النهر لا يكفي لأشواقنا
(١) محاولة فرح
سعدتُ كثيرًا هذا الأسبوع برسالة وصلتني من قارئ محايد — هكذا ينعت نفسه — مقيم بالضاحية الباريسية، وتسلَّم عنواني من صديق قديم بَقِيَت تجمعني به قرابةُ الكتابة. بعد التحية والتمنيات يخبرني المرسِل أنه مواظب، ما وسِعَه الوقت والجهد، على قراءة الصحف المغربية العربية، و«الاتحاد الاشتراكي»، تحديدًا، يلاحق فيها — على حد تعبيره — صدى أيام خالية، ومتمنِّيًا أيامًا أطيب في الأزمنة الآتية، ومشكلته مع صحيفتنا أنها ذات سحنة غاضبة وتجاعيد كثيفة، يُقلِّب صفحاتها مرارًا، طولًا وعرضًا، من البداية إلى النهاية فلا يجد إلا الجأر بالشكوى والصراخ، والعويل، والدنيا كلها قاتمة. المواطنون تتلاطم بهم أمواج القهر والأحزان، والمُحرِّرون والكُتَّاب أقلامهم مغموسة في حِبر الظلمات، والعناوين تستفز قارئها بالشر المستطير ودُنوِّ أجَل الطوفان، فإن أنت فكَّرتَ في قضاء العطلة بين أهلك في ربوع وطنك فإنك لا محالة ستحسب لهذا الحنين ألف حساب، وغير مُستبعَد إن وقعَت في يدك هذه الصحيفة المغربية أو تلك وقت الاستعداد للرحيل أن ترجئ الأمر إلى عام أو أعوام أخرى حين يفتح الله على البلاد ببعض الأضواء السَّنِية. ومُراسِلي لا يُهوِّن في شيء مصاعب وطنه، ويُقدِّر لصحافتنا حِرصَها على تنوير القراء والدفاع عن مصالح المواطنين والتَّنديد بأشكال الظلم والفساد كافَّة. لكني أراه يتساءل: أليس من حق القارئ أن يلمح خيط أمل بارق، هنا أو هناك، ولیكن سرابًا؟ أوَليس من حقه، وفي أحلك الظروف، أن يتفاءل خاصَّة وأن المجتمع الذي يعيش فيه ينجح في الانتصار على نكده رغم كل أهواله؟ وما المانع في أن نبعث في الناس بعض مشاعر الفرح، فهو حق إنساني، وأن نجعل من الدفاع عن حقوقهم الأولية نفسها فكرة فَرَح لا حالة قنوط ويأس؟
وتكاثرت أسئلة مخاطبي وتعدَّد استغرابه مُنزِّهًا نفسه فيما يذهب إليه عن كل بطر أو جهل بحقائق الواقع (كذا)، مُتشبِّثًا بمبدأ أن الواقع هو ما نصنعه بأيدينا وما نريده وليس بالضرورة ما يفرضه علينا الآخَرون مهما أُوتوا من أدوات العسف والتقييد.
وقد أربكتني هذه الأقوال كلها، ووضعتني في حيرة بين إعادة مساءلتها أو الاكتفاء بالإنصات إليها بما هي خطاب حقيقي، مشروع وبريء. وحسمتُ أمري أخيرًا بموالاة الموقف الأخير شَجَّعني على الالتزام به؛ أولًا: تسامُح مطلوب منِّي، فأنا لا أستثني نفسي من جمهرة الذين يرسمون للدنيا وجهًا عبوسًا قمطريرًا، وثانيًا: اللطف الشديد لمراسلي الذي أرفقَ رسالته ببطاقة مستقلة على وجهها صورة بحر شاسع وأزرق، وعلى ظهرها كتَب هذه العبارات: «أنظر إلى البحر عميقًا … أنا وإيَّاك نعيش بعيدًا عنه، والنهر لا يكفي لأشواقنا … لنفرح، إذن، بصورة البحر في انتظار أن نلقاه.» ولذا سعدتُ وسأحاول أن … أفرح.
