الورود والعصافير

كان يبدو حقًّا أن شيئًا هامًّا جدًّا يجري بالقرب من بحيرة البط، لكن لم يكن الأمر كذلك.

قبل هذا بدقائق قليلة، كان كل البط ساكنًا في الماء أو واقفًا على رأسه — فهو يستطيع أن يفعل ذلك — ثم سبح كله في صخب إلى الشاطئ. كان يُمكن رؤية آثار أقدامه على الأرض المبتلة، وسماع صياحه من بعد. أما المياه التي كانت منذ وقت قصير صافية ولامعة كالمرآة فقد صارت في اضطراب شديد.

قبل ذلك بلحظة، كانت كل شجرة وشجيرة بالقرب من الكوخ القديم، بل البيت نفسه بالفجوات التي في سطحه وأعشاش السنونو، والأهم من ذلك كله، الشجيرة الجميلة المغطاة بالورود، كل ذلك كان منعكسًا بوضوح في صفحة المياه. غطت شجيرة الورد الجدار وتدلت غصونها فوق المياه، التي كانت مثل اللوحة باستثناء أن كل شيء بدا فيها مقلوبًا، لكن حين تحركت المياه اختفى كل شيء، وتلاشت اللوحة.

طفَت على سطح الماء ريشتان سقطتا من البط المرفرف، فراحتا تتحركان جيئة وذهابًا. وفجأةً تحركتا سريعًا كأن الرياح أوشكت أن تهب، لكنها لم تهب، فاضطُرَّتا إلى الرقود دون حركة، إذ صارت المياه هادئة وساكنة مرة أخرى، واستطاعت الورود أن ترى صور انعكاسها مرة أخرى. كانت الورود جميلة للغاية، لكنها لم تكن تُدرِك ذلك، إذ لم يُخبِرها أحد. سطع ضوء الشمس بين الأوراق الرقيقة، وانتشر الأريج الطيب، حاملًا السعادة إلى كل مكان.

قالت إحدى الورود: «كم هي جميلة حياتنا! أشعر برغبة في تقبيل الشمس، فهي ساطعة ودافئة جدًّا. أود أن أُقبِّل الورود كذلك، وصورنا المعكوسة على المياه، والطيور الجميلة التي هناك في عشها. يوجد طيور أيضًا في العش الذي فوقنا؛ إنها تمد رءوسها وتصيح: «صوصو، صوصو» بصوت خافت جدًّا، إذ لم ينبت لها ريش بعد مثل الذي لدى أبيها وأمها. يسكن أعلانا وأسفلنا جيران طيبون. كم هي طيبة حياتنا!»

الطيور الصغيرة الموجودة فوق الورود وتلك الموجودة تحتها كانت من النوع نفسه؛ فقد كانت عصافير دورية انعكست صورة عشها في المياه. كان والداهما من العصافير أيضًا، وقد استحوذا على عشٍّ خالٍ لأحد طيور السنونو من العام الماضي، وسكنا فيه كأنه عشهما.

تساءلت العصافير الصغيرة حين لمحت الريشتَين في المياه: «هل هذان اللذان يسبحان هناك من أفراخ البط؟»

قالت الأم: «إذا كان لا بد أن تسألوا سؤالًا، فأرجو أن يكون منطقيًّا. ألا تستطيعون أن تروا أن هذا ريش؛ المادة الخام للملابس التي أرتديها والتي سوف ترتدونها قريبًا، مع الفرق أن ريشنا أرفع كثيرًا؟ إلا أنني أود أن أحصل عليهما هنا في العش، فسوف تجعلانه دافئًا جدًّا. يُخالجني بعض الفضول لمعرفة السبب الذي جعل البط مذعورًا منذ قليل. لا يمكن أن يكون خائفًا منا بالطبع، وإن كنت قد زقزقت بصوت عالٍ بعض الشيء. حري بالورود البليدة أن تعلم بالتأكيد، لكنها جاهلة للغاية؛ فهي لا تفعل شيئًا سوى النظر إلى بعضها البعض والشم. لقد سئمت بشدة من هؤلاء الجيران.»

