرادة الحرة؟

هناك أشياء بالتأكيد خارج نطاق سيطرتك. فما حدث في الأزمنة التي سبقت مولدك، وطبيعة الكون الذي تعيش فيه؛ من الأشياء التي يستحيل أن تكون تحت سيطرتك. وكذلك يقع خارج نطاق سيطرتك الكثير من سماتك الخاصة، ومنها أنك إنسان وسوف تموت، ولون عينيك، وماهية الخبرة التي تقودك الآن إلى ما تعتقده بشأن بيئتك المحيطة، وحتى الكثير من الرغبات والمشاعر التي تنتابك الآن.

لكن هناك أشياء أخرى تتحكم فيها، وهذه هي أفعالك الحاضرة والمستقبلية. فأشياء مثل تحديد هل ستقضي الساعات القليلة القادمة في القراءة بالمنزل أو الذهاب إلى السينما، والمكان الذي ستذهب إليه في إجازة هذا العام، وهل ستصوِّت في الانتخابات القادمة أم لا، ولمن ستعطي صوتك، وهل ستستمر في عملك المكتبي أم ستتركه لتتخذ الكتابة مهنة لك؛ كلها أشياء تتحكم فيها بالفعل. وأنت تتحكم فيها؛ لأنها تتشكل في الأساس من أفعالك المتعمدة أو تعتمد عليها؛ الأفعال التي يئول الأمر إليك في أن تفعلها أو تمتنع عن فعلها. وبوصفك شخصًا بالغًا طبيعيًّا وسليم العقل، فإن طريقة تصرفك ليست شيئًا تفرضه عليك أحداث الطبيعة أو الأشخاص الآخرون فحسب. فعندما يتعلق الأمر بأفعالك الشخصية، تكون أنت المتحكم في ذلك.

وهذه الفكرة المتعلقة بكوننا متحكمين في طريقة تصرفنا — أو ما يمكن أن نطلق عليه أيلولة أفعالنا إلينا — هي فكرة نتشارك فيها جميعًا. وهي سمة ثابتة وأساسية في تفكيرنا، وبإمكاننا جميعًا تمييزها. والفكرة جذابة بدرجة لا تقاوَم. فمهما كان قدر التشكك الذي قد نصبح عليه عند التعامل مع الأمور الفلسفية، فإننا ما إن نعود أدراجنا إلى الحياة العادية حتى نستمر جميعًا في التفكير في أن الطريقة التي نتصرف بها تئول إلينا. والتفكير في أنفسنا بوصفنا متحكمين في الطريقة التي نتصرف بها هو جزء مما يمكِّننا من رؤية الحياة باعتبارها شيئًا قيِّمًا للغاية. وعلى قدر استطاعتنا توجيه طريقة تصرفنا والتحكم فيها، فإن حياتنا سوف تعكس — حقًّا — إنجازنا أو فشلنا. ويمكن لحياتنا أن تكون مِلكًا لنا؛ ليس أن نستمتع بها أو نتحملها فحسْب، بل أن نصنعها ونوجهها بأنفسنا.

أو هكذا نظن. لكن هل نتحكم حقًّا في أفعالنا؟ هل طريقة تصرفنا تئول إلينا حقًّا مثلما أن بعض الأشياء كالماضي، أو طبيعة الكون، أو حتى الكثير من معتقداتنا ومشاعرنا ليست خاضعة لها؟ والمشكلة المتعلقة بكوننا متحكمين دائمًا في طريقة تصرفنا، وما ينطوي عليه هذا التحكم، هي ما يطلق عليه الفلاسفة مشكلة الإرادة الحرة.

إنها بالفعل مشكلة حقيقية. ومهما بدت فكرة تحكمنا في أفعالنا مألوفة، فلا يوجد شيء مباشر أو صريح بشأنها. فالأسئلة الخاصة بكوننا نتحكم في الطريقة التي نتصرف بها أم لا، وما الذي يتطلبه هذا التحكم وينطوي عليه، وهل من المهم أن يكون لدينا هذا التحكم ولماذا؛ كلها تلخِّص واحدة من أقدم وأصعب المشاكل في الفلسفة.

والتاريخ الطويل لمشكلة الإرادة الحرة يظهر في اسمها؛ ذلك أن «حرية» و«إرادة» كلمتان عادة لا نستخدمهما كثيرًا في الحياة اليومية عند التحدث عن تحكمنا في أفعالنا، أو أيلولة أفعالنا إلينا. ومع ذلك فخلال الألفي عام السابقَيْنِ أو أكثر، استخدم الفلاسفة الغربيون هذين المصطلحين بالتحديد لمناقشة هذه المشكلة المتعلقة بكوننا نتحكم بالفعل في طريقة تصرفنا. واختيارهم لكلمتي «حرية» و«إرادة» يخبرنا بشيء حول السبب الذي قد يجعل من المهم أن نتساءل إن كنا نتحكم في أفعالنا أم لا، وما قد ينطوي عليه هذا التحكم. والآن دعوني أتحدث قليلًا عن كل كلمة، بدءًا بكلمة «الحرية».

ناقش الفيلسوف الإغريقي أرسطو الأفعال وتحكُّمَنا فيها في واحدة من أقدم وأهم المناقشات الأخلاقية التي قام بها الفلاسفة، والتي احتواها كتابُ «الأخلاق إلى نيقوماخوس». لكن رغم أن أرسطو تحدث في كتابه «الأخلاق» عن أننا نتمتع بالتحكم في أفعالنا — إذ ذكر أن أفعالنا ehp hemin بمعنى أنها «تئول إلينا» — فإنه لم يستخدم كلمة eleutheria وهي الكلمة الإغريقية المرادفة لكلمة «حرية»، لوصف هذا التحكم في الأفعال. كان استخدام كلمة eleutheria لا يزال مقتصرًا على المناقشات السياسية للتعبير عن الحرية السياسية أو التحرر، لكن في فترة ما بعد أرسطو بدأ الفلاسفة يستخدمونها بمعنًى جديد غير سياسي على الإطلاق؛ لكي يعبروا عن تحكمنا في أفعالنا. ومنذ ذلك الحين تبع الفلاسفة الذين يناقشون فكرة أيلولة أفعالنا إلينا الإغريقَ، وأصبح مصطلح «الحرية» — الذي يُستخدم للتعبير عن الحرية السياسية — يُستخدم أيضًا للتعبير عن تحكم الشخص في أفعاله. فإذا كان ما تفعله يقع داخل نطاق سيطرتك، إذن يمكن القول بأنك «حر» في أن تتصرف بطريقة مغايرة للطريقة التي تتصرف بها بالفعل. إنك «فاعل حر» كما يقول الفلاسفة.

