سرير من ماء
سيرة طيفية لشهيد الغرباء
للذين يتابعون أوضاع السرد، أدعوهم لمغادرة «مختبراتهم»، مؤقتًا؛ لمعاينة وضع مسرود بلا سارد. عجبًا، أين يحدث هذا؟ وكيف؟ إذا كنت جادًّا فيما تقول، مَن أنت، أولًا؟ فلا بُدَّ أن نجد إحالةً تُعَضِّد كلامك عند واحد من جهابذة النحو السردي، فإنْ عَدمناها فاعلم أن قولك مردود سلفًا، ولا يُعْتَد بعد هذا بما ستكتب.
للذين يجلسون في باحات المقاهي بأجساد مستنفرة، وعيون ملتهبة، وهم يُحدِّقون بغيرة وحسد في سيارات تنزل من بلاد الشمال صيفًا، عابرة صهد الجنوب، مختنقة بغباره، معمورة برجال مُجهَدين، ونساء مُنهكات، وأطفال ذاهلين، باتجاه فسحة مؤقَّتة بين أحضان الأهل ولامتصاص الأزرق تَحسُّبًا لشهور الرماد، لأولئك دعوة أخرى كي يَتبيَّنوا مَن العابر الآن في موكب ثقيل بالصمت، أهو العاشق المُتوَلِّه بعشقه الموءود أم رُفاته محمولًا على سرير من ماء، من دمع، قاصدًا شاهدته المكتوبة قَبْلًا في تفراوت؟
للذين يعبدون عمليات حسابات تحويلات اليد العاملة المغربية بالخارج، ويدققون بالمجهر في خطوط رسمها البياني بين الشهور والأعوام، ويدرسون على ضوئها مستوى العائدات الوطنية من العملة الصعبة، لهم أن يتثبتوا لحظة واحدة فقط قبالة الحاسوب؛ لِيرَوا أن ثمة رقمًا قد اختلَّ، بل انسحب من شاشة باتت مغمورة ببقعة دم، وليقوموا بعد ذلك بعملية طرح على شاكلة «– إبراهيم من تحويل الخارج لعام ١٩٩٥م = + جثة في تمازيرت».
للمُترَفين تحت سماء تلك البلاد، للمضارِبِين بالوقت المغربي، للمَنذورين لنزواتهم الضحلة، مُترَنِّحين بعُصاب الأوهام، السالكين عنوة المدارج العَصِيَّة نحو قَمَر نخبئه في الصدور كما الماء الزلال في تجاويف الصخور، لهم ولغيرهم نرسل الإشارة إلى رحيلٍ فات هو الآتي الصحيح، في موكب رجالٍ أُخْرِجوا من ديارهم وطُرِدوا إلى ديار الأعاجم؛ بحثًا عن اللقمة لا عن الهوى، ورصيدهم للغد موت يومي بالتقسيط، فهل تراهم يَعودون إلا من أَجْل دَين الوالدين أو حامِلِين جثمانًا جديدًا في جنازة هم جثمانها ولها اليوم اسم إبراهيم بوعرام، صَلُّوا من أجْلِه لعلكم ترحمون.
أجَل فلي في هذا الاسم «أسوة حسنة» — أيُّ مفارَقة هي؟ ولكني مُولَع بالأضداد وإلا لَما كتبتُ لهناك المنتشرة في جغرافيا الفراغ، من هنا السابحة في حمأة القتلى والقتلَة، مع المنذورين لمصير الأطياف — لا أنتم تعرفونه ولا أنا عرفتُه، غير أن له في كل أرضنا أكثر من شبيه.
منذ الطفولة البعيدة وإلى اشتعال الحزن شيبًا رأيتُه، رأيناه، في الحانوت الذي نسميه «البيسري» ونشتري عنده بالطَّلق والرزق على الله، كم كنا أغبياء وجهلة ونحن نلقبه «الشلح لقروفي»، يا لعارنا ونحن نَتندَّر بدمنا وأرومتنا، أما هو فلا يَرد. لم يكن شبعان، ريَّان، مثلنا، ولا أخلاقه البيضاء تسفل لأخلاقنا، وهو الذي لم يكن سوى بائع إضافي أو مساعد في هذا الحانوت، اكتشف ذات يوم أنه لا يعيش إلا لبطنه، أن ما يُرسِله من حاجته إلى جنوبه الداخلي لا يكاد يسد الرمق، هو الذي لم أعرفه وعرفتُ تصور الجنَّة مثل الآلاف، لا تحت أقدام الأمهات ولكن في شمال الخيرات، فشدَّ الرحال إليه مُفعمًا بالآمال وكأني بلسان حاله يقول: ما الذي يُبقيني في وطن لا يُطعِم من جوع ولا يُؤَمِّن من خوف؟! وما أكثر ما سمعت هذا اللسان طليقًا هنا بهذه العبارة المريرة رغم أن الحنين إلى الديار لا يبرح النفس، ولها معه موعد كلما أفْلَت ظِلُّ الغريب من الغريب!
