(١) الكتابة أو الحياة
ارتميت الأسبوع الماضي في خِضَم سؤال الكتابة اللعب، أنا الغريق
لا يخاف من البلل، ولم يَكُن شاغلي النجاة، فهو مُحال من أول
الارتماء، بل الغوص أكثر في هذا اللايقين الذي بدونه تَنتفي
مشروعية الكلمات ويُمْسي الوجود بِرُمَّته مُجرَّد حالة زمنية
طافية، إنني أستعيد، هنا، وعن قصد، الحفر النظري الخالص للموضوع،
وإثارة تلك المُنمنَمات البويطيقية أو درس البلاغة الراسخ، كما
يُجَسِّده شارل ميشيل، مثلًا في مفهوم دراسة النص. وما أفعل من باب
الاستخفاف، كلَّا فهذا الحِمْل ثقيل ونبيل، ولكن لأني أريد أن أعيد
للكتابة حُرِّيَّتها — يا له مِن زعم! — بعتقها من مناورات التأويل
والتفكيك والمُبتَسرِين أو العسفيين، وجعلها تتحرك في مساحة الغياب
القلق والبياض الكثيف حيث لا يمكن القبض على الكتابة إلا من مدخل
استحالتها.
في مثل هذه الحالة يقع الخطاب خارج الكلام أو تسمع فقط وَقْع
تساقطه مثل الحصى في مياه النهر، الماء يجري وهو يرسب في مكان ما
مثل الحياة عالقة ومشخصة في الأشياء الصغيرة والكبيرة، وضمنها
الموت بوصفه لحظة فاصلة وزئبقية في آنٍ، ما دام يتدخل بكيفية حاسمة
في توليد المعنى الإشكالي للوجود، ويحتم علينا، يحتم على الكاتب في
تخوم الوعي الحادِّ، أن نطرح أنفسنا، بالعري الكامل إن أمكن، على
مشرحة الأسئلة الرهيبة — لا تأتي طبعًا من فراغ بل من التجربة —
تحمل بداية أسماء، مطلع كلمات هامسة لا تعرف أهي تحتضر أم في
المخاض أم في موقع خارج الجاذبية، مُنفَلت بين المقامين.
جورجي سمبران، الكاتب والروائي الإسباني والفرنسي في آنٍ،
يتربَّع على عرش هذا الموقع بلا منازع في كتابه الصادر في نهاية
العام المنصرم (١٩٩٤م) عن دار غاليمار يلقي أوسع الرواج باستحقاق
L’écriture ou la vie، وهو
عنوان إشكالي كما يتبين ذلك عقب القراءة، ولذلك فترجمته «الكتابة
أو الحياة» حرفية ولتقريب الفهم ليس إلا — سمبران، المناضل الشيوعي
الإسباني والمنخرط في المقاومة الفرنسية، أحد كبار التلاميذ
النُّجباء في الفلسفة والمتألِّقِين شعريًّا في ليسي هنري الرابع
الشهير بباريس، والفتى الأديب الذي سيتعرف على كل شيء، على كل
المثقفين البارسيين قبيل الحرب الثانية سلفًا. سمبران، الذي سيشغل
منصب وزير للثقافة في أول حكومة لفليبي غونزاليث غداة وصول
الاشتراكيين إلى الحكم في إسبانيا، هذا المناضل الأُممي سيتعرض
للترحيل إلى إحدى معسكرات النازية بوصفه عضوًا في شبكات المقاوَمة
الإنجليزية، وذلك سنة ١٩٤٣م حيث سيقضي في معسكر «بوشنفالد» ثمانية
عشر شهرًا ولن يغادره إلا في شهر أبريل من سنة ١٩٤٥م عند تحريره مع
زمرة من قوات الجنرال باتون ومنه يعود إلى باريس لينخرط في دورة
حياة جديدة.