إذن لدينا استخدامان لمصطلح «الحرية»؛ أحدهما للإشارة إلى التحرر السياسي، والآخر للإشارة إلى تحكمنا في أفعالنا. وهذان الاستخدامان مختلفان اختلافًا مهمًّا. فالتمتع بالحرية السياسية أمر، والتحكم في طريقة تصرفك أمر مختلف تمامًا. والحرية السياسية تتعلق بعلاقتنا بالدولة، وكذلك بعلاقتنا بمجتمع أكثر اتساعًا من البشر الذين نشكِّل جزءًا منهم. وبوجه خاص، فإن التحرر السياسي يتعلق بشكل أساسي بالمدى الذي تصل إليه الدولة في تحاشي تقييد أنشطة مواطنيها من خلال القوانين والإجبار القانوني، في حين أن التحكم في الأفعال لا يتصل اتصالًا مباشرًا بأي علاقة من هذا النوع مع الدولة. فالمرء قد يكون فاعلًا حرًّا — أي يتمتع بالتحكم في أفعاله — حتى عندما يعيش بمفرده على جزيرة منعزلة، بعيدًا عن أي مجتمع سياسي، وكذلك الحال؛ حيث لا توجد أي مشكلة في تمتعه بالتحرر السياسي أو افتقاده له. ومع أن التمتع بالتحرر السياسي وكون المرء متحكمًا في طريقة تصرفه أمران مختلفان، فإن تاريخ التنظير الخاص بالتحكم في الأفعال حافل بأوجه الشبه مع التحرر السياسي، وهذا الأمر ليس من قبيل المصادفة. بل الواقع أنه أمر طبيعي؛ أن يُستخدم المصطلح نفسه للتعبير عن تحكمنا في طريقة تصرفنا، وأيضًا للتعبير عن قيمة سياسية جوهرية.

على كل حال، هناك تشابه بين التحكم في الأفعال والتحرر السياسي. فالتحلي بدرجة من التحكم في حياتنا يمنحنا قدرًا محددًا من الاستقلال داخل نطاق الطبيعة، وهو استقلال لا تحظى به العِصِيُّ والحجارة، بل وقد لا تحظى به الحيوانات الدنيا. فالطبيعة لا تُملي علينا أفعالنا ولا تدفعنا إليها، لكننا نوجد داخل هذا الكون باعتبارنا مواطنين داخل نظام حكم حر أو دولة حرة؛ دولة تسمح لمواطنيها بقدر من التحرر السياسي، وعلى وجه الخصوص بعض المشاركة في تقرير ما يحدث لهم. ومثل أي دولة حرة، فإن الطبيعة أيضًا تترك جزءًا على الأقل من حياتنا لكي نديره بأنفسنا. والطبيعة، هي الأخرى، تمنحنا قدرًا من التحرر.

لكن هذا ليس وجه الشبه الوحيد، مع أنه ربما كان يحظى بأهمية خاصة عند فلاسفة الإغريق القدماء الذين نظر الكثيرون منهم — لا سيما الرواقيون، وهم يُمَثِّلون مدرسةً من الفلاسفة الذين اشتقوا اسمهم من «الأروقة» المعمَّدة في أثينا؛ حيث كانوا يتقابلون بغرض النقاش والتدريس — إلى الطبيعة باعتبارها دولة كونية يديرها العقل ويتحكم فيها. وأظن أن الأكثر أهمية لنا الآن هو حقيقة أن تحكُّمك في أفعالك — أي كونك فاعلًا حرًّا في هذا السياق — له دلالة سياسية واضحة؛ دلالة على حرية تُعتبر تحررًا سياسيًّا. وذلك لأنه توجد صلة معقولة بين وضعنا كأفراد يتمتعون بالتحكم في طريقة تصرفهم، وبين القيمة التي تمثِّلها لنا الحرية في سياق علاقتنا بالدولة. فإذا لم نستطِعْ أن نفكر — أو إذا لم نفكر — في أنفسنا باعتبارنا أشخاصًا قادرين على التحكم في حياتنا، وقادرين على التحكم في مصائرنا، فمن المؤكد أن الحرية السياسية — وهي سماح الدولة لنا بأن ندير حياتنا ونتحكم في مصائرنا في النطاق السياسي — لن تكُون قيمة مهمة لنا. إذن فلماذا لا نستخدم المصطلح نفسه للتعبير عن كُلٍّ مِنْ تحكُّمِنا في أفعالنا وعن القيمة السياسية التي تبدو معتمدة على ذلك التحكم في الأفعال؟

وماذا عن مصطلح «الإرادة»؟ استخدم الفلاسفة هذا المصطلح بطرق شتى، لكن أحد الاستخدامات المهمة كان للتعبير عن قدرة نفسية أساسية يمتلكها كل البشر الطبيعيين البالغين؛ وهي القدرة على اتخاذ القرارات. فنحن لسنا قادرين على القيام بأفعال مثل الذهاب إلى دار السينما أو البقاء في المنزل وما شابهها من أفعال فحسب، بل قادرون في المقام الأول على أن نقرِّر لأنفسنا: أيٌّ من هذه الأفعال سنقوم به؟ وهذه القدرة على اتخاذ القرارات أو انتقاء الخيارات تُعَدُّ في جوهر قدرتنا على التحكم في أفعالنا والسيطرة عليها. والواقع أننا عادةً ما نعبر عن «أيلولة» أفعالنا إلينا من خلال الإشارة إلى صلتها بقراراتنا، فنقول: «إن ما أفعل يئول إليَّ! إنه قراري!»

بل قد تعتمد حرية التصرف على حرية اتخاذ القرارات تحديدًا؛ أي على حرية الإرادة. وقد تئول طريقة تصرفنا إلينا لسبب وحيد، هو أننا نمتلك القدرة على اتخاذ قرار بشأن كيفية تصرفنا، وأن الأمر يئول إلينا في اختيار أيٍّ من هذه القرارات. هذا هو ما سأناقشه، وما آمَنَ به الكثير من الفلاسفة. لكن منذ القرن السابع عشر، عمد الفلاسفة الذين يكتبون باللغة الإنجليزية — وأقصد بهم الفلاسفة البريطانيين والأمريكيين — عادةً إلى إنكار وجود أي علاقة بين حرية الفعل وحرية الإرادة. وهم يدَّعُون أنه أيًّا كان ما نفكر فيه عادةً، فإنه لا يوجد شيء اسمه حرية اتخاذ القرار، أو أن حريتنا في التصرف مستقلة عنها تمامًا بأي حال من الأحوال. ووراء هذا الخلاف حول الإرادة وعلاقتها بالحرية يكمن خلاف أعمق حول طبيعة الفعل الإنساني.

ولا بد أن نتذكر أن حريتنا حرية فعل؛ أي حرية القيام بأشياء أو الامتناع عن القيام بها. وعلى النقيض، ليست الحرية — على الأقل مباشرةً — سمة من سمات اللافعل. فكِّرْ في الحاجات والرغبات، أو المشاعر على سبيل المثال. من الجليِّ أن الحاجات والمشاعر ليستا أفعالًا. وعند التفكير فيها في حد ذاتها، فإنها مجرد حالات تستولي علينا أو نجد أنفسنا فيها. وتُوصَف الحاجات والمشاعر أو الأحاسيس بأنها تعترينا دون تفكير؛ بمعنى أنها أشياء تحدث لنا، لا أشياء تنشأ مباشرةً كأفعال متعمَّدة نقوم بها. ولأن الحاجات والمشاعر ليستا أفعالًا، بل مجرد أحداث تقع لنا دون تفكير، فإنهما تقعان خارج نطاق تحكمنا المُباشر. وما نحتاجه أو نشعر به لا يئول إلينا مباشرة، مثلما تئول إلينا الأفعال التي نؤديها بها.