إلى حيث أعرف وصل إبراهيم ليعمل ويؤسِّس شيئًا، في شارع سان مارتان بالدائرة الثالثة بباريس بقي كما كان، بقالًا، إنما بأمل جديد ويد على القلب لتبرد ناره، وروح مُكتوية بغربتها في رطوبة البقالة الداخلية وبرودة السحنات الخارجية، كلما عرفتُه في صورة غيره بادأتُه السلام عليكم بحبور، فيُقْبِل عليَّ بَشوشًا، ووالله ينقص لي من الثمن تصريف ويُوفي في الكيل، فأخرج من عنده وكأن سوس كلها من تمنار إلى أولوز على الأقل، تمرح في صدري بأحواشها ووحشتها الغامرة إلى أبنائها المتغربين في آبار المناجم، وعند ضفاف الأنهار العالية.
والحكاية وما فيها أن إبراهيم بوعرام كان يحب الأنهار، كان مثلنا جميعًا ابن الشمس والسماء الزرقاء، تلك الموصوفة في إنشاء التلاميذ بأنها «صافية الأديم»، والحكاية وما ليس فيها أنه ما علم بأن شمس الشمال أمَّارة بالقتل، وأن الماء المنساب في نهر السين قابل لأن يَتعرَّض لتحوُّل كيميائي عجيب فينقلب إلى سرير عائم للموت. نحن لا نصدق، لا أحد هنا يصدق متى تضحك الشمس بملء شدقيها لتطرد جثوم سحنة السماء الرمادية لشهور؟ فإن صدقناها لساعات، لأيام معدودة، عادت سريعًا مُكذِّبة الظن والسماء بعدها تكيل بمطرها الصاع صاعين. بوعرام استوعب ذلك بسرعة، ولذلك حين تَطلَّع ببصره إلى السماء في فاتح مايو بدا شبه مُكذِّب، هي ذي سُحُب ملتبسة تخترقها بعناد أشعة نفاذه ما إن تتوسط الظهيرة حتى تَتبدَّد. هكذا فكر بحس العارف وقال: سأجرب، أين يوجد الماء يا إبراهيم؟ حكَّ رأسه، إنه قريب من الدائرة الثانية. اليوم عُطلة وعلى بعد خطوات سأملأ العين بنهر السين في انتظار أن أشرب من تلك العين.
والحكاية وما فيها أنه، وقد بلغ قنطرة «لاكوراسيل» بعد أن تَشبَّع بفخامة مبنى اللوفر العظيم، نزَل الدَّرَج إلى رصيف الضفة المبلط: ما أشهى الماء! وما أبهى كل هذه السماء! هنا بللٌ وَضَوء. والحكاية وما ليس فيها أن موكبًا من الحقد «الأبيض»، من الكراهية «البيضاء»، من الوحشية «البيضاء» كان يعبر القنطرة في مسيرة احتفالية بِعِيد العمال، بِعِيد الإنسان العامل، الكادح، وإبراهيم، إنسان وكادح، وأي دليل أكبر من أن تتطلع إلى سحنته ليُهْزَم الشكُّ باليقين، موكب الاحتفال يا لوداعته، يا لإنسانيته، وإلا فاستمعوا إلى شعاراته: «فرنسا للفرنسيين، فقط»، «الأجانب رأس البلاء»، «المهاجرون مصدر العفونة والجريمة»، «لا أمن ولا أمان مع المهاجر»، «المهاجرون يسرقون خبزنا، يحتلون بيوتنا، إلى البحر».
ربما لم يسمع بوعرام شيئًا من هذه «الأهازيج»، ربما سمعها مرات من أفواه مزمومة ووجوه بيضاء مصابة بالقبض، ربما ألف هذه الكراهية ولا حيلة له معها سوى أن يرد لقلبه حتى يفرجها مولانا، وما أعجبه من «فرج» جاءه من حيث لا يدري، فَهُم رَأَوه وجوه الحقد البيضاء، من آخر الموكب شموا رائحته مثل الكلاب، شموا رائحة المهاجِر، وفي الشوارع لون المهاجر الأسمر أو الأسود تشيح عنه الأبصار قَرفًا، فانْقَضُّوا عليه هم الكلاب المسعورة، هؤلاء أبناء المدنية الغربية لمرحلة ما بعد الحداثة — واسألوا الحداثيين عندنا في كاريان لاحونا عن هذا التمييز — وجَدوها كبيرة أن يَتسكَّع مُهاجِر عند النهر وفي يوم مشمس، وأحسوا بجوع السين، بعطشه إلى دم التفراوتي الذي لم يجد في وطنه، على رحابته وغناه، قطرةً تَبلُّ عطشه، فألْقَوه في غيابة المَقت، في قعر النهر، ومن لحظتها جف السين ورحل نحو شاهدة مكتوبة سلفًا في تمازيرت، فإن جئتم — لا قدَّر الله — يومًا إلى باريس، وبحثتم عنه، فاعلموا أنه من دم إبراهيم ينبع، وعند تلك الشاهدة الغُفْل يصب، لا في بحر المانش حيث رحتُ أبحث عنه عبثًا وسهوًا.