الرجال الأربعة
في المساء كان «عاطف» يجلس وحيدًا يفكر … إنه لم يقم في هذه المغامرة بدورٍ مهمٍ … مجرد تعليق على مناقشة … أو نكتة سخيفة … ماذا يفعل؟ حتى مراقبة البواب لم تأت بنتيجة … وقال في نفسه: لو أن البواب له أي دورٍ في هذا اللغز، هل يقوم به نهارًا أمام السكان والمارة في الشارع؟ من المؤكد لا … إنه لن يفعل شيئًا إلا تحت ستار الظلام … وهكذا قرر «عاطف» … أن يقوم تلك الليلة بالمراقبة وحده بدون أن يخبر «نوسة» شقيقته … أو بقية الأصدقاء … وهكذا قام وحده، واتجه إلى شاطئ النيل حيث يقع المنزل الذي شهد حادث اختطاف السيدة … وتمشي قليلًا على «كورنيش» النيل حتى غربت الشمس وهبط الظلام … ثم اختار له مكانًا بعيدًا يستطيع ان يرى منه المنزل بدون ان يراه البواب … وجلس وقد ملأ جيبه بكمية من اللب تكفي فترةً طويلةً … وبجواره راديو «ترانزيستور» صغير ضبطه على محطة الموسيقى … كان من حيث يجلس يستطيع أن يرى البواب تحت ضوء باب العمارة، يجلس على دكته كالعادة ويتحرك أحيانًا تلبية لطلب … أو ليتحدث مع بعض المارة … ومضت فترةً طويلةً وقربت الساعة من العاشرة ليلًا بدون أن يحدث شيءٍ يستحق الذكر … وكان خيال «عاطف» يسرح … فيتصور السيارة التي رأتها «لوزة» … إنه يذكر رقم «٩٣٩٦» ملاكي جيزة … يتصورها تأتي وينزل منها أفراد العصابة، ثم يدخلون المنزل … ثم يُسرع بإبلاغ المغامرين والشاويش … ويقبضون على أفرادها … ويكسب هو هذه الجولة … لقد اشترك في مغامرات كثيرة … ووقع في مآزق مخيفة … ولكنه يشعر أنه منذ فترة لم يقم بعمل شيء على الإطلاق …
كان يسرح حتى يخيل إليه أنه يرى العصابة فعلًا … ولكن عندما يغمض عينيه ويفتحهما كان يدرك الحقيقة … لا عصابة ولا شيء … فما زال البواب يجلس مكانه … وما زال كل شيءٍ يسير كالمعتاد …
ومرت ساعة أخرى، وبدأ «عاطف» يحس بالملل والضيق … وقرر أن ينتظر نصف ساعة أخرى فقط ثم يعود إلى منزله … وفجأة شاهد «عاطف» شخصًا على البعد … بدا له أنه السمسار «إبراهيم» كان يقترب من البواب، ووقف «عاطف» وتقدم خطوات ليحقق مما يرى … إنه بلا شك السمسار «إبراهيم» فقد رآه من قبل بضع مراتٍ، فمكتبه قرب المحطة، وكثيرًا ما رآه يجلس أمامه …
ما الذي جمع بين السمسار والبواب؟
وجرت خواطر «عاطف» سريعًا … وكان السمسار قد وقف مع البواب يتحدثان معًا … ثم وضع السمسار يده في جيبه وأخرج محفظته، وأعطى البواب نقودًا وضعها في جيبه سريعًا … ثم استدار السمسار وأشار بيده، ونظر «عاطف» إلى حيث أشار، ووجد أربعة رجال يظهرون من الظلمة ثم يتجهون إلى حيث يقف السمسار والبواب … ثم دخلوا المنزل، ومعهم البواب على حين انصرف السمسار … وشاهد «عاطف» الضوء خلف «شيش» الشقة التي وقع بها الاختطاف …
لم يعد هناك إذن شكٍ أن شيئًا غير عادي يحدث … هكذا قال «عاطف» لنفسه … وبقى أن يتصرف التصرف الصحيح هل يبلغ بقية المغامرين أو يذهب إلى الشاويش «فرقع»؟ وبعد تفكيرٍ سريعٍ، استقر رأيه على أن يذهب إلى الشاويش … أولًا لأن منزله أقرب … وثانيًا لأنه يتعاون معهم في حل هذا اللغز وقد وعدوه بالمساعدة … ثالثًا لأن الشاويش هو ممثِّل القانون، وهو الذي يستطيع القبض والتحقيق مع الناس … وليس المغامرون الخمسة … ولو كان المفتش «فوزي» قريبًا لأتصل به.