قالت الورود: «أنصتوا إلى الطيور الصغيرة الجميلة فوقنا وهي تُحاول الغناء. إنها لا تستطيع هذا بعد، لكنها ستستطيع في الوقت المناسب. كم سيكون هذا مبهجًا، وكم هو لطيف أن يكون لدينا جيران بهذا النشاط!»

جاء فجأةً حصانان يتبختران ليشربا من الماء. كان صبي قروي يمتطي صَهْوة أحدهما؛ وكان يرتدي قبعة سوداء عريضة الحافَة، لكنه تجرد من أغلب ملابسه، حتى يتمكَّن من التوغل بالحصانَين في أعمق جزء من البحيرة؛ وكان يُصفر مثل طائر، وأثناء مروره بشجيرة الورد قطف وردة ووضعها في قبعته ثم مضى معتقدًا أنه يبدو أنيقًا للغاية. تطلعت الورود الأخرى إلى أختها وسألت كلٌّ منها الأخرى أين يمكن أن تذهب، لكنها لم تعلم.

قالت إحداها: «أود أن أخرج إلى العالم ولو مرة واحدة، رغم أن الحياة هنا جميلة جدًّا في منزلنا المكوَّن من الأوراق الخضراء. الشمس تسطع دافئة نهارًا، وفي الليل نستطيع أن نرى السماء وقد زادت بهاءً، وهي تلمع من خلال الثقوب المنتشرة فيها.»

كانت تقصد النجوم فهذا كان قدر معرفتها.

قالت العصفورة الأم: «إننا نجعل هذا المنزل نشيطًا جدًّا، ويقول الناس إن عش السنونو يجلب الحظ الحسن، لذلك فهم يُسَرُّون لرؤيتنا؛ لكن جيراننا شجيرة الورد فنموُّها على الجدار يُعطي رطوبة. احتمال كبير أن يُزيلوها، وربما يزرعون ذرة بدلًا منها. فلا يوجد فائدة من الورود غير أن يُنظَر إليها وتُشَم، وربما يُصادف أن يضعها أحدهم في قبعته. لقد عرَفت من أمي أنها تتساقط كل عام. وتُحافظ زوجة المزارع عليها بوضعها في الملح، ثم يُطلقون عليها اسمًا فرنسيًّا لا يُمكنني أن أنطقه ولن أفعل؛ ثم تُنثر على النار لتنبعث منها رائحة طيبة. هذه هي حياتها. لقد خُلقت لتكون بهجة للعين والأنف فحسب. والآن ها أنتم قد عرفتم كل شيء عنها.»

مع اقتراب المساء، راح البعوض يلعب في الهواء الدافئ تحت السحب الوردية، وجاء العندليب وغنَّى للورود قائلًا إن الجمال مثل أشعة الشمس للعالم، وإن الجمال يعيش إلى الأبد. اعتقدت الورود أن العندليب يقصد نفسه بأغنيته، وهو ما قد يخطر لأي شخص بالطبع؛ فلم تتخيل قط أن أغنيته يُمكن أن تُشير إليها. لكنها استمتعت بها، وتساءلت في نفسها ما إن كانت كل أفراخ العصافير التي في العش ستصير عنادل.

قالت أفراخ العصافير: «لقد فهمنا أغنية هذا الطائر جيدًا، لكن ثمة كلمة لم تكن واضحة. ما الجمال؟»

أجابت الأم قائلة: «أوه، إنه ليس بالشيء المهم. إنه شيء خاص بالمظهر هناك في منزل السيد النبيل. هناك لدى الحمام منزل خاص به، وكل يوم يَنثر لهم الذرة والبازلاء. لقد تناولت معهم العشاء عدة مرات، وكذلك ستفعلون عما قريب، فإنني مؤمنة بالمثل القديم القائل: «قل لي من تصاحب، أقل لك من أنت.» حسنًا، هناك في منزل السيد النبيل يوجد طائران بعنقَين خَضراوَين وعُرفَين على رأسَيهما. ويستطيعان أن يمدَّا ذيلهما مثل عجلات كبيرة، وهما يعكسان العديد من الألوان الجميلة التي تبهر العيون عند النظر إليهما. ينتمي هذان الطائران إلى عائلة الطواويس، وهي من الأشياء التي يُقال إنها جميلة؛ لكنها لن تبدوَ أفضل منَّا لو نُزِع منها عدة ريشات. كنت لأنزع بعضًا منها بنفسي لو لم تكن كبيرة جدًّا.»

