فلما كانت الليلة ٢٨٩

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة الثاني هو وجلساءه ما زالوا يشربون حتى تمكن الشراب من رءوسهم، واستولى على عقولهم، فقال الخليفة هارون الرشيد لوزيره: يا جعفر، والله ما عندنا آنية مثل هذه الآنية، فيا ليت شعري ما شأن هذا الشاب؟ فبينما هما يتحدثان سرًّا إذ لاحت من الشاب التفاتة فوجد الوزير يتسارر مع الخليفة، فقال: إن المساررة عربدة. فقال الوزير: ما ثمَّ عربدة، إلا أن رفيقي هذا يقول إني سافرت إلى غالب البلاد، ونادمت أكابر الملوك وعاشرت الأجناد، فما رأيتُ أحسن من هذا النظام، ولا أبهج من هذه الليلة، غير أن أهل بغداد يقولون: الشراب بلا سماع ربما أورث الصداع. فلما سمع الخليفة الثاني ذلك الكلام تبسَّم وانشرح، وكان بيده قضيب فضرب به على مدورة، وإذا بباب فُتِح وخرج منه خادم يحمل كرسيًّا من العاج مصفَّحًا بالذهب الوهَّاج، وخلفه جارية بارعة في الحسن والجمال، والبهاء والكمال، فنصب الخادم الكرسي، وجلست عليه الجارية، وهي كالشمس الضاحية في السماء الصاحية، وبيدها عود عمل صناع الهنود، فوضعته في حجرها وانحنت عليه انحناء الوالدة على ولدها، وغنَّت عليه بعد أن طربت، وقلبت أربعًا وعشرين طريقة حتى أذهلت العقول، ثم عادت إلى طريقتها الأولى، وأطربت بالنغمات، وأنشدت هذه الأبيات:

لِسَانُ الْهَوَى فِي مُهْجَتِي لَكَ نَاطِقُ
يُخَبِّرُ عَنِّي أَنَّنِي لَكَ عَاشِقُ
وَلِي شَاهِدٌ مِنْ حَرِّ قَلْبٍ مُعَذَّبٍ
وَطَرْفٍ قَرِيحٍ وَالدُّمُوعُ سَوَابِقُ
وَمَا كُنْتُ أَدْرِي قَبْلَ حُبِّكَ مَا الْهَوَى
وَلَكِنْ قَضَاءُ اللهِ فِي الْخَلْقِ سَابِقُ

فلما سمع الخليفة الثاني هذا الشعر من الجارية صرخ صرخة عظيمة، وشقَّ البدلة التي كانت عليه إلى الذيل، وسبلت عليه الستارة، وأتوه ببدلة غيرها أحسن منها فلبسها، ثم جلس على عادته، فلما وصل إليه القدح ضرب بالقضيب على المدورة، وإذا بباب قد فُتِح وخرج منه خادم يحمل كرسيًّا من الذهب، وخلفه جارية أحسن من الجارية الأولى، فجلست على ذلك الكرسي وبيدها عود يكمد قلب الحسود، فغنَّتْ عليه بهذين البيتين:

كَيْفَ اصْطِبَارِي وَنَارُ الشَّوْقِ فِي كَبِدِي
وَالدَّمْعُ مِنْ مُقْلَتِي طُوفَانُ لِلْأَبَدِ
وَاللهِ مَا طَابَ لِي عَيْشٌ أُسَرُّ بِهِ
فَكَيْفَ يَفْرَحُ قَلْبٌ حَشْوُهُ كَمَدِي

فلما سمع الشاب هذا الشعر صرخ صرخة عظيمة، وشق ما عليه من الثياب إلى الذيل، وانسبلت عليه الستارة، وأتوه ببدلةٍ أخرى فلبسها، واستوى جالسًا ورجع إلى حالته الأولى، وانبسط في الكلام، فلما وصل القدح إليه ضرب على المدورة، فخرج خادم ووراءه جارية أحسن من التي قبلها، ومعه كرسي، فجلست الجارية على الكرسي وبيدها عود، فغنت عليه بهذه الأبيات:

اقْصُرُوا هَجْرَكُمْ وَقِلُّوا جَفَاكُمْ
فَفُؤَادِي وَحَقِّكُمْ مَا سَلَاكُمْ
وَارْحَمُوا مُدْنَفًا كَئِيبًا حَزِينًا
ذَا غَرَامٍ مُتَيَّمًا فِي هَوَاكُمْ
قَدْ بَرَتْهُ السِّقَامُ مِنْ فَرْطِ وَجْدٍ
فَتَمَنَّى مِنَ الْإِلَهِ رِضَاكُمْ
يَا بُدُورًا مَحَلُّهُمْ فِي فُؤَادِي
كَيْفَ أَخْتَارُ فِي الْأَنَامِ سِوَاكُمْ

فلما سمع الشاب هذه الأبيات صرخ صرخة عظيمة، وشق ما كان عليه من الثياب، فأرخوا عليه الستارة، وأتوه بثياب غيرها، ثم عاد إلى حالته مع ندمائه، ودارت الأقداح، فلما وصل القدح إليه ضرب على المدورة، فانفتح الباب وخرج منه غلام معه كرسي، وخلفه جارية فنصب لها الكرسي وجلست عليه، وأخذت العود وأصلحته، وغنَّت عليه بهذه الأبيات:

حَتَّى مَتَى يَمْضِي التَّهَاجُرُ وَالْقِلَى
وَيَعُودُ لِي مَا قَدْ مَضَى لِي أَوَّلَا
مِنْ أَمْسِ كُنَّا وَالدِّيَارُ تَلُمُّنَا
فِي أُنْسِنَا وَنَرَى الْحَوَاسِدَ غُفَّلَا
غَدَرَ الزَّمَانُ بِنَا وَفَرَّقَ شَمْلَنَا
مِنْ بَعْدِ مَا تَرَكَ الْمَنَازِلَ كَالْخَلَا
أَتَرُومُ مِنِّي يَا عَذَولِي سَلْوَةً
وَأَرَى فُؤَادِي لَا يُطِيعُ الْعُذَّلَا
فَدَعِ الْمَلَامَ وَخَلِّنِي بِصَبَابَتِي
فَالْقَلْبُ مِنْ أُنْسِ الْأَحِبَّةِ مَا خَلَا
يَا سَادَةً نَقَضُوا الْعُهُودَ وَبَدَّلُوا
لَا تَحْسَبُوا قَلْبِي الْمُتَيَّمَ قَدْ سَلَا

فلما سمع الخليفة الثاني إنشاد الجارية صرخ صرخة عظيمة، وشق ما عليه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