إعادة تأسيس الحداثة

كيف تأسَّس الأدب الحديث وتبلوَرت تباعًا تاريخيته؟ وكيفَ تبلور مفهوم الحداثة، في صِيَغ منظومة معرفية ونصية وحضارية مركَّبة؟ وأين يمكن التعرُّف على التمظهرات الكبرى لحركات الطليعة الأدبية — من بين أخرى — لفهم الولادة العسيرة لما قد يعتبره البعض مجرَّد مَوجات عابرة في إطار الثقافة الغربية، بينما يحدث فعل التأسيس والترسيخ لما سيرسب ويأتي بعده؟

هذه الأسئلة، ولها نظائر عديدة، تُناوِش باستمرار لدى قراءة نصوص الأدب الغربي، والمعرفة النظرية المقترنة بها، ويفترض أننا نستحضرها لدى قراءتنا للنصوص الأدبية العربية، الجديرة باسم التحديث والنزوع الحداثي، وأهمية هذه المناوشة التي تلزم بعد ذلك الانتقال إلى التأمل العالم، تكمُن في كونها تعيد تأسيس وعينا بمفاهيم وقضايا تُؤخَذ أحيانًا بكثير من الخفة والتَّبدِيه المُبسَّط، وتدفعها لتقويم ما أنجز أنساقًا ومراتب واستكشافات في المَجالين الإبداعي والنقدي عندنا وعند غيرنا، وهو ما يُؤهِّل حقًّا لقياس مسافة التحديث طرح أسئلة الحداثة على ضوء تاريخية النصوص وحركية الفعل الإبداعي، فردية وجماعية، والمناخ العام للتَّحوُّلات الثقافية والسوسيو تاريخية، حيث يتداخل المحلي والكوني، لتتوارى خلفهما وتَبهَت اعتبارات الظرف والمكان، بما يزكي الأصيل، المشحوذ، المُصفَّى بلا زعيق أو طلاء عابرين. هذا فعل قَلَّ أن نقوم به في حياتنا الأدبية، وإن تم فتراه معزولًا، أكاديميًّا أو نشرًا، وإما يحدث بلا صدًى يذكر، أو يجري عند البعض مَجرى نفخ الأشداق بالتفاخر والاعتداد بريادة مزعومة وإلغاء الكل بالذات، هكذا بضربة لازب، والحال أن الحداثة ظاهرة غربية أولًا وأخيرًا.