لا شك أن ما نحتاجه أو نشعر به يكون أحيانًا داخل نطاق تحكمنا. لكن هذا لا يكون حقيقيًّا إلا لأننا نستطيع، بدرجة ما، التأثير على ما نحتاجه أو نشعر به من خلال أفعالنا السابقة. أستطيع، على سبيل المثال، أن أزيد رغبتي في تناول الطعام بالعدْو؛ أو أستطيع تخفيف الألم عن طريق وضع مرهم، أو من خلال تعمُّد تركيز تفكيري على إجازة العام السابق … إلى آخره. إن سيطرتي المباشرة على أفعالي تستطيع — من خلال تأثير أفعالي في الأحداث التي تقع دون تفكير مثل الحاجات والمشاعر — مَنْحِي بعض السيطرة غير المباشرة على هذه الحاجات والمشاعر أيضًا. ويمتد نطاق تحكمنا في أفعالنا ليعطينا تحكمًا في تبعات تلك الأفعال أيضًا، لكن حريتنا تظل في النهاية حرية فعل. ودائمًا ما تُمارَس الحريةُ من خلال الفعل فحسب؛ من خلال ما نفعله أو نمتنع عن فعله عمدًا.

وهذه الصلة الوثيقة بين الحرية والفعل مهمة للغاية. فهي تعني أنه لكي نفهم ما تنطوي عليه الحرية، سوف نحتاج أيضًا إلى فهم طبيعة التصرف الإنساني؛ ذلك الوسط الذي يبدو أننا نستطيع ممارسة حريتنا من خلاله.

وهنا نصل إلى قضية اتخاذ القرارات وموقعها من الحرية. اعتاد الفلاسفة — خاصة في نهاية العصور القديمة وفي العصور الوسطى — تفسير الصلة بين الفعل والحرية من واقع علاقتهما بالإرادة. ومصطلح «مشكلة الإرادة الحرة» باعتباره وصفًا لمشكلة تتعلق بحرية الفعل يذكِّرنا كم كان الاعتقاد في وجود تطابق بين حرية الفعل وحرية الإرادة اعتقادًا عامًّا. فالحرية كانت تُعتبر في الأساس إحدى سمات القرار أو الاختيار؛ كانت الحرية كلها حرية إرادة. لقد تحكَّمنا في قراراتنا على نحو مباشر، وتحكَّمنا في كل شيء آخر من خلال قراراتنا. كانت الحرية مرتبطة بالفعل؛ لأن اتخاذ القرار أو الاختيار كان مكوِّنًا رئيسيًّا للفعل الإنساني، والشكل المباشر الذي يتخذه هذا الفعل. كانت الحرية تشير آنذاك إلى الفعل؛ لأن الإتيان بالفعل كان يعني ممارسة إرادة حرة.

هل كان الفلاسفة محقِّين في إيمانهم بنظرية الفعل القائمة على الإرادة هذه؟ هل كانوا محقين في اقتناعهم بوجود تطابق بين حرية الفعل وحرية الإرادة؟ كما سنرى، هناك اعتراضات مهمة على هذه النظرية. وبالتأكيد، فإن الفلسفة المكتوبة باللغة الإنجليزية في فترات لاحقة قد مالت إلى افتراضِ أن نظرية الفعل والحرية القائمة على الإرادة كانت خاطئة. والواقع أن الفلسفة الحديثة في بريطانيا وأمريكا ذهبت إلى النقيض. فقد حاولَتْ الزعم بأن الفعل والتحكم في طريقة تصرفنا ليس لهما أي علاقة تذكر بالإرادة أو بأي حرية للإرادة. لكنني أقول إن هذا الطرح الحديث هو أيضًا خاطئ. فإذا حاولنا أن نفصل الفعل وطريقة تحكمنا فيه عن الإرادة وحريتها تمامًا، بدلًا من أن نفهم الحرية فهمًا أفضل، فسينتهي بنا الحال إلى عدم التصديق بها بالكلية. إن استبعاد الإرادة من مشكلة الإرادة الحرة هو في حقيقة الأمر استبعاد للحرية أيضًا.

وبدون الإرادة، لن نكون قادرين على إدراك أيِّ معنًى لحرية الفعل على الإطلاق. وسوف ينتهي بنا المآل — مثلما انتهى بالكثير من الفلاسفة المحدثين — إلى الاعتقاد بأن فكرة كون أفعالنا حرة ومآلها إلينا هي مجرد خلط للأمور. وهذا بالتحديد ما يعتقده الكثيرون من الفلاسفة المحدثين؛ أننا لسنا فقط نفتقد التحكمَ في الطريقة التي نتصرف بها (وكأن الأمور كان يمكن أن تختلف عن ذلك)، بل إن حرية التصرف ذاتها شيء مستحيل، شيء لا يمكن لأي شخص امتلاكه مطلقًا؛ لأن فكرة حرية التصرف في جوهرها مُشَوشة ومتناقضة. وقد مالت الاتجاهات الفلسفية الحديثة بشكل متزايد إلى افتراض أن الاعتقاد في حرية التصرف وهْمٌ غير منطقي، تمامًا مثل الاقتناع بوجود مربع دائري.

(٢) الحرية ومبادئ الأخلاق

قبل أن نتناول بمزيد من التفاصيل السبب الذي قد يجعل من حرية الفعل مشكلةً كهذه، لا بد لنا من إلقاء نظرة فاحصة على أهمية الحرية، وعلى سبب أهمية إن كنا أحرارًا أم لا. نحن بحاجة لأن ننظر إلى موضع الحرية في مبادئ الأخلاق. وهنا سيكون الضوء مسلَّطًا مرة أخرى على الفعل.

نحن نعتقد بطبيعة الحال أن الفعل — ما نقوم به بأنفسنا، أو نمتنع عن القيام به — له أهمية أخلاقية خاصة. فجزء أساسي من مبادئ الأخلاق العادية يتمركز حول المسئولية الأخلاقية الفردية؛ أي حول فكرة أن يكون الناس مُساءَلِين عن الطريقة التي يحْيَون بها. إن أفعالنا هي التي نُسأل عنها مساءلة مباشرة في حياتنا؛ فكل منا مسئول عما يفعله وما لا يفعله؛ أو هكذا نفترض في العادة. فإذا تصرفْتَ عمدًا، وبلا سبب منطقي، بطريقة تعلم أنها ستؤذي أو تضرُّ شخصًا آخر — ربما ألقيتَ متعمدًا تعليقًا جارحًا ضد أحد الأصدقاء — فمن الممكن أن تُلامَ على الأذى الذي سببتَه. ومن المؤكد أن الآخرين سيُنْحُون باللائمة عليك ويعتبرونك مسئولًا؛ وعندما تفكر فيما فعلتَه، ربما تَخْلص إلى لوم نفسك أيضًا، وربما ينتهي بك الحال إلى الشعور بالذنب تجاه ما فعلت.

