فلما كانت الليلة ١٥٢

حكاية الصقر مع ضراري الطير

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغراب قال: زعموا أن صقرًا كان جبارًا عنيدًا أيام شبيبته، وكانت سباع البر وسباع الطير تفزع منه، ولا يسلم من شره أحد، وله حكايات كثيرة في ظلمه وتجبُّره، وكان دأب هذا الصقر الأذى لسائر الطيور، فلما مرت عليه السنون ضعف وجاع، واشتد جَهده بعد فقد قوته، فأجمع رأيه على أن يأتي مجمع الطير فيأكل ما يفضل منها، فعند ذلك صار قُوتُه بالحيلة بعد القوة والشدة، وأنت كذلك أيها الثعلب، إن عدمت قوتك ما عدمت خداعك، ولست أشك في أن ما تطلبه من صحبتي حيلةٌ على قُوتِك، فلا كنت ممَّن يضع يده في يدك؛ لأن الله أعطاني قوة في جناحي، وحذرًا في نفسي، وبصرًا في عيني، واعلم أن مَن تشبَّهَ بأقوى منه تعب، وربما هلك، وأنا أخاف عليك إنْ تشبهت بمَن هو أقوى منك أن يجري لك ما جرى للعصفور. قال الثعلب: وما جرى للعصفور؟ فبالله عليك أن تخبرني به.

فقال الغراب: بلغني أن عصفورًا كان طائرًا بمراح غنم، فنظر إلى المراح وإذا بعُقاب كبير انقضَّ على رميس من صغار أولاد الغنم فاختطفه بمخالبه وطار، فلما رآه العصفور نشر جناحه وقال: أنا أفعل مثل ما فعل هذا. وأعجبته نفسه وتشبَّه بمَن هو أكبر منه، فطار لوقته وانقضَّ على كبش سمين له صوف كثير، وقد تلبَّدَ صوفه من رقاده على بوله وروثه، فصار صوفه مثل البزَّاق؛ فلما انقضَّ على ظهره صفق بجناحَيْه، فاشتبكت رجلاه في الصوف، فأراد أن يطير فلم يستطع الطيران، وقد حصل كل هذا والراعي ينظر ما جرى لهما، فرجع إليه الصقر غضبانًا، فقبضه ونتف أجنحته وربط في رجليه خيطًا وأتى به إلى أولاده ورماه لهم. فقال بعض الأولاد: ما هذا؟ فقال: هذا تشبَّهَ بمَن هو أعلى منه فهلك. وأنت كذلك أيها الثعلب، أحذرك أن تتشبه بمَن هو أقوى منك فتهلك، هذا ما عندي من الكلام، واذهب عني بسلام.

فلما يئس الثعلب من مصادقة الغراب، رجع عن حزنه يئن، وقرع للندامة سنًّا على سن، فلما سمع الغراب بكاءه وأنَّه، ورأى كآبته وحزنه، قال: أيها الثعلب، ما نابك حتى قرعتَ نابك؟ قال له الثعلب: إنما قرعت سني لأني رأيتك أخدع مني. ثم إنه ولَّى هاربًا، ورجع إلى جحره طالبًا.

وهذا ما كان من حديثهما أيها الملك. فقال الملك: يا شهرزاد، ما أحسن هذه الحكايات! هل عندك شيء مثلها من الخرافات؟