في مطلع هذا الشهر توقَّفَت الصحافة الأدبية الفرنسية، جرائد ومجلات وبرامج، وقفة استثنائية وممتازة عند ما اعتبرته حدثًا أدبيًّا يستحق العرض والتحليل، نعني صدور ثلاثة كتب في مطلع هذا الشهر خُصِّصت مُجتَمِعة لدراسة، تاريخ ظاهرة مجلة tel Quel الفرنسية، والمُمثِّلة لإحدى أهم حركات الطليعة الأدبية بفرنسا بدءًا من مطلع العقد الستيني. أكثر هذه الكتب شموليةً وانغراسًا في الحدث مُصنَّف فليب فورست، المعنون «تاریخ تيل كيل» «لوسوي»، والذي يُعَد بحق مرجعًا لا غنى عنه لفهم الظاهرة المَعنية، ومراحل تكوينها، ودورها الإبداعي الطليعي على امتداد عقدين من الزمن بما جعل منها منارة اخترقت كل الحدود.
صدر العدد الأول من مجلة Tel Quel في شهر مارس من سنة ١٩٦٢م وطوت آخر أعدادها في شتاء ١٩٨٢م، ونجحت في أن تظل على امتداد هذه السنوات — والأولى منها خصوصًا — مركزَ استقطابِ ألمع الأسماء المُجدِّدة في الشعر والرواية، وأخصَب التأمُّلات والمداخلات النظرية للنقد الجديد والعلوم الإنسانية. لقد مرَّت من هنا أغلب الأسماء التي أَسَّست أو عمَّقت النظر في مناهج تحليل النص الأدبي من سيميائية وبنيوية وتأويلية، وكذلك في اتجاهات الدراسات اللسانية والأنتروبولوجية والتحليل النفسي إلى جانب نصوص أدبية ستصبح رمزًا حداثيًّا لمرحلة بأكملها.
سيُدَشِّن المشروعَ في بدء انطلاقه فيليب سوليرس (وسوليرس هو اللقب الأدبي الذي سيحل مَحَلَّ اسمه الأصلي: جوابو)، وكان قد أصدر رواية أولى ضَمِنَت له شهرةً سريعة، ويلتقي مع جان إيدرناليي الذي كان معروفًا بمقالاته النَّقدية اللاذعة، ويبقى إلى اليوم كاتبًا حاذقًا من طراز استثنائي. وهما معًا من مواليد ما قبل الحرب (١٩٣٦م) وسيلتقيان للمرة الأولى سنة ١٩٥٢م وينخرطان في حوار سيُتَوَّج بصدور المجلة بإشراف دار لوسوي وستة من المؤسِّسين برئاسة إيدرناليي. وبذا ضمت المجموعة الأولى، علاوة على المذكورين، «جان بييرفاي، جاك كودول، بواسروفراي، رونوماتنيون، وجان روني هوغنان» واسم المجلة الذي عَنى حرفيًّا «كما هو» مُستوحًى من مقولة لنيتشه كانت تَتصدَّر كل عدد، وتقول: «أريد العالَم وأبغيه كما هو، وأريدُه أيضًا، أريدُه أبدًا، وأصرُخ بِنَهَم: مرةً أخرى وليس من أجْلِي وحدي، بل من أجل كل القاعة وكل العرض. وليس من أجل كل العرض وحده، بل في العمق، من أجلي لأن العرض ضروري لي؛ لأني ضروري له. ولكوني أجعله ضروريًّا.» وتَضمَّن العددُ التدشيني تصريحًا يعطي الأولوية للقيمة الأدبية فوق اعتبارات الوعظ والالتزام، وداعيًا إلى إزاحة الهيمنة الأيديولوجية عن كاهل الأدبي. في هذا العدد تستضيف المجلة أسماء لامعة؛ فرجينا وولف، جان كايرول، فرانسيس بونج الذي سيتحول إلى شِبْهِ أبٍ روحيٍّ للمجلة، يأتي بعد ذلك كلود سيمون، وجان تيبودو، وهما من المُعلِّمين الأوائل لمدرسة الرواية الجديدة Le nouveau Roman. وهو مظهر للاهتمام الذي ستُولِيهِ المجلة لهذه الرواية باعتبارها رمزًا للإقلاع نحو الحداثة، وهكذا سينضم إليها جُلُّ كُتَّاب المدرسة؛ مشيل بوتور، كلود أولييه، بانجي، ناتالي ساروت، جان ریكاردو، كلود سیمون، وآلان روب غرييه. إنها، إذن، مرحلة الرواية الجديدة التي ستبلغ القطيعة في صيف ١٩٦٤م كجزء من سلسلة قطائع ستطبع تاریخ «تیل كیل» سواء من جهة تخلُّص سوليرس من مخالِفيه ومنافسِيه ليبقى بمفرده في النهاية، أو من ناحية المرحلة النظرية والأيديولوجية التي تَقلَّب فيها هذا المشروع الطليعي.

