حلاوة الغرباء١
استيقظ الصباح ونهض، لا لم ينهض، ظل في الفِراش ممدَّدًا كعادته، متكاسلًا لنوم لا يغادر إلا بمشقة، أو إثر تسلل ضوء حذر لا يأتي، أو طَرْق على باب الشقة حتمًا آتٍ.
في الصباح يستيقظ الصباح بصعوبة؛ أي يكون في بقية غفوة وهو شِبْه مُفتح العينين، أو مفتحهما والغفوةُ لا تُفارقه، يحاول عبثًا رَتْق أحلام النوم المتقطعة، يرفع بصره إلى السقف قليلًا؛ لكيلا يرى لونه إلا في مخيلته، مستعيدًا رسومًا تَموَّجَت على أديمه طوال ليالٍ مصبوغةٍ بالسُّهاد والتذكُّر، بحركة آلية يمد يده اليسرى إلى الترانزستور المحشور، كالعادة، بين ثنايا البطانية. يضغط على زِر فيه فَيَنْثال الكلام مِدرارًا مثل مطر فرنسا الذي لم يتوقَّف منذ عامين. لا ينتظر أبدًا أخبارًا مفرحة فذاك عهدٌ ولَّى من قديم، وربما لم يُوجَد إلا في رحلة الحنين. هي الحكايات أفخاخها منصوبة، وبوعي حادٍّ يرفض لها أن تستدرجه، والشروخ عندئذٍ ستَتعدَّد وتتَّسع لتُضيِّع عليه يومًا آخَر من زمن يلهث بفنائه. سَيتركُها لِيُجدِّد الصلة بها إن أمكن في رواية أخرى تَقُض المضاجع وتأكل قلوب الحاسدين.
يتوقع من المذياع أخبارًا مَطيرة، زلازل، انفجارات، انقلابات، أحداثًا مُروِّعة تهزُّ هذا البشر المعتاد على حياته ومَوته سواء، ما قد يُعطي لهذا الصباح الآخَر نكهة الخطر المُحدق وبالوبال الضروري لكسر سُلطة الرتابة، وجَعْلي مُتحمِّسًا للنهوض لمواجَهة عالَم بأكمله، إلا أن العالَم ما زال ملفوفًا في سدف ظلام ليل طويل مدافعًا اختراق الضوء المُتقطِّع، مُدوِّمًا طعم تَبغٍ حارٍّ على شَفتَي بينما جسدي لا يعرف الارتواء أبدًا. هكذا تتدافع الكلمات مشحونة في الصور، مجدولة بالذكريات تُعبِّئها احتمالات مفتوحة على ألْف سؤال مَطلبه المُلِح دوام يقين الدهشة. أين أنتِ أيَّتها الدهشة المرغوبة في زمن تَلَف الأحباب وتَخَثر العُمر بالعادة؟ وحْدَها الخراتيت تَتنطَّع على ملاءة أيام صار بياضها كامدًا وألوان البهاء فيها سرقها شعراء مَخصِيُّون بلا وزن ولا إيقاع، ولا ذاكرة.
قلتُ للصباح: عِمْ صباحًا، لنُقِم هدنة، هذا اليوم على الأقل، أوَلا ترى أننا نستحق أن نعيش رغم كل نَكَد الدنيا، رغم الهزائم والخسارات، والاستبداد الخانق والأوهام الضائعة؟ حسنًا، سأتشبث بهذه الأخيرة على الأقل؛ بها سأقارع الرجال الجوف مواصلًا نزيفي المُرهَف بين ضفتين. انتقلتُ إلى الغرفة الأخرى حيث مكتبي ومكتبتي. فكرت كيف أن مصائر عدة تتقرر هنا وأرواحًا تخفق ومعها فراديس من الغواية. ضَحكتُ وحزنتُ في سري على حزني المُتدَرِّن فوق جِلدي. في كلا الحالتين لا شيء سينقذني من الهاوية، ولا أحد يستطيع فَهْم الآخر قبل أن يفهم نفسه. هي حكمة بالية وهذا اليوم أريده جديدًا وسأُدشِّنه بعصيان كل الالتزامات، كل الأعمال القسرية سأنبذها لبعض الوقت. البيت فارغ تمامًا، والأطفال غادرُوا إلى المدارس، والعمارة سُكانها رحلوا أو أُصِيبوا جميعًا بالسكتة، وهذا أفضل؛ ولذا من الملائم أن أزيح الغطاء عن فم البئر وأهبط إلى القاع، رويدًا رويدًا، قريبًا من الهاوية، لم أجد الرغبة لذلك، وهزني الصباح بصباحه المُفعم بأريج تَذكَّرتُه من بلد بعيد، دفعني نحو النافذة ساحبًا الستارة مُلصقًا بها صدري وبصري سيَيْنَع فوق عُشب حديقة البيت ليقفز خطوتين أو خطوات فوق الشارع كي يحط أخيرًا عند هذا المجرى القريب من نهر السين، ولا ترى العين دائمًا ما تراه بل تحتاج إلى الوعي بحلولها الحاضر كي تبدأ آلية النظر. عيناي كانتا بعدُ هناك عند الضفة المغربية تتقاطعان بين كثبان السحاب تحجب لحين شمسًا تأبى الغياب وتحتها ملايين الوجوه السمر تُحدِّق في السماء برجاء، بنظرات نافذة ولا جواب، تَجمَّعت الوجوه كلها أمامي دفعة واحدة، رأيتُني وسطها وجهي القديم وبلدي المغلول يسبح في السديم. رأيتني