حكاية القنفذ والورشان

قالت: ويُحكَى أن قنفذًا اتخذ مسكنًا بجانب نخلة، وكان الورشان هو وزوجته قد اتخذَا عشًّا في تلك النخلة، وعاشَا فوقها عيشًا رغدًا، فقال القنفذ في نفسه: إن الورشان يأكل من ثمر النخلة، وأنا لا أجد إلى ذلك سبيلًا، ولكن لا بد من استعمال الحيلة. ثم حفر في أسفل النخلة بيتًا واتخذه مسكنًا له ولزوجته، واتخذ جانبه مسجدًا، وانفرد فيه وأظهَرَ النسكَ والعبادةَ وترْكَ الدنيا، وكان الورشان يراه متعبدًا مصليًا، فرَقَّ له من شدة زهده، وقال له: كم سنة وأنت هكذا؟ قال: مدة ثلاثين سنة. قال: ما طعامك؟ قال: ما يسقط من النخلة. قال: ما لباسك؟ قال: شوك أنتفع بخشونته. فقال: وكيف اخترت مكانك هذا على غيره؟ قال: اخترته على غير طريق لأجل أن أرشد الضال وأُعلِم الجاهل. فقال له الورشان: كنت أظن أنك على غير هذه الحالة، ولكني الآن رغبت فيما عندك. فقال القنفذ: إني أخشى أن يكون قولك ضد فعلك، فتكون كالزرَّاع الذي لما جاء وقت الزرع قصر في بذره وقال: إني أخشى أن يكون أوان الزرع قد فات؛ فأكون قد أضعتُ المال بسرعة البذر. فلما جاء وقت الحصاد ورأى الناس وهم يحصدون، ندم على ما فاته من تقصيره ومن تخلُّفه، ومات أسفًا وحزنًا.

فقال الورشان للقنفذ: وماذا أصنع حتى أتخلص من علائق الدنيا، وأنقطع إلى عبادة ربي؟ قال له القنفذ: خذ في الاستعداد للمعاد، والقناعة بالكفاف من الزاد. فقال الورشان: كيف لي بذلك وأنا طائر لا أستطيع أن أتجاوز النخلة التي فيها قوتي، ولو استطعت ذلك ما عرفت موضعًا أستقر فيه؟ فقال القنفذ: يمكنك أن تنثر من ثمر النخلة ما يكفيك مئونة عام أنت وزوجتك، وتسكن في وكر تحت النخلة لالتماس حسن إرشادك، ثم مِلْ إلى ما نثرته من الثمر فانقله جميعه وادَّخره قوتًا للعدم، وإذا فرغتِ الثمار وطال عليك المطال، صر إلى كفاف من العيش. فقال الورشان: جزاك الله خيرًا حيث ذكَّرتني بالمعاد، وهديتني إلى الرشاد. ثم تعب الورشان هو وزوجته في طرح الثمر حتى لم يَبْقَ في النخلة شيء، فوجد القنفذ ما يأكل، وفرح به وملأ مسكنه من الثمر وادَّخره لقوته، وقال في نفسه: إن الورشان هو وزوجته إذا احتاجَا إلى مئونتهما طلباها مني، وطمعَا فيما عندي، وركنا إلى تزهُّدي وورعي، فإذا سمعَا نصيحتي ووعظي دنَيَا مني فأقتنصهما وآكلهما ويخلو لي هذا المكان، وكل ما تساقط من ثمر النخلة يكفيني.

ثم إن الورشان نزل هو وزوجته من فوق النخلة بعد أن نثرَا ما عليها من الثمر، فوجدَا القنفذ قد نقل جميع ذلك إلى جحره، فقال له الورشان: أيها القنفذ الصالح والواعظ الناصح، إنَّا لم نجد للثمر أثرًا، ولا نعرف لقوتنا غيره ثمرًا. فقال: لعله طارت به الرياح، والإعراض عن الرزق إلى الرازق عين الفلاح؛ فالذي شقَّ الأشداق لا يتركها بلا أرزاق. وما زال يعظهما بتلك المواعظ ويُظهِر لهما الورعَ بزخرف الملافظ حتى ركنَا إليه وأقبلَا عليه، ودخلَا باب وكره وأمنَا من مكره، فوثب إلى الباب وقرع الأنياب، فلما رأى الورشان منه الخديعة لائحة، قال له: أين الليلة من البارحة؟ أَمَا تعلم أن للمظلومين ناصرًا؟ فإياك والمكر والخديعة؛ لئلا يصيبك ما أصاب الخداعين الذين مكروا بالتاجر. فقال القنفذ: وكيف ذلك؟ قال: بلغني أن تاجرًا من مدينة يقال لها «سنده»، كان ذا مال واسع، فشدَّ أحمالًا، وجهز متاعًا، وخرج به إلى بعض المدن ليبيعه فيها، فتبعه رجلان من المَكَرة، وحملَا شيئًا من مال ومتاع، وأظهرَا للتاجر أنهما من التجار وسارَا معه، فلما نزلَا أول منزل اتفقَا على المكر به، وأخذ ما معه، ثم إن كل واحد منهما أضمر المكر لصاحبه، وقال في نفسه: لو مكرت بصاحبي بعد مكرنا بالتاجر لصفا لي الوقت وأخذت جميع المال. ثم أضمرَا لبعضهما على نيَّة فاسدة، وأخذ كلٌّ منهما طعامًا وجعل فيه سمًّا وقرَّبه لصاحبه، فقتلَا بعضهما، وكانا يجلسان مع التاجر ويحدثانه، فلما أبطآ عليه فتَّشَ عليهما ليعرف خبرهما، فوجدهما ميِّتين، فعلم أنهما كانا محتالين، وأرادَا المكر به، فعاد عليهما مكرهما، وسَلِم التاجر وأخذ ما كان معهما.

