من هموم بوعلام الجيلالي
قبل ثلاثة أشهر بالعد والتحديد على بدء عطلته السنوية يتغَيَّر نظام حياة بوعلام الجيلالي رأسًا على عقب؛ يستعيد الأمل قليلًا قليلًا، أولًا؛ فعودته إلى الوطن قريبة ولقاؤه بالأهل والأصحاب يُمسي مرقوبًا وسيغطس في المَسرَّة العائلية، ويرى دربه القديم وأولاد الدَّرب الذين اكتهلوا مثله، ويجلس الساعات الطوال في المقهى يُثَرْثر ويبرقق معهم دون أن يكترث للساعة، وفي الليل يَتبرَّع على الجميع لقضاء سهرة فاعلة تاركة عند الشيخات.
قبل ثلاثة أشهر يبدأ بوعلام في حساب الفلس وأخيه، من الخدمة للدار أو الغار ومنه إلى الخدمة، لا نزهة، ولا مقهى، ولا أي إنفاق خارج عن المعقول، لعبة اللوطو وحدها يحافظ عليها عسى أن يأتي معها الفرج ويَتخلَّص من عيشته المُرَّة وسط هؤلاء البيض الخنازير وسمائهم المُلَبَّدة، الباكية. طوال العام يستعد ويشتري حقائب جديدة؛ فحقائب العام الماضي بَقيَت هناك ويبدأ في ملئها إلى أن تنتفخ بكل ما هو رخيص: سراويل، قمصان، بلوزات، مناديل، سبرديلات، صحون، ملاعق، سكاكين، طناجر، وهناك من يريد آلات لِعَصْر التفاح والقهوة، وهو لا يملك أي معصرة ويفتح فاه ليشرب الماء مباشرة من الأنبوب.
تهل طلعة العطلة فيستدين يمينًا وشمالًا؛ لملء أكياس إضافية، يصبح أسعد إنسان في العالَم مع قرب الوقوف تحت السماء الزرقاء ولا يحفل بالطريق المُهلِك، ولا مَشاقِّ السَّفَر، ولا غطرسة مَن كان المغاربة يسمونهم بالأمس القريب «السبنيول الحازق!» إذ ستطلع عليه الشمس غدًا في بلاده، ويُشفى مؤقتًا من داء الغربة العُضال، لن يَتفحَّص أحد وجهه؛ لأنه أسمر وشعره أسود وشارباه كَثَّان، لن يَتوجَّس منه العابرون لأنه يمشي بمُفرده دون رفقة حميمة لكلب أو كلبة، يعرف مسبقًا أنه سيزهو مؤقتًا وسعادته مُعلَّقة بورقة تافهة في مكتب الباطرون، وبأيام مَعدودة هي عمره، كل عمره في عام كامل.
ويعرف، أيضًا، أن عليه التَّحلِّي بكثير من الصبر وكَبْت أي غضب قبل الفوز بهذه السعادة؛ ففي الحدود سينتصبون أمامنا كالعفاريت والمَرَدة، نحن نريد أن نعبر من الغربة إلى الوطن العزيز وهم يَنقضُّون على حقائبنا وأمتعتنا كما لو أننا مُهرِّبون أو مشبوهون.
افتح وافتح، طلِّع هذه، نَزِّل هذه، هذه غالية، هذه ممنوعة، هذا القانون، هذا المَخْزَن، نحن نعيش في الميزيرية وأنتم تبارك الله عليكم، أحم، أحم. هذه جهنم وليس عبورًا. هذا اسمه الصراط والأولاد يحترقون في الصهد ويَتصوَّرون أن آباءهم يلعبون في السيرك، والواحد لا يعرف إن كان لحمه سيبقى فوق عظامه إلى أن تصل به السيارة إلى الدرب، بعد ألف تحية ولمزة وغمزة، ويكاد يندم لولا أن الوالدة الجريحة تَهُب من قاع الدار فتكسو وجه ابنها العائد بدموع الفرحة والحنين.
