الفصل السابع

التقرير الذاتي والإرادة

(١) علاج مشكلة الممارسة

سنخصص الفصلين الأخيرين من أجل الدفاع عن الليبرتارية؛ حيث سأحاول فيهما أن أرد على جميع الاعتراضات التي واجهت إمكانية وجود الحرية الليبرتارية. وسيتناول هذا الفصل مشكلة الممارسة.

تذكَّرْ أن مشكلة الممارسة تقوم في الأساس على نظرية هوبز عن الفعل. إن الفعل من منظور هوبز هو نوع من التأثير؛ تأثير الرغبات وكذلك تأثير أحداث سابقة خارجة عن نطاق تحكمنا. لذا فإن القوة السببية لهذه الرغبات من المفترض أن تشكِّل قدرتنا على الفعل. ولكن هذه القوة السببية للرغبات لتحديد ما نفعل هي نفسها ما يهدد مفهوم الحرية من منظور الليبرتاريين. فإذا كانت هذه القوة السببية قوية بالدرجة الكافية، فستختفي الحرية. إن ثمن الحرية، كما يفهمه الليبرتاريون، هو تقييد هذه القوة السببية؛ بمعنًى آخر، تقييد ما يجعل من الفعل فعلًا أصيلًا. إذن، فالاعتراض على الليبرتارية هو: كيف تكون الحرية، بمفهومها الصحيح، مهددة بطبيعة الفعل نفسها؟ إذا كنا نمارس الحرية من خلال ما نفعله، فلن تكون الحرية أمرًا يتعارض مع قدرتنا ذاتها على الفعل. لا شك في أن الليبرتاريين قد أساءوا فهم مضمون الحرية.

ذاك هو الاعتراض، ولكي نرد عليه علينا أن نستبدل نظرية هوبز عن الفعل. وهذا ما يهدف له هذا الفصل؛ الاستعاضة عن نظرية هوبز بنظرية جديدة لا تكون أكثر توافقًا مع الليبرتارية فحسْب، بل تعطي أيضًا وصفًا أفضل للفعل ذاته. ستكون هذه النظرية أكثر اتساقًا مع ما نعتقده بشكل طبيعي، عن كلٍّ من الفعل واتخاذ القرار الذي ينطوي الفعل على قدر كبير منه.

(٢) الفعل دون اختيارية

يعتبر هوبز الفعلَ نوعًا من التأثير؛ التأثير لرغبات سابقة. هل يوجد أي بديل، نظرية مختلفة عن نظرية هوبز لفهم ماهية الفعل، نظرية تسمح للفعل بأن يحدث دون سبب؟ ينبغي وجود نظرية كتلك، من وجهة نظري؛ وذلك لأننا بشكل طبيعي نؤمن بأن الفعل قد يحدث بشكل غير مسبب. ونحن نسمح بوجود هذه الاحتمالية في حالة قراراتنا الخاصة.

هَب أنه في ظهيرة أحد الأيام، بعد أن توقفتُ لأستريح وألتقط أنفاسي أثناء نزهة على الأقدام، قررتُ أن أَهبَّ واقفًا كي أستكمل مشيي، بدلًا من البقاء جالسًا بجوار ضفة النهر أو البدء في العودة إلى المنزل. هذا القرار باستكمال المشي هو قراري الخاص، قرار اتخذته متعمدًا تمامًا. إذن فهذا القرار من صنع يدي؛ ومن ثَمَّ فهو أحد أفعالي. ولكن ليس معنى أن القرار من فعلي أنه يجب أن يكون ناتجًا بأي صورة من الصور. وبشكل خاص، لا يجب أن يظهر القرار على أنه أمر مفروض عليَّ أو مدفوع من قِبَل التأثير السببي لأية رغبة سابقة.

فحتى لحظة اتخاذ ذلك القرار، لم يكن ثمة وجود لأية رغبة ظاهرة من جانبي بأي صورة لمواصلة مشيي. فقبل اتخاذ هذا القرار لم يكن ثمة أيُّ دليل أو تلميح عن أي هوًى أو نزعة من شأنها التسبب في دفعي لأن أتخذ قرارًا بهذا الخيار بعينه. وهذا الأمر، حسب ظني، حدث لا لسبب إلا لعدم الحاجة إلى وجود مثل هذه الرغبة السابقة. في المقابل، يمكننا أحيانًا أن نقرر القيام بالأفعال دون وجود أية رغبة أو غيرها من صور الدافعية دون تفكير، التي دفعتنا إلى اتخاذ هذا القرار.

