عتبة

لو جاز لمؤلِّف هذا الكتاب أن يُوجِد له عنوانًا آخَر لسمَّاه «مُقتطَفات من عمر/كتابة»؛ لأنه وضع فيه حقًّا جزءًا من عمره، ومادَّةً بتصاوير من التعبير الأدبي الذي تأتَّى له به تَفريد الذات وتجميع الحياة، أو بعض ما عاشه من الحياة.

وهو يقصد بهذا البعض جزءًا من إقامة له في فرنسا، وباريس في قَلْبها، ومنها انطلق إلى آفاق شتَّى من الدنيا، ابتدأت الإقامة منذ سنة ١٩٨٠م، واسترسلت مُنتظِمة إلى ١٩٩٥م، لينقطع انتظامها، ثم لتُسْتأنَف بعد ذلك في ذهاب وإياب بين الغرب والمغرب (والمشرق منه) حتى إن صاحبها لَيتساءل أحيانًا أين هو هنا وهناك؟ وأين يقع بينهما؟

لذلك، وبسبب هذا التراوح، ليس بين جغرافِيَّتَين، بل بين بلدان وجغرافيات، وتواريخ، وثقافات ومشاهَدات وأحداث وبشر بالأساس، من كل الأجناس، آثر أن يختار العنوان المثبت على الغلاف «كتاب الضفاف». يقع في القلب منها ضفة المتوسط الشمالية؛ حيث فرنسا، عاش فيها قلبًا وقالبًا، وضفة المغرب الجنوبية، بلده الذي وُلِد فيه وهو تُربته ونبضه ومصيره، ويُمثِّل المشرقُ العربي ضفةً ثالثة، تَنْدَعم في الاثنين وتتنفس خلالهما بالحب والصداقة والأُلفة والإيمان، والملاذ الآمن حين يطلب. والروح ضفة رابعة منها ينبثق العمر وإليها يأوي في نهاية المطاف؛ يَنِزُّ بجراحه أو يتهادى بلا بَطَر في أفراحه، والروح منهما صحراء وواحتها في آنٍ، ولا يُشْفى لها غليل. والكتابة، أولًا وأخيرًا، هي أُمُّ الضفاف، مبتدؤها ومنتهاها، تبني الكائن والمُتكوِّن، وتعيد صياغة الوجود، وتفتق في اللغة طاقتها المُحْتَبَسة لتصنع لغتها، وهي تقدح زناد الأجناس والصور والتعابير.

منذ التحق المؤلِّف بالمدينة التي سمَّاها قَبْله جدُّه عميد الأدب العربي طه حسين ﺑ «عاصمة النور» وهو مواظب على نوع من التفاعل النصي معها، دشَّنه في سلسلة مذكرات نُشِرَت بجريدة «المحرر» (المغربية) في النصف الأول من العقد الثمانيني، قبل أن تتعرَّض هذه اليومية للمنع، وتطبع كل مذكرة بالعنوان العام: «من الضفة اليسرى». وباريس مُقسَّمة فعلًا إلى ضفتين بسبب نهر السين الذي يخترقها من الوسط تقريبًا، ولقد كان المؤلِّف يَقطُن باليسرى؛ حيث أغلب العالم الجامعي والطلابي، والأحياء والعناوين التاريخية الشهيرة، ومَرافق الأجناس المختلطة، فتعايَش مع هذه الأجواء ومع غيرها، وكتب عنها على الأغلب عفو الخاطر، وهو يحس فيها بانجذابه إلى جنوبه أكثر من الشمال الذي انتقل إليه.

بعد انقطاع دام زمنًا عاد صاحبنا لِيجَدِّد الصلة بالتعبير عن تفاعُله مع المحيط الغربي، والمجتمع الباريسي الإنساني والثقافي، في مقالات ومُذكِّرات حملت عنوان «من الضفة الأخرى»، نُشِرَت متقطعة في صحيفة «الاتحاد الاشتراكي» خلف «المحرر». لقد أمضى الآن عشر سنوات من الإقامة خارِج وطنه، وحصل على الشهادة الجامعية التي اتَّخذَها ذريعة للهجرة، بل وأصبح يدرس في الجامعة الفرنسية؛ لِيَلْقى نفْسَه من غير قَصْد مهاجرًا حقيقيًّا، مُقنَّن الإقامة، بعلاقات وعادات وأجواء مألوفة؛ ما ولَّد وضعًا نفسيًّا؛ أي إنسانيًّا، سيدفعه للتعبير عن مَشاعره، وتَحوُّلاته، ومُثاقفته مع محيطه الجديد، ثم مع المحيط الآخَر الذي ظنَّ واهمًا أنه انفصل عنه وهو به مقيم، ثم بين هذا وذاك في المسافة المُترقْرِقة كَسراب خادع لذات هي كوكبها الخاص.