صاح أصغر أفراخ العصافير، الذي لم يكن نما له ريش بعد: «سوف أنزعها.»

كان يقطن في الكوخ شابان متزوجان متحابان للغاية وكانا يعملان بهمة ونشاط حتى بدا كل شيء حولهما منظمًا وجميلًا. كانت الزوجة تخرج في الساعات المبكرة من أيام الآحاد، وتجمع باقة من أجمل الورود، وتضعها في كوب ماء على طاولة جانبية.

قال الزوج وهو يُقبِّل زوجته الصغيرة: «أرى أن اليوم هو يوم الأحد.» ثم جلسا وأخذا يقرآن من كتاب الترانيم، وكلٌّ منهما يُمسك يد الآخر، فيما سطعت الشمس عليهما وعلى الورود النضرة التي في الكوب.

قالت العصفورة الأم التي كانت تستطيع أن ترى ما بداخل الحجرة من عشها: «إن هذا المشهد ممل جدًّا بحق.» ثم طارت بعيدًا.

حصل نفس الشيء في الأحد التالي؛ ففي واقع الأمر كانت الورود النضرة تُجمَع وتوضَع في كوب كل يوم أحد، لكن ظلت شجيرة الورد وارفةً في كامل تألقها. وبعد فترة نما لأفراخ العصافير ريش وأرادت أن تطير، لكن لم تسمح الأم بذلك، فاضطُرَّت إلى البقاء في العش مؤقتًا، بينما كانت الأم تطير بمفردها. تصادف أن ثبَّت بعض الصِّبية فخًّا مصنوعًا من شعر الخيل بفرع إحدى الأشجار، وقبل أن تنتبه الأم إليه، تشابكت ساقها في شعر الخيل بشدة حتى كاد يقطعها. كم شعرت بألم ورعب شديدَين! جرى الصبية سريعًا وأمسكوا بها، بطريقة تفتقد الكثير من الرفق.

قال الصبية: «إنها مجرد عصفورة.» إلا أنهم لم يتركوها تطير، وإنما أخذوها معهم للمنزل، وكانت كلما صاحت، ضربوها على منقارها.

قابل الصبية في فناء المزرعة رجلًا عجوزًا يعرف كيفية صناعة صابون من أجل الحلاقة والغسل، سواء في شكل قوالب أو كرات. حين رأى الرجل العصفورة التي أحضرها الصبية إلى المنزل والتي قالوا إنهم لا يعرفون ماذا يفعلون بها، قال لهم: «هلا جعلنا شكلها جميلًا!»

انتابت العصفورةَ قُشَعريرة البرد حين سمعت هذا. ثم أخذ الرجل العجوز صَدَفة تحتوي على كمية من رقائق الذهب اللامعة من صندوق مليء بالألوان الجميلة، وطلب من الصبية إحضار بياض بيضة، فدهن به العصفورة بالكامل، ثم وضع عليها رقائق الذهب، فصارت العصفورة الأم هكذا مطلية بالذهب من رأسها إلى ذيلها. لكنها لم تكن تُفكر في شكلها، فقد كانت مرتعدة بشدة. بعد ذلك قطع صانع الصابون قطعة صغيرة من بطانة سترته الحمراء، وشقها عدة شقوق، حتى بدَت مثل عرف الديك، وثبتها على رأس العصفورة.

قال الرجل العجوز: «الآن سترون الطائر ذا الريش الذهبي وهو يطير.» ثم أطلق العصفورة، التي طارت في رعب قاتل بينما سطعت أشعة الشمس عليها. كم كانت متألقة! انتابت الدهشة كل العصافير، بل حتى أحد الغربان، وهو طائر عجوز حكيم، من المنظر، لكنها جميعًا اتبعتها لاكتشاف ماذا عساه يكون هذا الطائر الأجنبي. طارت العصفورة يدفعها الألم والرعب صوب منزلها وهي تكاد تسقط على الأرض من الضعف. في الوقت نفسه زاد سرب الطيور الذي كان يتبعها عددًا، بل حاول بعضها أن ينقرها.