إن القرارات التي نتخذها والطريقة التي نتخذ بها القرارات هي بلا شك من صنعنا. فالقرار ليس مجرد حدث يجري دون تفكير وينتابنا مثل المشاعر. إنه أمر نقتنع به اقتناعًا عميقًا في حياتنا اليومية، ولكن هذا الاقتناع لا يعتمد على أي اعتقاد بأننا مدفوعون إلى اتخاذ القرارات كما يحدث في حالة الرغبات. هبْ أني أقرر بالفعل أن أقوم بأمر ما، وأنني أتخذ هذا القرار دون وجود أية رغبة سابقة دفعتني إلى اتخاذ هذا القرار. على أي مستوًى، لا يوجد دليل مستقل على وجود أي رغبة من هذا القبيل. ألا يمكن أن يظل اتخاذي لهذا القرار بعينه هو من صنيعي المقصود والمتعمد؟ هل ينبغي أن يقودني الغياب الواضح لأي رغبة تدفعني لاتخاذ هذا القرار أو أي قرار إلى التشكك في كونِ هذا القرار من صنيعي؛ القرار المتَّخذ بشكل متعمد تمامًا؟ إن الشك المبني على ذاك الأساس يبدو عبثيًّا. ووجود مثل هذه الرغبة يبدو أمرًا غير ضروري بالمرة لاعتقادي أن قراراتي هي من صنيعي. إن قراراتي هي أفعالي الخاصة لا لسبب إلا لأنها قراراتي الخاصة، وليست بسبب أية مسببات مسبقة قد تكون لها.

إذا كان هذا الأمر صحيحًا، فالقرارات تصبح أفعالًا من خلال كونها نوعًا من الأحداث النفسية في حد ذاتها، سواء أكانت تحدث بسبب الرغبات أم لا. ولكن كيف يكون هذا الأمر ممكنًا؟

ما الذي ينطوي عليه الفعل؟ لقد زعمت أن الأمر الوحيد الذي يتضمنه الفعل، والذي يجعله فعلًا أصيلًا، هو الغائية. فأن تقوم بأشياء من أجل قصد ما، كوسيلة للوصول إلى غاية، هو أن تكون منخرطًا في فعل؛ وأي فعل أصيل يكون مفهومًا بوصفه أمرًا تم القيام به من أجل الوصول لغاية ما. فمن أين إذن تأتي الغائية؟

في حالة الأفعال التي يبدو من الواضح أنها اختيارية — الأفعال التي نقوم بها بكل وضوح على أساس رغبات أو قرارات سابقة للقيام بها — يبدو أن هذا التوجه نحو الأهداف يأتي من الخارج، من الدوافع المسبقة التي سببت الفعل. إنه يأتي من موضوعات هذه الدوافع المسبقة، يأتي مما يجعل هذه الدوافع دوافعَ من أجل الفعل. فعندما أعبر الطريق عن عمد وقصد، فمن الواضح أني أعبر الطريق بناءً على رغبة أو قرار مسبق بعبور الطريق. ومن الواضح بشكل مماثل أن هدفي أو غايتي من عبور الطريق يجب أن يأتي من السبب ذاته. يجب أن يأتي من غرض هذه الدافعية المسبقة ذاتها، مما أردت أو تعمدت أن أفعل بعبوري الطريق.

ولكن عندما يتعلق الأمر بالقرارات نفسها، فإنه لا يكون صحيحًا بالقدر نفسه من الوضوح. فعندما أقرر أن أستكمل سيري، فإن اتخاذي لهذا القرار يبدو بوضوح أنه فِعْلي المتعمد؛ ومن ثَمَّ، يبدو أنني قد اتخذتُ القرار من أجل الوصول إلى غاية واحدة على الأقل. يهدف القرار للوصول إلى هدف واحد بعينه. عندما أقرر أن استكمل سيري، فلديَّ على الأقل هذه الغاية للقيام بهذا الأمر؛ أن أستمر في السير نتيجة لهذا القرار. هذا هو السبب في اتخاذنا للقرارات بشأن أي الأفعال التي نؤديها. إننا نتخذ هذه القرارات من أجل الوصول إلى الكيفية التي سنتصرف بها، من خلال التأكد من أن ينتهي بنا الأمر إلى القيام بالفعل الذي قررنا القيام به. إن غايتي من تقريري الاستمرار في سيري هي التأكد من أن استمراري بالسير هو ما سينتهي بي الأمر إلى القيام به.