عمليًّا احتاج خورجي سمبران إلى قرابة نصف قرن لإصدار كتابه
الجديد. طبعًا، فهو لم يُمضِ هذا الزمن المديد في الإعداد لهذا
المؤلَّف (٣١٩ص. من القطع المتوسط)، فقد أصدر خلاله العديد من
الروايات والكتابات إلى جانب حياة حافلة بالنضال السياسي والعمل
الثقافي، لكنه بمعنًى آخر، قضى هذا الوقت كله يحمل ذاتًا مفجوعة
وذكريات مريرة واكتواء عُمر بمآسِي ما عاش وعانى وشاهَد في معسكر
«بوشنفالد» قبل أن يصل إلى اللحظة الرهيبة التي تلزمه بنقل ذلك كله
أو بعضه إلى مساحة الورقة البيضاء. والسؤال الحَرِج الذي واجهه
أصعب من أن يجيب عنه إلا بالإيغال فيه. بعرضه وتشخيص الحرج عبر
المساءلة: هل يمكن لكل هذا الذي عشتُ وما شاهدتُ وعرفتُ من جرائم
النازية في هذا المعسكر، حيث الأفران تصعد أدخنتها لجثث اليهود
المحترقة والمختنفة بالغازات؛ هل يمكن كتابة العذاب الإنساني —
اللاإنساني، وبما أن الكتابة حياة أخرى كيف يجترحها مَن كان قد
انتقل إلى عالَم الموت ووجد في مصير الحياة نقيضه المُطلَق، ورغم
أنه عاد إليها فهي تبقى عودة على سبيل الافتراض ما دام الموت قد
وضع بصمته الأبدية على الجسد والذاكرة معا؟ في وقت لاحق سيقول: «لم
أكن شيئًا آخر، في الواقع، سوى رميم واعٍ بكل هذا الموت، قطعة
فردية من النسيج الهامد لهذا الكفن، غبار في غيبة رماد هذا
الاحتضار، شعاع لا يزال يضيء من الكوكب المنطفئ لسنواتنا الميتة»
(ص١٣١). هذا الوعي الحادُّ بالزوال يبلغ درجة الإحساس بالذنب بسبب
البقاء «لم أفهم أبدًا لماذا ينبغي عليَّ تذنيب نفسي؛ لأني بقيت
على قيد الحياة، والحق أنني لم أبقَ، ولستُ متأكِّدًا من أنني حي
فعلًا» (ص١٤٩).
على أرضية هذا الاحساس المأساوي — الواجد جذره في التعالُق
المكين بين التضحية والشر اللذين يُمثِّلان أعمق وأعتق حوار مسيحي
أو بعبارة أندري مالرو في روايته: Le Miroir Des
Limbes: «إنني أبحث عن المنطقة العصيبة للروح
حيث الشر المطلَق يعترض للأخوة.» — أقول: على هذه الأرضية ينهض
السؤال الآخَر المُتَّصل بما يمكن تسميته إجرائيًّا بمشروعية
الكتابة إزاء وضعية مماثلة، قُل بحدود إمكاناتها: «إن الشهية
المؤجَّجة لاستئناف مذاق الحياة، قَطْف اللذة المبذولة، مثلًا،
تصطدم على الفور بإحباط فواتها.» … هكذا «فإن كل شيء سيستأنف ما
دمت حيًّا أو بالأحرى عائدًا إلى الحياة وطالما بقيتُ مَغويًّا بأن
أكتب، فإن سعادة الكتابة لا تمحو أبدًا شقاء الذاكرة، بل على العكس
تشحذه، تُعَمِّقه، تُحييه، وتجعله فوق طاقة الاحتمال» (ص١٧١). لذلك
لا عجب أن يصبح منتهى مراد الكاتب بلوغ الراحة الروحية «النسيان»
بعبارة أخرى، ومن باب المفارَقة فهذا ما يرفع الإحباط مؤهلًا
الكتابة للحضور. إن مفتاح الفهم يَكمُن في العبارة الذهبية لموريس
بلانشو، القائلة: «من أراد أن يَتذكَّر فليعمد إلى النسيان، إلى
هذا المحذور الذي هو النسيان المُطلَق وإلى هذه الصدفة الجميلة
التي تصبح عندئذٍ هي الذكرى.» الكتابة إذن مَهْرب من النسيان
الواعي، وهو ما يرتبط في فهم
SEMPRUN بشكل أخلاقي معنوي، لا
تقني «ذلك أنني لا أتوصل عن طريق الكتابة، لاختراق حاضر المعسكر
(النازي)؛ لأحكيه في زمن الحاضر … وهكذا في كل المسودات تأتي
البداية، إما قبل أو حول أو بعد وليس أبدًا في المعسكر»
(ص١٧٦).
