أنقِذْني أيها الغائب من كل هذه القسوة …

في ساحة Les sablons التقينا دائمًا، هنا في هذه الفسحة الواقعة بقلب الوسط التجاري لمدينة نويي سور سين، الضاحية الشجرية الأولى لباريس، حيث تهجع البنايات بين خضرة الأغصان ووارف الظلال، ثلاث مرات في الأسبوع تتحول الساحة إلى سوق للخضار واللحوم والملابس، يرتاده سكان المنطقة، تقليد فرنسي جميل لباعة مُتجوِّلين وقارِّين في آنٍ، لهم مع كل حي موعد يوم، نصف يوم فقط؛ فعند الثانية بعد الظهر يحمل التُّجار ما لم يَنفُق من بضاعتهم، ويتبعهم عُمال يفككون الهياكل الحديدية للسوق المُرتَجل فتصبح كل ساحة أو مَعبر خلاءً كسابق عهده، ترى النظافة تلمع من البلاط بعد أن جاء عُمال البلدية وطهَّروه بالماء والصابون مثل أي دارة مُعتبَرة، فإنك إنْ مررت بالمكان إثر ساعة من زمن، ولم تكن عارفًا بهذا التقليد، فلن يخطر ببالك أن سوقًا حافلًا كان يقوم هنا بضجيجه وألوانه وروائحه الذكية، بل هو مهرجان صغير تتنزَّه فيه بقدر ما تتبضَّع.
وتحضرني الآن طُرفة تعود إلى أيام الغفلة، فقد حدث أني في إحدى زياراتي الأولى لباريس قبل أن أقيم فيها؛ أي في منتصف العقد السبعيني، جئت من الدار البيضاء ونزلتُ في دار المغرب أيام كانت دارًا في La rue des écoles. غادرت المكان في الصباح مُتلهِّفًا لاكتشاف ما فات الطهطاوي اكتشافه في باريس، وقتها كنت قليل المعرفة بخريطة المدينة، فحرصتُ على ضبط الطريق المؤدية من مقر إقامتي إلى محطة المترو Maubert mutualité، ومنها ذهابًا إلى باقي الشوارع والفروع. في الساعة الخامسة من عصر اليوم نفسه عدتُ إلى المحطة ذاتها؛ فَمُها ينفتح على ساحة مصغرة كان سوقها يغلي صباحًا فألفيتُها فارغة، أرى المقهى المقابل فأجزم أنه هو، بعض الدكاكين، هي كذلك، اسم المحطة لا خلاف، ولكن أين السوق؟ هذه مدينة لا بادية، بل إن سوق «حد السوالم» لم يتزحزح من مكانه، فكيف يحدث هذا في باريس؟!

طفقتُ أدُور في مكاني بادي الحيرة، متوجسًا أني ضللتُ الطريق إلى دار الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. وبينا أنا على هذه الحال رأيتُ أحد زعمائه، آنذاك، يخرج من المحطة، وكنا تَعارفْنا منذ الزمن الجامعي ﻟ «ظهر المهزار»، فقلت: الرجل خلاصي، ولم يملك نفسه من الضحك عاليًا حين أظهرتُه على ورطتي، وسرَت عدوى ضحكه إلى ساعة العشاء حين اجتمعنا في إحدى غرف الدار شلَّة أذكر من أفرادها خالد عليوة، المرحوم عبد الله الحجامي، والبوري الذي أعدَّ لنا طاجينًا لذيذًا من الكفتة بالبيض أكلنا عليه أصابعنا ونحن نقهقه، على غفلتي طبعًا!

في مقهى Le relais des sablons بنويي سور سين، قُبالة ساحة السوق، منتصف نهار كل أحد، دائمًا تقريبًا، Guy Bedos وأنا، هو من كبار فناني الفكاهة في فرنسا، ذو منهج وأسلوب في الاستعراض الفكاهي، ووجه مطلوب في المسارح وشاشات التلفزة، وإلى ذلك معروف عنه التزام اجتماعي وسياسي. و«بيدوس» مثل سائر الخلق الطبيعي يختار النزهة يوم الأحد، ونزهة السوق بالذات، لا رغبة في الشراء، ولكن لكي يشوف ويشم ويسمع وأحيانًا ليتكلم، وليرد على التحيات كثيرًا، كثيرًا. إنه ليس فأرًا محبوسًا في بيت محاطًا بالمعجبين والمَدَّاحين والمتكسبين، حين يخرج من بيته يمشي بخُطًى مُتَّزِنة، جسده مرتاح في قامته القصيرة، فلا افتعال في حركته ولا تَسلُّط لأي لكنة على نطقه أو كلامه سوى ما وهبه الله.

