ملح على بشرتنا
(١) «وتوه توه أعباس»
كأن ثَمَّة لعنة تلاحق المُهاجِر حيثما حلَّ وارتحل، لا بل هي قدَر له بالمرصاد يسير خطوة، خطوة، منذ أن يُضْطر إلى الهجرة، ولا أقول يختارها، مثلما لا أستطيع الجزم بأن الظاعنين في ديارهم يملكون حرية الاختيار في مَقام نعرف جميعًا أنهم باتوا يُؤْثِرون عليه المجهول الشَّرِس، كأن تَفتَرِسهم الدلافين أو يَقْتات منهم البحر.
حين يتصور المهاجر — وليكن المغربي مثالًا له هنا — أنه انعتق مؤقتًا من قدَر العوز والامتهان لكرامته، وحطَّ رحاله بديار تَغلِب عليها سُمعةُ احترام الحقوق المعنوية، وإيلاء الاعتبار لكرامة الفرد، وعدم ابتذال ذوقه أو الاستخفاف بعقله، حين يرقى سُلَّم هذا «الوهم» سرعان ما نراه يَتعثَّر نزولًا في درجاته لِتتكسَّر عِظامه من جديد، على أرض الواقع نفسه الذي توهَّم أنه أمسى قارَّة متروكة وراءه، هو لا ينساها بتاتًا، ولكنه يرغب، على الأقل، في أن يتعافى من أمراضها ومهاناتها لبضعة شهور في السنة فقط، قبل أن يشتعل فيه الحنين كالنار إلى الوالدة والوالد، والدراري والدرب، وكل تلك الأشياء الأخرى التي لا يجدها في «بلاد النصارى» ولا يعرف حقًّا كيف؟ ولا لماذا تواصل سكنى عينيه وروحه؟ هو الذي مَنَّى نفسه وسعى ليُوطِّنها على الانخراط في عالَم جديد ذي ثقافة وعقلية ونمط عيش، ما أشدَّ اختلافه عمَّا عاش وعرَف قبل أن يعبر المضيق، وحين يلتفت إلى الخلف تكون طنجة «العالية» قد أصبحت أثرًا بعد عين، أو هكذا يَتخيَّل المسكين!
إنما هل عبَر حقًّا؟ ما الذي عبر فيه؟ وهل العبور الحقيقي الكامل مسموح به؟ هو لا يملك من الوقت ولا سعة الصدر ما يعطيه فسحة لتدافع مثل هذه الأسئلة والتَّصدِّي لها إما بالتأمل أو المواجهة، وماذا لو تجاهلها فهو جاء للكسب، سعيًا من أجل رزق لم يُوفِّره له وطنه، وطنه هناك خلف البحر، وليس لتطارح الأفكار ومساءلة ذات لم يتحقق أبدًا من هويتها، لم يسمح له الحرمانُ يومًا بفحص ما تحمله من مشاعر، من أحزان، ما عدا شعور الحرمان نشبت فيه مخالبه جارحة، وأنه هنا في هذا التهجير، لا الهجرة — فالهجرة الحقيقية اختيار، قرار حُر، طليق من كل عسف أو قيود — يحاول بالكرامة الأولى التي يتعلم أبجديتها أن يضمد الجروح عساها تلتئم وعساه أن يصبح إنسانًا.
لكن، كيف السبيل إلى ذلك، والفاعلون يلاحقونه بأشكالهم، صورهم، وسماجتهم، يصرون على نفي الصفة الإنسانية عنه، وحصر وجوده كله في حدود البضاعة، ولا شك أنها عدوى البلاد التي تنازَل عنها بلا شروط فيما تَتشبَّث خزينتها بجرابه وعَد روحه نقدًا في حساب العجز أو الفائض التجاري. لقد هجمَت الرأسمالية «الوطنية» والمركنتلية على مَغاربة الخارج، وبدأت تنتشر انتشار الزلط في المغرب، في المدن الفرنسية، حيث الكَثافة السكانية من العمال المهاجرين، والتنافس داخل هذه الترسانة على أشده في تقديم العروض والتسهيلات ونِسَب الأرباح، والتلويح بنعيم ولا كَنعيم الجِنان لكل الذين سيُبادرون للاشتراك في معاملات المؤسَّسات المالية والعقارية المغربية، الحريصة على مصالح الجالية المغربية في الخارج (كذا، طز) انظر مثلًا هذا البنك يذيع إعلانًا على العمال المقهورين يخبر ويشهد فيه، بأن تحويلاتهم من الخارج إلى الوطن العزيز مضمونة في أجَلٍ لا يتعدَّى أربعًا وعشرين ساعة. وطبعًا فالمقصود والصواب لا يقل عن أربع وعشرين يومًا، إذا لم يتدرَّج إلى خانة الشهور.
