فلما كانت الليلة ١٣١

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك شهرمان قال للوزير وعزيز: سلما على الملك وأخبراه بما سمعتماه من أن ابنتي لا تحبُّ الزواجَ. فرجع الوزير ومَن معه من غير فائدة، وما زالوا مسافرين إلى أن دخلوا على الملك وأخبروه بما جرى؛ فعند ذلك أمر النقباء أن ينبِّهوا العسكرَ إلى السفر من أجل الحرب والجهاد، فقال له الوزير: لا تفعل ذلك فإن الملك لا ذنبَ له، وإنما الامتناع من ابنته، فإنها حين علمَتْ بذلك أرسلت تقول: إن غصبني أبي على الزواج أقتل من أتزوَّج به وأقتل نفسي بعده. فلما سمع الملك كلامَ الوزير، خاف على ولده تاج الملوك وقال: إن حاربتَ أباها وظفرتَ بابنته، قتلَتْ نفسها. ثم إن الملك أعلم ابنه تاج الملوك بحقيقة الأمر، فلما علم بذلك قال لأبيه: يا والدي، أنا لا أطيق الصبرَ عنها، فأنا أروح إليها وأتسبَّب في اتصالي بها ولو أموت، ولا أفعل غير هذا. فقال له أبوه: وكيف تروح إليها؟ فقال: أروح في صفة تاجر. فقال الملك: إن كان ولا بد، فخُذْ معك الوزيرَ وعزيزًا. ثم إنه أخرج له شيئًا من خزائنه وهيَّأَ له متجرًا بمائة ألف دينار، واتفقَا معه على ذلك، فلما جاء الليل ذهب تاج الملوك وعزيز إلى منزل عزيز، وباتَا هناك تلك الليلة، وصار تاج الملوك مسلوبَ الفؤاد، ولم يطِبْ له أكلٌ ولا رقادٌ، بل هجمت عليه الأفكار، وغرق منها في بحار، وهزَّه الشوق إلى محبوبته، فأفاض دمع العين، وأنشد هذين البيتين:

تُرَى هَلْ لَنَا بَعْدَ الْبِعَادِ وُصُولُ
فَأَشْكُو إِلَيْكُمْ صَبْوَتِي وَأَقُولُ
تَذَكَّرْتُكُمْ وَاللَّيْلُ نَاءٍ صَبَاحُهُ
وَأَسْهَرْتُمُونِي وَالْأَنَامُ غُفُولُ

لما فرغ من شعره بكى بكاءً شديدًا، وبكى معه عزيز وتذكَّرَ ابنةَ عمه، وما زالَا يبكيان إلى أن أصبح الصباح، ثم قام تاج الملوك ودخل على والدته وهو لابس أهبة السفر، فسألَتْه عن حاله، فأخبرها بحقيقة الأمر، فأعطته خمسين ألف دينار ثم ودَّعَتْه وخرج من عندها ودعت له بالسلامة والاجتماع بالأحباب، ثم دخل والده واستأذنه أن يرحل، فأذن له وأعطاه خمسين ألف دينار، وأمر أن تُضرَب له خيمة في خارج المدينة، فضُرِبت له خيمة عظيمة وأقاموا فيها يومين ثم سافروا، واستأنس تاج الملوك بعزيز وقال له: يا أخي، أنا ما بقيت أطيق أن أفارقك. فقال عزيز: وأنا الآخَر كذلك، وأحبُّ أن أموت تحت رجلَيْك، ولكن يا أخي قلبي اشتغل بوالدتي. فقال له تاج الملوك: لما نبلغ المرامَ لا يكون إلا خيرًا. وكان الوزير قد وصَّى تاج الملوك بالاصطبار، وصار عزيز ينشد له الأشعار، ويحدِّثه بالتواريخ والأخبار. ولم يزالوا سائرين بالليل والنهار مدةَ شهرين، فطالت الطريق على تاج الملوك، واشتدَّ عليه الغرامُ وزاد به الوَجْد والهيام، فلما قربوا من المدينة، فرح تاج الملوك غاية الفرح، وزال عنه الهم والترح، ثم دخلوها وهم في هيئة التجار، وابن الملك في زي تاجر، ثم أتوا إلى مكان يُعرَف بمنزل التجار وهو خان عظيم، فقال تاج الملوك لعزيز: أهذا منزل التجار؟ قال عزيز: لكنه غير الخان الذي كنتُ نزلتُ فيه أنا والقافلة التي كنتُ معها، إلا أنه أحسن منه. فأناخوا فيه مطيَّهم، وحطوا رحالهم، وخزنوا أمتعتهم في المخازن وأقاموا للراحة أربعة أيام.

