من حياة بوعلام الجيلالي
(١) سيد الورقة البيضاء
أعترف، بداية، بحيرتي من جديد أمام الورقة البيضاء؛ إذ كلما اقترب منها القلم ألفاها مُحبَّرة، مشغولة بالسطور.
ومصدر الحيرة أني لم أكتبها وهي لي، فمَن كتبها، إذن؟ يَحدُث عندي أن أكتب قصائد كاملة في النوم، وفي مطلع الصبح أعزو ما حدث لثلج تنفَّس في قدح البارحة، أقول هذا هو الشعر في مظانِّه الحقيقية لا في الكلام يطلق على عواهنه، بعد قليل يعلو التغريد ومعه يصفو ذهني تدريجيًّا وأنا أسمع خطوات الأخضر قادمةً من الحديقة لِتتنَقَّل برشاقة في أرجاء البيت، تلثم بالغصن والورقة والبرعم المُتفتِّح أشياءه وبعضي، وقبل أن تستأذن بالانصراف تأخذ مني مطلبها البسيط: صباح الخير أيتها الحياة.
هذه العبارة مكتوبة في صفحة النهار وأرحب من ضميم الكلام؛ ولذا بَدَت الورقة مكتفيةً لا حاجة لها بي، ولكي أكتشف أن حاجتي تبدأ من تلك التحية، وسُترافقها إلى الخارج حيث الحياة، وستذهب من عيون الصبايا، أو تَتخَدَّد تحت طرقات هذه المدينة اللعوب، أو تُسْحَق في الأنفاق، تَدوسُها أقدام العابرين «يا لها وحشًا ضريرًا!» لها أن تقود مُظاهرةً في الشارع أو في فنجان قهوة، غير آبِهَة لا يأبه بها أحد، وهي في ذلك كله مِلْك أمرها، طليقة من أَسْر الورقة، تملأ قُفَّتها، كما شاءت ويشاء لها اختيارها؛ هي لا تقنع بما يأتي إليها، ولكن بما تذهب إليه، ومن اللمحة البارقة، وبالصُّدفة العاصفة تحيا، كأن تقصد البحر، وبينما أنت مأخوذ بشَساعة الأزرق تُتابع ترادُف الموج يطول بعضُه بعضًا، وبينما أنت في تلك الضفة، فتخرج لك من المحيط امرأة لا هي من الإنس ولا من الجان، تَمدُّ يدها لتقبض على يدك تَضمُّهما إلى صدرها دُون النحر قليلًا وفوق انسكاب الكثبين، تقول: أنتَ لي، ويَسْدِل عليكما الموج أستاره، والبحر على ما أقول أشهد.
كذلك أخطأتُ الظنَّ وما أخطأتُ الطريق حين ذهبتُ إلى مكتب الجريدة بالرباط، أبحث عن القاصِّ إدريس الخوري؛ لأطلب منه مشورةً قصصيةً ولِنفِشَّ القلوب. صعدتُ الطوابق الثلاثة المهلكة، وإذ فتح في وجهي الباب وجدْتُني أمام مواطنين، نساءً ورجالًا، جاءوا ليعرضوا شكاياتٍ وأحوال ظلم لا تخطر على بال أي ابن امرأة في نهاية هذا القرن العشرين. قلتُ للسي إدريس، وقد نسيتُ طلبي: سعداتك، اشكون بحالك، ها هي المادة القَصصية تَطرُق بابك يوميًّا ولا تحتاج إلى البحصصة في وجوه الناس ولا الانحشار في حياتهم كي يفتح الله عليك ﺑ … أنت الذي يشتكي من هذا المكتب، ويُشَبِّهُه بالمقاطَعة، بدا كأنَّه لا يفهم وهو يراني أدخل كالعادة، بنفي وعجاجي، فأردفتُ: شوف أسيدي إدريس، ها هي المادَّة القصصية طوع أنامِلك كما تحب وتشتهي، تقول لك: خُذْني، أدخِلْني في شي كتاب، قد تَشتهر بها، وقد تُدِرُّ عليك ما تفتح به مكتبًا للخبرة في شئون الحبكة، وتصبح من أقطاب المجتمع المدني. بعد أن ضحك القاصُّ بلا ادِّعاء، وقال: «أنا عيت من الكتبة، آش اطلع لنا من هذا اﻟ…» نهض من فوق كرسيه المتداعي حاملًا حقيبته وسبقني إلى الأمام بصوته الداعي: «هيا بنا إلى مدينة التراب أو إلى مدينة الجسد أو إلى السلخانة لتسلخ ما بقي فينا من جلد على عظم.»