وهو ما يُولِّد أسئلة أخرى من قبيل: هل الحكي ممكن؟ وأن تحكي
ماذا؟ كل تلك الفجائع الهائلة في «بوشنفالد». ليست المادة ولا
القول ما يعوز، ونحن نستطيع قول كل شيء من الحب المجنون إلى الهول
الأخرق، أن نقول الوردة والندى على ورق الشجرة، وهو ما يخوض عبابه
الشعراء بعيون مُغمضة وشفاه خصبة، لكن هل تستطيع القول بلا تردُّد،
بيقين، حين تكون قد عَبَرت الموت أو عَبَر بك، هل تملك أن تتخيل كل
شيء؟ وها هو أسير الأمس المحسوب في عداد الموتى، وقد سمع نَحيبهم
وصلواتهم وأنين احتضارهم ورأى المَداخن تصعدُ بدخان لحومهم
المشوية، يُقْذَف إلى عداد عالم الأحياء كأنَّما عَنوة، فإلى أي
العالمين ينتسب؟ وإذا تَشبَّث — ربما رغبة في الكاثارسيس — بحكي ما
حدث، ما رأى، ما سمع، فأي شكل ستأخذه الكتابة؟ لنلاحظ أن سمبران،
في هذا الصدد، يختلف عن كونديرا، مثلًا، فيما يُسمَّى بالكتابة
التي تفكر في ذاتها وتتقاطع فيها العقلنة بالتشخيص. وقبل هذا
الأخير كما عند «ت. بالستير» أو «ر. موزيل» أو «بروخ» هناك نسَق
آخَر عند صمت «الكتابة أو الحياة» يَتنَضَّد من الإحساس باستحالة
القول ثم الصمم في شكل أدبي، ثم مساءلة هذا الشكل تقود إلى نصف قرن
إلى الخلف؛ ولذا نراه يعقد فصلًا كاملًا (من ٥٨ صفحة) يضع له عنوان
«قدرة الكتابة»، في جميع الأحوال لا نرى سمبران يَخلُص إلى يقين،
إلى اختيار نهائي حول مفهوم سؤال الكتابة، اللهم، أن الأدب، الصنعة
الأدبية تظل عمدة مطلوبة نتوسل بها لتبليغ ما يَتمَنَّع على القول؛
ليصبح مسموعًا، والمُتمَنِّع المستعصي عن التصديق في حجم المعسكرات
النازية، يظهر مثل حقيقة بلا مصداقية، ومن هنا لا يرى إلا حلًّا
واحدًا يُحرِّض خيال ما فوق التخيل؛ أي الاشتغال على الحقيقة
دائمًا وعرض امتداداتها مع بعض الصنعة، طبعا، الكتابة الأدبية
وصنعتها، زخرفها إن شئنا، تظهران في النهاية هما مِهماز يقين
افتراضي، ضرب من النظرية لما يشد على التنظير. تجدر الإشارة إلى أن
المؤلف يسكت تمامًا عن تعيين أو إيلاء الأفضلية لجنس أدبي بذاته،
علمًا بأنه يتنقل بثقافة موسوعية بين مختلف الأعلام وأمهات النصوص،
شعرًا وروايةً ومسرحًا وموسيقى، وتتوالى الاستشهادات من تعددية
مصادرها الأجناسية وطبقاتها المتحاورة بتناغم؛ لتسند كتابة نثرية
مرسلة تبحث عن كتابتها صامتة عن النوع على سبيل النسيان الذي
يُحرِّض على التذكر، ولنستحضر من جديد سؤال الكتابة، كما رسمناه،
في الورقة الماضية، وتدرَّجْنا في مراقيه الصعبة، والشيء الوحيد
الذي أستطيع أن أجزم به هو أن الأمر أعقد من أن تكتب الجاهز، أو
تصف الواقع، أن تستدعي الأشجار أو أن تكتب قصة أو تنظم قصيدة بسبب
القهر الاجتماعي أو الكبت العاطفي والجنسي أيضًا. والأمر بعد هذا
أعْضَل من خلط التوابل مع بعضها وقبل هذا نَصبْنا أو سَردْنا
و(للمناسبة فالسرد لعبة غاية في الجد) سأترك الأمر معلَّقًا إلى
أجَل غير معلوم أو إلى أجَلِي، وأُنصتُ إلى سمبران يفتح ديوان شاعر
البيرو العظيم سيزار فاليخو، ويقرأ فيه: «en
suma-no poseo para expresar mi muerte
والحاصل أني لا أملك غير موتي لأُعَبِّر عن حياتي.»