هذا الهدف الذي ينطوي عليه قراري لا يبدو أنه يأتي من أي سبب مسبق على الإطلاق. على سبيل المثال، لا يبدو أن القرار يأتي من أية رغبة مسبقة، بل يأتي من طبيعة القرار ذاتها. يأتي من غرض يكتنفه القرار كدافع خاص به، يأتي مما يميز القرار كقرار بتأدية فعل ما. إن الهدف من اتخاذ القرار هو أداء الفعل الاختياري الذي يُحفزنا القرار للقيام به، الهدف الذي من أجله اتخذتُ قرارًا بالقيام به. فتوجُّه القرار نحو الهدف — التوجه نحو الهدف الذي يعد جزءًا جوهريًّا من طبيعته كفعل — مُكَون أساسي له. وقد يكون هذا هو المفتاح لفهم ما يتضمنه الفعل، وما يجعل الحدث فعلًا أصيلًا محدَّد الهدف، لا مجرد حادثة وقعت دون تفكير.

(٣) نموذج الفعل العملي القائم على التفكير

بين أيدينا فهمٌ للفعل المتعمد مختلف تمامًا عن نموذج هوبز القائم على الاختيارية، وهو ما سأطلق عليه نظرية الفعل «العملية القائمة على التفكير».

رأينا من قبل أننا، بوصفنا بشرًا، نمتلك القدرة على العقلانية العملية. فنحن قادرون على التدبر أو التفكير في الأفعال التي نؤديها، ومن ثَمَّ نقرر كيف سنتصرف بناءً على هذا التفكير. ربما يمكن استيعاب الفعل من منطلق هذه القدرة، بدلًا من استيعابه من منطلق نظرية هوبز، بوصفه تأثيرًا اختياريًّا لدوافع مسبقة، يمكننا أن نستوعبه من منطلق عملي قائم على التفكير. من هذه الرؤية الجديدة؛ أن نؤدي فعلًا ما هو أن نمارس عقلانيتنا أو قدرتنا على التفكير، ولكن بطريقة عملية أو مشكِّلة للفعل.

من خلال هذه الرؤية، فإن قراري بأن أذهب للسير يعتبر فعلًا متعمدًا، ليس بسبب أنه أمر نقوم به اختياريًّا، كتأثير لرغبة مسبقة للقيام بالفعل — ليس هذا الأمر — ولكن بسبب أن مثل هذا القرار يحدث بوصفه ممارسة خاصة وعملية بشكل مميز لقدرتنا على العقلانية.

ما الذي قد يجعل اتخاذ قرار ما ممارسةً للعقلانية تتسم بالعملية أو بأنها مشكِّلة للفعل؟ تذكر ماهية القرارات. عند اتخاذ قرار بالذهاب للسير، فإني أمارس قدرتي على التفكير. أي إنني، في اتخاذي هذا القرار، يمكنني أن أستجيب بشكل جيد أو سيئ لأسباب التصرف كما قررت، ومن ثَمَّ قد تعتبر قراراتي معقولة أو سخيفة بناءً على هذا. والآن، عندما أتخذ قرارًا، أرى أن هذا النمط من ممارسة التفكير يكون عمليًّا أو مشكِّلًا للفعل؛ لأنه يمتلك ما دفعت بأنه سمة مميزة للفعل. هذه السمة المميزة للفعل هي التوجه نحو الهدف.

