نوستالجيا الورد الفائت

(١) متكلم ضمير الغائب

بين فضاءين تَبعثَرتُ ثم شَددتُ رحالي في وجه ريح عاتية متربصة خلف باب تنتظر أول يد تفتحه كي تهب من أجل ممارسة الاقتلاع. لا يحضر ضمير المتكلم إلا لينوب عن صمتٍ تَكسَّر، يتكسر في الغياب، وعن ذات ليس قول أنا ما يُهدِّدها بالتورم، بل المنع الماحق من حقها، من حق كل واحد، في أن تسكن أغوارها وأن تطول تخومها.

بين وضعين اشتبكتُ، رأيتُ فيهما الرجل تارة مرتبكًا وأخرى منفتكًا.

في الأول منهما، أمسكَت شرطيَّةُ حدود المطار جوازه وحملَتْ إليه نظرات فيها فضول الاستطلاع وجَرؤتْ تقول له: «لطيف حقًّا أن يكون المرء كاتبًا، وسأكون مُمتنَّة جدًّا لو أهديتني في صدفة قادمة واحدًا من كتبك، أو اذكر لي عنوانًا سأقتنيه بنفسي …». عندئذٍ غمَره خجَل طفولي، وأكمَل الطريق نحو مصعد الطائرة وهو يُحلِّق قبل الإقلاع. في الوضع الثاني، وَقَف الرجل خلف شُبَّاك شرطي حدود المطار وقد بلغ محطة الوصول، أمسك هذا الجواز بين يديه يُقلِّبه يمينًا وشمالًا، ناقلًا نظراته بين الأوراق وبين شيء يراه بمفرده من زاويته. ربما كان يقارن بين المكتوب والمرئي، هنا وهناك. ربما كان يبحث عن شيء مُحدَّد، مستقر في ذهنه وحده، ويلتمس من عقل إلكتروني مُتْخم بالمعلومات، وثاوٍ في مكان من العالم، أن يُزوِّده به فيتأتَّى له أن يصفي الحساب مع الواقف أمامه كطالب شفاعة، وجاء سؤاله المتراوح بين الاستفهام والسذاجة وحالة من عدم الفهم، وجهه إلى الرجل الذي طال وقوفه وبات يخشی المحذور، بحكم تجارب قديمة علَّمَته أن نزول الطائرة لا يعني حقًّا أنه وصل؛ إذ عليه أن ينتظر ذلك الختم الذهبي، والنظرة المرتابة وهي تنسحب عن جسد في وضع الذوبان لِتحطَّ فوق جسد آخر سيذوب لا مَحالة على إثر النظرة ذاتها، عيناه على الجواز وسأل: «وإذن أنت كاتِب عمومي أو خصوصي أو في شركة أو في …؟» وكفَّ الواقف أمامه عن الاستماع إلى بقية السؤال وهو يستطيل ويَتلَوْلَب ويأخذ في مُخَيِّلته أشكالًا خرقاء من التصورات العبثية، أراد أو كاد أن يصرخ في السائل ثم لجم قراره، جلبه من لحظة صبر مُعتَّقة، فكَّر بسرعة: «أحيانًا تواجهه في كتابته شخصيات في مواقف مستعصية، تنفصم بينه وبينها كل عُرى التواصل والتفاهم، تركب رأسها بمنطق عنادِها الخاص أو مِن تَخيُّل يشبه شعاعًا بألف لون يضيء ليلَ الكون في ثانية واحدة وينطفئ، يتلو ذلك، كلام منها كالمطر في فرنسا ينهمر بلا توقُّف، يحسم الأمر بينه وبين نفسه ومع الشخصيات، ينفض يديه قائلًا: «هذه هلوسة، وكفى. وإذن، فللسائل أن يهلوس كما يشاء!»