هتفت كل الطيور: «انظروا إليه! انظروا إليه!» كذلك صاحت الأفراخ حين اقتربت أمهم من العش؛ حيث لم يتعرفوا عليها: «انظروا إليه! انظروا إليه! لا بد أنه طاوس صغير، فهو يلمع بشتى الألوان. النظر إليه يُرهق العينَين تمامًا كما أخبرتنا أمنا؛ صوصو، هذا هو الطائر الجميل.» ثم نقروا الطائر بمناقيرهم الصغيرة فلم تستطع دخول العش مطلقًا وكانت متعبة للغاية حتى إنها لم تقوَ حتى على الزقزقة، ناهيك أن تقول: «أنا أمكم». هكذا هوت الطيور الأخرى على العصفورة ونزعت ريشها الواحدة تلو الأخرى حتى سقطت على شجيرة الورد وهي تنزف.

قالت الورود: «يا للكائن المسكين! فلتستريحي. سوف نُخبِّئكِ؛ استندي برأسكِ إلينا.»

بسَطَت العصفورة جَناحَيها للمرة الأخيرة، ثم ضمَّتهما إلى جسمها ورقدت ميتة بين الورود، جيرانها النضرين الرائعين.

•••

تصاعد صوت من العش يُزقزق ويقول: «صوصو، أين أمنا يا ترى؟ إنه شيء غير قابل للتفسير على الإطلاق. هل من الممكن أن تكون خدعة لتثبت لنا أن الوقت قد حان لنعتني بأنفسنا؟ لقد تركت لنا المنزل باعتباره إرثًا، لكن حيث إنه لا يمكن أن يَئول إلينا جميعًا حين يصير لدينا أُسَر، فمن الذي سيحصل عليه؟»

علق أصغرها قائلًا: «لا يمكن أن تبقَوا جميعًا معي حين يزيد عدد أفراد أسرتي بالزواج وإنجاب الصغار.»

قال آخر: «سيكون لديَّ زوجات وصغار أكثر منك.»

وصاحت ثالثة: «لكنني أكبركم.»

ثم صاروا جميعًا غاضِبين، وتشاجروا بأجنحتهم، ونقروا بعضهم البعض بمناقيرهم، حتى قفزوا الواحد تلو الآخر من العش. وفي الخارج، استلقَوْا ساخطين، وقد مالت رءوسهم على جنب فيما طرفت العيون الشاخصة إلى أعلى. لقد كانت هذه طريقتهم في العبوس.

كانوا جميعًا يستطيعون الطيران بقدر ضئيل، وسرعان ما تعلموا بالممارسة الطيران بشكل أفضل كثيرًا. بعد فترة اتفقوا على إشارة يستطيع كلٌّ منهم التعرف بها على الآخرين في حالة تقابلوا في الحياة بعد افتراقهم. كانت الإشارة عبارة عن زقزقة، وخربشة الأرض ثلاث مرات بالقدم اليسرى.

الطائر الصغير الذي بقي في العش مد نفسه بقدر ما استطاع؛ فقد صار مالك البيت الآن. إلا أن سعادته لم تستمرَّ طويلًا، فقد اخترقَت ألسنة حريق ملتهبة نوافذ الكوخ في تلك الليلة، وأمسكت بالسطح المصنوع من القش، الذي اشتعل على نحوٍ مروِّع. احترق المنزل بالكامل، وهلك معه العصفورُ الصغير، لكن لحسن الحظ فر الزوجان بحياتهما.

حين أشرقت الشمس مجددًا، وبدت الطبيعة كلها منتعشة كما يكون الحال بعد سُبات عميق، لم يتبقَّ من الكوخ سوى بضع عوارض خشبية سوداء متفحمة مستندة إلى المدخنة، التي صارت الآن ربةَ المكان الوحيدة. كان الدخان لا يزال متصاعدًا من الحطام، لكن بالخارج كانت شجيرة الورد لا تزال على الجدار دون أن يمسَّها أذًى، وارفة ونضرة كما كانت دائمًا، فيما انعكست كل وردة وكل غصن على الماء الصافي تحتها.

