خلل في الحاسوب ليس إلَّا …
(١) «فوضى لا تُطاق»
لم يُصَدِّق السادة العرب الكرام ما حاولتُ أن أشرحه لهم بكلمات بسيطة، عارية من كل زخرف، وصاعقة من شدة وضوحها، ما صدقوني، وهدَّدوني؛ أعني هدَّدوا فرنسا بأن يُغادروها فورًا لينزلوا في أرض أطيب وأرحب يَقْضُون فيها فسحة الصيف، بعيدًا عن حرارة الجو وحرارة السياسة وحرارة كل هذه الفوضى.
أجَل، فهي الفوضى في نظَر السادة العرب الكبار، القادمِين، من أول الصيف إلى باريس، مُدجَّجين بالصكوك البنكية وبطاقات الاعتماد وأنواع شتَّى من العملات، راغبين في الاستجمام ونِسيان بعض ما لا يَعرفون أو لم يسمعوا به من هموم الأيام، أَوَليست الفوضى بعينها أن يجلس رئيس وزراء فرنسا أمام مذيع النشرة المسائية لقناة تلفزيونية مثل ولد أو تلميذ مُذنِب يستمع إلى الغمز واللمز، وتنهال عليه المَلامة والتقريع، وكأنه «صرط» ميزانية الدولة في لقمة واحدة، أو زَوَّر نتائج الانتخابات الرئاسية بقدرة سحرية، ليستقر رفيق دربه وحزبه في الإليزيه، ويجلس هو من دون الآخرين رَخِيَّ البال في قصر ماتينيون؟ قال الإخوة العرب: نحن ما صدَّقْنا إذ رأيناه في تلك الحالة، وجهه شاحب ونبرات صوته مضطربة، تخشى أن يَذرِف دموعًا حقيقية لا دموع التماسيح، ونحن نعرف الرجل على رباطة جأش وقوة عزيمة، شديد البأس، ماكرًا ودبلوماسيًّا محنكًا، فإذا به أمام مذيع قناة تلفزيونية على وداعة لا مزيد عليها، يخرج الأوراق ويعلن الأرقام كمَن يدفع عنه أكبر جريمة اقترفها آدمي على وجه الأرض، فما فَهِمْنا شيئًا، وقدَّرْنا، على كل حال أن أمرًا جللًا حدَث أو سيحدث في هذه آﻟ «فرنسا» فقُلنا نسأل أولًا قبل أن نَتَّخذ قرارنا، فلا مقام لنا في بلد قد تعصف به القلاقل.
أجَبتُهم بحذر وكياسة، فَهُم ضيوفي، بألَّا عواصف ولا قلاقل هنا، الآن أو غدًا، وكل ما هنالك سوء تفاهُم بين الشعب أو الرأي العام والحكومة. وهو سوء تفاهُم ما كان ينبغي أن يطرأ في مطلع العطلة الصيفية، والمواطنون يُحبُّون الاسمرار في الشواطئ، والوزراء يَتمنَّون، أيضًا، قضاء أسبوع أو أسبوعين في العام بعيدًا عن «استفزاز» الشعب ونفير الصحافة و«صداع» النقابات والإضرابات.
لكن ماذا تريدون، فالأمور هنا تحدث هكذا، لا أحد يتحكم في توقيتها، خاصَّة وأن الفرنسيين معروفون بمزاجيتهم وميلهم إلى اللَّغَط وجعل الحبة قبة، ولله في خلقه شئون، ثم إن الجرائد في الصيف تخشى من خسارة قُرَّائها والعكوف على استهلاك المرطِّبات والمبرِّدات عِوَض اقتناء الصحيفة، فيعمد رؤساء التحرير، بالاتفاق مع بعض المُخبرِين والتواطؤ مع مَن لهم مصلحة مُعيَّنة في زعزعة الأمن والاستقرار، إلى تفجير قضايا وهمية وافتعال فضائح، إن صح التعبير، فتقوم القيامة مؤقتًا لا غير، بما يعود بالمال الوفير على تلك الجرائد وإن كانت الحكومة تؤدِّي الثمن غاليًا، بل إن الشوكة تقف في حلق الوزير الأول نفسه، تَرَونه يسقط في الفخ مُترنِّحًا لا أحد يلقي إليه حَبْل النجاة ورئيسُه ساهٍ عنه في أمور الدنيا الكبيرة.