لقد أعطى هذا كلُّه ثماره في قصص موجودة في مظانِّها لمن يريدها، ولكنَّه عبَّر عنها بالخصوص في المنحى المَعنِي هنا، خلال سَنتَي ١٩٩٤م و١٩٩٥م، كتابةً تبغي التعبير عن جوارِ محیطه ونفسه، بزواج الموضوع والذات، والانتقال من الفرد إلى المجموع، وهي تتلوَّن لغةً وأسلوبًا واضحًا ومستغلقًا، شفافًا ومكثَّفًا، كتابةً واحدةً أو باحثةً في كل مرَّة عن الطراز الذي يبلغ مادتها؛ ولذلك تراها متراوحة بين المذكِّرات، والخاطرة، والمَقالة الصِّرْف، وحتى القطعة الأدبية، وصولًا إلى الشعر الصافي أحيانًا.

وها إن ظروف الحياة تشاء أن يحزم صاحبنا متاعه ليعود إلى وطنه، حاملًا معه «ورطة» و«عُصاب» المهاجر، وحيث سَييقَن أن من هاجَر لا يعود، وإذا عادَ فَجسدًا وأوهامًا فقط، وهو ما يمكن للقارئ أن يقف عليه في الكتابة الأخرى التي بعنوان «بين الضفتين»؛ أي الشمال (الغربي) دوَّنها، والجنوب (المغربي) اللَّذين بقي بينهما مُوزَّع اللُّب والمركب. وعلى امتداد ثلاث سنوات أخرى؛ أي إلى نهايات ١٩٩٨م، لن يخلف الكاتب موعده كل سبت، تقريبًا، مع القراء الذين ألِفُوا هذه المادَّة وتَجاوَبوا معها، وحين اضطرته ظروف قاهرة إلى التوقُّف عن النشر في المنبر المذكور ظل هؤلاء الخُلَصاء يسألون مطالبينه إن التقَوا به، أو مُتسائلين، بينما وجَعٌ بين الضلوع يمنعه من البوح بِسِرِّه الضميم.

وهو يرى أنهم كانوا مُحِقِّين في طلبهم لزعمه أنه سطَّر لهم ولنفسه صفحات مَشبُوبة عن وضع الهجرة في القِيَم والسلوك والمستقبَل. ورسم ملامح للغربة الجسدية والغربة الروحية بوصفها إطارًا لوجود الكائن وتعيين مَصِيره، غَوَتْه باريس فشَخَّصها في صور ومَشاهد في قلبها الإنسان وفضاؤه الحيوي، والطبيعة بِلغتها وفصولها وألوانها وانجذب إلى ثقافة الغرب فتقبَّلها، نَهِل منها في نماذجها ومُكوِّناتها العديدة ما أمكنه ذلك، ثم حاوَرها وناوَشها دون أن يُسْتَلَب إليها قط.

وما من شك في أن «صدمة الغرب» التي تَحوَّلت لدى عديدٍ مناسبةً لجلد الذات أو التنفيس عن المكبوت، قد مَسَّته ببعض شراراتها، لكنها لم تُلهِه عن تعميق سؤال الذات في جوهرها وتاريخيتها، جاعلة الكتابة مُتمَحْوِرة على قاعدة الوجدان.

إن كل مقالة أو حكاية أو مقارَبة أو نص، هنا، هو مناسبة لفتح شغاف هذا الوجدان ليتولَّى إرسال الخطاب، وإعادة تأسيس كل ما حوله وينبثق منه، مثل مصفاة تَمُر منها الكائنات والمرئِيَّات والأشياء لتتوَجْدَن، فتكتسب من ثمة ماهِيَّتها المبتغاة، ما يُؤهِّل المادة للاصطباغ بالأدبية، لا بل تُحوِّلها كينونةً لها، ولعل الإمعان في الحنين، واشتعال هذا الحنين باستمرار جذوة مُتوقِّدة، هو بعض ما خط مسار الكاتب، وصنع قدره/قدر النص، الذي ليس منه بُد. وإن القارئ لَواجِد ومشدود إلى حَسَرات وانكسارات، مُهتَز بين مدن آفلة وأزمنة ووجوه راحلة، وأخرى باذخة، مُتأجِّجة، وإنه لمُتقَلِّب بين المَواجع والمَسرَّات.

