كشف الحجاب عن وردة الغياب
إلى رجل غادر من الباب الشرفي
لكل إنسان يوم، يوم حساب، وحكام الغرب يُحاسَبون في الدنيا قبل الآخرة، لا يُستثنى منهم أحد، ثَقُلت موازينه أو خَفَّت، وهو ما ينسجم مع منطق الأشياء قبل منطق التاريخ، فمن يَتصدَّى لحكم الناس وسياسة أمورهم، عدلًا فعل أو جورًا، عليه أن يهيئ نفسه ليخضع لحكمهم (أحكامهم)، وتوضع سيرته على المشرحة لا تفلت منها الشاذَّة والفاذَّة.
مناسبة هذه التوطئة مغادرة فرانسوا ميتران لرئاسة الجمهورية الفرنسية، في سباعية حكمه الثانية التي تَلَت أولى بدأت منذ ١٧ مايو ١٩٨١م وبلغت مداها الحتمي في ١٧ مايو، أي من أيام عندما خلفه في قصر الإليزيه الرئيس الجديد جاك شيراك، بعد أربعة عشر عامًا من حكم اليسار، وهي فترة قياسية في الجمهورية الخامسة.
ورغم أنها تقاليد فرنسية محض إلا أن طرح فاتورة الحساب، بالنسبة لميتران، بدأت مبكرًا، أي على الأقل منذ سنتين حين فقَد الاشتراكيون الأغلبية في الجمعية الوطنية (١٩٩٣م)، ما أسقط حكومة بيير بريغوفوا، ورَقَى باليمين كَرَّة أخرى إلى السلطة التنفيذية مع حكومة إدوار بلادور. منذ هذا التاريخ اهتبل اليمين الديغولي، بفصائله المتعددة، ضَعْف رئاسة الجمهورية واضطرار الرئيس للقبول بتجربة تساكن جديدة على غرار سابقة لها (١٩٨٦–١٩٨٨م) ليطلق سهامه باتجاه نزيل الإليزيه ولا يُفوِّت مُناسبة إلا وغمَز من قناته، وذلك ضمن استراتيجية متكاملة يقع في مركزها استرجاع مقعد رئاسة الجمهورية الضائع منهم منذ أخلاه جيسكاردستانغ أو بالأحرى هُزِم في البقاء فيه لفائدة الزعيم الاشتراكي (١٩٨١م).
والحق أن شجاعة ميتران الفكرية، وصَرامته الأخلاقية مع تاريخه الشخصي وسيرته السياسية، غذَّت كثيرًا من حلَقات السجال والطعن التي ما انفكَّت تشغل السياسيين والإعلاميين على اختلاف مَشاربهم، وفي قلبها ما باح به، بلا مواربة، حول مرحلة حساسة في التاريخ الفرنسي الحديث المرتبطة بالمارشال بيتان، وفي طياتها موقعه الخاصُّ ضمن هذه المرحلة وعلاقته بشخصيات عاتية مثل العميد ألان بوسكي، المتهم بدور رئيس في ترحيل اليهود والفرنسيين إلى معسكرات النازية. ورَدَ هذا وسواه في مذكرات كتبها ميتران بالاشتراك، وفي حوار مع إيلي فيزيل (نوبل للسلام) نُشِرَت مؤخَّرًا. ولكن كشف النقاب منذ عام عن بواكيرها ما أثار زوبعة داخل القيادة المركزية للحزب الاشتراكي، إنما دون أن يتزحزح الرجل الكبير عن ثبات موقفه. بل ها هو ذا يذهب أبعد في شجاعة الرأي في الثامن من مايو المنصرم، وبمناسبة ذكرى الهزيمة الألمانية في الحرب؛ إذ قال في خطاب لا يتلوه إلا العظماء بأن جنود «الفير مارت» هم، أيضًا، جنود ماتوا من أجل قضية تَصَوَّروا أنهم يدافعون عنها، وأن أوروبا في حاجة إلى المصالَحة مع ذاتها بفَهْم عميق لتاريخها، وهو الكلام الذي أثار زوبعة لم يكن رجل السُّباعِيَّتَين في حاجة إليها، هو الذي لم يبقَ له سوى بضعة أيام للعودة إلى دارته المتواضعة في الدائرة الخامسة بباريس، لكن مَن سَلَخ خمسين سنة من حياته من أجل قِيَم معلومة لهو من جِبِلَّة ما نادى به الشاعر العربي القائل: «الرأي قبل شجاعة الشجعان.»
أما المحاكَمة على البرامج والالتزامات وأشكال ممارَسة الحكم فحدِّث عنها ولا حرج؛ فقد أظهرت النعرة الانتخابية، كما خاضتها قوى اليمين ضد المرشَّح الاشتراكي ليونيل جوسبان، ما تشيب لذكره الوِلْدان، وصوَّر زمن الاشتراكيين بأبلغ مَظاهر التخويف والترهيب، وكأنهم لم يجلبوا إلا الشر والوبال على فرنسا طيلة السنوات العشر الحقيقية التي حكموا فيها عمليًّا. والواقع أن المُتَّهم الأول، هنا والمطلوب رأسه كي يدان تاريخه وفي التاريخ ليس في البداية والنهاية إلا الرئيس ميتران. وقد كان وما يزال أقدر مَن يدافع عن مجده، عن شموخه المهيب في زمن بات يحمل اسمه، وعن تعبير رفيع لحضور الحاكم في الوجود يرتقي فيه إلى مقام التأمل والحكمة.
