فلما كانت الليلة ٢٧٥

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن شهرزاد قالت: وأين هذا مما أحدثكم به الليلة القابلة؟ فقالت لها أختها: يا أختي، أتممي لنا حديثك. فقالت: حبًّا وكرامة. ثم قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أمير المؤمنين المأمون لما سمع كلام أحمد بن خالد، نكس رأسه وأنشد قول الشاعر:

قُومِي هُمُ قَتَلُوا أُمَيْمَ أَخِي
فَإِذَا رَمَيْتُ يُصِيبُنِي سَهْمِي

وأنشد أيضًا قول الشاعر:

سَامِحْ أَخَاكَ إِذَا خَلَطْ
مِنْهُ الْإِصَابَةَ بِالْغَلَطْ
وَاحْفَظْ صَنِيعَكَ عِنْدَهُ
شَكَرَ الصَّنِيعَةَ أَمْ غَمَطْ
وَتَجَافَ عَنْ تَعْنِيفِهِ
إِنْ زَاغَ يَوْمًا أَوْ قَسَطْ
أَوَمَا تَرَى الْمَحْبُوبَ وَالْـ
ـمَكْرُوهَ لَذَّا فِي نَمَطْ
وَلَذَاذَةُ الْعُمْرِ الطَّوِيـ
ـلِ يَشُوبُهَا نَغْصُ الشَّمَطْ
وَالْوَرْدُ يَبْدُو فِي الْغُصُو
نِ مَعَ الْجَنِيِّ الْمُلْتَقَطْ
مَنْ ذَا الَّذِي مَا سَاءَ قَطُّ
وَمَنْ لَهُ الْحُسْنَى فَقَطْ
وَلَوِ اخْتَبَرْتَ بَنِي الزَّمَا
نِ وَجَدْتَ أَكْثَرَهُمْ سَقَطْ

فلما سمعت منه هذه الأبيات، كشفت المقنعة عن رأسي وكبَّرْتُ تكبيرة عظيمة، وقلت: عفا الله عنك يا أمير المؤمنين. فقال: لا بأس عليك يا عم. فقلت: ذنبي يا أمير المؤمنين أعظم من أن أتفوَّه معه بعُذْرٍ، وعفوك أعظم من أن أنطق معه بشكر. وأطربتُ بالنغمات وأنشدتُ هذه الأبيات:

إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الْمَكَارِمَ حَازَهَا
فِي صُلْبِ آدَمَ لِلْإِمَامِ السَّابِعِ
مُلِئَتْ قُلُوبُ النَّاسِ مِنْكَ مَهَابَةً
وَالْكُلُّ تَكْلَؤُهُمْ بِقَلْبٍ خَاشِعِ
مَا إِنْ عَصَيْتُكَ وَالْغِوَايَةُ غَامِرِي
أَسْبَابُهَا إِلَّا بِنِيَّةِ طَامِعِ
فَعَفَوْتُ عَنْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ مِثْلَهُ
عَفْوٌ وَلَمْ يَشْفَعْ إِلَيْكَ بِشَافِعِ
وَرَحَمْتَ أَفْرَاخًا كَأَفْرَاخِ الْقَطَا
وَحَنِينَ وَالِدَةٍ بِقَلْبٍ جَازِعِ

فقال المأمون: أقول اقتداءً بسيدنا يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام: لا تثريب عليكم اليومَ، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، وقد رددتُ عليك أموالَك وضياعَك يا عم، ولا بأس عليك. فابتهلْتُ له بصالح الدعوات، وأنشدت هذه الأبيات:

رَدَدْتَ مَالِي وَلَمْ تَبْخَلْ عَلَيَّ بِهِ
وَقَبْلَ رَدِّكَ مَالِي قَدْ حَقَنْتَ دَمِي
فَلَوْ بَذَلْتُ دَمِي أَبْغِي رِضَاكَ بِهِ
وَالْمَالَ حَتَّى أَسُلَّ النَّعْلَ مِنْ قَدَمِي
فَإِنْ جَحَدْتُكَ مَا أَوْلَيْتَ مِنْ نِعَمٍ
إِنِّي إِلَى اللُّؤْمِ أَوْلَى مِنْكَ بِالْكَرَمِ

فأكرمه المأمون وأنعم عليه وقال له: يا عم، إن أبا إسحاق والعباس أشارَا عليَّ بقتلك. فقلت: إن أبا إسحاق والعباس نصحاك يا أمير المؤمنين، ولكنك أتيتَ بما أنت أهله، ودفعت ما خفت بما رجوت. فقال المأمون: إني أمت حقدي بحياتك وقد عفوتُ عنك ولم أحملك منَّة الشافعين. ثم سجد المأمون طويلًا ورفع رأسه وقال: يا عمي، أتدري لأي شيء سجدتُ؟ قلت: لعلَّك سجدتَ شكرًا لله الذي ظفرك بعدوك. فقال: ما أردتُ ذلك، ولكن شكر الله الذي ألهمني العفو عنك. قال إبراهيم: فشرحت له صورة أمري وما جرى لي مع الحجام، والجندي وزوجته، والمولاة التي غمزت عليَّ، فأمر المأمون بإحضار المولاة، وهي في دارها تنتظر إرسال الجائزة إليها، فلما حضرت بين يدَيِ المأمون قال لها: ما حملك على ما فعلتِ مع سيدك؟ قالت: الرغبة في المال. فقال: هل لك ولد أو زوج؟ فقالت: لا. فأمر بضربها مائة سوط وأن تخلد في السجن، ثم أحضر الجندي وامرأته والحجام فحضروا جميعًا، فسأل الجندي عن السبب الذي حمله على ما فعل، فقال: الرغبة في المال. فقال المأمون: يجب أن تكون حجَّامًا، ووكل به مَن يضعه في دكان حجام ليعلِّمه الحجامة، وأكرم زوجة الجندي وأدخلها القصر وقال: هذه امرأة عاقلة تصلح للمهمات. ثم قال للحجَّام: قد ظهر من مروءتك ما يُوجِب المبالغة في إكرامك. وأمر أن يُسلَّم إليه دار الجندي، وأعطاه زيادةً على ذلك خمسة عشر ألف دينار.

حكاية عبد الله بن أبي قلابة وإرم ذات العماد

وحُكِي أن عبد الله بن أبي قلابة خرج في طلب إبل شردت له، فبينما هو سائر في صحارى أراضي اليمن وأرض سبأ، إذا به وقع على مدينة عظيمة وحولها حصن عظيم، وحول ذلك الحصن قصور شاهقة في الجو، فلما دنا منها ظنَّ أن بها سكانًا يسألهم عن إبله فقصدها، فلما وصل إليها وجدها قفراء ليس فيها أنيس. قال: فنزلت عن ناقتي … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