وهكذا أسرع «عاطف» … يجري، وتجنب أن يمر أمام البواب، ثم اتجه رأسًا إلى منزل الشاويش «فرقع» … ولحسن الحظ كان المنزل ما زال مضاء فطرق «عاطف» الباب. ومرت لحظات ثم سمع صوت الشاويش وهو يصل مقتربًا من الباب … وقال الشاويش قبل أن يفتح: من الطارق؟
وصاح «عاطف»: أنا «عاطف»، افتح بسرعة … مسائل في غاية الأهمية …
وأسرع الشاويش يفتح الباب، ورآه «عاطف» بالجلباب والشبشب وهو يقول: هل وجدتم شيئًا؟
وروى له «عاطف» بأنفاس لاهثةٍ ما شاهده … كان الشاويش يُنصت باهتمام، ولم يكد «عاطف» ينتهي من كلامه حتى قال الشاويش: ادخل بسرعةٍ … سوف ألبس ملابسي في ثوانٍ قليلةٍ … لابد أن هؤلاء هم أفراد العصابة … أليس مظهرهم شريرًا؟
قال عاطف: الحقيقة أن مظهرهم لا يوحي بالاحترام … وقد خرجوا من الظلام وكأنهم أشباحٌ، ثم أسرعوا بدخول المنزل بشكلٍ غير عادي!
انتهى الشاويش من ارتداء ملابسه، وانطلق كالصاروخ وخلفه «عاطف» مندهشًا … فقد كان الشاويش برغم سنِّه … وبرغم ملابسه الثقيلة يجري بسرعة هائلة، حتى إن «عاطف» وجد صعوبة في اللحاق به …
لم يتوقفا عن الجري حتى وصلا قرب المنزل، فتوقف الشاويش في الظلام حتى اقترب منه «عاطف» ونظرا معًا إلى المنزل … لم يكن البوَّاب موجودًا … وكان كل شيء يبدو هادئًا … واستيقظت في نفس الشاويش شكوكه حيال الأصدقاء، فقال «لعاطف» مستريبًا: هل أنت متأكد من المعلومات التي قلتها؟
عاطف: طبعًا يا حضرة الشاويش!
الشاويش: أنت تعرف أنني لا أحب العبث … وأنتم كثيرًا ما عبثتم بي … وبخاصةٍ أنت!
عاطف: ليس هناك وقت للعتاب الآن يا حضرة الشاويش … وعلى كل حالٍ إذا لم تكن تصدِّقني … فعد أنت وسأذهب لإخطار المغامرين وسيتصرفون هم!
لم يكد الشاويش يسمع اسم المغامرين حتى اندفع وخلفه «عاطف» إلى المنزل … ودخل الشاويش، ولكنه لم يكد يصل إلى الباب حتى توقف … ماذا يفعل؟ هل يهاجمهم؟ إنهم أربعةٌ وهو واحد … هل يتحدث معهم فقط؟ ربما هربوا بعد ذلك!
قال «عاطف»: لماذا تقف هكذا؟
الشاويش: ماذا نفعل بالضبط؟
عاطف: سوف تستجوبهم طبعًا … وإنني أرجح أن العصابة لم تجد النقود عندما خطفت السيدة، وقد جاءوا لإعادة البحث، وقد تجد معهم النقود!
تحمَّس الشاويش، ودقَّ الباب … وسمعا صوت أقدام تتحرك، ثم ساد الصمت، وفتح الباب فتحة ضيقة … وبدا في النور وجه البوَّاب!
ولم يكد يرى الشاويش حتى بدت في عينيه نظرة خوفٍ واضحة … قال الشاويش: من الذي بالداخل؟
لم يرد البواب لحظات، فدفع الشاويش الباب بيده ودخل، وخلفه «عاطف» … وكانت الصالة فارغةً … ليس بها مخلوق سوى البواب …
كان هناك بقايا عشاء رفع على عجل … وأكواب فارغة … وعاد الشاويش يسأل وقد بدا الغضب يستولي عليه: أين هم؟
البواب: من هم؟
الشاويش: الرجال الأربعة الذين دخلوا هنا منذ ساعة تقريبًا!
البواب: أرجوك يا حضرة الشاويش … إني رجلٌ مسكينٌ!
بدأ الشاويش يتجه إلى الأبواب المغلقة. وسرعان ما فتح واحدًا منها ولم يجد أحدًا، ثم فتح الآخر، فوجد الرجال الأربعة يجلسون معًا في صمت … أشار إليهم الشاويش أن يخرجوا إلى الصالة فخرجوا بدون أدنى مقاومة … وكان «عاطف» يظن أنهم سوف ينقضون على الشاويش، ويدور صراع عنيف … ولكنهم جلسوا في هدوءٍ يتناقلون النظرات بين الشاويش والبواب …
قال الشاويش: من أنتم … ولماذا جئتم إلى هنا؟
ردَّ أحدهم: ولماذا السؤال؟
الشاويش: لا دخل لك أنت … أجب فقط!