ولذا فلستُ أنا من سيدافع عنه — فضلًا عن أنه في غِنًى عن ذلك — أو سينصفه، ورغم ما في نفسي من ميل وهوًى فقد اعتبرت، منذ وصولي إلى هذه الديار، أن أهلها أدرى بشعابها؛ ولذا بقيتُ مشدودًا إلى دياري، مهتمًّا ومراقبًا لا طرفًا في وضع أكبر منا وما أوسع الشقة بيننا وبينه، وإن أصبحت مع الزمن مشدودًا إليه بأوثق العُرى وأرهف الألوان، دعك من الأسماء والعلامات، واسم ميتران منها، في صدارتها. كيف لا وقد وصلتُ باريس، لا سائحًا ولكن مقيمًا، قُبَيل شهور فقط من وصوله إلى قصر الإيليزيه، وها أنا ذا أشهده يرحل، فأحس لأمر ما كأن من الخلل أن أبقى هنا وقد دار الزمن دورة حاسمة، وما أنا بمن يقارن بيني وبينه؛ فلكل مصيره، وإن كنتُ أُدرِك أن مصير من يعيشون الوجود في عمقه يدفعنا إلى أن نَتفَطَّن ونطرح أكثر الأسئلة قلقًا ولو بثمن الهلاك، عسى أن يكون لِما عشناه معنًى ولِما نأمل في الالتحاق به معنًى، أيضًا، إن عشناه. إنما قبل هذا وذاك اسمحوا لي أن أتضوَّع شميم الوردة، أن أغشى شغافها، وردة الباستيل تلك، أجمل ما رأيت في العالم، وأضْوَع.
هل تذكر يا مصطفى ليلتنا تلك؟ لعلك حضرت قبلها ببضع ليالٍ إلى باريس لتتابع، مُوفَدًا من «المحرر»، أطوار الانتخابات الرئاسية الفرنسية في معتركها الثاني في شهر مايو ١٩٨١م، ولتؤانس — حج وحاجة — صديقك وزميلك القديم الذي جذبته قلعة السوربون وجاء ليتدكتر منها جريًا على سنن الأقدَمِين.
في الرقم ٣٥ من زنقة «بروكا» من الدائرة الخامسة، جنوب المدرسة العليا للأساتذة وقُبَّة البانتيون، وعلى بُعد خطوات من زنقة موفتار الشهيرة حيث كان الهوى والشباب ملك يدي، في الرقم إياه انتزعتُ لي في العمارة الشامخة، الفخمة، سكنًا هدية من السماء، كان يأويني بالكاد، وفي القلب مُتَّسع للأحباب، من الطابق الخامس كنت أطل على الحديقة الخلفية، وبدأتُ أتهجَّى لغة الشجر والأخضر والأصفر والعصافير. بعد مُضِيِّ أسابيع قليلة من إقامتي استيقظتُ ذات صباح فوجدتُ وردة يانعة تشاركني فراشي ومن يومها أَمستْ عبيرًا ولحافًا لي وأنا لها لحاف، ثم سارت بأعناقنا الأباطح.
وجئت يا مصطفى فوجدْتَنا على أحسن ما يكون من العبير والسعير وتوابل المطبخ الشامي، وسط أكداس الكتب وأوهام الأماني، ونَكْهَتها الغجرية تهديني في آخِر الليل إلى سواء السبيل، كل ذلك وعقلك الذي لا يفارقك يُشفِق عليَّ، ومن وراء النظرات المفعمة أكتوي بالحنو السلسبيل. يا له من غِنًى! وهو ثروة شرعية، شعرية، منك أيها الرئيس المغادر، وقلت للمهندسة الدكتورة: هذا مصطفى، جاء من مَنافيه ومن الدار البيضاء، لا مناصَ من العودة إلى غرفة الحي الجامعي، فالخُلَّص من أصدقائي لا يقيمون إلا تحت سقفي، أجابتْ: طيب، لخاطر مصطفى، لكن مَن يطبخ لحبيبي؟ مَن يناوله ما يشتهي … وغدًا عيد؟ سترى سأُعدُّ لكم كل أطاييب اللاذقية لعشاء العيد.
