(١) قلب غرد
قبالة البحيرة
تحت الشجر
اضطجَعْنا
باريس وأنا
عند أنغام قيثارة
وَلَهِي بعذب النَّظَر
أسلمنا عينينا لصفاء الماء، لبهاء الظل، وبدا الوقت مضيئًا مثل
البلور لا يعوزه إلا فرط حنين، فجلبنا من أصقاع الذكرى وهج رمال
ورفيف قُبَل، وكيف تهادى موكبنا محمولًا على هودج نهديها وفحيح
الجسد، أسلمنا الروح وباقي العمر لهذا البلد.
استأنفنا تقويم الأرض، لون العينين، اخضرار الأزرق في تجديف
الملاحين، الموج يعلو مقامها العالي بها، البحر تحتها، ويدي على
كمثراها. أسلمنا الدار للدَّيَّار، نَدِيَّ الحلم لفِجَاج البُعد،
وعصَرْنا لَحْمنا مطرًا ودمًا سقيًا لجفاف الوهم. وأخيرًا ماذا
يبقى من المشهد والبلد الجسد البدد على وشك القرب … من يعبر من
عبورك … مُهج الرجال، انقضاض الكواسر أم كله قلب شرد؟
(٢) La Musique dans la
Rue
استيقظت باريس صباح ٢١ يونيو لا متأخرة عن وقتها ولا مبكرة، أمس
الثلاثاء أَوَتْ إلى مضجعها منهكة ككل يوم عمل.
استيقاظ مُنتَزَع، إفطار منهوب، سماء غائمة تصطك كالعادة على
الأرصفة، قرقعة المترو، الوجوه بعدُ شاحبة وكوابيس الليل تدخل
أنفاق المكاتب، تجلس فوق مُدرَّجات الجامعة، يغلي الدم مع أول سهم
يرتفع في سعر البورصة. ربما هي القهوة الثانية أو الثالثة، بينهما
قدح شافٍ من جعة مُزْبِدة، حتى إذا جاء الظهر أكلنا سندويشًا أو
تهالك القوم على لسان أو رأس عجل محمض، فلا بأس عندئذٍ من ربع نبيذ
كي ترقص الأرقام، تبرق الأفكار، تتصادم جداول الربح والخسارة،
الاشتراكية والليبرالية، القيامة صعدًا من «بورت دورليان» إلى
«بورت كلنيا نكور»، دعك من تفاصيل هؤلاء المهاجرين السود
والمغاربيين؛ فَهُم، إما جمعوا أزبال المدينة أو يشربون البيرة عند
«يدر» مع قليل من الزميطة في انتظار أزبال الغد. فإذا دقت الساعة
الخامسة أو السادسة استنفرت الأجساد ما لا تملك من قواها وتدافعت
طوابير الديدان قاصدة مأواها. قد تصل، قد تموت بالسكتة القلبية،
بعنف الدماغ، وخلف المائدة عين إلى مسلسل البوسنة ومجازر رواندا
ويد إلى مرعاها. وفي الخارج، في ليلها المشعشع بالحبب تَلْحَسه
النجيمات تستيقظ مدينة أخرى، هي مدن يَحرُث فيها الأرقون،
المغتربون، العابرون بُذورَ حزن لا ينام حتى ثمالات فرح هارب
أبدًا، لكنها أمس الثلاثاء من ثقل أوجاعها أَوَتْ مُبكِّرة إلى
فِراشها، أَسلمَت وإياها الأجفان مُلوِّحين بالنذر تَيمُّنًا
بأربعائها، فغدًا موعدنا في عيدها وما أدراك ما عيدها؟ سأُؤَجِّل
بقية الحنين إلى حين، وصدر البوح لك أشرح، وأقول للفتيان
المُتعَبِين من فرط عشقهم: حُطُّوا رحلكم عندي واستمعوا إلى
الموسيقى! الموسيقى.
يوم الأربعاء ٢١ يونيو الموافق لبداية الصيف ولقرار أنثوي عارم
بانتفاضة الجسد هو يوم عيد الموسيقى في باريس، في فرنسا كلها حين
وصل الاشتراكيون إلى الحكم في فرنسا سنة ١٩٨١م حامِلِين وعود
التغيير والغد الأفضل كما يفعل جميع اليساريين قبل أن يسخن رأسهم
بنشوة السُّلطة، شَهقَت وردة من باقة ساحة الباستيل المسترجعة: ليس
بالخُبْز وحده يحيا الإنسان، ولا بالشُّغل والسكن، بل بالموسيقى
أيضًا، يا أولي الألباب. الوردة، الفتى الذي كان، الحَيِي المقدام
في آنٍ: وزير الثقافة جاك لانغ.