هو سوء تفاهم، مجلبة للضَّحك والرثاء ما دامت القضية كلها — إن جاز لنا تسميتها قضية — أن السيد ألان جوبي المسكين يُؤجِّر منذ سنوات شقة حيث يقطن في باريس، مساحتها مائة وثمانون مترًا مربَّعًا، ويدفع إيجارها شهريًّا أربعة عشر ألف فرنك فرنسي، وكان قد تَسلَّم الشقة بعد أن قامت بلدية باريس بأعمال ترميم بلغتْ مليون فرنك، باعتبارها صاحبة المِلك نظير ما تقوم به مع جميع المستأجرين. لكن، وكما تُلاحِظون يا إخوة، يا كرام، فإن بعض من «في قلوبهم مرض» أشعلوا الفتنة مُستنكرِين كيف يدفع جوبي ذلك المبلغ فقط، لشقة بتلك المساحة في حي يزعمون أنه عريق، مستكثرين تكاليف الترميم، وأُحب أن أذكر لكم شيئًا آخر لا أقلَّ إثارة للضحك من سابقه، فمن مؤاخذات المغرضين، إقدام المَعنِي بالأمر، أيام كان مسئولًا للجنة بالمالية للبلدية وعمدة في ترابها، أن خفض إيجار بيت يشغله أحد أبنائه بدعوى أن هذا المِلك العام الذي تبلغ مساحته ثمانين مترًا مربَّعًا لا يستحق أكثر من أربعة آلاف فرنك. وهي في نظرهم فعلة نكراء، مُتناسِين عمدًا، وبسبق إصرار، أن القدر كان للرجل بالمرصاد إذ لم يُوفَّق في زيجته الأولى، فاضطر أن يلجأ لأبغض الحلال عند الله طالبًا الستر في زواج جديد، ما دفعه كأب مسئول أن يحمي ابنه من التَّشرُّد ويعثر له على سكن ملائم.
أراكم تعجبون … إنما العجب حقًّا ألَّا يملك السيد ألان جوبي غرفة واحدة في باريس القُرِّ والحَرِّ، وهو خريج كبريات المعاهد الفرنسية، المتقلب منذ سنوات في مناصب الدولة الرفيعة، استُوزِر في كرسي الميزانية، أقول لكم ميزانية فرنسا كلها، وفي كرسي الخارجية، وكانت عينه على الشئون المالية لبلدية باريس الكبرى، واليوم، كما تعلمون، هو الوزير الأول، وعمدة مدينة بوردو، الأمين العام لحزب التجمع من أجل الجمهورية الذي فاز زعيمه بكرسي قصر الإليزيه.
نظر السادة العرب الكرام إليَّ وإلى بعضهم البعض في ذهول، وسمعت أحدهم لا أعرف إن كان يضحك أو كان يبكي، أو هو بينهما: كع، كع، كع، هق، هق، هق - كع، هق، هق، كع …
قال آخَر: لا حول ولا قوة إلا بالله، زفر ثالث: لا، هذه فوضى لا تُطاق، أرعد رابع: هل هذا ما يُسمُّونه الديمقراطية؟!
وأزبد آخَر: رئيس وزراء، ويسكن في شقة، ويدفع إيجارها، ثم يجلس أمام مذيع «مصبوغ الوجه» يقاضيه كمجرم، والله عشنا وشفنا! يا جماعة، نتوكل، لا مقام لنا في هذه الأرض!