الرجل: لكننا لم نرتكب خطأً نحاسب عليه!
وعاد البواب يتضرع قائلًا: أرجوك يا حضرة الشاويش!
صاح الشاويش بصوتٍ كالرعد: أجيبوا فورًا … أين الطفل؟ وأين السيدة؟ وأين النقود؟! إن إنكاركم لن يجدي شيئًا!
قال أحد الرجال الأربعة: طفل؟! نقود؟! سيدة؟! عن أي شيءٍ تتحدث يا حضرة الشاويش؟! وأي طفلٍ وأية سيدة وأي نقودٍ؟! إننا لا نعرف مثل هذه الأمور!
الشاويش: لا فائدة من الإنكار … إنكم العصابة التي خطفت الطفل والسيدة واستولت على نقود الحكومة!
هنا صاح البواب: إنك مخطئ يا حضرة الشاويش … فهؤلاء رجال لا دخل لهم بما حدث في هذه الشقة!
الشاويش: إذن ماذا يفعلون هنا؟ ولماذا جاءوا ليلًا … وما دخلهم … بالسمسار «إبراهيم»، وما علاقتك بهم؟!
قال البواب بذلةٍ: سوف أعترف لك بكل شيءٍ … إن صاحب العمارة مسافر، وقد وكَّل إلى مهمة تأجير هذه الشقة … ولكني … آسف جدًّا … أغراني الشيطان … وبدلًا من تأجيرها لمدة شهر … أو أكثر أخذت أؤجرها يومًا أو يومين عن طريق السمسار «إبراهيم»، وأقتسم النقود معه بدون علم صاحب العمارة … وهذه تاني مرة أؤجرها بهذه الطريقة، والمرة الأولى أجرتها للسيدة «كريمان»! لمدة أربع أيام … ولكني اتفقت مع السمسار أن يقول — إن سُئل — إنها أجرتها لمدة شهر حتى لا يفتضح أمرنا بسهولةٍ!
هدأت ثورة الشاويش فجأة كما شبَّت … وتحطمت آماله في القبض على العصابة واستعادة النقود وإنقاذ السيدة وطفلها … وأحس أن «عاطف» وضعه في مأزق سخيف … وأوحى إليه باستنتاجات خاطئة … فنظر خلفه إلى «عاطف» … ولكن «عاطف» قد تلاشى … لقد عرف على الفور أن البوَّاب يقول الصدق وأن هؤلاء الرجال لا علاقة لهم بالعصابة … وأدرك أيضًا أن الشاويش سيحول غضبه عليه … فآثر السلامة، وانتهز فرصة انشغال الشاويش بمناقشة البواب، وتسلَّل خارجًا …
أسرع «عاطف» في الطريق إلى منزله … ولم يتمالك نفسه من الضحك … فقد كان مأزقًا رهيبًا للشاويش … ولا شك أنه لن يصفح عنه مطلقًا … وسوف يأتي في الصباح ويثير خلافًا حادًّا … وقرر أن يمر على «تختخ» … فإذا وجد ضوء غرفته مضاء صعد إليه وروى له حدث …
ومر بمنزل صديقه السمين، فوجده ما زال ساهرًا … وسرعان ما كان يجلس أمامه يروي له ما حدث وهو يضحك … ويضحك … ويصف منظر الشاويش وهو يجري في الشارع والمارة يرقبونه في دهشةٍ … وأنهى «عاطف» حديثه قائلًا: وهكذا ضاعت مراقبتي للمنزل هباءً … ووضعت نفسي مع الشاويش في مأزقٍ حرجٍ …
وكان «تختخ» يبتسم في هدوء … ويستمع في جدٍّ واهتمامٍ إلى حديث «عاطف» المرح … وعندما انتهى تمامًا قال «تختخ»: إنك لم تضيع وقتك هباء، ولم تضع الشاويش في مأزق!
قال «عاطف»: لا أظنك ستقول لي أن هؤلاء الرجال الأربعة هم العصابة … أو من العصابة؟
تختخ: إني لم أقل هذا … ولكنك حصلت على معلومات هامة جدًّا!
عاطف: دعك من هذه الحركات … إنني لم أحصل على أية معلوماتٍ … إن ما حدث ليس إلا فصلًا مضحكًا!
قال «تختخ» في جدٍّ: عد الآن إلى منزلك فقد تأخرت … وغدًا صباحًا سوف نلتقي عندك كالمعتاد … وسوف يكون لنا حديث طويل!
وخرج «عاطف» وهو يهزُّ رأسه عجبًا!