فلما كانت الليلة ١٥٠

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الذئب لما سمع كلام الثعلب عض على كفِّه ندمًا، ثم ليَّن له الكلام، ولم يجد بدًّا من ذلك، وقال له بلسان خافت: إنكم معاشر الثعالب من أحلى القوم لسانًا، وألطفها مزاحًا، وهذا منك مزاح، ولكن ما كل وقت يحسُن اللعب والمزاح. فقال الثعلب: أيها الجاهل، إن للمزاح حدًّا لا يجاوزه صاحبه، فلا تحسب أن الله يمكِّنك مني بعد أن أنقذني من يديك. فقال له الذئب: إنك لجدير أن ترغب في خلاصي لما بيننا من سابق المؤاخاة والصحبة، وإن خلَّصتني فلا بد أن أحسن مكافأتك. فقال الثعلب: قد قالت الحكماء: لا تؤاخِ الجاهل الفاجر فإنه يشينك ولا يزينك، ولا تؤاخِ الكذاب فإنه إن بدا منك خير أخفاه، وإن بدا منك شر أفشاه. وقالت الحكماء: لكل شيء حيلة إلا الموت، وقد يُصلَح كل شيء إلا فساد الجوهر، وقد يُدفَع كل شيء إلا القدر. وأما من جهة المكافأة التي زعمت أني أستحقها منك، فإني شبهتك في مكافأتك بالحية الهاربة من الحاوي؛ إذ رآها رجل وهي مرعوبة فقال لها: ما شأنك أيتها الحية؟ قالت: هربت من الحاوي فإنه يطلبني، ولئن أنجيتني منه وأخفيتني عندك لَأحسنن مكافأتك، وأصنع معك كل جميل. فأخذها اغتنامًا للأجر، وطمعًا في المكافأة، وأدخلها في جيبه. فلما فات الحاوي ومضى إلى حال سبيله وزال عنها ما كانت تخافه، قال لها الرجل: أين المكافأة؟ فقد أنجيتك مما تخافين وتحذرين. فقالت له الحية: أخبرني في أي عضو أنهشك؟ وقد علمت أننا لا نتجاوز هذه المكافأة. ثم نهشته نهشة مات منها، وأنت أيها الأحمق شبهتك بتلك الحية مع ذلك الرجل، أما سمعت قول الشاعر:

لَا تَأْمَنَنَّ فَتًى أَسْكَنْتَ مُهْجَتَهُ
غَيْظًا وَتَحْسَبُ أَنَّ الْغَيْظَ قَدْ زَالَا
إِنَّ الْأَفَاعِيَ وَإِنْ لَانَتْ مَلَامِسُهَا
تُبْدِي الْعِطَافَ وَتُخْفِي السُّمَّ قَتَّالَا

فقال له الذئب: أيها الفصيح صاحب الوجه المليح، لا تجهل حالي وخوف الناس مني، وقد علمت أني أهجم على الحصون، وأقلع الكروم، فافعل ما أمرتك به، وقم بي قيام العبد بسيده. فقال له الثعلب: أيها الأحمق الجاهل المحاول بالباطل، إني تعجبت من حماقتك وصلابة وجهك فيما تأمرني به من خدمتك، والقيام بين يديك حتى كأنني عبدك، ولكن سوف ترى ما يحل بك من شرخ رأسك بالحجارة، وكسر أنيابك الغدَّارة. ثم وقف الثعلب على تلٍّ يشرف على الكرم، ولم يزل يصيح لأهل الكرم حتى بصروا به، وأقبلوا عليه مسرعين، فثبت لهم الثعلب حتى قربوا منه ومن الحفرة التي فيها الذئب، ثم ولى الثعلب هاربًا، فنظر أصحاب الكرم في الحفرة، فلما رأوا فيها الذئب وقعوا عليه بالحجارة الثقال، ولم يزالوا يضربونه بالحجارة والخشب، ويطعنونه بأسنَّة الرماح حتى قتلوه وانصرفوا، فرجع الثعلب إلى تلك الحفرة ووقف على مقتل الذئب فرآه ميتًا، فحرَّك رأسه من شدة الفرحات، وأنشد هذه الأبيات:

أَوْدَى الزَّمَانُ بِنَفْسِ الذِّئْبِ فَاخْتُطِفَتْ
بُعْدًا وَسُحْقًا لَهَا مِنْ مُهْجَةٍ تَلِفَتْ
فَكَمْ سَعَيْتَ أَبَا سَرْحَانَ فِي تَلَفِي
فَالْيَوْمَ حَلَّتْ بِكَ الْآفَاتُ وَالْتَهَبَتْ
وَقَعْتَ فِي حُفْرَةٍ مَا حَلَّهَا أَحَدٌ
إِلَّا وَفِيهَا رِياحُ الْمَوْتِ قَدْ عَصَفَتْ

ثم إن الثعلب أقام بالكرم وحده مطمئنًّا لا يخاف ضررًا. وهذا ما كان من حديث الذئب والثعلب.