وتقدِّمُ لنا مبادئ الأخلاق معايير ذات طبيعة إلزامية، بحيث نكون مسئولين عن الامتثال لها، ونُلام لومًا مستحَقًّا وعادلًا إذا لم نلتزم بها. وهذه المعايير تنطبق على الفعل. وعبء المسئولية هذا لا يقع على المشاعر أو الرغبات؛ على الأقل تلك المشاعر أو الرغبات التي تنتابنا بمعزل عن أفعالنا. على سبيل المثال، قد ينتابني شعور بالعدائية تجاهك؛ لكن لو أن هذا الشعور قد انتابني فجأة — أي لم يكن نتيجة شيء فعلتُه، ولم يكن هناك أي شيء باستطاعتي القيام به لمنع هذا الشعور — فكيف يمكن أن ألام عليه؟

إننا نلام على ما نفعله أو لا نفعله؛ وليس على ما يحدث لنا بمعزل عن أفعالنا. وهذه النظرة إلى المسئولية مألوفة وطبيعية للغاية. لكن ما الذي يجعل المسئولية الأخلاقية تتعلق بطريقة تصرفنا وبالنتائج المترتبة على تلك الطريقة، ولا تتعلق بشيء آخر؟

أساس أي تفسير معقول لا بد أن يكون حلقة وصل بين المسئولية الأخلاقية وبين أحد أشكال «التقرير الذاتي». وجوهر اللوم — تحميل شخصٍ ما المسئوليةَ عن خطأ ارتكبه — أن يكون موجَّهًا نحو الفاعل نفسه. إننا نؤكِّدُ أن يكون الفاعل نفسه — أي نفس الشخص وليس أي حدث أو عملية متصلة به — هو المسئول. ولهذا فإن الشيء الذي نحمِّل الفاعل المسئولية عنه لا بد أن يكون شيئًا يمكن ربطه أو إلصاقه به بدقة وإنصاف. وما نحمِّل الفاعل المسئولية عنه لا بد أن يكون شيئًا قرر الفاعل بنفسه أنه سيحدث. ولا بد أن يكون ذلك الشيء مقرَّرًا من قِبَل الفاعل نفسه؛ أي ذاتي التقرير كما يمكن أن نسميه. إذا كنا مسئولين أخلاقيًّا عن أفعالنا، لا عن مشاعرنا ورغباتنا، فلا بد أن يكون تفسير ذلك هو وجود نوع وثيق الصلة من التقرير الذاتي في الفعل، لكنه لا يوجد في الرغبة أو الشعور.

ويبدو أن المنطق السليم يفسر بشكل واضح السببَ الذي يجعلنا مسئولين أخلاقيًّا عن أفعالنا لا عن مشاعرنا ورغباتنا. إن المنطق السليم يحتكم إلى الحرية؛ إلى ما نتحكم فيه أو ما يئول إلينا. فطريقة تصرفنا تئول إلينا مباشرة، ولكن ما لا يخضع لها هو المشاعر التي تنتابنا أو الرغبات التي تستحوذ علينا. نحن نتمتع بتحكم في أفعالنا، ولكن ليس لدينا تحكُّمٌ مباشرٌ في الشعور أو الرغبة مستقِلٌّ عن الفعل. ولهذا فنحن مسئولون أخلاقيًّا عن أفعالنا، لا عن مشاعرنا ورغباتنا.

وهذا الاحتكام إلى الحرية من أجل تفسير المسئولية الأخلاقية طبيعي للغاية؛ لأن ممارسة التحكم أو الحرية هي أكثر أشكال التقرير الذاتي بديهية. إننا بطبيعة الحال نحدد الفاعل من خلال ممارسته لحريته؛ فالفاعل هو الشخص المتحكم في أفعاله.

يبدو إذن أن فكرة كوننا فاعلين أحرارًا — نتحكم في طريقة تصرفنا — تمثِّل جزءًا جوهريًّا من تفكيرنا الأخلاقي. فاستجابات اللوم أو الشعور بالذنب لن تكون عادلة إلا إذا كانت الطريقة التي كنت تتصرف بها — في فعلكَ ما فعلتَ — في نطاق تحكمك فعلًا. لا بد أن يكون إلقاء هذا التعليق الجارح أو الامتناع عنه خاضعًا بالفعل لإرادتك. فإذا كان الإدلاء بهذا التعليق بعيدًا تمامًا عن تحكمك، فكيف يمكن أن تلام عليه؟

وإذا كانت حريتنا هي التي تدعم وتبرر مشاعر مثل اللوم والذنب، إذن فالحرية الإنسانية مفترضة مسبقًا في نظمنا القانونية، عندما تعاقب المحاكم الأفراد وتحملهم المسئولية القانونية عن أفعالهم. فالعقاب لا يُعتبر عقابًا حقيقيًّا — وليس مجرد تقييد للحرية أو عنف — إلا إذا فُرض على ارتكابٍ للخطأ باعتباره شيئًا يستحق العقاب. إن العقاب يشتمل في بنيته على زعْم أن المعاقَب يستحق اللوم بالفعل على الخطأ الذي ارتكبه، وأنه مسئول حقًّا عما فعل. لكن عندئذ لا يكون العقاب عادلًا إلا إذا كان الشخص المعاقَب متحكِّمًا في أفعاله؛ أي إذا كان تصرفه على هذا النحو أو إحجامه عنه أمرًا يئول إليه.

وليس من الضروري أن تكون كل أفعالنا خاضعة لتحكمنا؛ فربما يكون أحدهم مصابًا بالفعل بمرض السرقة، وتتحكم فيه رغبة قهرية تدفعه نحو السرقة؛ رغبة تنتزع منه حريته في الامتناع عن السرقة وترغمه حرفيًّا على الاستيلاء على الأشياء. إذا كان هذا الأمر ممكنًا، فسيظل قيامه بالسرقة فعلًا حقيقيًّا قام به عمدًا. ولكن بافتقاده لحرية الامتناع عن السرقة، فإنَّ تصرُّفه هذا لن يكون شيئًا يتحمل المسئولية عنه. وإذا كانت الحرية هي الفكرة الرئيسية في المسئولية الأخلاقية، فإن الفعل لن يكون مسئوليتنا إلا إذا كان حرًّا بالفعل؛ أي فعلًا نتحكم تمامًا في القيام به أو الامتناع عنه.

وقد يكون هذا الرأي القائل إن المسئولية الأخلاقية تعتمد على الحرية رأيًا عاديًّا للغاية، لكنه أيضًا مثير لكثير من الجدل. فالكثير من الفلاسفة سوف يعتبرون ما قدَّمْتَه على أنه رأي المنطق السليم ليس من المنطق السليم في شيء. ففي الفلسفة الحديثة لا يوجد أي اتفاق على الإطلاق بشأن كوْنِ الحرية لها أهمية في مبادئ الأخلاق، أو أن للفعل أي أهمية أخلاقية خاصة. وأحد الأسباب الهامة لهذا الاختلاف بسيط؛ فقد أثبتت حرية التصرف أنها فكرة مُحيرة للغاية — لدرجة أنها عادةً ما تُعتبَر في هذه الأيام فكرةً غيرَ متَّسِقة، ومستحيلةً — مما جعل الفلاسفة أكثر ميلًا إلى تجاهلها أو استبعادها عندما يتعاملون مع الفلسفة الأخلاقية. لقد حاولوا فهم مبادئ الأخلاق دون التحدث عن الحرية.

غير أن بعض الفلاسفة سيقبلون بأننا مسئولون أخلاقيًّا عن أفعالنا فحسب، لكنهم سينكرون أن هذه المسئولية تعتمد على حرية أفعالنا. فثمة سماتٌ أخرى للفعل — لا علاقة لها بكوننا متحكمين فيه — تجعلنا مسئولين عن الطريقة التي نتصرف بها. أو لعل هؤلاء الفلاسفة ينظرون إلى مسئوليتنا عن أفعالنا باعتبارها شيئًا لا يحتاج إلى تفسير.