بَيْد أن ثمة وضعًا آخر من الهلوسة لا يُحْسَم بقرار فردي أو بالرغبة في نفض اليد، وَضْع يمكن أن يأخذ أشكالًا عديدة: المُماحَكة، تَصلُّب الشرايين، القراءة بعين نصف مُغمَضة، الرقص بقدم واحدة، مُصادَرة خيال كل الكُتَّاب وتنظيمه للمرة الأخيرة في بنود واتفاقيات تبرمها الأنظمة والأحزاب فيما بينها، إنجاز دليل واحد مُوحَّد وحيد للقراءة والتفسير والتأويل والتَّلقِّي كل مَن زاغ عنه فهو هالك. ومن قبيله إعداد قاموس، في اللغة العربية مثلًا، للمفردات مُوحَّدة المعنى، مَحدودة الترادف، لا مجال فيها للتَّقلُّب و«التَّشقْلُب»، لا خيار للكُتَّاب في استعماله، يُكلَّف الأيديولوجيون والسياسيون وحدهم بإعدادها؛ لأنهم وحدهم، يملكون القدرة على فَهْم العالَم وسياسة شئونه. ثمة أشكال أخرى ممكنة ومحتملة، كلَّا لا توجد الأشكال مطلقًا وليس لأحد أن يقول إلا ما ينبغي قوله، فمن الأفضل، بل المطلوب من الكاتب أن يصمت وفي أحسن الأحوال أن يدخل سوق رأس قصته القصيرة أو روايته، أو أن يَتغنَّى مثل الأبله بشمس الأصيل. أما باقي الكلام، باقي الخطاب، باقي الأنواع، فلهذا كله وسواه رجاله القوامون به وعليه.

ولذا صَمتًا أيها الذين يحشرون أنفسهم فيما لا يعنيهم، فالأمور الكبيرة لها سادتها المؤهلون، هؤلاء لا يَستخدمون البيان والبديع، لا تدور برأسهم الهلوسات، إنهم يذهبون إلى المعنى رأسًا مثل الرصاص إلى الصدر وبه الإعلام.

(٢) صوت الغريب

كأنَّك جالس بين وقتين وقد أعددتَ حقيبتين؛ واحدة تراكمت مُحتوياتها من شِدَّة تطوافك في الأرض والتصاق تراب الاغتراب بنعليك المهترئين، وثانية راكمتَ فيها ما تريد من أحلام لزمن على وشك الانطلاق، كأنَّك عمر ثالث بين عمرين، أوَّلُهما مُوغل في غابر المنافي وصرير المزالج تحت وقع الخُطى البعيدة لقامات شاحبة، وثانيهما سماء مُرَّصعة بنجمة الأماني، جَنَباتها مُرجَّعة فيها أصداء هتاف المُرحِّبين يعبرون معك داخل النفق من نهاية الطُّرق إلى أول الطريق. كأنك في وضعك بين الحقيبتين والعُمْرين واقف قُبالة مرآة فتذهل لما ترى: وجه يدخل وآخَر يخرج، فأيُّ الوجهين لك؟ وإلى أيهما تنتسب وهما معًا لك؟ إن تَنكَّرت لأحدهما أو عِفْته موثرًا عليه جاذبية توءمه تَكسَّرت المرآة شظايا طالت جسدك من حافَّاتها الجراح، وإن أنت أنستَ الملامح، وحدَّقت عميقًا في الزجاج الصقيل بانت لك التجاعيد أخدودية، وخطوط الحلم متقاطعة مع خطوط الوهم، لا هذا ولا ذلك يجديك، لكنك لا تيأس ولا تستسلم لأذرع التنين في زحام المفترسين، المُتطلِّعين الباحثين لا عن وجهك، وإنما عن وجه يريدون أن يضعوه على سحنتك بين الوجهين، لكنك تُشرِق فيحفظ الضياء صورتك لك، باقية وتبقى، وتمشي في أول الطُّرق واثق الخطوة مُتلفِّعًا، كما ينبغي لك، بغبار الأيام، لا الشظايا تنالُ منك رغم عذابات الجراح، ولا صَقيع الغربة في سحيق المنفى، غامض، شُقَّ طريقك وامضِ رَغم زِحام المفترسين، طالعًا من أعطاف العاشقين لِعِشقنا يُوحِّدنا لا نشرك به، فنحن من المؤمنين اليوم، وغدًا، أبدًا.

ما الوجه إلا صوت، الشكل نبرة، الكناية بحة، والبلاغة كلُّها مُلاحِقة الجرح النازف في خفاء أسراره، فاتركوا لي، لنا بَقِيَّة من وجه، ومن دم الجسد والفؤاد، هذا صوتي، صوت الغريب، فاذكروا غرباءكم بخير.

١٠ يونيو ١٩٩٥م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