فقال الملك: نبَّهتِني يا شهرزاد على شيء كنت غافلًا عنه، أفلا تزيديني من هذه الأمثال؟

قالت: بلغني أيها الملك أن رجلًا كان عنده قرد، وكان ذلك الرجل سارقًا لا يدخل سوقًا من أسواق المدينة التي هو فيها إلا ويرجع بكسب عظيم، فاتفق أن رجلًا حمل أثوابًا مقطوعة لبيعها، فذهب بها إلى السوق وصار ينادي عليها فلا يسومه أحد، وكان لا يعرضها على أحد إلا امتنع من شرائها؛ فاتفق أن السارق الذي معه القرد رأى الشخص الذي معه الثياب المقطَّعة، وكان قد وضعها في بقجة وجلس يستريح من التعب، فلعب القرد قدَّامه حتى أشغله بالفرجة عليه، واختلس منه تلك البقجة، ثم أخذ القرد وذهب إلى مكان خالٍ، وفتح البقجة فرأى تلك الثياب المقطعة، فوضعها في بقجة نفيسة، وذهب بها إلى سوق آخَر، وعرض البقجة للبيع بما فيها، واشترط ألَّا تُفتَح، ورغب الناس فيها لقلَّة الثمن، فرآها رجل وأعجبه نفاستها، فاشتراها بهذا الشرط وذهب بها إلى زوجته، فلما رأت ذلك امرأته قالت: ما هذا؟ قال: متاع نفيس اشتريتُه بدون القيمة لأبيعه وآخذ فائدته. فقالت: أيها المغبون، أيباع هذا المتاع بأقل من قيمته إلا إذا كان مسروقًا؟ أَمَا تعلم أن مَن اشترى شيئًا ولم يعاينه كان مخطئًا، وكان مثله مثل الحايك؟ فقال لها: وكيف كان ذلك؟