والآن، تعالوا إلى الهزء، إلى الاستخفاف بالعقول وتحجيم البشر إلى أنصاف آدميين، أنصاف بهائم، إلى ضرب من الاستقراد أو القردنة يمارسها من وجدوا في المهاجر ضالة جديدة لترويج بضائعهم وغصبه كبضاعة. لست مختصًّا ولا عارفًا ببواطن وألاعيب فَن دراسة السوق، ولا بمادَّة الإشهار، ولو كنتُ فضوليًّا، شأن كثير يحشرون أنفهم في كل علم وفن، لما تردَّدت في إعداد أطروحة مادتها وعنوانها «صورة المهاجر المغربي في الإعلان التجاري بالخارج»، لا أستبعد أن فنانًا قديرًا مثل محمد قاوتي يستطيع أن يَستَلْهِم منها مسرحية ناجحة أخرى.
الإعلان الذي أقصد هو ما يعده المغاربة في الداخل ﻟ «أشقائهم» في الخارج، وفي باريس، على سبيل المثال لا الحصر، يبث في الإذاعتين الوحيدتين المُوجَّهتَين للجالية العربية. أنت يا صديقي عبد السلام فرجي جالس في صالونك بممر سوميكا، بشارع محمد الخامس، وجهاز الراديو المُدوِّي عندك لا يلتقط «إذاعة الشرق» في باريس. من برامج هذه المحطة إعلانات تجارية عن البيض والدجاج والمرغاز واللحم الحلال والمطاعم العربية كافة إلخ … تليها «إذاعة الشمس» المُوجَّهة للجالية المغاربية خاصة، وهي بدورها، لا تقصر في الترويج للبقر والغنم والطير الحلال … المهم يا عبد السلام أنك أنت المغربي، الوزاني أصالة، لو سمعت عبارات إعلان واحد موجَّه إلى المغاربة لانزلقَتِ الموسى من بين أصبعك فأدميتَ عُنق زبونك بدل أن تحلق ذقنه، ولهرولتَ إلى الشارع صارخًا كالمجدوب: اللهم إن هذا منكر! فما الخبر؟ تسمع إعلانًا يُروِّج للعبور البحري إلى المغرب بأرخص الأثمان وتهز طبلة أذنك هذه الأصوات: «واه، واه … وتوه توه أعباس … واه، واه، وطنجة يالعالية … أجري واجري، قطع لبلاصة، واع، واع، وتوه توه أعباس، اشحال، قيد النمرة، كاترفان، المغرب الرخا لله، واه، واع …» ثم تسمع إعلانًا آخَر عن حي سكني في بن جرير أو سبت النمة يتنافس في تذييعه ثلة من جهابذة الدارجات المغربية، هاك (الفاسي)، وهاك (العروبي)، وهاك (السوسي)، و (الجبلي) و(البهجوي)، كل منهم يتقعر، يرطن ويمطمط: «أه، إيوا آه، لخصص والزليج، المعتبغ، واش بيتي نعم أسيدي، هادو هما الديور، كي السمن عما لعسل … أشوف أخاي، إذا شفتي الدروج في المصرية، اعرف كاين لعسل في النمل».
نشرة أخبار موجزة ثم طيخ طاخ، امرأة مغربية تصرخ في زوجها: أقصد تحدثه بأدب جم: «ويلي، ويلي أعباد الله، أنا عيت من هذا الصالون الرومي، المغرب هو السدادر … واخويا العربي، زيد قدامي نشريوهم في باربيس ولا لفراق دابا.» وهذا يا عبد السلام غَيْض من فَيْض؛ لأني أخشى إن سردتُ عليك ما هو أغربُ أن أُعرِّض آدميتي للتَّلف، والحق أني في حاجة إلى أن أكون إلى جانبه لأُجرِّب تقليد تلك الأصوات التي تمسخ المهاجرين أو تعتبرهم فصيلة نِصْف آدمية، نِصْف بهائمية، يزعقون، يتناهشون، يَعْوُون أو ينهقون، وللعِلْم فإذاعة الشرق ليست مسئولة عن هذا السيرة؛ فهي تتلقَّى أشرطة مُسجَّلة من لَدُن متعاملين مغاربة وتذيعها إعلانات تجارية؛ ولهذا السبب سألني أكثر من صديق مَشْرقي داخل الإذاعة وخارجها مستغربًا: «ما هذه الأصوات العجيبة؟ بأي لغة يتحدث هؤلاء الناس؟ نحن نعرف المغاربة، هم مثل كل البشر، لكن هؤلاء …!» فأحاول إقناعهم بعكس ما يظنون، أحاول فقط، بصوت هادئ، وعامية مغربية مرسَلة فيفهمون كلامي ويقتنعون ثم ما يلبث الأمر أن يختلط عليهم، حين يستمعون بعد ذلك إلى المحطة إياها وتقرع آذانهم أصوات وخطاب المهاجرين، كما يريده لهم الذين يتاجرون في لحومهم، الذين هَجَّروهم من ديارهم ويُلاحقونهم بإلصاق صور الهزل على حياتهم وألسنتهم، ماحقين آدميتهم وحقهم في النُّضْج والرقي. «وتو، وتوه أعباس».