وصاحب هذا المسار يرى أن الوسط مُمكِن في كل شيء إلا في الشِّعر والحب والجنون، ومن ضربها المنفى والغربة، كما يؤمن بأن الكتابة مهاجِرة دومًا، حلَّت أو ارتحلت. والكلمات طالبة لنزوح دائم، لا يُفكِّر واضعها في شيء قَبْلها، ولا يريد أن يفكر في شيء بعدها. فما إن يوشك النص على الاستقرار في المكان الذي يظن أنه موطنه، وبستان أحلامه؛ حتى تنتشر فوق أديمه ظلال المنفى، وعندئذٍ فإن المنفى ليس هو المكان الذي نُجْبَر على الإقامة فيه، بل هو ذلك المَلاذ الذي ينبغي أن نَستحِقَّه. وهكذا، كلما عاش صاحبنا يومًا أو شهرًا، أو مع نفسه دهرًا، جلس في غُربة ما بين الضفتين، ما بين ضِفاف أوطان وأزمنة ورُؤًى؛ ليكتب كلماته؛ لنسمع لسانَ حاله يقول تارة: ها أنا ذا أَكْرع من ثُمالة قدح قديم معصورة من بقاياي، وتارة أخرى يُردِّد بإيقاع مَنغوم مع مُغنِّيه الأثير، ليوفيري Léo Ferré:
ينبغي أن أكون قادرًا على الرجوع إلى الوراء
تمامًا كما نفعل حين نرقص التانغو.

من هذه الكتابة كلها، وفي المراحل المختلفة التي عَبَرتْ بها، عمد الكاتب إلى نصوصه يُحصيها؛ لِيطَّلع عليها مجتمعةً؛ فوجدها كثيرةً، مزدحمةً، مشحونةً بالحنين، فسلاها وقتًا وآخر. ولمَّا اشتدَّ طَرْق القراء القُدامى والجُدد أيضًا على باب ذكرياته، مطالبِين، مُلِحِّين، يريدون استعادة بضاعتهم واستئناف شَجَنهم في زمن عمَّ فيه الابتذال المادي والشُّح الروحي، لم يَجِد بُدًّا من العودة إلى النصوص، لكنْ بخُطَّة النَّخْل، والغربلة، والترتيب، والتشذيب.

والحق أنه أمام ضخامة المادة التي لا تُسعف الظروف المادية للطباعة في بلادنا على نشرها كاملة، عمد إلى تقليص ما بين يديه إلى النِّصف فما دونه، مُزيحًا ما هو أقرب إلى الظَّرْفِي العابر أو الخَبَري أو السِّجالِي، صارفًا النظر عن أعوام الانطباعات الأولى والشوارد، مُبقيًا، لو جاز له أن يقول هذا، على ما عدَّه جديرًا بالبقاء والانتظام في كتاب مُنسجِم ومُستساغ، لكنه عدا هذا فإنه لم يحذف ولم يَزِد كلمة، ولا حسَّن عبارة، ولا مطَّط موضوعًا: أراد أن تبقى النصوص، إجمالًا على صورتها الأصل تشهد على تاريخها، في تسلسلها الأول، وفي صياغتها، تنطق بإحساس صاحبها في الظروف التي نشأت فيها وتتواشج بهذه الاستعادة، وهي عنده استعادة ليست للتكرار، بل لتجديد العهد بما هو تَليد وطَريف في آنٍ، تُبتَغى صحبته ويستأنس بقراءته. ولعل للنَّفس فيه شفاء، وللعين مُتعة، ما دام إنشاء الجمال وتقصِّي الجميل من مقاصده، لا بل إن صاحب هذه السطور لَيزعم أن ما بين دَفَّتَي هذا الكتاب، وإن صدَر أولًا في صحف سيَّارة، لَهو أدب في أدب، له آلاته ووجهه مبتغاه. وعنده أن من شأن المُزاوَجة بين الإعلام اليومي والحس الأدبي تَوليد نكهة مُحبَّبة لعلها تجذب إلى فلك الأدب قطاعًا جديدًا من القراء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