ثم إن الوزير أشار عليهم أن يكتروا لهم دارًا كبيرة فأجابوه، واكتروا لهم دارًا متسعة معدَّة للأفراح، فنزلوا فيها، وأقام الوزير وعزيز يدبِّران حيلةً من أجل تاج الملوك، وصار تاج الملوك متحيِّر الأيدي ماذا يفعل؟ ولم يجد له حيلة غير أنه يفتح له دكانًا للتجارة في سوق البز. ثم إن الوزير أقبل على تاج الملوك وعزيز وقال لهما: اعلمَا أنه إن كان مقامنا على هذه الحالة، فإننا لا نبلغ مرادنا ولا يحصل مطلوبنا، وقد خطر ببالي شيء ولعله فيه الصلاح إن شاء الله. فقال له تاج الملوك وعزيز: افعل ما بَدَا لك، فإن المشايخ فيهم البركة، لا سيما وأنت قد مارست الأمور، فأَشِرْ علينا بما خطر ببالك. فقال لتاج الملوك: الرأي أننا نكتري لك دكانًا في سوق البز وتقعد فيها للبيع والشراء؛ لأن كل واحد من الخاص والعام يحتاج إلى البز، وإذا قعدتَ في تلك الدكان ينصلح أمرك إن شاء الله تعالى، خصوصًا وصورتك جميلة، ولكن اجعل عزيزًا أمينًا عندك وأجلِسْه في داخل الدكان ليناولك الأقمشة. فلما سمع تاج الملوك ذلك الكلام قال: إن هذا رأي سديد. فعند ذلك أخرج تاج الملوك بدلةً تجاريةً ولبسها، وقام يمشي وغلمانه خلفه، وأعطى لأحدهم ألفَ دينار معه ليقضي بها مصالح الدكان، وما زالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى سوق البز، فلما رأت التجار تاج الملوك وشاهدوا حُسْنَه وجماله، تحيَّرَتْ عقولهم وصاروا يقولون: هل رضوان فتح أبواب الجنان وسها عنها، فخرج هذا الشاب البديع الحُسْن؟ وبعضهم يقول: لعل هذا من الملائكة. فلما دخلوا عند التجار سألوا عن دكان شيخ السوق فدلوهم عليه، فتوجَّهوا إليه.

فلما قربوا منه قام إليهم هو ومَن عنده من التجار وعظَّموهم، خصوصًا الوزير الأجل، فإنهم رأوه رجلًا كبيرًا مهابًا، ومعه تاج الملوك وعزيز، فقال التجار لبعضهم: لا شك أن هذا الشيخ والد هذين الغلامين. فقال لهم الوزير: مَن شيخ السوق فيكم؟ فقالوا: ها هو. فنظر إليه الوزير وتأمَّلَه، فرآه رجلًا كبيرًا صاحب هيئة ووقار وخدم وغلمان، ثم إن شيخ السوق حيَّاهم تحيةَ الأحباب، وبالَغَ في إكرامهم وأجلَسَهم جنبه وقال لهم: هل لكم حاجة نفوز بقضائها؟ فقال الوزير: نعم، إني رجل كبير طاعن في السن، ومعي هذان الغلامان، وسافرتُ بهما سائرَ الأقاليم والبلاد، وما دخلتُ بلدةً إلا أقمتُ بها سنةً كاملة، حتى يتفرَّجَا عليها ويعرفَا أهلها، وإني قد أتيتُ بلدكم هذه واخترتُ المقام فيها، وأشتهي منك دكانًا تكون من أحسن المواضع حتى أجلسهما فيها، ليتاجرَا ويتفرجَا على هذه المدينة ويتخلَّقَا بأخلاق أهلها، ويتعلَّمَا البيعَ والشراء والأخذ والعطاء. فقال شيخ السوق: لا بأس بذلك. ثم نظر إلى الولدين وفرح بهما وأحَبَّهما حبًّا زائدًا، وكان شيخ السوق مغرَمًا بفاتك اللحظات، ويغلِّب حبَّ البنين على البنات، ويميل إلى الحموضة. فقال في نفسه: سبحان خالقهما ومصوِّرهما من ماء مهين. ثم قام واقفًا في خدمتهما كالغلام بين أيديهما، وبعد ذلك سعى وهيَّأ لهما الدكان، وكانت في وسط السوق، ولم يكن أكبر منها ولا أوجه منها عندهم؛ لأنها كانت متَّسِعةً مزخرفةً فيها رفوفٌ من عاج وأبنوس؛ ثم سلَّمَ المفاتيح للوزير وهو في صفة تاجر وقال: جعلها الله مباركةً على ولَدَيْكَ. فلما أخذ الوزير مفاتيح الدكان، توجَّهَ إليها هو والغلامان ووضعوا فيها أمتعتهم، وأمروا غلمانهم أن ينقلوا إليها جميعَ ما عندهم من البضائع والقماش. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