هو وأندري مالرو سلفه، يتكاملان ويرسمان الصورة المثلى لما ينبغي
أن يكون عليه وزير الثقافة بلا منازع؛ لانغ، ابن الشعب ومِن صلبه
خرج، كما من أعماق الحضارات القديمة في تجمهراتها الاحتفالية
العظيمة، حيث كانت الموسيقى والرقص والغناء تعابير الإنسان
المُبجَّلة، وصولًا إلى الرافضين والمُتمرِّدين المُحْدَثين،
وواسطة عقدهم من زمن فرنسي مضى الشاعر والمغني «ليوفيري». في
انتفاضة مايو ١٩٦٨م بباريس كان Léo
يقود فيلق الموسيقى ضد النُّوَّم والقابعين عند المدافئ، وسمعه الجيل
الجديد كله وهو يصرخ: La musique dans la rue –
music in the street – la musica en la Strada
بالفرنسية والإنجليزية والإيطالية.
الموسيقى في الشارع هي الرسالة التي استلمها من أبي المغنين
الثائرين وقدم للشباب والجيل الذي سيكبر مع سُبَّاعِيَّتَي حُكْم ميتران
أثمن هدية: المدن الكبيرة والصغيرة، في الأداني والأقاصي، الشوارع،
الأزقة، الساحات، الطرقات، البنايات العمومية، كل الأماكن
والفضاءات المحجوزة للاستعمال المقنن وللحركة المحسوبة الأضواء
والأنفاس تسقط في يد الشباب، بيد الفتيان والفتيات كما سقطت وستسقط
جميع قلاع القهر والاستبداد، التأثيث الحقيقي للفضاء ليس هو
الثرثرة المتعكزة إما على البلاغة الرثة أو خور التجربة بل
الكمنجات، البيانو، الطبول، الساكسفون، القيثارات، الطناجر
والملاعق، لم لا، تصطف في طول الشوارع، وعرضها، فوق مدرجات
الكنائس، تتدلى من الشرفات، ومكبرات الصوت عالية مثل مآذن. في
باريس وحدها من ساحة «الباستيل La
Bastille» إلى «الجمهورية
République» من ميدان
«الإنفاليد Invalides» إلى ساحة
«لاكونكورد La concorde» وفي ساحة
«التروكاديرو Trocadéro»، وعلى
امتداد الباحة الفسيحة بين «متحف الإنسان Musée de
l’homme» و«قصر شايو Palais de
chaillot»، نزل الشباب بعنفوان العمر الذي لا
يتكرر، هجم الجسد وتدلَّه العري في أشبق وأشعر تقاطيعه، الرقص،
الرقص، الرقص: تك اشتك، تك اشتك. الموسيقى، الموسيقى: واو، واع، وا
وا … الحب: قُبَل، قُبَل وعناق حتى مطلع الذهول.
الفتية يُحَرِّرون باريس من جديد، يُعلِنون كومونة الموسيقى باسم
الفاتح المغوار جاك لانغ عاد إلى درسه الجامعي، كما ينبغي لوزراء
الثقافة، وظِلُّه بات يرقص ويتشرب موسيقى هؤلاء الشباب في
قُدَّاسهم المجيد. في هذه الشوارع وساحات الاحتقان الموسيقي لا
مكان للأيديولوجيات، للشرائع، للقوانين، للخطباء المُفوَّهين أو
الزعماء الذين يَتوهَّمون أن إشارة منهم ستنقذ العالم من الضلال.
وفي Champ de Mars هبطت السماء
وانتثرت نجومها حلمات على صدورهن المشرعة. عندما خاصرتني جولييت
بضراوة العشرين عامًا صارخة وسط صخب جبار: لماذا أنتَ مُبتئس مثل
كل العرب، غنِّ وارقُص معنا فالليلة عيد، لا تَخجلْ من شَيْبِك
المستفحِل قبل الأوان، أنا أُحبك هكذا، هل كان الخطاب إليَّ أو
لأمواج الشباب الهاربين من الشقق المختنقة ليضعوا بملء إرادتهم
ومُطلق غرائزهم طقوس بدائيتهم الخاصة؟ لم أحفل بالبحث عن الجواب؛
فلا شيء هنا أصدق إنباءً من الموسيقى الموسيقى، والموسيقى.
وهو ما لم يبرد جوفي المحترق، فقد تَذكَّرت ربعي وبلدانًا
يُقْتَل فيها الإنسان؛ لأنه يغني، وغبار زرياب يُلَمْلَم لِيُحْمل
إلى المشنقة، تَذكَّرتُ أهوالًا أخرى، وهنا انتفضت باريس في وجهي
مُحتَجَّة؛ الليلة لي، لا لأهوال تلك الديار، حين ستعود إليهم ستجد
جبالًا من الحزن مُصْطفَّة على طول الطريق المُؤدِّية إلى قلبك،
أما الآن فأهديك لحظة فرح، وضغطت على زر تشغيل المسجل فتهادى
الكونستورتو التاسع، بيانو وأركسترا en mi bémol
majeur k271, jeunehomme واستسلمنا
لموزار.