يمكننا أن نرى كيف تكون القرارات موجهة نحو الهدف عندما نفكر فيما يجعل القرار قرارًا منطقيًّا أو عقلانيًّا. إذا كان قراري بالذهاب للسير قرارًا عقلانيًّا، فإنه يجب أن يكون الذهاب للسير أمرًا من المرغوب القيام به حقيقةً. إن عقلانية اتخاذ القرار بفعل أمر ما تعتمد دائمًا على أن يكون الفعل المقرر فكرة طيبة؛ أمرًا مرغوبًا في القيام به. ولكن هذا الأمر ليس كافيًا. إن اتخاذ قرار الذهاب للسير يجب أن يكون أمرًا ممكنًا بالقدر الكافي لضمان أنني سأذهب بالفعل للسير. لهذا السبب لا يتخذ الأشخاص العقلانيون والمنطقيون قرارات بشأن أمور لا يمكن أن تؤثر فيها تلك القرارات. ولما كانت وظيفة القرارات هي أن تقود إلى تحقيقها، فإن عدم توافر فرصة ليفعل القرار هذا الأمر يُعتبر حُجَّة قاطعة ضد اتخاذ هذا القرار. قد أرغب وأتمنى، عقلانيًّا، تمضية شيخوختي في القيام بأمور مفيدة وشائقة، بدلًا من عدم فعل أي شيء. ولكن لا توجد أية فائدة من تقريري في الوقت الحالي قضاء شيخوختي في القيام بأمور مفيدة إذا لم يكن لهذا القرار أي تأثير؛ أي إذا لم تكن أية قرارات أتَّخِذُها في الوقت الحالي — بسبب الوقت الطويل الذي سيمرُّ — من شأنها أن تُحدث أي فارق لدوافعي في شيخوختي.

قارن بين القرارات ونوع مختلف من الدافعية، دافعية تجري دون تفكير في حقيقتها، لا نراها عادة كفعل مقرر ذاتيًّا. قارن بين القرارات وبين الرغبات أو الشهوات المحضة. إن الرغبات أو الشهوات هي بالتأكيد غير موجَّهة نحو الهدف بالصورة ذاتها، فهي لا تُشكَّل بهدف التأكد من أن الغرض من الرغبة قد تم الحصول عليه؛ أي إن ما نرغبه قد تحقق. ويمكننا أن نفسر سبب اختلاف الرغبات عن القرارات بهذه الطريقة. فلكي تكون الرغبة أو الإرادة عقلانية، يكفيها أن يكون غرضها — ما هو مرغوب أو مطلوب — مستحبًّا أو طيبًا في الحقيقة. وشريطة الوفاء بهذا الشرط، لا يهم أن تتسبب الرغبة في جعل الأمر المرغوب فيه يحدث، سواء أكانت هناك أية فرصة أمام الرغبة لتحقيق غرضها أم لا. ربما سيحدث ما نرغب في حدوثه — إذا ما حدث، بشكل منفصل تمامًا عن حقيقة أننا نرغب في حدوثه — ويمكننا أن نتأكد من حدوث ذلك. ربما كان ما أرغبه هو فوز إنجلترا بالكأس، عندما لا أكون واقعًا تحت تأثير أية أوهام بأن رغباتي المحدودة، بوصفي مشجعًا عن بُعد، سيكون لها أي تأثير على النتائج. هذا لن يهم. فإذا كان ما أريده أمرًا مرغوبًا بحق — إذا كان أمرًا محببًا للحدوث — يمكن أن يكون على هذا الأساس وحده منطقيًّا بالنسبة لي لأرغب في حدوثه. إن كان من وجهة نظري على الأقل أنه سيكون من المحبب للغاية أن تفوز إنجلترا بالكأس، فإن فوز إنجلترا بالكأس أمرٌ يمكنني أن أرغب بشدة على أساس معقول تمامًا في حدوثه.

في الواقع، قد لا يرغب الأشخاص العقلانيون تمامًا في حدوث أمر ما فحسْب، بل يرغبون أيضًا في حدوثه بشكل مستقل تمامًا عن رغباتهم. فكون ما يريدونه مرغوبًا قد يعتمد كليَّا على حدوثه لا على أنهم يرغبون في حدوثه.

قد أرغب بشدة في أن يقوم ابني الراشد أو ابنتي الراشدة بفعل الأمور الصحيحة، ولكن بشرط أن يقوموا بذلك بشكل مستقل وبمفردهم تمامًا، لأنهم قد حددوا لأنفسهم ما ينبغي عليهم أن يفعلوه، ودون أي تأثير مني بأي حال من الأحوال. هبْ أنني أتوقع تمامًا ومتأكد كليًّا، أيًّا كان ما سينتهي بهم الأمر إلى فعله، أنهم سيقومون بهذا الأمر باستقلالية؛ فسيقومون بهذا الأمر بشكل مستقل تمامًا عني. ولا ينتقص من عقلانيتي أن أظل راغبًا في أن يقوموا بالأمور الصحيحة. إن ما لا يمكنني فعله عقلانيًّا، تحت تلك الظروف، هو أن أقرر أنهم سيفعلون الأمور الصحيحة.