حين ينهي جولته في السوق تاركًا لزوجته تكاليف الشراء يلوذُ بمقهانا متكاسلًا فوق أول مقعد فارغ، طالبًا قهوة وماء معدنيًّا صرفًا. تتقابل نظراتنا، وبفعل عادة لقاء الأحد نتبادل التحية بانحناءة رأس خفيفة، وأتركه لراحته كما يتركني لشأني أنظر بلا تحديد ولا هدف، لكن «بيدوس» لا يرتاح، لا أحد يتركه يرتاح؛ ليعيش ويستمتع بجلسته في المقهى ﮐ «أيها الناس». تَهب زوجة صاحب المحل هاشَّة، باشَّة، تدفع أمامها نهديها المُتهدِّلَين: آه، غي، أنت هنا، كيف لم أركَ حين دخلت؟ … آه، القهوة اليوم على حسابي، آه …! تتراجع كما في المسرح لتعود إلى كواليسها ويدخل إلى الرُّكْح العجوز والضابط المتقاعد منذ حرب الجزائر: أوه، مسيو بيدوس، اسمح لي أن أحييك، أنت لطيف وبشوش دائمًا، ويعجبني غمزك دائمًا لأولئك الذين لا يستحقوننا في الجزائر. يحاول المخاطب أن يحتج، أن يصحح، كلَّا أنا لم أغمز من قناتهم، أنت تفهم ما تريد … يُصادِر الضابط لوسيان الكلام: بلى، والمهم أنك معنا وهذا لطف منك. حول طاولة ركنية تنحني سيدة على أذن زوجها: انظر، إنه بيدوس لحمًا ودمًا، هل ترى كيف أنه متواضع، يجلس مثل الجميع في المقهى، هه، هئ، قم، ينبغي أن نحييه، هذه فرصتك أنت الذي لا يعرف إلا المُرابِين. وهُما يَتململان قفز إلى الرُّكْح فتًى بادي الغُنْج فقطع عليها طريق البركة: أوه، هذا غير معقول، حبيبي، غي كلما شاهدتك في التلفزيون تَدَغْدَع جسدي وأحس أن صوتك يخترقني، قَبِّلني هنا وسترى صدق ما أقول.

بين أولئك وهذا الأخير، دخَل التاجر اليهودي الأصلع، الذي لا ينقطع عن الذهاب والإياب بين السوق والمقهى، شأن كل الباعة، من الفجر إلى الظهر وهم يفرغون كئوس النبيذ مع شرائح الخنزير المقدَّد، ويتأفَّفون من كثرة الزبائن وقلة ذات اليد! نطق الأصلع كالخطيب: صدِّقْني، سمعتُ امرأة تقول إنك هنا، فقلتُ أتعرَّف على فنان من عِرْقي، أنا فرنسي صحيح، ولكني من أصل بولوني وأنت كذلك من أصل آخر، أليس كذلك؟ تَصوَّر إنهم يتحدثون عن الفرنسي، ذي الجنس الصافي، ما رأيك؟ ينبغي أن تفعل شيئًا، هه، أليس كذلك؟! مسيو بيدوس، ودفع الفرنسي البولوني يده في كيس يحمله وأخرج منه علبة زجاجية: انظر، إنه مُربًّى أصيل، أبي هو من يصنعه في المزرعة، ستذوقه ويعجبك، انظر من هنا، إن موقعي في السوق هناك، إننا نُقدِّر الفنانين ولا نهتم بالسعر، ستجدني متفهمًا جدًّا.

بين دور وآخر كان الفنان المحاصَر يحاول أن يرشف من قهوته ويدقق في خبَر منشور في الجريدة أمامه، بلا جدوى، ولسانه يتقطع بالرد: أجَل، العفو، صحيح، شكرًا، حسنًا، والآخَر يخطب، والأخرى تُنَهْنِه، وسواها تمد بطاقة، تليها من تريد توقيعًا، موعدًا، من يقسم بأن الجالس هنا في هذه الدقيقة هو بيدوس لا غيره، وأتراهن، إياهن وإياك على زوجتَيْنا إن شئتَ كما فعلنا في المرة السابقة، ألم يكن ذلك ممتعًا، حقًّا؟!