في الغداة؛ أي في العاشر مايو ١٩٨١م، وابتداء من السابعة مساءً كانت شوارع باريس، بل والمدن الفرنسية كلها، قد أقفرت، مثل توقيت المغرب في رمضان، وملايين العيون مثبتة على شاشات التلفزيون في انتظار إعلان اسم الفائز في دورة الحسم الرئاسية (الدورة الثانية) للانتخابات: جيسكار أم ميتران. مصطفى وأنا وإلى جانبي وردتي ننظر ونستمع متلهفين متى ستغمر الوردة الاشتراكية الشاشة (وكانت وقتها شعار الحزب الاشتراكي في الرئاسيات مثل التفاحة في الحملة الانتخابية لشيراك). نقول وكأنَّنا نبتهل: بعد دقائق سَيتزَحْزَح التاريخ من مكانه؛ إنَّ شيئًا خارقًا رائعًا سيحدث، قد يحدث أمامنا، بحضورنا ونحن له شهود، يجلب لنا بعض العزاء لكل ما خاب من تاريخنا، كنَّا كأننا نحن المرشحان، نحن من سيتقرر مصير بلادنا، نحن الذين قد ننتقل إلى مستقبل جديد؛ ولذلك فاليد على القلب ينبض والدقائق تنطوي، لا نعرف بطيئة أو متسارعة، والساعة إذ توشك أن يستقر عَقْرَباها عند الثامنة مساءً، الوقت الحاسم للنتيجة أجسادنا هي ميناء العَقربَين، لا أكل ولا شرب ولا نفس قبل الثامنة. ها هي ذي بشير وبشرى، وغمرت صورته الشاشة في تشكيل متدرج يرسم خُطوط ملامح حفيد جان جوريس والابن الروحي لمانديس فرانس، لتنطبع الملامح كثيفةً لا ندري في الشاشة أم هو العالَم كله مُختزَل، مُتجدِّد الخلق، مبعوثًا في صورة. وكنا اشترينا الورود بلا حساب، وبين عناق وانخطاف بين الأحضان، طفقنا ننثر وردنا إلى الحديقة ونزدحم عند المطبخ لنجلب ما لذَّ وطاب. وما هي إلا دقائق وها هو الباب يُقْرَع بِحِدَّة، لا أريد عراكًا مع الجيران النقناقين ذوي السحنات الميتة، وفتحتُه وإذا هو السي محمد آيت قدور يهجم هُجوم الحرس وخلفه من كان يدندن:
«هنا طاح الريال …» ثم طرق آخر: دخل خالد عليوة، طرق ثالث: إنه الدادسي، ثم من؟ عبد الرحمن منيف، ثم تركتُ الباب مفتوحًا، وتَهاطَلوا، أصبحنا قبيلة في بضعة أمتار مربعة، والوردة تخدم الضيوف بسعادة وكلٌّ في يده وردة. هتف الزعيم آيت: هيا يا جماعة؛ فالقيامة قامت في الخارج، وخرج شعبنا ليندمج في الشعب الآخَر، في سيارتي كنا عشرة، في سيارة أخرى عدد مماثل، هجمنا، أولًا، مع المهاجمين، زحفنا على ساحة الباستيل، كيف الوصول إلى مركزها وعشرات الآلاف من الشباب، النساء والرجال، الفتيان، كلهم هناك لتحرير السجن الذي زال مرَّتَين. الشوارع، الشرفات، السماء فوقنا، الأرض تحتنا تميد سجادًا من ورد. كنا خرجنا من أجسادنا ورحنا نلاحق أرواحنا في فرحها الجامح، وفي ليلة إشعاع ضوء القمر الاشتراكي، في غمرة الهواء الدافئ، اصطدنا القُبَل السخية واصطادتنا والفرح لا يعرف أين يرسو، وكان الكلام دمعًا أو هستيريا أو أنخاب الملايين.
بعد أسبوع كان ميتران ورجاله وشعبه يصعدون السان ميشال وينعطفون يسارًا، كما ينبغي لهم، إلى زنقة سوفلو صعدًا باتجاه البانتيون حيث مقبرة العظماء، وكلٌّ في يده وردة، وعلى الأرصفة أبناء الشعب الجديد، قالت لي وقتها امرأة في السبعين ونيف: أنا انتظرتُ هذه اللحظة منذ ثلاثين عامًا، ودمعها يهمي تحت سماء ماطرة، وكنتَ أنت قد رحلتَ يا مصطفى، وبعد لَأْيٍ رحلَت وردتي وقد ضِعْت بين الحدائق والأدغال. وفي يوم الأربعاء ١٧ مايو ١٩٩٥م جلس «الفتى المغربي الذي كان» قُبالة شاشة التلفزيون، وشاهد ميتران يغادر قصر الإليزيه بشموخ وإباء كما دخل إليه للمرة الأولى رئيسًا قبل أربعة عشر عامًا. لم يغادره مهزومًا ولا تحت قصف المدافع، بل من الباب الشَّرَفي في موكب تاريخ العظماء، ومن الإليزيه توجَّه رأسًا إلى زنقة سولفيرينو؛ حيث مقر الحزب الاشتراكي، لِيُعيد الوردة إلى جنانها، فهي في حاجة إلى تُربتها كي تستعيد نضارتها، وكاد «الفتى الذي كان» أن يشهق بالبكاء، فقلتُ له «لا تبكِ عينك … أوَلَمْ تَعِش؟ أَوَنَسیت نیرودا؟»
قال: «بلى، أعترف أنني عشت»