كان الكاتب محقًّا؛ فهو في حاجة إلى هوائه الخاص، في طلب للسماء زرقاء أو رمادية، كما يحلو لها، يراها بعينيه كما يسمع الدبيب البشري وضجيج الحافلات متقاذفًا في غابة الأسمنت أو أدغال اليومي الحافي. وسواء رغب أو امتعض فلا غنى له عن لحظته الخاصة، وحده يعرف كيف يستقطرها من ضروع الجفاف والغباء العام. وحين لا يرتوي أبدًا من الأحزان الكبيرة والمَسرَّات الصغيرة سيعود إلى بيته حاملًا هموم الخارج إلى الداخل، في غرفته يشوف في المنضدة بنص عين، وهنا يتقاطع بصره مع ورقة بيضاء مسترخية تختلس إليه النظر بغَزَل حَيِي، يُدرِك خَطْبها وفي نفسه غَليان مثل تلك الرَّغبة في الجماع، هي بيضاء غير مشغولة، وهو مَن سيكتبها، حرفًا حرفًا، سطرًا سطرًا، سينفخ فيها من روحه، بعد يوم، بعد أسابيع، بعد شهور سيتكون «يوسف في بطن» ثم يفرح الكاتب ويسعد، ومثل كل الناس البسطاء سينسى لبعض الوقت الحزن والفقر ومغَصَ الأيام ويحس بغنًى فريد لا يعدله غِنَى كل هؤلاء السفهاء؛ فهي ذي الحياة صنو الكتابة، تلدها وهو يملك ما لا يملكون، الكاتب سيد الورقة البيضاء يأخذها بشهوة، بقوة، بحنو، فما أبهجها هي الحياة! وما أغناه!
(٢) نص لا يحتمل التأجيل
طمعًا في بعض هذا الغنى تركتُ الكتاب عِوَضَ أن آخذه بقوة، فقد وصل ميشال شارل يحمل كتابه الجديد «مدخل لدراسة النصوص»، وأراد أن يسمرني أيامًا إلى مكتبي. قرأتُ صفحة، فصفحتين، وأدركتُ أني سأخوض في بحر البلاغة اللجب، وهو ما أحتاج معه إلى نباهة فائقة ووقت مستفيض، وعندي أكثر من ذلك، إلحاح نص عاجل لا يحتمل التأجيل، فاعتذرتُ لصاحب «الشجرة والينبوع» مؤجِّلًا اللقاء به إلى أسبوع آخَر، منصرفًا إلى كتابة مَقاطع من حياة بوعلام الجيلالي، كما طلبَ مني ذلك، في يوم هو عادي واستثنائي في آنٍ:
يوم الأحد، وهو أحد وحيد في يوم الأحد، فيه ينام زيادة؛ إذ لا يستيقظ في الخامسة صباحًا، كما في باقي الأيام، يرفع رأسه عن الوسادة قرابة الثامنة وهو يتململ بكسل في الفِراش، لا شيء يدعو إلى العَجَلة، والأعمال التي سيقوم بها خلال الصبيحة على الأقل محدَّدة ومعروفة سلفًا لديه، يعرف أنه بعد قليل سينهض متثاقلًا، سيفتح النافذة المُطِلَّة على الفِناء السفلي للعمارة؛ لِيتسرَّب مع لغط الأطفال السنغاليين بعض هواء منقوع بالتوابل، يَعترك مع رائحة الغرفة الفاسدة وما هو منتشر فيها من روائح سهرة البارحة. كان الدراري قد حضروا كلهم هنا؛ بوعزة، لحرش، الحيمر، الحطاب، كسكس لهم، ولما شبعت الكرش قالتْ للرأس غَنِّ، فبَكَوا غربتهم في بلاد النصارى وتحسروا على غرق لبليدة في امزاب وأولاد سعيد، وقالوا: رجانا فلعالي … سيغسل الصحون، ينكس الغرفة، يسوي الفراش، يغتسل في الدش الوحيد بالطابق في يوم وحيد بالأسبوع، يحلق ذقنه، يرتدي قميصًا أبيض وسترة مكوية، يلمع حذاءه حسب الأصول، وقبل مغادرة الغرفة يُمشِّط شعره بعناية أمام المرآة وهو يُهَمهِم: حمدتك يا ربي وشكرتك، عند مخرج العمارة يقول، بونجور للحارسة الإسبانية العجفاء، والسلام عليكم للسَّحَّار السنغالي الذي يَبْتزُّ غفلة المهاجرين الأفارقة.