(٢) حمار شاغال الجميل
مسك الختام أن أروي لكم، من باب التَّسرية، حكاية أو واقعة ساذجة
مرَّت بي في آخر زيارة لي للوطن. فقد دعاني صديقي الحميم المهيب
عبد الجليل بحدو لمرافقته في سفرة من الدار البيضاء إلى مراكش
البهية، وكان بمَعِيَّتِنا السي محمد الطلامطي، مناضل ورجل تعليم
شريف. في طريق عودتنا وبالقرب من قرية سيد العايدي، في ضاحية مدينة
برشید، كنتُ ساهمًا في الحقول التي فعل بها الجفاف أفعالًا نكراء.
فجأة قفزتُ من مقعدي من السيارة، ونبَّهْت رفيقي بصرخة ذاهل رأى
عجبًا عجابًا: انظروا، حمار! هناك حمار! فنظرَا إليَّ مُتعجِّبَين،
ولعلهما تشكَّكا لحظة في سلامة قواي العقلية، والحق أنه كان قد مضى
عليَّ زمن طويل لم أرَ فيه أي دابة باستثناء أبقار النورماندي
والخيول الأصيلة في دوفيل وغابة الباغاتيل. وسبق لي أن زرتُ في شهر
مارس العرض الزراعي السنوي في باريس فشاهدتُ إقبال الجمهور على
ملاطفة الحمار والبغل والجحش، وأحيانًا تقبيل الخرفان والأبقار،
وفي مقدمتهم كبار المُرشَّحين لانتخابات الرئاسة. وكانت مناسبة لي
رأيت فيها عن قرب حمارًا!
إثر عودتي حضر المهيب إلى باريس وأمضى بعض الوقت مفتتنًا بمظاهر
المدنية الغربية، أولًا، ثم ببهاء فصل الربيع ثانيًا، يوم الأحد
أخذته إلى امتحان الهرولة في غابة بولوني وكان قصدي أن أريه
عشيقاتي، لا، لَسْنَ نساءً ولا صبايا، فتلك مجرة أخرى، ولكن
الأشجار والبحيرات والحقول الخضراء. هو الأخضر بالتفاصيل، يومًا
يومًا كنت أرى اللون يبزغ، ينمو، يخضَرُّ، يزدهي، يغنج، يخصب،
يفيض، يلد، يتناسل، الأخضر ابن الأخضر ابن الخضراء، وتعجز اللغة أن
تقول كل هذه التفاصيل، في يوم آخر أخذتُ ضيفي العزيز إلى أعظم
تظاهرة تشكيلية تعرفها باريس عامَها هذا؛ أعني معرض مارك شاغال في
متحف الفن المعاصر بالمدينة وتحديدًا السنوات الروسية
(١٩٠٢–١٩٠٧م)، طُفنا بأرجاء المعرض البديع ساعة وزيادة، ولكن
وقُوفنا طال وامتد أمام لوحة صغيرة تُمثِّل حمارًا لم أرَ أجمل منه
ولا أبهى، حمارًا مصبوغًا كله بالأخضر، أخضر لا وجود له في الطبيعة
مطلقًا. قِف هذا لون الخالق، لون الفنان، والفنان هو صانع الجمال،
وكان جمالًا لا يُقدَّر بثمن.