هذا لأن القرار عبارة عن فعلٍ ذي هدف. فالقرار ما هو إلا ممارسة للعقلانية الموجهة نحو الغرض منه، الفعل الاختياري المقرر، كهدف — الهدف المزمع أن تصل إليه أو تحققه هذه الممارسة للعقلانية — ممارسة للعقلانية التي تجعل القرار فعلًا متعمدًا موجهًا نحو الهدف، فعلًا تعتمد عقلانيته على احتمالية تحقيقه للوصول إلى الهدف. وفي هذه الحالة، عندما يتعلق الأمر بابني، أعلم أن ما أقرره لن يكون له تأثير يُذكر على ما سيفعله ابني، لذا فإن تقرير ما سيفعله ابني سيكون عديم القيمة.

إن القرار ما هو إلا دافعية ذات غرض ما. فالقرار هو قرار القيام بأمر ما. ولكن القرار لا يعتبر دافعية عادية؛ حيث إنه يختلف تمامًا عن الرغبة العادية. وهذا لأن علاقة القرار بالغرض منه هي ذاتها العلاقة بين الفعل والغرض منه. فالقرار مرتبط بموضوع اتخاذ القرار — بما سيُتخذ بشأنه القرار — مثل ارتباطه بالهدف الذي من المفترض أن يحققه القرار. إن ما يوضح هذا الأمر ليس حقيقة أن القرار يمتلك سببًا محددًا، ولكنه أمر مختلف تمامًا. فما يثبت هذا الأمر هو الطريقة التي تتحدد بها عقلانية القرار؛ لا على أساس مرغوبية الغرض منه فحسْب، ولكن أيضًا فرص القرار في المساعدة على تحقيق الغرض بالفعل.

والرغبة هي الأخرى دافعية موجهة نحو الهدف؛ فالرغبة دائمًا ما تكون رغبة في حدوث أمر ما. ولكن الرغبة ليست عملية بطبيعتها. فالرغبة موجهة نحو الغرض منها بوصفه أمرًا مرغوبًا فحسب، وليس باعتباره هدفًا يتحقق بموجبها. إذن فعقلانية الرغبة في حدوث حدث ما لا تعتمد على قدرة الرغبة على التسبب في حدوث هذا الحدث. يمكنني أن أرغب في أن تفوز إنجلترا بالكأس — وأن أرغب في هذا الأمر بعقلانية تامة — رغم ثقتي بأن ما أرغب فيه لن يؤثر في كون إنجلترا ستفوز فعليًّا بالكأس. إن ما لا يمكنني القيام به بصورة عقلانية بهذا الاعتقاد هو أن أقرر أن إنجلترا ستفوز بالكأس.

لقد وصلنا إلى نموذج للفعل المتعمد، كما وعدتكم، يكون نموذجًا عمليًّا وقائمًا على التفكير لا على الاختيارية. والنموذج العملي القائم على التفكير يميز الفعل المتعمد، لا على أنه التأثير الاختياري لرغبة سابقة، ولكن على أنه ممارسة عملية للتفكير. لذا سيكون أحد الأشكال التي يمكن أن يتخذها الفعل على نحو مثالي وهو شكل الدافعية المستجيبة للتفكير والمطبِّقة للتفكير؛ أي اتخاذ القرار بالتصرف. فقد يكون القرار غير اختياري، ولكنه مع ذلك قد يظل مرتبطًا بغرضه، وهو الفعل المقرر، بشكل عملي، بوصفه هدفًا، مثل أي فعل آخر، قد تم اتخاذ القرار بالوصول إليه.

لم نعُدْ نَصِفُ الفعل على أنه نوع من التأثير، ولكن نَصِفُه بدلًا من هذا كشكل من أشكال ممارسة التفكير. إن ما يميز الفعل ليس نوعًا خاصًّا من الأسباب، بل نوعًا خاصًّا من العقلانية.