لكنَّ فلاسفةً آخرين كانوا أكثر راديكالية. فيرى ديفيد هيوم، الفيلسوف الاسكتلندي الذي عاش في القرن الثامن عشر، أن مبادئ الأخلاق لا تتعلق على الإطلاق بكونك مسئولًا عما تفعل. ويرى أيضًا أننا لا نتحمل أي مسئولية أخلاقية خاصة تجاه أفعالنا؛ وهي مسئولية نفتقر إليها عندما يتعلق الأمر بسمات ليست من أفعالنا. فالأفعال ليست ما يهم حقًّا في مبادئ الأخلاق؛ فهي — على أفضل تقدير — تأثيراتٌ وعلامات أو أعراض للشيء المهم حقًّا. ترتبط مبادئ الأخلاق بالرغبة والعاطفة — أي الحالات التي تعترينا دون تفكير من الدافعية، والشعور، وسمات الشخصية، والتي تسبق أفعالنا وتتسبَّب في قيامنا بها — أكثر من ارتباطها بالأفعال نفسها. تتعلق مبادئ الأخلاق في الأساس بكونك شخصًا فاضلًا جديرًا بالإعجاب. فالقيام بالأفعال القويمة شيء ثانوي يتبع كونك شخصًا فاضلًا ويكون نتيجة له.

fig1
شكل ١-١: ديفيد هيوم، بريشة لويس كاروجيس.

هل يمكننا أن نفهم مبادئ الأخلاق والمسئولية الأخلاقية دون الاحتكام إلى الحرية؟ أقول إننا لا نستطيع ذلك! فالفعل في الحقيقة له أهمية خاصة في مبادئ الأخلاق. فنحن مسئولون عما نفعله بأنفسنا، ولسنا مسئولين عما يحدث لنا. ومع ذلك، فهذه المسئولية الخاصة عن أفعالنا لا تحتاج إلى تفسير. وكما سنرى، فإن تفسير هذه الأهمية الخاصة التي يحوزها الفعل سيكون من خلال الحرية فقط. وما إن نفهم ما ينطوي عليه الفعل البشري بالفعل — وتحديدًا ما إن نفهم الدور الذي تلعبه الإرادة في الفعل البشري — حتى نرى أن أي تفسير آخر لمسئوليتنا الأخلاقية تجاه أفعالنا لن يكون صحيحًا. فإعادة الإرادة مرة أخرى إلى مشكلة الإرادة الحرة معناه إعادة حريتنا وطريقة ممارستنا إياها إلى لُبِّ مبادئ الأخلاق.

لكن لماذا كل هذا الإنكار للحرية؟ دعونا الآن ننتقلْ إلى ما يهدد حريتنا في الفعل؛ وتحديدًا إلى السبب الذي يجعل الإرادة الحرة مشكلة من الأساس.

(٣) لِمَ قد لا نكون أحرارًا

يبدأ معظمنا كلامه عن الحرية بأن يضع افتراضًا مهمًّا بشأنها. فنحن نميل عادةً إلى افتراض أن حريتنا في التصرف لا بد أنها تتعارض مع فكرة كون أفعالنا محددة أو محتومة الحدوث بفعل مسببات مسبقة خارجة عن نطاق سيطرتنا. هَبْ، على سبيل المثال، أنه في وقت ميلادك، كان العالم يحتوي بالفعل على مسبِّبات — سواء أكانت البيئة التي وُلدت فيها أم الجينات التي وُلدت بها — تحدِّد بدقة ما ستفعله طوال حياتك. في هذه الحالة لن تكون طريقة تصرفك آيلة إليك في أي مرحلة من مراحل حياتك. فإذا كانت الطريقة التي لا بد أن تتصرف من خلالها قد حُددت بحذافيرها منذ البداية، فكيف يمكن أن تكون حرًّا في التصرف بطريقة مغايرة؟

«الحتمية السببية» هي زعْمُ أن كل ما يحدث — بما في ذلك أفعالنا — مقدَّر له الحدوث مسبقًا لأسباب معينة. فكل ما يحدث هو نتاج مسببات سابقة؛ مسببات تحدِّد النتائجَ المترتبة عليها عن طريق ضمان حتمية وقوع تلك النتائج، وعدم ترك أي فرصة لحدوث الأشياء بطريقة مختلفة. وعليه فإذا كانت الحتمية السببية حقيقية، فإنَّ كل ما يحدث في أي وقت من المستقبل قد سبق تقريره وتحديده بواسطة الماضي. ونحن بطبيعة الحال نعتقد أن حقيقة الحتمية السببية سوف تستبعد حريتنا بالكلية. إننا نفترض تلقائيًّا أن تحلِّينا بالتحكم في طريقة تصرفنا يعتمد على كون أفعالنا غير محددة سببيًّا ومسبقًا من خلال عوامل خارجة عن نطاق سيطرتنا؛ مثل البيئة التي نولد فيها، والجينات التي نولد بها، والرغبات والمشاعر التي تنتابنا دون أن يكون لنا سيطرة عليها. وهذا الافتراض الذي نضعه تلقائيًّا يسمى «اللاتوافقية»، وهو يسمى هكذا؛ لأنه يقول إن الحرية غير متوافقة مع التحديد السببي المسبق لطريقة تصرفنا من خلال عوامل خارجة عن تحكمنا. إننا بطبيعتنا لا توافقيون.

لكننا لسنا هكذا فحسب. فنحن ليبرتاريون بطبيعتنا أيضًا. وهذه الليبرتارية المتعلقة بحرية الفعل تجمع بين اللاتوافقية وبين إيمان آخر بأننا نتحكم في طريقة تصرفنا. والليبرتاريون أشخاص لا توافقيون يؤمنون بأن البشرَ أحرار. وهذا بالتحديد ما نفترضه تلقائيًّا. ومع أننا نعتقد أن التقرير المسبق لأفعالنا سوف ينزع عنا تحكُّمنا في كوننا سنؤديها أم لا، فإننا ما زلنا نميل ميلًا قويًّا إلى افتراض أننا نتحلى بذلك التحكم، وأننا نحن المسئولون عن طريقة تصرفنا، وأن المسببات الماضية لا تفرض علينا أفعالنا. تمثل الليبرتارية — ومعها اللاتوافقية أيضًا — نظريتنا الطبيعية عن الحرية.

والفكرة البديهية القائلة إن اللاتوافقية أمر حقيقي — أي إن حريتنا في التصرف تعتمد على كون أفعالنا غير مقررة مسبقًا — شائعة للغاية. ومعظم الأشخاص الحديثي العهدِ بالفلسفة لن يقتنعوا بشيء غير ذلك. فاحتمالية أنهم حينما وُلدوا كان كل فعل سيقومون به محددًا ومقررًا مسبقًا يرونها تهديدًا واضحًا وصريحًا لحريتهم. والأشخاص الذين يحتكُّون بالفلسفة للمرة الأولى يعارضون بشدةٍ التخليَ عن اللاتوافقية. لكن اللاتوافقية تفرض علينا صعوبات معقدة؛ إذ إنها تبشِّر بأن تكون الحرية مسألة مستحيلة، أو هكذا يفترض الكثير من الفلاسفة المحدثين.