حكاية الفأرة وبنت عرس

ومما يُحكَى أن فأرة وبنت عرس كانتا تنزلان منزلًا لبعض الناس، وكان ذلك الرجل فقيرًا، وقد مرض بعض أصدقائه فوصف له الطبيب السمسم المقشور، فأعطى قدرًا من السمسم لذلك الرجل الفقير ليقشِّره له، فأعطاه ذلك الرجل لزوجته وأمرها بإصلاحه، فقشرته تلك المرأة له وأصلحته، فلما عاينت بنت عرس السمسم أتت إليه، ولم تزل تنقل من ذلك السمسم إلى جحرها طول يومها حتى نقلت أكثره، وجاءت المرأة فرأت نقصان السمسم واضحًا، فجلست ترصد مَن يأتي إليه حتى تعلم سبب نقصانه، فنزلت بنت عرس لتنقل منه على عادتها، فرأت المرأة جالسة فعلمت أنها ترصدها، فقالت في نفسها: إن لهذا الفعل عواقب ذميمة، وإني أخشى من تلك المرأة أن تكون لي بالمرصاد، ومَن لم ينظر في العواقب ما الدهر له بصاحب، ولا بد لي أن أعمل عملًا حسنًا أظهر به براءتي من جميع ما عملته من القبيح. فجعلت تنقل من ذلك السمسم الذي في جحرها، فرأتها المرأة وهي تفعل ذلك، فقالت في نفسها: ما هذه سبب نقصه؛ لأنها تأتي به من جحر الذي اختلسه وتضعه على بعضه، وقد أحسنت إلينا في رد السمسم، وما جزاء من أحسن إلا أن يُحسَن إليه، وليست هذه آفة في السمسم، ولكن لا أزال أرصده حتى يقع وأعلم مَن هو. فعلمت بنت عرس ما خطر ببال تلك المرأة، فانطلقت إلى الفأرة فقالت لها: يا أختي، إنه لا خير فيمَن لا يرعى المجاورة، ولا يثبت على المودة. فقالت الفأرة: نعم يا خليلتي، وأنعِم بك وبجوارك! فما سبب هذا الكلام؟ قالت بنت عرس: إن رب البيت أتى بسمسم فأكل منه هو وعياله وشبعوا، واستغنوا عنه وتركوه، وقد أخذ منه كلُّ ذي روح، فلو أخذتِ أنتِ الأخرى كنت أحق به ممَّن يأخذ منه. فأعجب الفأرة ذلك، ورقصت ولعبت ذَنَبها، وغرَّها الطمع في السمسم، فقامت من وقتها وخرجت من بيتها، فرأت السمسم مقشورًا يلمع من البياض، والمرأة جالسة ترصده، فلم تفكر الفأرة في عاقبة الأمر، وكانت المرأة قد استعدت بهراوة، فلم تتمالك الفأرة نفسها حتى دخلت في السمسم، وعاشت فيه وصارت تأكل منه، فضربتها المرأة بتلك الهراوة فشجَّت رأسها، وكان الطمع سبب هلاكها وغفلتها عن عواقب الأمور.

فقال الملك: يا شهرزاد، والله إن هذه حكاية مليحة، فهل عندك حديث في حسن الصداقة والمحافظة عليها عند الشدة في التخلُّص من الهلكة؟ قالت: نعم.

حكاية الغراب والسنَّور

بلغني أن غرابًا وسنَّورًا كانا متآخيَيْن، فبينما هما تحت الشجرة على تلك الحالة؛ إذ رأيا نمرًا مقبلًا على تلك الشجرة التي كانا تحتها، ولم يعلما به حتى صار قريبًا من الشجرة، فطار الغراب إلى أعلى الشجرة، وبقي السنَّور متحيرًا، فقال للغراب: يا خليلي، هل عندك حيلة في خلاصي كما هو الرجاء فيك؟ فقال له الغراب: إنما يُلتمَس الإخوة عند الحاجة إليهم في الحيلة عند نزول المكروه بهم، وما أحسن قول الشاعر:

إِنَّ صَدِيقَ الْحَقِّ مَنْ كَانَ مَعَكْ
وَمَنْ يَضُرُّ نَفْسَهُ لِيَنْفَعَكْ
وَمَنْ إِذَا رَيْبُ الزَّمَانِ صَدَعَكْ
شَتَّتَ فِيكَ نَفْسَهُ لِيَجْمَعَكْ