(٢) شُرطة لحماية الحب
الصيف هنا سعادة، حاوِل أن تقتنع بهذا وإلا وجدت نفسك أشد انفرادًا من أي وقت مضى. وعلى كلٍّ فلا أحد يبالي باقتناعك؛ لأن الفصل الآتي قادم لا محالة، ولن يرحم ذوي الأرواح الشاردة، أو الذين قرروا، لأسباب لا تعني أحدًا البتة، الدوران في الزوبعة. والفصل له شكل جسد مُتدلِّه بافتتان في طقوس عباد وثنية، كلما لفحه القيظ زاد اشتعالًا بشهوية نارية، كل لغات الأرض لا تقولها وتقاطع عين ساهية مع التفاتة نحر كافية لتحترق فيها كل الأبجديات وتبقى هي العابدة والمعبود.
الفصل له لون مهرجانات وغابات جَلبتْ إليها البحر بأسماكه وجِنِّيَّاته وقِيانه وولدانه، ونصبت الموائد تأتيها أشجارها حاملة ثمارها ودِنانها والأخضر فيها أوراقه، عشبه، وَشْيه وزنبقه وصولًا إلى قمم الجبال حيث السنديانة أو الأَرْزة أغصانها ضراعة، وانتصاب أشجارها أسوار من خرير وعقيق تجرس تولد وتستشهد في الماء. لو تَوقفت هنا لهاجمتني أصوات عشرات الآلاف من الشباب صارخين، مستنكرين، كأني لذعتُهم في عبادة فحولتهم: لا، هذا لا يكفي، الشكل واللون لا يكفيان، نحن منهما ونفيض عنهما. أوَنسيت الموسيقى، الموسيقى؟! أدرك أن ليس من حقي أن أنسى شيئًا في حضرة الشباب، وإن فعلتُ فما ذلك إلا للتَّستُّر على تسلُّلي بينهم ذات ليلة، وذات ليلة أخرى وخشية أن أُضْبَط مُتلبِّسًا ﺑ «جرم» مُلاحقَة الزمن الهارب إلى الخلف. ثم إني أخاف عليهم من ذلك العقد الستيني اللاهب كما عاشَه فِتيان أمسَوا اليوم كهولًا، وأرى الفتيان المُؤقَّتِين حالًا يَهبُّون بالآلاف نحو مَعبده لا يملكون إلا جنون أجسادهم قربانًا، خُذْنا، إليكنا، ها نحن جئناك من كل الآفاق جالبيننا حطبًا وسعيرًا، فاجعل ما مضى وما هو آتٍ ينضرم فينا في لحظة هي مُطلَق ما لا يفنى.
فهذه فرصة ستحررني من قوقعتي، وسأرى صيفًا من طراز آخر، والذين سأذهب لحفلهم هم في النهاية من جيلي، مع فارِق حاسم هو أنهم فجَّروا في نهاية الستينيات ثورتَهم الثقافية والغنائية فيما تكالبت علينا من وقتها صنوف الهزائم والانكسارات، لا بأس. في الساعة الثالثة ظهرًا كان يسبقنا طابور من كلمتر والسهرة لن تبدأ قبل الساعة التاسعة. وقبل حلول هذا الوقت كنا داخل الملعب وفوق المنصَّات قرابة ثمانية آلاف، ومع الموعد أصبح في كل واحد أربعة، الموسيقى إلى عنان السماء، والشباب الغض إلى عنان الجنون، والغناء هو اللغة الوحيدة التي تتكلمها البشرية، ولم يبقَ لهم إلا أن ينزعوا لحمهم القليل، أما الثياب … الأيدي كلها عالية، والحناجر كلها صادحة، والغابات المحيطة كلها دخلت إلى الحلبة، فرضتُ على نفسي الاندماج في هذا الجو، على أن أتخلَّص من زعانفي والأدران. هذا وقت الجمال وفتنة العمر ومَجْد الصيف، حين انتهت السهرة ولم تَنتهِ الموسيقى أظن أني كنتُ قد تَحلَّلت في الهواء وقمر منتصف الليل وانتصاب قامة الغابة في جسد واحد، يا له من جسد. وفي طريق العودة، سألتُ دومينك: ولكنهم سِتِّينيون؟! أجابتْ بمكر: التِّسعينيون لا يُشبعونَنا، عديمو تجربة وقليلو صبر، وأنت تعرف … في أول بحيرة صادَفها الفِتيان والفتيات بعد «الباغاتيل» ألقَوا أجسادهم في الماء وراحوا يسبحون ويعبثون بينما شرعت سيارات الشرطة التي كانت هنا لمهمة تنظيم السير، تنسحب والرجال فيها ينظرون بحسرة، ويغبطون هذا العمر الجميل. كانوا شرطة لحماية الموسيقى وأسراب القطا وكل هذه المحبة.