(٣-١) تهديد الحتمية

العقبة الأولى واضحة للغاية. فاللاتوافقية تضع شرطًا مهمًّا لحرية الفعل؛ وهو غياب التحديد السببي المسبق بفعل ظروف خارجة عن نطاق تحكمنا. ولكن هل يمكننا التأكد من تحقق هذا الشرط؟ نحن عادة لا نفكر في كيفية تصرفنا على أنها شيء مقرر مسبقًا بفعل مسببات ماضية، لكن كيف يمكننا أن نتأكد من ذلك؟ فعلى كل حال، ربما تكون الحتمية السببية حقيقة. ربما كل شيء يحدث في الكون قد تقرر حدوثه بفعل مسببات مسبقة. في هذه الحالة، فإنه بحلول وقت ميلادنا، تكون كل أفعالنا قد سبق أن تقرَّرت سببيًّا.

إن الإيمان بالحتمية السببية — بأن العالم عبارة عن نظام حتمي — قد جرى الدفاع عنه، في العالم القديم، بواسطة الرواقيين. وقد شاع الإيمان بالحتمية السببية مجددًا بين الفلاسفة الغربيين في أعقاب القرن السابع عشر. وقد حدث هذا لأن الأشكال الجديدة للعلم التي كانت في طور التطور آنذاك — لا سيما فيزياء نيوتن — أمدتنا بقوانين حتمية بدت وكأنها تفسر وتحكم حركة كل جسم مادي داخل الكون. أما اللاتوافقية فقد تركت فكرة أيلولة أفعالنا إلينا، بكل ما يعتمد عليها أخلاقيًّا، في صراع ضد ما بدا حينها كأنه صورة منطقية للغاية للعالم؛ صورة العالم كنظام فيزيائي حتمي، التي أوحى إلينا بها العلم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

ومنذ ذلك الحين تضاءلت منطقية الحتمية السببية. ففيزياء القرن العشرين تركت الحتمية الكونية كصورة غير مدعومة بأدلة كافية. فالعالم — عند الحديث عن تفسيرات بعينها لفيزياء الكم الحديثة — غير حتمي على مستوى الدقائق البالغة الصغر. فحركات الجسيمات دون الذرية الصغيرة، على الأقل، تفتقر إلى المسببات الحتمية. ولأن حركات هذه الجسيمات الدقيقة غير مقرَّرة، فإنها — على الأقل بدرجة ما — «خاضعة للصدفة» أو «عشوائية».

أفعالنا بالطبع تحدث عند المستوى الكبير الواضح، وليس المستوى الصغير الخفي؛ أي عند مستوى العين المجردة، وليس المستوى المجهري. ولكن ألا يظلُّ في هذا الأمر بعض التهديد من ناحية الحتمية؟ قد لا نعرف يقينًا إلى أي مدًى تنطبق اللاحتمية على مثل هذه الأحداث الكبيرة. وحتى إذا كان هناك بعض اللاحتمية المجهرية، فإن قدْرًا كبيرًا من التغيير الذي يحدث عند ذلك المستوى المجهري قد لا يمثل أي فرق فيما يحدث عند المستوى الأكبر. وفي هذه الحالة، فإنه ليس من الضروري أن تشكِّل اللاحتمية المجهرية أي فرق في الطريقة التي نتعمد أن نتصرف من خلالها. فالتغييرات الدقيقة في مواضع جسيمات مختلفة بالغة الصغر قد لا تشكِّل أي فرق في كوني، مثلًا، سأرفع يدي متعمدًا أم لا. ربما تظل الأحداث عند المستوى المرئي مقررة مسبقًا على نحو كبير. فالكثير من أفعالنا، أو كلها، يمكن أن يظل محددًا بواسطة مسببات خارجة عن نطاق تحكمنا. وفي هذه الحالة، فإن التحديد السببي المسبق لأفعالنا قد يظل احتمالية جِدِّيَّة؛ وإذا كانت اللاتوافقية حقيقية، فسوف يمثل ذلك تهديدًا خطيرًا لحريتنا.

ولكن هل التحديد السببي المسبق لأفعالنا يمثل بالفعل احتمالية جدية؟ لا أحد، في الواقع، قد بيَّنَ أن الحتمية تنطبق على مستوى الفعل البشري. فأفعالنا عادة ما تكون متوقعة؛ ومع ذلك فتلك التوقعات لا ترْقَى بشكل عامٍّ إلى مستوى اليقين. نحن نجد أن الكثير من الأفعال البشرية تتبع نزعات معينة، ولكن يبدو أن هذه النزعات لا تزيد عن كونها مجرد نزعات، لا قوانين محكمة، ولا يزال بإمكان الأفعال الفردية كسر هذا النمط. ويظل الإيمان بالتقرير المسبق للأفعال البشرية على نطاق واسع مجرد ظن أو تخمين؛ تخمين لا يرقى حتى للاحتمال، ولا يزال غير مثبت.

(٣-٢) تهديد الصدفة والغموض

ثمة مشكلة أعمق بخصوص الحرية. فاللاتوافقية تقول إننا لا يمكن أن نكون أحرارًا إذا كانت الحتمية حقيقية. ولكن، وكما نحن على وشْك أن نرى، يبدو أننا لا يمكن أن نكون أحرارًا أيضًا إذا كانت الحتمية غير حقيقية؛ وأنه لا بد أن تكون الحتمية حقيقة من أي منظور، سواء أكنا لا توافقيين أم لم نكن. وفي حالة كونِ اللاتوافقية حقيقيةً، فلا يمكننا أبدًا أن نكون أحرارًا. فستكون الحرية مستحيلة.

هَبْ — وهذا أحد متطلبات الحرية اللاتوافقية — أن أفعالنا ليست مقررة مسبقًا؛ يبدو إذن أن هذا يعني أن الطريقة التي نتصرف بها في النهاية هي مسألة مصادفة ليس غيرُ؛ لأنه لا يوجد سوى بديلين فقط؛ فإما أن يكون الفعل محددًا سببيًّا، وإمَّا أن حدوثه — ما دام غيرَ محددٍ سببيًّا — يعتمد على الصدفة. ولكن الصدفة وحدها لا تشكل حرية. فالصدفة وحدها لا تعدو أن تكون مجرد عشوائية. وثمة شيء يبدو واضحًا جليًّا؛ وهو أن العشوائية؛ أي عمل المصادفة المحضة، تستبعد التحكم بشكل واضح. على سبيل المثال، إذا اعتبرنا أننا نمارس تحكمًا في عمليةٍ ما، فلا يمكن أن تكون تلك العملية تتطور بشكل عشوائي؛ لأنه إذا كانت العملية عشوائية، فلا بد أنها تقع خارج نطاق تحكمنا. فالعشوائية تشكل تهديدًا لحريتنا — لممارسة التحكم في طريقة تصرفنا — يماثل، على الأقل، ذلك التهديد الذي ربما تشكله الحتمية. وإذا كانت أفعالنا لا تعدو أن تكون مجرد حوادث تقع مصادفة، إذن فكيف يمكن لفعلنا أن ينطوي على ممارسة تحكُّم من قِبَلِنا؟

ثُم تتعمق المشكلة. فليس الأمر فقط أن الأفعال غير المقررة لا تبدو أفضل من العشوائية، ولكن يبدو أنه إذا كنا نعتقد أن أفعالنا غير مقررة، فلا يمكن أن تكون «أفعالًا» على الإطلاق؛ فهي لن تزيد عن كونها مجرد حركات دون تفكير.