قال أحد المارة: «كم تبدو الورود جميلة على جدران ذلك الكوخ المدمر! لا أستطيع أن أتخيل صورة تفوقها بهاءً. لا بد أن أرسمها.»

وأخرج المتحدث من جيبه دفترًا صغيرًا مليئًا بالأوراق البيضاء (فقد كان فنانًا)، ورسم بقلم رصاص صورة للأطلال بالدخان المتصاعد منها، والعوارض الخشبية المسودَّة، والمدخنة المشرفة عليها التي بدَت على وشك الانهيار؛ وفي المقدمة تمامًا قامت شجيرة الورد الضخمة الوارفة، التي أضافت جمالًا للصورة؛ بالطبع، لقد رُسِمت اللوحة من أجل الورود. في وقت لاحق من اليوم جاء إلى الكوخ اثنان من العصافير التي وُلِدت هناك.

تساءل الاثنان: «أين المنزل؟ أين العش؟ صوصو، صوصو؛ لقد احترق كل شيء، وشقيقنا القوي معه. هذا كل ما جناه من احتفاظه بالعش. إن الورود نجت تمامًا؛ فهي تبدو على ما يُرام كما كانت دائمًا، بوجناتها الوردية، غير منزعجة من مصائب جيرانها. لن نُخاطبها. حقًّا إن المكان يبدو لنا قبيحًا جدًّا.» ثم طارا بعيدًا.

ذات يوم طيب صحو مُشمِس في الخريف، مشمس للغاية حتى إنه قد يُخيَّل للمرء أنه لا يزال في منتصف الصيف، كان بعض الحمام يقفز في أنحاء الفِناء المعتنَى به جيدًا إلى منزل السيد النبيل، أمام درجات السلم الكبيرة. كان منهم الأسود والأبيض والمتنوع الألوان، وكان ريشهم يلمع في ضوء الشمس. قالت حمامة عجوز لصغارها: «انتظموا في مجموعات! انتظموا في مجموعات؛ فهذا يبدو أفضل كثيرًا!»

تساءلت حمامة عجوز يُحيط بعينَيها اللونان الأحمر والأخضر: «ما تلك الكائنات الرمادية الصغيرة التي تسير خلفنا؟» ثم صاحت قائلة: «الكائنات الرمادية الصغيرة، الكائنات الرمادية الصغيرة.»

«إنها عصافير؛ وهي كائنات صغيرة طيبة جدًّا. ولأننا طالما تميزنا بكوننا كرماء للغاية، فإننا نسمح لها بالْتِقاط بعض الذرة معنا؛ فإنها لا تُقاطع حديثنا، وترجع بأقدامها اليسرى للوراء بشكل بديع للغاية.»

إنها كانت تفعل ذلك فعلًا، كلٌّ منها ثلاث مرات، وبالقدم اليسرى أيضًا، وتقول: «صوصو»، وهي الزقزقة التي نعرف منها أنها العصافير التي نشأت في العش الذي كان على المنزل الذي احترق.

قالت العصافير: «الطعام هنا طيب جدًّا»؛ في نفس الوقت راحت كل واحدة من الحمام تتبختر حول الأخريات، برقاب منتفخة، وهن يُدْلين بآرائهن الخاصة حول ما يُشاهدن.

سألت واحدة من الحمام حمامة أخرى: «هل ترين ذكر الحمام الهزاز؟ هل ترين كيف يبتلع البازلاء؟ إنه يأخذ كمية كبيرة جدًّا ودائمًا ما يختار الأفضل من كل شيء. انظري كيف يرفع عرفه هذا المخلوق القبيح الماكر.» وتوقدت عيناهما بالحقد. «انتظموا في مجموعات، انتظموا في مجموعات. أيها الصغار ذوات الريش الرمادي، أيها الصغار ذوات الريش الرمادي.»

واستمر الحمام في حديثه، وهكذا سيظل الحال بعد ألف سنة.

تغذَّت العصافير بجسارة وأنصتت باهتمام؛ بل وقفت في صفوف مثل الحمام، لكن لم يَرُق لها الأمر. وهكذا بعد أن أشبعت جوعها، تركت الحمام يتبادلون الآراء فيما بينهم حولهم وتسلَّلوا من خلال قضبان الحديقة. كان باب إحدى حجرات المنزل المؤدية إلى الحديقة مفتوحًا، فقفز أحدهم إلى العتبة وقد ملأه العشاء الطيب شجاعةً، وهتف: «صوصو، أستطيع الدخول بعيدًا.»