في أزقَّة الطفولة وشوارع الفتوة ومَضارب الشباب، وأخيرًا مُعلَّقًا على حبل الغياب، رأيت هذا وأكثر، وكدتُ أسترسل لولا أني تراجعتُ فجأة، ووجهي مُجمَّد على النافذة دَهشًا في سمعي يَترقرق ماء دَفين، الآن فقط استعاد بصري وعيه، فأنا هنا ولست هناك، فمِن السماء تنزل نُدَف الثلج حبيباتٍ فَكُرات تتلألأ ببياض لا يشبه أي أبيض، العشب في الحديقة يصير نحو الأبيض يفترش الأخضر متعلقًا بالغصون الفرعاء للسياج. كل ما في الخارج أبيض، لون واحد تتماهى فيه الأشياء والكائنات. بعد ساعات كنت أُحدِّث الكاتب إدريس الخوري عن هذا الجمال المعجز، وصوتي يتحشرج عَبْر الهاتف، أنا في وادٍ وهو في وديان! جاءني صوته مشروخًا بكمد الأيام، قائلًا: اكتب، اكتب عن هذه الأشياء، نريد قليلًا من الفرح، من الجمال، قَتلُونا بالالتزام وتَركُونا في الزلط، والمروك كي يَتساخف، منه منك عندي عندك، هاك وارى، ومن الصباح للعشية ما كاين غير اطحن، اطحن! ولكن يا أبا إدريس، أنت المُجرِّب للكتابة والفجائع، كيف السبيل للكتابة عن هذا الذهول؟ كيف تصف المُحال؟! وشأن كل الفنون يطمح الأدب ليكتب الجمال، ليصفه وليعليه أكثر فأكثر، ما هو قبيح يملك جماله كذلك، قوانين تناسقه، لكن ما يمتد أمامي إفراط في الجمال؛ لذلك لا أملك إلا أن أسلم لهذا الإفراط كما تسلمون أنتم هناك لرجال البلاد … أولئك، كما تعلم، يحتكرون كل شيء لأنفسهم ولو أسعفهم الحال لقلبوا الوقت وحولوا الناس جميعًا عبيدًا رغم أنهم يفعلون. وكلما حاولتُ تكسير مرآة القُبح ودَفْع رشح الهوان حين أسعى لكمال الأشياء رمتني المرآة بشظاياها فيقترب البعد، وتصيبني قشعريرة من أشباحهم تغلق في وجوهنا كل الآفاق، وأن تمنع الإضراب فهذا بسيط، أما الأشباح فتمنع حق الوجود أو تهبه بكل تقتير.
وفي الداخل دائمًا — أين الداخل من الخارج؟ — تنتشر الدهشة من حولي وأتساءل، كما للمرة الأولى، ماذا أستطيع بالكلمات؟ ماذا سأفعل بالكلمات والوحش يكبر هناك فيما هنا مماشي الذهول مترامية؟ آه أيها الصخب البعيد! الكلمات ليست في القواميس، والألَم ليس في الشوارع وحدها، بل هو عندي الآن مُتراوح بين شَكلَين، واحد قوامه تَجريد العالَم في بؤرة قَلَق الوجود الإنساني لن يصل أبدًا إلى أي ضفَّة، والشكل الثاني مناطه رغبة التجسيد الأقصى لما هو واقع في وهم التجسد … أن تفكك وتفتت، إلى حد الذَّرَّة الأخيرة، لا، إلى قيامة الغبار وعندئذٍ تبدأ الخلق تعلن الدنيا والمجرات، لن تكون مهمومًا بوصف الواقع، لا، ستجعل الواقع يَحدُث للمرَّة الأولى، وسَتكتُب بحرية دائمة. قدماك على الأرض ورأسك في المتاهة، هذه هي العقيدة المُطلَقة.
قبل عامين على كتابة هذه السطور كنتُ تحت نوبة عصبية، وأنا على وعي شديد بها، ذهبت إلى غابة بولونيا في عمق الليل وطفقتُ أُلاكم الأشجار وأصرخ في وجه السماء ولا من مجيب … ثم اقتادتني خطواتي نحو مجرًى متدافِع لنهر السين قائلًا: الآن وليس غدًا. وما كدتُ أن خرجَت إليَّ أسماكٌ وملائكة وجنِّيَّات مُترجِّيات لا تفعل هذا، ابقَ حيث أنت، إننا نراك دائمًا تهرول قريبًا منا … التراب في حاجة إليك، والثلج في حاجة لمن يَصِفه، والجنون لمن يسكنه، والدهشة لمن يفتح بابها طُرًّا كي تهب تلك الريح العاتية التي طال انتظارها وتصل أخيرًا إلى هناك … بعد عامين أتذكَّر الآن أني على موعد مع افتتاح معرض الرسامة الأمريكية السوداء ماري أونيال، هناك في الدائرة الرابعة، عند «جسر ماري» وقد قدَّمت لنا قَتامة الألوان الحاملة لحركة «البلاك آرت»، وحين غادرتُ المعرض إلى الشارع رأيتُ خطوطًا سوداء وبنفسجية تخترق بياض الثلج، وكان الظلام يهبط أيضًا. وهنا تَذكَّرت أن الشوكولاتة نفدَت في البيت، فقلتُ: لا بُدَّ من دكان؛ فغدًا سيطرق النشيد الباب مطالبًا بحقه في حلاوة الغرباء، ومضيتُ … إني أمضي …