هبْ، على سبيل المثال، أن يدي ارتفعت إلى أعلى. فما الذي لا بد أن يكون حقيقيًّا لكي يكون ارتفاع يدي لأعلى ليس مجرد حدث، وإنما «فعل» أصيل، شيء أفعله عن قصد، رفع متعمد ليدي بواسطتي أنا؟ من المنطقي بالنسبة لي كي أحسب أني رفعت يدي متعمدًا؛ إذ لا بد أن هناك قصدًا وراء ارتفاع يدي لأعلى. فإذا كنت أرفع يدي متعمدًا، فلا بد أنني أفعل ذلك من أجل هدف أو غاية ما. ربما أرفع يدي من أجل رفعها فحسب. أو ربما يكون لدي غرض آخر. لعلِّي أرفع يدي لكي أُلَوِّح لك بها. ولكن من الأحرى أن يكون هناك قصد وراء ما أفعله حتى يمكن اعتباره فعلًا أصيلًا؛ أعني تنفيذًا متعمدًا ومقصودًا لشيء ما بواسطتي.

إذن فما يجعل الفعل فعلًا أصيلًا هو أن يكون واضحًا ومفهومًا بوصفه شيئًا قمنا به عمدًا؛ من أجل الحصول على غاية أو نتيجة ما. فالفعل لا بد أن يكون دائمًا شيئًا هادفًا بشكل واضح، ولا بد أن يكون دائمًا موجَّهًا نحو هدف ما أو آخر؛ ويصح هذا سواء كان الهدف من الفعل يقع وراءه، أو كان الفعل يُؤدَّى من أجل الفعل فقط. إذن ما الذي يثبت أن فعلنا موجَّه نحو هدف محدد؟ على سبيل المثال، ما الذي يثبت أنني حينما أرفع يدي فإنما أرفعها لكي أُلَوِّح لك؟ من المؤكد أنني أؤدي الفعل نتيجة لرغبة أو دافع معين؛ رغبة في ذلك الهدف أو دافع يدفعنا تجاهه. فإذا اعتبرت أن الهدف وراء رفع يدي هو أن أُلوح لك، فلا بد أن رغبتي في التلويح لك هي التي ترفع يدي إلى أعلى. إن حركات جسمنا التي لا تتسبب فيها رغباتنا — التي تحدث سواء أَرَدْنا حدوثها أم لا — ليست أفعالًا موجهة نحو هدف، وإنما هي مجرد حركات دون تفكير كالارتجافات أو الاستجابات اللاإرادية.

وبقدر ما تكون أفعالنا غير مقررة، فإنها لن تتأثر برغباتنا السابقة، وسوف يعتمد قدر أقل من كيفية تحركنا وفعلنا للأشياء على ما نرغبه أو نريده مسبقًا. وهذا يعني أن هذه الأفعال المزعومة ستكون أقل شبهًا بالأفعال الأصيلة، وأكثر شبهًا بالحركات التي تجري دون تفكير وبالاستجابات اللاإرادية. وكيف يمكن للحركات التي تجري دون تفكير والاستجابات اللاإرادية أن تكون حرة؟ كيف يمكن للحركات التي تجري دون تفكير والاستجابات اللاإرادية أن تمثل ممارسة أصيلة للتحكم؟

يبدو إذن أنه إذا كانت اللاتوافقية حقيقية، فلا يمكن لنا أن نكون أحرارًا؛ لأنه إما أن تكون أفعالنا محددة سببيًّا بشكل مسبق. وفي هذا الحالة فإنها — كما تقول اللاتوافقية — مفروضة علينا من وقت سابق، ولا يمكننا أن نؤديها بِحرية. وإما أن تكون غيرَ مقررة، وفي هذه الحالة فإنها — من واقع أي وجهة نظر، كما يبدو — لا تعدو أن تكون حوادث عشوائية تجري دون تفكير، ومجرد أفعال من حيث المسمَّى فقط. وفي هذه الحالة، فإننا مجددًا لا نستطيع أن نؤدي تلك الأفعال بِحرية.

(٤) التوافقية والتشككية

تعتبر الليبرتارية، بالنسبة لمعظمنا، النظرية الطبيعية للحرية. ولكن هذا لا يعني أن الليبرتارية حقيقية؛ وذلك لأننا نرى الآن أن الليبرتارية تواجه أكثر من مشكلة واحدة. ولا يقتصر الأمر على أن الليبرتاريين يجب أن يؤمنوا بأن الحتمية السببية غير حقيقية؛ أي أن أفعالنا غير محددة سببيًّا مسبقًا. فعلى قدر عِلْمنا، قد يتبين أن هذا الاعتقاد حقيقي. ولكن هناك مشكلة أخرى أكثر خطورة تواجه الليبرتارية. لنفترضْ أن الحتمية السببية غير حقيقية بالفعل، فلا بد أن يكون الليبرتاريون قادرين على تفسير كيف أن الحوادث غير المحددة سببيًّا التي يرونها كأفعال حرة هي كذلك بالفعل؛ أفعال حرة أصيلة. ولا بد لهم أن يفسروا كيف تختلف هذه الأفعال الحرة المزعومة — مع أن وقوعها قد يحدث بمحض الصدفة إلى حدٍّ ما — عن الحركات التي تحدث بصورة عشوائية دون تفكير؛ مثل الارتجافات والاستجابات اللاإرادية. ولكن لم تقدم الليبرتارية حتى الآن هذا التفسير الحيوي؛ تفسير كيف أن الحرية اللاتوافقية يمكن أن تتجسد في فعل، وإن كان غير محدد سببيًّا؛ مثل أي حركة بمحض الصدفة، هو مع ذلك فعل حر أصيل. إن الليبرتارية بحاجة لأن تفسر كيف يمكن لفعل أن يكون غير محدد سببيًّا بواسطة أحداث سابقة، دون أن يكون مع ذلك مجرد حركة عشوائية أو يجري دون تفكير. وقد تشكك الكثير من الفلاسفة في إمكانية تقديم أي تفسير كهذا.

ولهذا السبب، وبالرغم من الأفكار البديهية الليبرتارية التي نحملها، فقد مال الكثير من الفلاسفة المحدثين — أو معظمهم — بدلًا من ذلك إلى «التوافقية» أو «التشككية».

تقول التوافقية بأن أيلولة أفعالنا إلينا — حريتنا في التصرف بطريقة مختلفة — تتوافق تمامًا مع كون أفعالنا مقدَّرة سلفًا منذ البداية بواسطة مسببات خارجة عن نطاق تحكمنا. فالحرية والحتمية السببية متَّسقتان بصورة كاملة. وفي الواقع، وللأسباب السابقة الذكر، أكد الفلاسفة التوافقيون على أن الحرية تتطلب بالتأكيد أن تكون أفعالنا محددة سببيًّا بشكل مسبق: ولكي نتحاشى أن تكون أفعالنا عشوائية وغامضة فحسْب، فلا بد لها أن تكون موجَّهة ومقرَّرة بواسطة رغباتنا السابقة.