وكان قريبًا من الشجرة رعاة معهم كلاب، فذهب الغراب حتى ضرب بجناحه وجه الأرض، ونعق وصاح، ثم تقدَّمَ إليهم وضرب بجناحه وجه بعض الكلاب وارتفع قليلًا، وتبعته الكلاب وسارت في إثره، ورفع الراعي رأسه فرأى طائرًا يطير قريبًا من الأرض ويقع فتبعه، وصار الغراب لا يطير إلا بقدر التخلص من الكلاب، ويطمعها في أن تفترسه، ثم ارتفع قليلًا، وتبعته الكلاب حتى انتهى إلى الشجرة التي تحتها النمر، فلما رأت الكلاب النمر وثبت عليه فولَّى هاربًا، وكان يظن أنه يأكل السنَّور، فنجا منه ذلك السنور بحيلة الغراب صاحبه، وقد أخبرتك بهذا أيها الملك لتعلم أن مودة إخوان الصفاء تنجِّي من الهلكات.

حكاية الثعلب والغراب

وحُكِي أن ثعلبًا سكن في بيت في الجبل، وكان كلما ولد ولدًا واشتدَّ ولده أكله من الجوع، وإن لم يأكل ولده أضرَّ به الجوع، وكان يأوي إلى ذروة ذلك الجبل غراب، فقال الثعلب في نفسه: أريد أن أعقد بيني وبين هذا الغراب مودة، وأجعله لي مؤنسًا على الوحدة معاونًا على طلب الرزق؛ لأنه يقدر من ذلك على ما لا أقدر عليه. فدنا الثعلب من الغراب حتى صار قريبًا منه بحيث يسمع كلامه، فسلَّم عليه ثم قال له: يا جاري، إن للجار المسلم على الجار المسلم حقَّين؛ حق الجيرة، وحق الإسلام، واعلم بأنك جاري ولك عليَّ حقٌّ يجب قضاؤه، خصوصًا مع طول المجاورة، على أن في صدري وديعة من محبتك دعتني إلى ملاطفتك، وبعثتني على التماس أخوَّتك، فما عندك من الجواب؟ فقال الغراب للثعلب: اعلم أن خير القول أصدقه، وربما تتحدث بلسانك ما ليس في قلبك، وأخشى أن تكون أخوَّتك باللسان ظاهرًا، وعداوتك في القلب؛ لأنك آكل وأنا مأكول، فوجب لنا التباين في المحبة، ولا يمكن مواصلتنا، فما الذي دعاك إلى طلب ما لا ندرك، وإرادة ما لا يكون، وأنت من جنس الوحوش وأنا من جنس الطير، وهذه الأخوة لا تصح. فقال له الثعلب: إن من علم موضع الأخلاء فأحسن الاختيار فيما يختاره منها ربما يصل إلى منافع الإخوان، وقد أحببت قربك، واخترت الأنس بك؛ ليكون بعضنا عونًا لبعض على أغراضنا، وتُعقَب مودتنا نجاحًا، وعندي حكايات في حسن الصداقة إن أردت أن أحكيها حكيتها لك. فقال الغراب: أذنت لك في أن تبثها، فحدثني بها حتى أعرف المراد منها.

فقال له الثعلب: اسمع يا خليلي، يُحكَى عن برغوث وفأرة ما يُستدَل به على ما ذكرته لك. فقال الغراب: وكيف كان ذلك؟ فقال الثعلب: زعموا أن فارة كانت في بيت رجل من التجار كثير المال، فأوى البرغوث ليلةً إلى فراش ذلك التاجر، فرأى بدنًا ناعمًا، وكان البرغوث عطشانًا فشرب من دمه، ووجد التاجر من البرغوث ألمًا، فاستيقظ من النوم واستوى قاعدًا، ونادى بعض أتباعه فأسرعوا إليه، وشمَّروا عن أيديهم يطوفون على البرغوث؛ فلما أحس البرغوث بالطلب ولَّى هاربًا، فصادف جحر الفأرة فدخله، فلما رأته الفأرة قالت له: ما الذي أدخلك عليَّ ولستَ من جوهري ولا من جنسي، ولست بآمن من الغلظة عليك ولا مضارتك؟ فقال لها البرغوث: إني هربت إلى منزلك وفزت بنفسي من القتل، وأتيتك مستجيرًا بك، ولا طمع لي في بيتك، ولا يلحقك مني شر يدعوك إلى الخروج من منزلك، وإني أرجو أن أكافئك على إحسانك إليَّ بكل جميل، وسوف تحمدين عاقبة ما أقول لك. فلما سمعت الفأرة كلام البرغوث … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