حاولتُ أن أثنيهم عن قرارهم مُتعلِّلًا بأن الفرنسيين، كما ذكرت، أصحاب «مزاج» في هذه الأمور، وعلى كل حال فنحن «شو خصنا» بهم، فلهم ثقافتهم وتقاليدهم، ولنا، ولحسن الحظ، ثقافة وتقاليد مغايرة، وإن كنا من أسف نلاحظ بيننا هذه الأيام مَن يكثر التعامل مع الأفكار المستوردة، مُغلِّبًا كفة المُعاصَرة على كفة الأصالة، وأنَّى له ذلك، أليس كذلك؟! وبينما القوم قرَّ عزْمُهم على الرحيل حيث لا أدري، نطق كبيرهم الذي ظل طيلة الوقت قاطنًا في دهشته، استفسر بنبرة من لا يريد أن تفوته معرفة: قرأتُ في جريدة «المياه» خبرًا ما صدقته … بالله قل لي: هل صحيح أن وزير الصح والعمل في هذه الأرض «النصرانية» هُزِم في الانتخابات البلدية؟ أجبتُ: فعلًا، فالرجل رشح نفسه عمدة لإحدى الدوائر العشرين في باريس … لم يدرك أنه جوبي، استدركتُ وفي نفسي خشية أن يُغمَى على الرجل الكبير ونصل إلى سين وجيم: هو، يعني، لا، الحقيقة شيء آخَر، يعني حصل في البداية خطأ في الحساب، خلَل في الحاسوب، هو «إنما عن سهو»، ثم والحمد لله عادَت الأمور إلى نصابها، وأظن أن الجريدة اعتذَرتْ وفصلوا المُحرِّر، وعادت الأمور إلى نصابها.
(٢) شمس يوليو الغواية
العربي الآخَر الذي قابلتُ كان متوتِّر الأعصاب، عَكِر المزاج لسبب شديد الاختلاف. لم يكن يعنيه في شيء أمر الوزراء، صغارًا وكبارًا، ولا مأزقهم أو فضائحهم. وقضايا الشقق المؤجَّرة أيضًا خلف ظهره؛ فقد شبع من هذه المهازل في بلاده وجاء هنا ليملأ عينيه بصور ورموز جديدة يشحن بها قصائده القادمة، بعد أن استنفد كل الرموز والأساطير والتجليات والمَقامات والقداسات، من سائر الحضارات والثقافات. لاحظتُ، في البداية ونحن نبعثر الخطى في بعض الشوارع الباريسية أن عينيه تخرجان من محجريهما، فتتوقفان عند الكائن والشيء والسائل واللزج، تبحلقان. وظننتهما، أحيانًا، تلحسان الأرض مَن وما عليها لحسًا، وعنَّ لي أن أُنبِّه صاحبي إلى فداحة الإفراط في اللَّحس؛ فإنه لا تُحْمَد عقباه، فوجدتُه سها عن رفقتي مشدودًا إلى أذرُع وسيقان وخصور عارية، وإلى صدور منتفضة كلها عابرة، رشيقة كما في عرض الأزياء، ساهية عنه كضباء شاردة، وعاد إلى رشده فجأة ليسألني: وهل عندكم من هذا طول العام؟ سألتُ: ماذا تعني بهذا؟ أشار حيث أشار: ه … ذا!
أردتُ أن أمازحه فأحيله إلى مصالح البلدية للاختصاص، ولكني أشفقتُ عليه، وخاصَّةً على «تجربته» الشعرية القادمة، وهي في لعاب بين شفتيه أمامي، فأفهمتُه بأن الشمس تفعل الفعائل ببني آدم في بلاد الشمال كما لها فعائلها التي تُعْرَف في بلاد الجنوب، أظنه سها عني ثانية، مأخوذًا بوضع فتاة وشاب ضَمَّتْهما قُبلة أبدية تحت شمس يوليو الغواية، وعَدانا لم يكن أحد يحفل بهما. وكَمَنْ عثر على الحقيقة الضائعة جلجل صوته: وجدْتُها، حين سأعود إلى هناك سأسلخ جلد كل الشعراء الذين يُزيِّنون عاهاتهم الشِّعرية بالحديث عن الجسد، سأقول لهم: إن الجسد ليس مفرَدات في القاموس، واستعارة مُستحلَبة من كَبْت اليقظة، سأقول لهم: «إن رؤيتي الحياتية، وتجربتي الشعرية تملي عليَّ أن …!»