(٣) عكاظ باريس
الخميس ٢٢ يونيو: عادت باريس إلى عاداتها القديمة وانتهى «حلم
ليلة صيف». استرجعت السيارات شوارعها، وشرطة المرور ساحاتهم، إلا
ساحة واحدة احتَلَّها قوم غامضون، مَوتُورون ورقيقو الحال
والنَّفس، جاءوا، كما يفعلون منذ ثلاث عشرة سنة، من الضواحي والمدن
البعيدة عن المتروبول ليعرضوا بضاعة كاسدة في هذا العصر اسمها
الشعر، في ساحة Saint-Sulpice
بالدائرة السادسة، الكاتدرائية إلى ظهرها، الكوميسارية قبالتها،
والنافورة في وسطها يلتقي الشعراء المغمورون والصاعدون والهابطون،
ينصبون أكشاكًا، ويَعْرِضون دواوينهم وكراريسهم الشعرية، هي على
العموم بضاعة على هامش السوق، لم تباركها سطوة دُور النشر الكبرى،
ومطبوعة بمبادرات خيرية أو أموال فردية، يُحاوِل عدد من الناشرين
العنيدين والحالمين البحث لها عن مكان في عالم لم يَعُد فيه متَّسع
للأحلام المتسكعة.
يسمون هذا الموسم «سوق الشعر Le Marché de la
poésie»؛ فكل شيء بات معروضًا للبيع والتداول،
لكن السوق محفل للقاء الحر، للفرجة، لاستطلاع الأخبار وقياس حرارة
الزمن والمشاعر البشرية. وهنا تلتقيهم شعراء بسطاء نازحين من
الأقاليم البعيدة بضعة أيام إلى باريس وفي معمورهم الداخلي نازحين،
يدخنون بشراهة ويقبلون عليك لعلك تسأل أو تُقلِّب ديوانًا كما لو
أنك ستشتري دجاجة، أو تقف إجلالًا أمام مقطع شعري يدعوك إلى الحب
رغم كل الخزي واليأس. من دكان إلى آخر يمضي المتجوِّل في السوق لا
دليل له إلا قلبه، وفي زاوية من السوق يأتيه الصوت تلو الصوت: إنهم
الشعراء يقرءون، ضاعت منهم التفعيلة ولم يدركوا الإيقاع، قرقعات،
هياج كلمات مبتورة وأخرى منقوعة في الفراغ. في كوميديا «الضفادع»
كان أرسطوفانيس شديد القسوة على الشعراء المحدثين فوصف شعرهم
بقوله إنهم:
إنهم أوراق بلا ثمار، وزقزقات في الهواء
الفارغ، وشقشقات الطير تمزق الفن.
(البيت ٩٢). أما الإله ديونيزوس، في «الضفادع»
دائمًا، فقد كان قد بلغ به اليأس حد قوله:
إن خيار الشعراء قد ماتوا، ولم يَبقَ في الحياة إلا المزيفون.
(البيت ٧٢). يرفض المتجوِّل اليأس ويمضي مُتصفِّحًا، مُنصتًا،
متبضعًا، فاقتناء ديوان ربما أخصب الأرض البوار، ربما فتح كُوَّة
في سماء غائمة شقتها الشمس فوقف الشاعر وسط الساحة وقد شق قميصه
بجمع يديه، وارتجل قصيدة في مدح سيدة الضوء، فكان هذا أجمل الشعر
وأعذبه.
رجال الشرطة أعلنوا تَذمُّرهم من احتجاج الشعراء على بعضهم
البعض، وعلى تظاهرتهم لإطلاق سراح ماء النافورة، خاصَّة وأن الماء
غاض في المكتوب والمقروء. عربي واحد، وحيد، طاف على السوق مثل
الدلَّال صائحًا: أنا أدلُّكم، دون الجميع على النَّبْع. لو قرأتم
شِعْري لعرفتم أني أمير الشعراء قبل شوقي وبعده، أما رامبو فمن تحت
إبطي خرج، فضحكوا من قوله ولم يبالوا بالخطر. لكن أَتَتْنا غيمة
فشتَّتت شمل القوافي والأوزان فلُذْنا بخيمة امرأة تكتب الشعر
الإلكتروني. من خارج السوق لوَّحَت إليَّ باريس أن تعالَ، أَوَما
تعبتَ من التجوال؟ أرسلتُ إليها إشارات مرموزة تفيد عزمي مواصلة
البحث عن الشعر مهما كلَّفَني ذلك من سماع اللغط ورؤية تَناطُح
الماعز إلى أن أصافح الشاعر الذي سيكتشف في أحلامه صيغة الوردة
وقانون النجمة. أجابت موافقة شريطة أن أتبعها الآن لتناول فاكهة
أول المساء، فالمشمش طيِّب هذا العام وخدُّه مورد، وخسارة أن أفرط
في مشمشها، ثم عندي لك شيء آخر، أضافتْ، هو الأهم، أنصت:
NOUS NE VOULONS
PAS ÊTRE TRISTES
C’est trop facile
C’est trop bête
C’est trop commode
On en a trop souvent l’occasion
C’est pas malin
Tout le monde est triste
NOUS NE VOULONS PLUS
ÊTRE TRISTES
Blaise Cendrars.