فقالت: بلغني أن حايكًا كان في بعض القرى، وكان يعمل فلا ينال القوت إلا بجهد، فاتفق أن رجلًا من الأغنياء كان ساكنًا قريبًا منه قد أولم وليمة ودعا الناس إليها، فحضر الحايك فرأى الناس الذين عليهم الثياب الناعمة يُقدَّم لهم الأطعمة الفاخرة، وصاحب المنزل يعظِّمهم لما يرى من حسن زيِّهم، فقال في نفسه: لو بدلت تلك الصنعة بصنعة أخف مئونةً منها وأكثر أجرةً، لَجمعت مالًا كثيرًا، واشتريت ثيابًا فاخرة، ولَارتفَعَ شأني وعظمتُ في أعين الناس. ثم نظر إلى بعض أهل الملاعب الحاضرين في الوليمة وقد صعد سورًا شاهقًا، ثم رمى بنفسه إلى الأرض، ونهض قائمًا، فقال في نفسه: لا بد أن أعمل مثل ما عمل هذا ولا أعجز عنه. ثم صعد إلى السور ورمى نفسه، فلما وصل إلى الأرض اندقَّت رقبته فمات، وإنما أخبرتك بذلك لئلا يتمكَّن منك الشر فترغب فيما ليس من شأنك. فقال لها زوجها: ما كل عالم يسلم بعلمه، ولا كل جاهل يعطب بجهله، وقد رأيت الحاوي الخبير بالأفاعي العالم بها ربما نهشته الحية فقتلته، وقد يظفر بها الذي لا معرفةَ له بها، ولا علم عنده بأحوالها. ثم خالَفَ زوجته واشترى المتاع وأخذ في تلك العادة، فصار يشتري من السارقين بدون القيمة إلى أن وقع في تهمة فهلك فيها. وكان في زمنه عصفور يأتي كل يوم إلى ملك من ملوك الطيور، ولم يزل غاديًا ورائحًا عنده بحيث كان أول داخل عليه وآخر خارج من عنده، فاتفق أن جماعة من الطير اجتمعوا في جبل عالٍ من الجبال، فقال بعضهم لبعض: إنا قد كثرنا وكثر الاختلاف بيننا، ولا بد لنا من ملك ينظر في أمورنا، فتجتمع كلمتنا ويزول الاختلاف عنَّا. فمرَّ بهم ذلك العصفور، فأشار عليهم بتمليك الطاوس، وهو الملك الذي يتردد إليه، فاختاروا الطاوس وجعلوه عليهم ملكًا، فأحسن إليهم وجعل ذلك العصفور كاتبه ووزيره، فكان تارة يترك الملازمة وينظر في الأمور.

ثم إن العصفور غاب يومًا عن الطاوس فقلق قلقًا عظيمًا، فبينما هو كذلك إذ دخل عليه العصفور فقال له: ما الذي أخَّرك وأنت أقرب أتباعي إليَّ؟ فقال العصفور: رأيت أمرًا واشتبه عليَّ فتخوفت منه. فقال له الطاوس: ما الذي رأيت؟ قال العصفور: رأيت رجلًا معه شبكة قد نصبها عند وكري، وثبَّتَ أوتادها، وبذر في وسطها حبًّا، وقعد بعيدًا عنها، فجلست أنظر ما يفعل، فبينما أنا كذلك وإذا بكركي هو وزوجته قد ساقهما القضاء والقدر حتى سقطَا في وسط الشبكة، فصارَا يصرخان، فقام الصياد وأخذهما، فأزعجني ذلك، وهذا سبب غيابي عنك يا ملك الزمان، وما بقيت أسكن هذا الوكر حذرًا من الشبكة. فقال له الطاوس: لا ترحل من مكانك؛ لأنه لا ينفع الحذر من القدر. فامتثَلَ أمره، وقال: سأصبر ولا أرحل طاعةً للملك. ولم يزل العصفور حذرًا على نفسه، وأخذ الطعام إلى الطاوس فأكل حتى اكتفى، وتناول على الطعام ماء، ثم ذهب العصفور. فبينما هو في بعض الأيام شاخص، وإذا بعصفورين يقتتلان في الأرض، فقال في نفسه: كيف أكون وزير الملك وأرى العصافير تقتتل في جواري؟ والله لأصلحن بينهما. ثم ذهب إليهما ليصلح بينهما، فقلب الصياد الشبكة على الجميع فوقع ذلك العصفور في وسطها، فقام إليه الصياد وأخذه ودفعه إلى صاحبه، وقال له: استوثق به فإنه سمين لم أرَ أحسن منه. فقال العصفور في نفسه: قد وقعت فيما كنتُ أخافه، وما كان آمنًا إلا الطاوس، ولم ينفعني الحذر من نزول القدر، فلا مفرَّ من القضاء لمحاذر، وما أحسن قول الشاعر:

مَا لَا يَكُونُ فَلَا يَكُونُ بِحِيلَةٍ
أَبَدًا وَمَا هُوَ كَائِنٌ فَيَكُونُ
سَيَكُونُ مَا هُوَ كَائِنٌ فِي وَقْتِهِ
وَأَخُو الْجَهَالَةِ دَائِمًا مَغْبُونُ

فقال الملك: يا شهرزاد، زيديني من هذا الحديث. فقالت: الليلة القابلة إن أبقاني الملك أعزَّه الله. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