تقول نظرية هوبز عن الفعل إن جميع الأفعال تحصل على أهدافها خارجيًّا، من محتويات الرغبات السابقة بوصفها مسببات دافعة دون تفكير. وقد أنكر هوبز أن تحصل الأفعال على توجهها نحو أهدافها داخليًّا، بمعزل عن المسببات السابقة للفعل. وتنكر رؤية هوبز أن الأفعال قد تحصل مطلقًا على توجهها نحو الأهداف من تلقاء نفسها. وما إن نستوعب الفاعلية من منطلق عملي مبني على التفكير، حتى تختلف الأمور كثيرًا. فالآن يمكن للأفعال المتعمدة أن تحدث كنوع من الدافعية غير الاختيارية، كقرارات بالتصرف تحصل على توجهها نحو أهدافها داخليًّا، لا من رغبات سابقة، بل من خلال أغراضها الخاصة. والآن تستطيع أفعال القرارات وعقد النيات هذه — الموجهة نحو الهدف بطبيعتها — أن تمرر هذا التوجه نحو الهدف إلى الأفعال الاختيارية التالية التي تقوم بدفعها وتفسيرها. إن قراري بأن أصل إلى بائع الصحف يحفزني كي أعبر الطريق. والغرض من القرار — الوصول إلى بائع الصحف — سيتشارك فيه بعد ذلك الفعل الاختياري لعبور الطريق الذي حفزه من البداية. وهذا يعني أنه في كل مرحلة يمكن أن يأتي الهدف مما أفعل، لا من رغبةٍ ما دون تفكير، فَرَضَها القَدَرُ عليَّ، بل من صنيعي. إن الهدف الذي أسعى إلى تحقيقه ينبع من قراري بالسعي إلى تحقيقه. فبإمكاني أن أكون المنشئ الحر لأهدافي وغاياتي.

والنتيجة هي فَصْلُ توجُّهِ الفعل نحو الهدف عن الدوافع التي تجري دون تفكير مثل الرغبة. فنحن لم نعد بحاجة إلى الارتكان إلى رغباتنا السابقة من أجل إيجاد أغراض أو أهداف لأفعالنا. فالأهداف التي تتوجه إليها أفعالنا يمكن أن تكون وسيلة بسيطة لما نقرره بأنفسنا، بحرية وفاعلية.

تنظر النظرية الأخلاقية التقليدية إلينا، كما رأينا، على أننا المنشئون الأحرار لأهدافنا وغاياتنا. وهي تعتبرنا المسئولين أخلاقيًّا عن أهدافنا وغاياتنا، لا عن النتائج التي نتمكن فقط من تحقيقها اختياريًّا. ويتخذ المنطق السليم وجهة النظر ذاتها؛ لوم الناس وتحميلهم المسئولية عن كونهم أنانيين، لمجرد كونهم يهتمون بصالحهم دون النظر إلى صالح الآخرين. إن نموذج الفعل العملي القائم على التفكير يُعلي من رصيد هذه الفكرة البديهية الأخلاقية؛ إذ يوضح كيف يمكن لأهدافنا وغاياتنا أن تكون أفعالنا، وأنها لا تُفرض علينا بواسطة رغباتنا.

رأينا كيف ثَبت مدى تأثير هوبز، كما رأينا أنه حتى إيمانويل كانط، الليبرتاري في الأساس في منظوره عن الحرية، تراجع إلى وجهة النظر القائلة إن الحرية والفعل الحر كما نفهمهما لا يمكننا أن نملك أية معرفة نظرية عنهما. ولكن لاحظْ أن كانط ما برح يفكر في الفعل وتوجهه نحو الهدف من وجهة النظر التقليدية السابقة على هوبز. فطبقًا لكانط، إننا أنفسَنا نتبنى أهدافنا بِحُرية. إنَّ أهدافنا لم تفرضْها علينا «الطبيعة»، بواسطة التأثير السببي للدافعية دون تفكير:

إن «الهدف» هو «غرض» الاختيار الحر، وتمثيل هذا الهدف يحوله إلى فعل (من خلاله يتم تحقيق الغرض). ولهذا فإن لكل فعل هدفه؛ وحيث إنه لا يمكن لأحد أن يكون لديه هدف دون أن يحول «بنفسه» الغرض من اختياره إلى هدف، فالحصول على هدف من الفعل أيًّا كان هو فعل من أفعال «الحرية» من قِبَل الشخص الفاعل، وليس من تأثير «الطبيعة».

إن موقف إيمانويل كانط فعليًّا كما يلي: إن الفعل الحر يتضمن التبني الحر المبدئي لهدف أو غاية؛ والحرية عند نقطة الاختيارية مشتقة من هذه الحرية السابقة في تبني الهدف؛ لأنه من خلال التبني الحر للأهداف — من خلال الاتخاذ الحر للقرارات — فإن «الغرض» (الفعل الاختياري المستهدف والمقرر) «يحدث».