(٢) عيادة الحاج مامبا
للأفارقة بدورهم حظهم من هذه الطبخة، وهو حظ وافر، قياسًا بعدد المهاجرين منهم وتجمعاتهم السكنية، وتنوُّع ثقافاتهم وأنواع تقاليدهم ومعتقداتهم، وللمركز الحقيقي الذي يمثلونه في موقع الصراع التاريخي بين الجنوب والشمال، وبالعكس عمليًّا لا يعيش الإفريقي المهاجر إلا ظاهريًّا في فرنسا. هو أشبه بالمَنْفِي منه بالمقيم، وكل ما يحيط به في المجال المدني الفرنسي، يصعد الإحساس بالمَنْفِي ويبلغ به ذراه العليا، وهكذا، فإنها ليست ذاته وحدها ما يَنسحق، بل كل وشيجة ممكنة لربط علاقات طبيعية حيث اضطر للعيش، وتزيد عقدة اللون بين طرفي العلاقة هذه الحالة توترًا، ولذلك وباستثناء الممارسات العملية من شغل ومُعامَلات تقنية وتَنقُّل وما إليه، يعود أو يلوذ الإفريقي المهاجر بمجتمعه الأصلي إلى «الغيتو» الاضطراري، فالغرب الذي فرض فضاء الغيتو في البداية على اليهود هو نفسه الذي يواصل، رغم كل شعاراته، فرض فضاءات مماثلة على مَن يعتبرهم بشرًا من الدرجة الدنيا. وأنا لا أُسمِّي ما يتأسَّس بموازاة المدينة الغربية، حيث يقطن المهاجر الإفريقي أو غيره، هامشًا، بل هو سياق مجتمَعي له قوانينه الصريحة وأعرافه، وتَسُوده بالكامل علاقات وطقوس المجتمع الأصلي الذي قَدم منه أبناء القارة السمراء.
هذه العينات نفسها هي في الدائرتين المذكورتين بباريس وتعاني الهموم ذاتها أعلاه، والإعلانات التجارية تهديها سواء السبيل، مرشدة كل باحث عن حل عاجل وفعَّال لمشكلته بأن يقصد «الحاج مامبا» فهذا الشيخ الذي أطلعني على سيرته الكناس الحالي بشارعنا يفعل العجب العجاب: يُزوِّج، يُطلِّق، ينهي الجفاء، يجلب المحبوبة، يفتح فرصة العمل، يَسحَر ربَّ العمل فيزيد في الراتب، يَشفي العاقر فتحمل في يومين، ييسر الربح في لعبة اللوطو، يشفي من جميع الأمراض، يُحوِّل الدكتوراه الوطنية إلى دكتوراه دولة(!) لكم أن تتخيلوا ما شئتم من مصاعب وأزمات فحلُّها محسوم عند الحاج مامبا، والحق ألَّا خيار له وإلا فالحاج سكابا منافسه الخطير بالمرصاد، إن هو لم يعثر على الحل السحري والناجع. وأستدرك فأقول بأن هذين الشيخين السينغاليين قادران، أيضًا، على تدبير أمر المقاعد البرلمانية والحقائب الوزارية، وكل ذلك بأسعار زهيدة.
والحاصل أنك فَلَتَّ بجلدك أيها الحلَّاق الوزَّاني، جئت في سنة بعيدة الآن إلى باريس تنشد البقاء والرخاء، فلطَف الله بك وأعادك إلى بلادك، وهي خير لك بمرها وضنكها من مقام الهجرة وأنفاق الغربة. وصدقني لو بقيت هنا، لتاجروا في لحمك وسمسروا أحلامك وحولوك إلى بضاعة تنهب أو تركل، ولوجدت نفسك واقفا في طابور الأفارقة أمام «عيادة» الحاج مامبا ليجد لك حلًّا لورطة الهجرة، رغم أنه ملح واحد على بشرتنا، مدبوغ على جلدنا، مقيمين أو مهاجرين، ورد الله غربة المغتربين ليفلتوا من قبضة التجار والدجالين.