قال عصفورٌ آخر: «صوصو، وأنا أستطيع ذلك، وأكثر كثيرًا من ذلك.» ثم قفز إلى داخل الحجرة.

تبعه الأول، وتشجَّع الثالث حين رأى أنه لا أحد هناك، وطار عبر الحجرة مباشرة، قائلًا: «إما أن تتخطى كل الحدود، أو لا تُغامر على الإطلاق. هذا المكان رائع، أعتقد أنه عش إنسان؛ انظروا! ما هذا يا ترى؟»

كان أمام العصافير مباشرةً أطلال الكوخ المحترق؛ وقد تألقت فوقها الورود، فيما انعكست صورتها على المياه تحتها، واستندت العوارض السوداء المتفحمة إلى المدخنة المتداعية. كيف يُمكن أن يحدث هذا؟ كيف صار الكوخ والورود في إحدى حجرات منزل السيد النبيل؟ ثم حاولت العصافير الطيران فوق الورود والمدخنة لكنها اصطدمت بجدار مُصمَت. لقد كان لوحة، لوحة كبيرة جميلة، رسمَها الفنان من الرسمة الصغيرة التي خطها.

قال أحد العصافير: «صوصو، إنها ليست حقيقية؛ إنها فقط تبدو كذلك. صوصو، أعتقد أن هذا هو الجمال. هل تستطيعون فهمه؟ أنا لا أستطيع.»

ثم دخل بضعة أشخاص الحجرة فطارت العصافير بعيدًا. ومرت الأيام والسنون، و«هدل» الحمام كثيرًا، لن نقول تشاجروا، رغم أنهم ربما فعلوا ذلك، تلك المخلوقات المشاكسة! أما العصافير، فقد عانَوا من البرد في الشتاء وصفَا لهم العيش في الصيف. وارتبط كلهم بخطوبة أو زواج، أو فلتُسمِّه ما شئت. ثم رُزِقوا بصغار، وكان كلٌّ منهم يرى أبناءه الأذكى والأجمل.

طار كل منهم في اتجاه، وحين التقوا عرَف كلٌّ منهم الآخر بالزقزقة وجر القدم اليسرى ثلاث مرات للخلف. ظلت كبيرتهم بلا زواج؛ فلم يكن لديها عش ولا صغار. كانت أكبر أمنياتها أن ترى مدينة كبيرة، لذلك طارت إلى كوبنهاجن.

على مقربة من القلعة، عند القناة التي كانت تُبحر فيها سفن عدة محمَّلة بالتفاح والأواني الفخارية، لاح منزل كبير. كانت نوافذه قاعدتها أعرض من قمَّتها، وحين اختلست النظر منها العصفورة رأت حجرة بدَت لهم مثل زهرة توليب جميلة الألوان من كل الدرجات. كان يوجد بداخل زهرة التوليب تماثيل بيضاء لبشر، مصنوعة من الرخام، وقليل منها من الجص، لكن لا يُمثِّل هذا أي فرق بالنسبة للعصافير. وكان على السطح عربة حربية وخيول من المعدن، وكانت ربة النصر، التي كانت من المعدن أيضًا، جالسة في العربة الحربية تُوجِّه الخيول.

كان هذا متحف تورفالسن. قالت العصفورة: «كم يبدو زاهيًا ومتألقًا! لا بد أن هذا هو الجمال، صوصو، باستثناء أنه أضخم من الطاوس.» فقد تذكرت ما أخبرتهم أمها به في طفولتها، من أن الطاوس أحد أروع الأمثلة التي تُجسد الجمال. وطارت العصفورة هبوطًا إلى الفناء، حيث كان كل شيء أيضًا غاية في الروعة. لقد دُهِنَت الجدران لتبدو مثل فروع النخلة، فيما توسط الفِناءَ شجرةُ ورد كبيرة وارفة امتدت فروعها النضرة الجميلة المغطاة بالورود فوق قبر. طارت العصفورة إلى هناك إذ رأت عدة طيور من نوعها.