إن المفهوم العملي القائم على التفكير يسمح لنا بأن ندافع عن مفهوم كانط عن الفعل الحر. ولكن الفعل الذي من خلاله نمارس حريتنا لا يحتاج بالضرورة لأن يكون مثلما افترض كانط أن يكون؛ أمرًا لا يمكن معرفته نظريًّا. فليس هناك ما هو مجهول أو غامض بشأن الفعل كما فهمناه من منطلق النموذج العملي القائم على التفكير. إننا نعتمد فقط على الادعاءات عن عقلانية الفعل التي ثبت أنها صحيحة، وملكية عامة لأي شخص يمتلك أي قدر من فهم كُنْهِ الفعل. إن الأفعال عبارة عن أحداث موجهة نحو الهدف. وما يجعلها أحداثًا موجهة نحو الهدف هو أن عقلانيتها — سواء أكانت تعتبر معقولة أم سخيفة — تعتمد على غرض ما بطريقة تجعل هذا الغرض هدفًا أصيلًا للفعل؛ أمرًا من المفترض أن يحققه الفعل. إن الحدث يكون فعلًا إذا ما كان له غرض، وإذا كانت عقلانيته تعتمد على أن يكون الهدف مرغوبًا، وعلى أن توجد إمكانية كافية للوصول إلى الغرض من خلال وقوع الحدث. والقرارات تتوافق مع هذا النموذج، لذا تعد القرارات أفعالًا.

fig6
شكل ٧-١: إيمانويل كانط، عام ١٧٩١، بريشة دوبلر.

إننا نمتلك الحل لمشكلة الممارسة؛ الحل الذي يحافظ على الحرية الليبرتارية بوصفها احتمالية متماسكة على الأقل. فبفضل النموذج العملي القائم على التفكير، لم نعُد نصِف الفعل وتوجهه نحو الهدف من منطلق أنهما يتعارضان مع الحرية الليبرتارية. ولم يعد الفعل يتشكل على هذا النحو بواسطة قوة سببية ما مهدِّدة للحرية تحدث دون تفكير وليست من صنيع الفاعل. إن الأهداف التي يتصرف الفاعل لتحقيقها لم تعد مفروضة عليه من الخارج دون تفكير منه، وبطريقة تهدد حريته بذلك. فهذه الأهداف يمكن أن تتحدد من خلال فعل الفاعل نفسه؛ الفعل الذي يمكن أن يكون غير مسبب بالكامل. إذن، إذا كانت الليبرتارية تفترض أن الحرية تعتمد على وجود حد للتأثير السببي للرغبات السابقة على ما يقوم به الفاعل، فهذا لا يفصل بأي حال من الأحوال الحرية عن الفعل المتعمد وما يشكله. لأن الدوافع التي منحت أفعالنا مفهوميتها وتوجهها نحو الهدف، والتي تشكل أفعالنا كأدوات منطقية للحرية، لم تعد رغباتنا، بل أصبحت قراراتنا، التي يمكن أن تحدث كأفعال حرة في حد ذاتها. وقد اشتُقت حريتنا على الفعل كليَّةً من حرية هذه الأفعال ذات الدافعية الذاتية.

يلقى المؤمنون بحرية الإرادة الليبرتارية انتقادات كثيرة بسبب عدم واقعيتهم بشكل كبير فيما يتعلق بمنظورهم عن الطبيعة البشرية. فهم عادة ما يُتهمون بأنهم يؤمنون بوهْم مُفْرط بفكرة الفاعل الحر بوصفه صانعًا ذاتيًّا بالكامل؛ بوصفه مسئولًا عن جميع الأمور التي يجب أن تعتمد عليها هذه الأفعال الحرة، لا عن أفعاله الحرة فقط، ولكن ليس هذا ما أدفع به هنا. إن أداءَنا أي فعل حر يجب، من أي منظور معقول، أن يعتمد على امتلاكنا المسبق للقدرة على الفعل الحر. وهذه القدرة يجب أن تُمنح، ولا يمكن أن تكون من صنع أيدينا أو تقع في نطاق مسئوليتنا. وليس الليبرتاريون بحاجة إلى فرضية مغايرة لذلك.