وخلال المائتي عام الماضيتين، حظيت التوافقية بتأييد كبير بين الفلاسفة الناطقين بالإنجليزية. بل لقد كانت هناك أوقات، كمعظم القرن العشرين، كانت فيها التوافقية بوضوح هي النظرية الفلسفية السائدة عن الحرية الإنسانية. والكثير من النقاش حول مشكلة الإرادة الحرة خلال القرن العشرين كان يتعلق بمحاولة إظهار أن حرية الفعل تتَّسق حقيقةً مع الحتمية السببية، حتى وإن كانت أفكارنا البديهية بالفطرة تقول عكس ذلك.

ولكن تبقى الحقيقة هي أن أفكارنا البديهية الطبيعية لا توافقية. فإذا كانت أفعالنا حرة بحقٍّ، فكيف يتسنى أن تكون مقررة مسبقًا؟ ولذا فقد واصل بقية الفلاسفة رفض التوافقية، مُصرِّين على أن الحرية لا تتسق مع الحتمية. ولكن هؤلاء الفلاسفة ليسوا ليبرتاريين؛ وذلك لأنهم يقولون بأن الحرية لا تتسق مع اللاحتمية أيضًا. ومن أجل الأسباب الموضحة أعلاه، يعتقد هؤلاء الفلاسفة أن الأفعال غير المقررة لا تزيد في الواقع عن كونها حركات عشوائية تجري دون تفكير. وبعبارة أخرى، فإن كثير من الفلاسفة المحدثين يدمج اللاتوافقية مع التشككية. وهم يُصرُّون على أن الحرية غير متَّسقة مع كلٍّ من الحتمية واللاحتمية؛ ومن ثَمَّ فإن الحرية مستحيلة.

الإرادة الحرة: المواقف الرئيسية
هل حرية الفعل تتسق مع الحتمية السببية؟
التوافقية اللاتوافقية
نعم كلا
الليبرتارية التشككية
نحن أحرار الحرية مستحيلة
(الحتمية السببية غير حقيقية) (الحرية غير متسقة مع كلٍّ من الحتمية السببية واللاحتمية السببية بنفس القدر)

(٥) مشكلة الإرادة الحرة وتاريخها

نحن نؤمن، بشكل فطري، بأننا أحرار؛ بأن اختيار الأفعال التي نقوم بها هو بالفعل أمر يئول إلينا. ونحن أيضًا نفرض بشكل طبيعي شرطًا لا توافقيًّا على هذه الحرية. فلِكَي نكون أحرارًا في وجهة نظرنا، لا يمكن لأفعالنا أن تكون محددة سببيًّا بشكل مسبق من خلال أحداث وقعت قبل وقت طويل من ولادتنا. وعلى هذا النحو، فإن الكثير منا ليبرتاريون بطبيعتهم. ولكن المشكلة هي أنه لا يبدو أن ثمَّةَ نموذجًا ثابتًا يمكن الاستناد إليه في تفسير كيف يمكن ممارسة الحرية، كما نتصورها، من خلال الطريقة التي نتصرف بها. ولا يبدو أن ثمة وصفًا ليبرتاريًّا منطقيًّا لما ينطوي عليه الفعل البشري، وكيف يمكن أن يكون هذا الفعل داخل نطاق تحكم الفاعلين من البشر. وإذا لم يتم تقديم مثل هذا الوصف، فسيكون أمامنا خيار؛ أن نحتمي بظل التوافقية، أو نرتمي في أحضان التشككية.

هذه هي مشكلة الإرادة الحرة بشكلها الحالي. وهي تبدو أشبه بشِرْك فلسفي؛ شِرْك ليس له مخرج واضح. وتبدو المشكلة وكأنه لا يوجد لها حل يتواءم مع الحرية. ولكن لم يُنظر دومًا إلى الحرية على أنها تمثل هذا النوع من المشكلات غير القابلة للحل. إن مشكلة الإرادة الحرة بشكلها الحاليِّ هي مشكلة حديثة بشكل خاص، ولها تاريخها؛ فقد نشأت نتيجة لسلسلة من التغيرات المهمة في الطريقة التي يفكر بها الفلاسفة، بشأن الحرية، وبشأن الفعل، وبشأن مبادئ الأخلاق. وهذه التغيرات هي التي صعَّبت بشكل خاص فهم الحرية الإنسانية؛ وهذا ما جعل الليبرتارية، على نحو خاص، تبدو كعقيدة يتعذر تبريرها. وهذه التغييرات قد حدثت في الغالب خلال الأربعمائة عام الأخيرة، منذ العصور الوسطى. فالفلسفة في القرون الوسطى لم تنظر للحرية الإنسانية كمشكلة، مثلما يفعل الفلاسفة المحدثون.

صحيح أن نظريات القرون الوسطى الخاصة بالحرية الإنسانية كانت مختلفة تمامًا عن أي شيء يمكن أن نجده في الفلسفة الحديثة، ولكنني مع ذلك سوف أتحرى هذه النظريات في الفصول التالية؛ وذلك لأن العصور الوسطى في جَعْبتها الكثير لكي نتعلمه منها. بالطبع لا يمكننا أن نعود إلى الوراء ونفكر اليوم مثلما كان يفكر فلاسفة القرون الوسطى؛ فالكثير من التغيرات التي طرأت على طرق التفكير منذ ذلك الوقت لا يمكن العودة فيها. ولكن ليس كل التغيرات الفكرية تكون نحو الأفضل، وبعضها يمكن العودة فيها، بل ويجب أن يُجْرَى ذلك. ونحن بشكل خاص نحتاج لأن نفهم منهج القرون الوسطى وكيف أن الفلسفة الحديثة قد تركته خلفها، هذا إذا أردنا أن نفهم مشكلة الإرادة الحرة الحديثة، ونهرب من الشرك الفكري الذي تفرضه علينا.

في بقية هذا الكتاب، لن أكتفي فقط بالشرح المفصَّل لكيفية نشأة مشكلة الإرادة الحرة الحديثة، والسبب وراء أنها استعصت على الحل حتى الآن — مستعرضًا مواقف الليبرتاريين، والتوافقيين، والتشككيين بالتفصيل — بل سأحاول أيضًا أن أقنعك بأن فكرة الحرية ليست بالسوء مثلما يفترض كثيرون.

وبوجه خاص، لا يوجد لدينا سبب مقنع لكي نتخلى عن أفكارنا الليبرتارية البديهية. فهناك بالفعل تفسير متماسك لكيفية ممارسة الحرية اللاتوافقية في الفعل الإنساني. إذن فبالتأكيد لا يوجد أي شيء ملتبس أو متناقض داخليًّا في إيماننا الطبيعي بأننا نتمتع بهذه الحرية. وعلى الأقل فإنه من المحتمل جدًّا أن الطريقة التي نتصرف بها هي بالفعل تئول إلينا على النحو الذي نفترض في العادة.

وهذا طيب على أي حال. وسأقترح أيضًا أن للحرية أهميتها الأخلاقية، بالرغم من كل شيء. وفكرة أننا نتحكم في بعضٍ مما نفعله — أن اختيار الأفعال التي نؤديها يئول إلينا بالفعل — هي فكرة متأصلة في لُب تفكيرنا الأخلاقي. وإذا كانت فكرة الحرية غير متَّسقة منطقيًّا، فمعنى ذلك أن جزءًا مهمًّا من مبادئ الأخلاق لدينا يفتقد للاتِّساق المنطقي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