أظن حين تكرر المشهد أمامي الأحد الماضي قررتُ أن أفعل شيئًا في وجه هذه الكائنات الوثنية. رأيتُه ينظر صوبي كمَن يستغيث، دون أن تُفارقه بشاشتُه وتَسامُحه كانت يداه تتشبثان بالجريدة وقد صار وجْهُها قفاها بعد أن أدارها في لحظة سِلْم نادرة. وإذ جمعتُ وقفتي بقرار أخرق لطرد الذُّباب قفزَت إلى عيني صور في الجريدة، ثلاثة وجوه، واحد منها يشبهني، أنا لا أقرأ هذه الجريدة، لا علاقة لي بأي صحفي فيها، لم أَقُم بأي حدثٍ مثير يستدعي تعميم صورتي فيها، وفيما أعلم لا مشاكل لي مع الشرطة، ولكن الصورة تُشبهني وإلا … وإلا فأيُّ معنًى لهذه النظرات المُصوَّبة نحوي لحظة اتخاذ قراري السابق؟!

رأيتهم، زُبَناء المقهى، يتهامسون وهم يشرحون ويملحون وجهي، ربُّ المحل يعرفني من سنوات، ومع ذلك يفعل مثلهم، خفتُ أن يَنقضُّوا عليَّ، أصبحتُ في قلب الرُّكْح. انزاح الضوء عن غي الذي استطاع أخيرًا أن يرشف من قهوته، وأنا أبلع صرخةً صامتة: يا بيدوس أنقذني! طبعًا، لم تكن هنا يا عبد الرحيم لتُنْجِدَني، كلما احتجتُ إليك التفتُّ حولي لأقبضَ على الغياب. تحن إلى بن أحمد كأنها بطرسبورغ أو مونتي كارلو، المهم أنك فَلتَّ بجلدك ولو بقيتَ هنا في صيف باريس، اللاهب بِحَر الصيف وحريق تلك القنبلة، لَصِرت تمشي «مع الحائط» مثل كل المغاربيين الذين بقوا هنا؛ أي لم يعودوا إلى ذلك الوطن الغالي، إما لفراغ جيوبهم، أو ليصونوا كرامتهم من الابتذال في مراكز الحدود والجمارك المعلومة. وأعلم، أيضًا، أنك كثير المرور بمحطة السان ميشال؛ ولذلك اغتبطتُ لغيابك يوم الانفجار ووجودك في ذلك المهرجان الذي كتبَ عنه المُراسل قائلًا: «إنه لا يُوصَف.» من مُنطلَق أن «حُبك الشيء يُعْمِي ويُصِم». فلو كنتَ هنا في اليوم المعلوم لأصبحتَ، لا قدَّر الله، في عِداد ضحايا الإرهاب الوحشي أو لَصِرتَ من المُشتَبه فيهم، أوَلستَ تحمل سحنة مغاربية مزابية ١٠٠٪؟ وفي كِلا الحالتين تأكد ألَّا أحد هناك؛ أي حيث أنت الآن، سيسأل عنك للاطمئنان، ليقول حمدًا لله على السلامة، فالمهم هناك أنك لا توجد إلا في لحظة العودة المؤقَّتة مُحمَّلًا بالهدايا وتلبية الوصايا، فتراهم يستقبلونك بالأحضان ويلهجون بالشكر والامتنان «إيه الله يعمرها دار، عبد الرحيم جاب والسعدية حتى هي.»

أقول لك فَلتَّ بجلدك وسحنَتِك التي يبدو لي أن واحدة من الصور، الوجوه المنشورة في الجريدة تشبهها، تُشبِهُني، تُشبِه عبد الله بوهلال، ومن حُسن حظك أنك تملك صك براءة بوجودك في الرباط زمن انفجار قنبلة السان ميشال. أما جميع أبناء جلدتك فاعلم أنهم عُرْضة للشبهة مُتَّهمُون بعيون المارة وحراس المتاجر ودوريات الشرطة، وهؤلاء الذين ستسلخ نظراتهم جلدي في مقهى يوم الأحد، أنا العربي، المغربي المُهاجِر الذي لا قِبَل له بتبديل سحنته ولا أرومته ولا مذهبه، فهل تنقذني؟!

باريس في ٣ / ٨ / ١٩٩٥م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