الجمعة الحزينة
(١) بيت الله
فجأة، كَمَن هو في صحراء وترقرق أمامه سراب، أو اشتعل بالحَنين وقد خطر في زحام العابرين إلى حَتْفهم وجه الحبيبة، وجدتني وجهًا لوجه قُبالة «الجمعة الحزينة» واقفةً تنتظرني في ساحة السان جرمان، على بُعد خطوات من الكنيسة، اليوم صَلبوا المسيح، في ذلك العهد البعيد، وتَركوا روحه ترحل في عراء الوجود، فصحَّ أن تحزن الجمعة وأن يأسى الخلق، وأنا منهم ولستُ من دينهم، وهم عشية عيد الفِصْح، وأعيادي كلها نجوم آفلة. إنما هذه الجمعة لي أيضًا، هي للإنسان قبل الأديان، فالشفاعة يا حُبِّي القاصي، وها أنا ذا في الساحة أحبني، أراني مصلوبًا، والخلق يرحلون مع الدبيب الأخير لرفاتي متروكًا في المَنافي وتَطلُّعي لله، عندئذٍ، ما أرهبه! ما أفسحه! تركوني وحدي، إذن، ومضَوا، وبي ظمأ للسكينة ما أظمأه! احتجتُ لسماع صوت المؤذن، عبثًا، احتجتُ إلى مسجد أدخله، أتنقل قليلًا في صمته الهادر وأُصلِّي ركعتين، عبثًا، اشتقتُ إلى مؤمن فقير لا أعرفه يسكن في حي التشارك، بحزام الدار البيضاء، به ظمأ لسماع «الله أكبر» من مئذنةِ مسجد لم يَبْنِه أحد؛ لأنه لا يُدِرُّ مالًا، مؤمن فقير يخاف على ابنه من أن يكبر بلا إيمان.
كانت الكنيسة على مرمى القلب فراودَتْني عن نفسي، فقلتُ: وهذا، أيضًا، بيت الله، والله في كل مكان، وما هي إلا خطوات جلست فيها روحي مضطربة في صفٍّ خَلْفِي ولا أعرف، أَمِن الأعالي أم مِن أفواه الأنام كان يُتْلى قُدَّاس «الجمعة الحزينة»، ولم أعرف أيهما كان يُضَمِّد جراحه بنشيد الشجن، رُوحي أم جسدي، ولا أيُّهما غادَر المكان أو تَلبَّث فيه ينتظر بعد التراتيل اختتام طقس المناوَلة. وما أنا على يقين منه ارتعاشي في الصف الخلفي بصوتها يشدو عند سمعي أراه ستائر من عقيق، بلورًا يعكس وجهها الأبيض مُضرجًا بدم المسيح، وسَرى الحياء بيننا حين تضامَمْنا في نظرة مُنفَلِتة وأخرى مُشْتَبكة هي التي قادتْ خطوتي لصق خطوتها، وحين أصبحْنا في الخارج اكتشفْنا أنَّا عبَرْنا الجحيم والمطهر بلا انتباه، وأن السماء الرمادية تنكمش خلف حجاب الظلام تُفْسِح لنا رِواقًا من ضوء وتمد لنا حبل نجاة لِوَلَهنا المُباغِت. قلتُ لها: تَعالَي نصعد إليه، أسلمَت يدها ليدي، ورحنا نرتقي وما نزال … ومن لم يحب منكم — وإلا كيف يعيش؟! فَلْيَرمِنا بحَجر، أو لِيَترك لنا في لُجَّة هذا الوقت الداكن فُسحةً من غياب عَسانا نُصادف وطن السكينة.
(٢) مولاتي الشجرة
كلما كبرتَ أنت صغرنا نحن، وكلما امتدَّ بك الزمن تَقلَّصت أعمارنا لتذهب بددًا. كان الأمر محض صدفة، وأنا أُنهِك جسدي بالهرولة لأكبتَ فيه صُراخه: التقيتُ بها، بل استوقَفني شموخها وكانت لسوالفها ظلال إليها العشب يفيء، هل سمعتُها تخاطبني أم إن صوتها انبثق من داخلي يقول: أنا بنتُ مائة وخمسين سنة، وسأبقى ولا أزهو كما تفعلون، مَن أجملُ مِنِّي وأَعْرَق وأنتم تتبخترون؟ وأنت ما بك هنا وكأنك تُهتَ عن الديار؟ فأجبتُها بقول الشاعر:
فمدَّت لي ذراعيها وأخذَتْني إلى علياء أخضرها، تحتنا الأرض في الأسفل ببشر سافلين. مَن رأى منكم شجرة فَلْينحَني لها، لِيُقبِّل الأرض بين يديها، ويكتفي منها بالنَّظر فهي للرؤية والرؤيا … إنما أحذره من الغواية فهي من أعطافها سكوب … بُورِكت مولاتي الشجرة.