هذه القدرة على الفعل الحر تتضمن، بشكل خاص، فهمًا أو استيعابًا مفاهيميًّا لشتى الأهداف الممكنة، فهمًا مُنِحنا إياه دون تفكير وليس من صنيع الفاعل الحر. ولا تتحقق حرية الفاعل إلا عندما يحدث هذا الفهم للأهداف الممكنة. وهذه الحرية تتشكل، مباشرة على الأقل، من التحكم في أي من هذه الأهداف الممكنة يرمي إليه الفاعل أو يقصده؛ على سبيل المثال، التحكم في كونه سيقرر الذهاب للسير أم سيمكث مكانه بدلًا من ذلك.

إن الفعل كوسيلة لممارسة هذه الحرية — الفعل الذي يُشكل قرارًا بالقيام بأمر ما بدلًا من أمر آخر — هو الذي يمكن — ويجب — وصفه دون اللجوء إلى السببية الناجمة دون تفكير. إذا كانت الليبرتارية بصدد إثبات تماسكها المنطقي، يجب أن يكون الفاعل قادرًا على اتخاذ قرار بانتقاء خيار معين، بدلًا من تنحية هذا الخيار، دون الاضطرار إلى أن يكون سبب اتخاذ هذا القرار مبنيًّا على رغبة سابقة. وهوية الفعل — الهدف المحدد الموجه إليه؛ ما يجعل القرار قرارًا بالفعل — يجب ألَّا تُشتق من تأثير سببي يُقصِي الحرية من أجل التصرف بشكل مغاير، وذلك حسب رأي الليبرتاريين. فيجب أن تكون هوية الفعل من صنيع الفاعل نفسه بالكامل، أن تكون ناتجة بالكامل عن طريقة ممارسته قدرته على الفاعلية، وألا تتحدد بواسطة اندفاع دون تفكير يُفرض على الفاعل من الخارج. هذا بالتأكيد هو مفهوم الفعل البشري والاختيار الذي تتطلبه الحرية الليبرتارية، وهذا هو المفهوم الذي يوصله النموذج العملي القائم على التفكير.

يكتب الكثير من الفلاسفة المعاصرين كما لو كان الأمر بدهيًّا أن جميع الأفعال تحدث نتيجة لرغبات، نتيجة لدافعية مسبقة دون تفكير. ولكن هذا ليس بدهيًّا. فعندما أقرر بشكل تلقائي أن أستكمل سيري، عادة ما يكون الأساس الوحيد الذي أبني عليه الافتراض أننا مدفوعون للقيام بأمر ما هو أننا قد قررنا القيام به. لا حاجة إلى أي دليل تجريبي من أي نوع على ما إن كانت توجد داخلنا قبل القرار رغبة سابقة كانت تدفعنا وتحركنا للقيام بهذا الأمر. أي إنه لا بد أننا قد دُفعنا للفعل بواسطة رغبة ما كهذه. هذا كلام نابع من قناعة، وهي قناعة لا حاجة بنا إلى تبنيها.

إذا كان هذا الأمر صحيحًا، فإن القرارات قد تحولت إلى أفعال من خلال كونها الأحداث النفسية التي هي عليها في حد ذاتها، ليس بموجب أية أسباب سابقة من المحتمل أنها وُجدت. ولكن لاحظ أنني لم أنكر أن الأفعال، إضافة إلى القرارات، يمكنها، كحقيقة مشروطة، أن تتأثر بالرغبات الحادثة دون تفكير. فإذا ما قررت أن أستكمل سيري، من المحتمل جدًّا أنني قد دُفعت إلى القيام بهذا الأمر بواسطة، على سبيل المثال، تَوْقٍ أو رغبة ما مسبقة للاستمرار بالسير. لا أقصد من فكرتي إنكار هذه الاحتمالية، بل تهدف فكرتي إلى التنبيه إلى أن تقرير الاستمرار بالسير أمر لا يعتمد في هويته أو طبيعته على هذا التأثير الحادث دون تفكير. فاتخاذ القرار بالاستمرار بالسير أمر — من حيث الأساس على الأقل — يمكنني القيام به دون أن أتأثر أو أُدفع للقيام به بواسطة رغبة سابقة للتصرف على هذا النحو. وإذا أمكن أن تكون القرارات غير المسببة أفعالًا في حد ذاتها، فإنه لا يوجد في جوهر الأفعال الموجهة نحو أهداف ما يشكل تهديدًا للحرية الليبرتارية. وهكذا تم حل مشكلة الممارسة؛ المشكلة المتعلقة بكيفية ممارسة الحرية الليبرتارية في إطار يمكن إدراكه بوصفه فعلًا أصيلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