بعد القطيعة مع روب غرييه ستنتقل المجلة إلى حقل الاستثمار النظري الهام الذي سيَنْصَبُّ على مَيدانَي الأدب والعلوم الاجتماعية، خاصَّة وأن المرحلة عَرفَت إشعاع أعمال كلود ليفي ستراوس البنيوية، وتأسيس «لاكان» للمدرسة الفرويدية، وإعادة قراءة ألتوسير لماركس، بينما كان مشيل فوكو يستعدُّ لإصداره مؤلَّفه العظيم: «الكلمات والأشياء». وسط الخصوبة العلمية والتجديدية لهذا المناخ انصرف مشروع المجلة إلى الأعمال والتحليل في اتجاهين: أوَّلُهما، اكتشاف الشكلانية واللسانية، وثانيهما التحليل البنيويُّ للأدب، وتَحَمَّل رأيَهما الأسماء الرائدة آنذاك؛ كجيرار جنيت، تزفتان تودوروف، رولان بارث، وجاك دريدا. إن هذه الزُّمرة التي خاضَت صراعاتٍ نقديةً حاسمةً، وخاصَّةً بارث في مواجهة السوربون بانضمام جوليا كرستيفا التي ستدفع بالمجموعة إلى طريق «الكتابة النصية» بوصفها تُمثِّل عنفًا يخضع له الكلام من منطَلق حسٍّ نقدي، وينتقل صداه إلى الحقل الاجتماعي. وربما كان هذا التصور أحد تعابير نقلةٍ نوعية أخرى ستعرفها المجلة، وذلك باتجاه الاقتناعات الأيديولوجية، والمقصود فترة العلاقة مع الحزب الشيوعي الفرنسي بكل ما طبَعها من انقسامات في الرأي وتَشدُّد، ثم ارتخاء في خِضَم الهزة الكبرى لأحداث مايو ١٩٦٨م، هذه السنة ستعرف صدور أهم بيان نظري لجماعة «تيل كيل» من خلال كتاب «نظرية المجموع» (لوسوي) الذي اشتمل على مُساهَمات أبرز الأسماء التيلكيلية، وطُرِحَت فيها القضايا الجوهرية التي شغلَتْها، وستستمر محور كل دراسات النقد الجديد، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: موضوع الأدب، النص، الذات والتشخيص، العلامة، المعنى، الكلام، العمل الأدبي بين المؤلِّف والقارئ وسوى ذلك مما عُولِج في أفق الانتقال من الأيديولوجية «الأدبية» إلى علم هذه الأيديولوجية، أو كما يقول سوليرس: «إنه الوعي الحادُّ بالقدرات الممكنة للأدب، ليس الأدب في خدمة النظرية — كما اعتقد البعض خطأ — بل العكس تمامًا.»

نصل بعد هذا، أي بدءًا من ١٩٧٠م إلى المرحلة الماويَّة في تاريخ المشروع الطليعي حين كان سوليرس أكثر من غيره مُفْتَتِنًا بماوية على طرازه. هنا سيبتعد عنه دريدا وألتوسير ويتركانه وحده يذوق خيبة أمل تلك الرحلة التي قام بها إلى الصين برفقة كرستيفا وبارث وآخَرِين. ثم يبدأ العدُّ التنازلي للمجلة وهي تعرف انسحابات متلاحقةً وتأخذ موضوعاتُها في التهافت والتشرذم، من مهاجمة السورياليين، مَثلًا، إلى التقارب مع «الفلاسفة الجُدد» وصولًا إلى المحاضرة الشهيرة في المركب الثقافي «بوبور» بباريس (١٩٧٧م) حيث سيتساءل عن «أزمة الطليعة» ويعلن نعي الماركسية أولًا، والتحليل النفسي ثانيًا، ويعزو إليهما تراخي الإنتاج الطليعي، مندِّدًا بمن يعتقدون بأن الفن الحديث خطوة متقدِّمة بإلحاح إلى الإمام. لقد كان سوليرس (مع من تبقَّى معه) يَتخلَّى هنا عن أوهام أسطورة، وعن رفاق طريق عديدين متراوحِين بين شكلانية مُتحجِّرة وطهرانية آفلة. وفي الوقت نفسه، وليُفْلِت من التهميش، يقلب ظَهْر المِجَنِّ بإصدار روايته femmes ذات الشهرة الصاخبة، ومتنقلًا من دار لوسوي إلى دار غاليمار بعد صدور العدد الأخير (٩٤) من «تيل كيل» (١٩٨٢م) ليصدر بعد عام مجلة l’infini وهو ما يطوي مرحلةً كاملةً من تاريخ الحداثة الأدبية الفرنسية، ولا أعرف حقًّا إن كان دشن مرحلةً جديدة. والمؤكد أن هذا المشروع الطليعي، الجماعي–الفردي يُعَد قُطب الرحى في مُجْمَل الإنتاجات والمنظومات الإبداعية والنقدية والتحليلية التي سمحت، هنا، بتطوير مفهوم الأدب والعلوم الإنسانية. وكتابة هذا التاريخ اليوم إذ تمثل إعادة تأسيس لوعي الحداثة، تعتبر ضمنيًّا تساؤلًا مشروعًا عن حضارتها وآفاقها، ما أجدَرَنا نحن، أيضًا، بعمل من هذا القبيل؛ أولًا تُمَثِّل مجلات «أقلام»، «آفاق»، «الثقافة الجديدة» سجلاتٍ حيةً ينبغي أن نعيد فيها قراءة بعض ملامح «حداثتنا»؟!
في ١٣ / ٤ / ١٩٩٥م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