زقزقت العصفورة، وهي تسحب قدمها إلى الوراء ثلاث مرات. كانت طوال السنوات الماضية كثيرًا ما تُؤدِّي التحية المعتادة للعصافير التي تُقابلها، دون أن يرد لها أحد التحية نفسها؛ فالأصدقاء الذين يفترقون لا يلتقون كل يوم. صار هذا الأسلوب في إلقاء التحية من عاداتها، واليوم ردَّ لها التحية نفسها عصفوران عجوزان وعصفورٌ شاب.

ردُّوا عليها قائلين: «صوصو»، وسحب كلٌّ منهم القدم اليسرى إلى الوراء ثلاث مرات. كانا عصفورَين عجوزَين نشآ في عشِّها نفسِه، وعصفور شاب من الأسرة. ردت: «أوه، طاب يومكم؛ كيف حالكم؟ كم هو عجيب أن نلتقي هنا! إنه مكان رائع جدًّا، لكن لا يوجد به الكثير من الطعام؛ لكن هذا هو الجمال. صوصو!»

خرج عدد كبير جدًّا من الناس من الحجرات الجانبية، التي انتصبت فيها التماثيل الرخام، واقتربوا من القبر الذي رقدت فيه بقايا الفنان العظيم الذي نحتها. وحين التفُّوا حول قبر تورفالسن انطبعت على كل وجه أمارات الانبهار، وجمع بعضهم أوراق الورد المتساقطة ليحتفظوا بها. كانوا جميعًا آتين من مناطق بعيدة؛ أحدهم من دولة إنجلترا القوية، وآخرون من ألمانيا وفرنسا. قطفت سيدة أنيقة للغاية وردة وأخفتها في صدر ثوبها. هنا شعرت العصافير أن للورود حظوةً في هذا المكان، وأن المكان بأسره قد بُنِي لها، وهو ما بدا أنه تكريم كبير جدًّا حقًّا؛ لكن لما أبدى كل الناس حبهم للورود، رأت العصافير أنه من المستحسن ألا تتأخر عن التعبير عن احترامها.

زقزقت العصافير ومسحت الأرض بأذيالها، ورمقت الورود بعين واحدة. لكنها لم تحتج إلى النظر إليها طويلًا حتى تشعر أنها كانت تعرفها منذ زمن طويل، وقد كان هذا حقيقيًّا. كان الفنان الذي رسم شجيرة الورود وأطلال الكوخ قد حصل على إذن بخلع الشجيرة وأعطاها للمهندس المعماري؛ لأن الورود كانت ذات جمال نادر. وقد زرعها المهندس فوق قبر تورفالسن، حيث استمرت في الازدهار، مثالًا على الجمال، ناشرة عبَقها وأوراقها الوردية ليجمعها ويحملها الناس إلى مناطق بعيدة؛ لتكون تَذكارًا من المكان الذي سقطت فيه.

سألت العصافير الورود قائلةً: «هل حصلتُنَّ على وظيفة في هذه البلدة؟»

هزت الورود رءوسها بالإيجاب؛ فقد تعرفت على جيرانها الصغار ذوات اللون الرمادي وسُرَّت برؤيتها مرة أخرى.

قالت الورود: «الحياة هنا مُبهِجة للغاية حيث ننمو ونُقابل أصدقاءنا القدامى، ونرى وجوهًا مبتهجة كل يوم. ويبدو كأن كل يوم هو يوم عطلة.»

قالت العصافير لبعضها البعض: «صوصو، نعم، إنهن جاراتنا القدامى. نتذكر مكانها الأصلي قرب البحيرة. صوصو! لقد ارتفعت مكانتها بلا شك. يبدو أن من الناس من يتقدَّم بهم الحال وهم نائمون. مهلًا! ثمة ورقة ذابلة. يُمكنني أن أراها بوضوح.»

نقرت الطيور الورقة حتى سقطت، لكن ظلت شجيرة الورد يانعة وغضة كما كانت دائمًا. وتألقت الورود في أشعة الشمس فوق قبر تورفالسن، وبهذا صارت مرتبطة بهذا الاسم الخالد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