في اليوم التالي يكون الدرب كله قد عَرف أن بوعلام وصل من فرنسا، وأن سيارته وقفتْ أمام الدار مُختَنِقة بالحقائب، والجارات والعمَّات والخالات وبنات الخالات وكل من هب ودَب، يتهافت على العياشية؛ لِيُباركن لها وصول ابنها بالسلامة، يَشرَبْن الشاي ويتطلعن حولهن مُترقِّبات متى تقوم العياشية لتشرع في توزيع كَنْز وليدها العزيز الذي يعمل رئيسًا كبيرًا في شركة كبيرة للتراكتورات، والنصارى أنفسهم يخافون منه، وصاحب الشركة يريد أن يُزوِّجه ابنته ولكني أنا قلتُ لا، بوعلام لن يتزوج إلا بنت بلاده وعندي له فاطنة التولالية!
أما أنا فأمرُّ على الخَضَّار والجَزَّار والنَّجَّار والشيخ والمقدم، أموت في السلام والكلام والأحضان والجميع يريد كارو مريكان. في المقهى أمد رِجلًا على رجل ونثرثر الساعات، أسمع الكثير؛ فأفهم ولا أفهم، أشرب القهوة الرديئة وأتاي المعسل ولا أفهم، أعود إلى الدار فتقول الوالدة لا بُدَّ أن أرسلها في العام القادم لزيارة قبر سيدنا النبي فأفهم، وفي العشية أنزل إلى المدينة راكبًا سيارتي، لا أعرف كيف يسوق البشر هنا ويستوقفني الشرطي الذي يصرخ في وجهي: آالسي، راك في المغرب ماشي في فرنسا، واش كتفهم؟! أبتعد قليلًا فأرى نظرات تخزر إلى لوحة السيارة وأحس كأني أسمع وشوشة الجالسين في حوالي عشرين ألف مقهًى على جنبات الطريق، فأكاد أفهم ولا أفهم، جيبي بدأ يفرغ، جيبي وصل مثقوبًا من اليوم الأول. جميع الذين التقيتُ بهم، من العاطلين والعاملين والمُعطلين، يبكون يَلعنون الدنيا وما فيها ولكن كلهم يضحكون ولا واحد منهم يمد يده إلى جيبه، فبوعلام في الذِّمَّة وإلا مِن أين له هذه السيارة، والساعة والكسوة وانظروا فهو يصرف بلا حساب، ليس مثلنا نحن الذين بقينا هنا ننش الذبان؟ وعلى كل حال فهو وأمثاله يفعلون هذا قصدًا، هؤلاء «الفاكانسية» الذين كانوا يُسرِّحون الماعز وأصبح لهم اليوم شأن ومرشان!
تنفَدُ نقودي نهائيًّا فأذهب إلى القيسارية فأبيع الساعة والخاتم من أجل مصاريف العودة، أغادر الدرب المحبوب تحت جنح الظلام وشهقات أمي أمام باب الدار تفضح هروبي. ومن الآن عليَّ أن أدبر مصروف زيارتها إلى للامكة وأنا لا أعرف إن كان المعمل سيبقيني أو يرميني إلى الشارع مع جيش المطرودين؟
وكيف كان العبور آلسي؟ مزيان، وكيف وجدت البلاد؟
مزيان، كل شي مزيان. ومن بعد ما قضيت مدة مع الأهل والأحباب بلا شك أنت فرحان؟ فرحان … مزيان كل شي مزيان.
بعد ثلاثة أيام بالعد والتحديد على انتهاء عطلته السنوية تَغيَّر نظام حياة بوعلام الجيلالي رأسًا على عقب، بقي البحر هناك، والسماء الزرقاء، والشمس الساطعة من الصباح إلى المساء، الأم هناك والتربة الحمرية والمرارة في قهوة الصباح الأولى نظر إلى السماء فرآها ملبدة وقال: هكذا ستبقى إلى الصيف القادم، دخل إلى المعمل مَحنِي الرأس يرتجف، في الخارج بحث عن الضحك فلم يجد أحدًا، جرَّب تحية جار عابر فكشَّر فيه.
وضع رأسه على الوسادة أخيرًا وحين لم يعثر على أي حلم هنا فكَّر في الوطن العزيز الذي كل شيء فيه فرحان سعدان … ومزيان.