ضربة شمس في المانش
تقرر مغادرة باريس إلى مصطاف، إلى منتجع صيفي، إلى مدينة بعيدة عن هذه التي أقمتُ فيها ردحًا من الدهر وتُمسي خلاءً، قَفْرًا، في شهر أغسطس، إلا من كنائسها ومتاحفها الباذخة ومعالمها التاريخية حيث يطوف اليابانيون الذين لم تفتك بهم قنبلة هيروشيما كالأشباح مُعزَّزِين بالخرائط يبحثون فيها عن موقع برج إيفل وهم وقُوف عند قاعدته بينما رأسه غاطس، رغم الفصل، في كتل صمَّاء من السحاب الرمادي المحبب لبعض الرومانسيين في العالَم الثلاثين.
قالت: تعالَ إلى «دوفيل»، الجِنِّية الجديدة التي تريد أن تسكن ما أحمل في داخلي من خرائط وعرَصات سِرِّية. ما الذي يبقيك في مدينة يهجرها أهلها صيفًا هجرًا مطلقًا كأنما اجتاحها الطاعون، ويُخيَّل لمن يَعبُر شوارعها أنه يَتنقَّل داخل مقبرة، ومبانيها كل واحد منها أشبه بشاهدة قبر، أما هنا فأنا أهديكني، وعندك البحر الذي تعشق لكن بلا موج ولا زَبَد، وهذه خطيئة المانش. تستطيع دائمًا أن تصنع بمُخيِّلَتك جبالًا من الأمواج، أما الزَّبَد فلا حاجة لك به الآن. ستلقاه وافرًا حالمَا تَعْبُر إلى الضفة الأخرى الجنوبية، وستُصاب منه بالتُّخمة سريعًا لحد أني أخشى عليك من العبور، وإن كان لا مَناص منه في النهاية.
لم أملك أي خيار في الجواب للتي سكنتني، وحذفتُ من ذهني تفاصيل التوقع لأي شيء، مُعوِّلًا على أن أترك المجرى يتدفق وحده، والحياة تسير بمقتضى ما تريد، فاعلًا ذلك بوعي من يرغب في الاستقالة، بل الهروب من دافق الحدوس والتخمين. والحكمة القديمة الساذجة تقول: إننا لا نفعل دائمًا ما نريد، ومصداقًا لها هيَّأتُ نفسي كي أخضع لأُقْنومها حين حملتُ في حقيبتي ما كان ينبغي ألَّا يُجْلَب. قالت بعد أن تَحقَّقت من استجابتي: أوصيك بشيء واحد؛ اترك كُتبك وأوراقك، اترك تلك المُنغِّصات كلها، فستنذر نفسك للشمس والعري؛ لترى الآدميين ينهبون اللفح والمَباهج، وأنتَ وسطهم تقطف من الطَّيبات وتنظر حولك، لا داخلك كما تفعل في أغلب الأوقات.
لا أعرف كيف عصيتُ وصِيَّتها، وهي التي ما طلبَت مني إلا حقًّا، وما أدركتُ عصياني إلا بعد فوات الأوان؛ أي حين تصوَّرتُ أني حللتُ بالمدينة الموعودة، فإذا بي في أخرى غيرها بلا ميعاد، في البداية لم يكن لديَّ أي دافع للعناد أو الإخلال بوعد ألَّا أحمل معي سوى بقايا جسدي ورماد من ذاكرتي وأوجاعي، ضحكتُ حين تحدَّثتُ عن كتب الصيف، عن القراءة التي يحملها معهم المُصْطافون، أو عن أعمال لا يجد لها البعض غير هذا الفصل كي يدخلوا إلى طيَّاتها، ضحكت لأنَّ شعوبًا كاملة لا تقرأ بتاتًا صيفًا وشتاءً، ولا ملامة على من لم يَنَل حظًّا من تعليم وتثقيف، وثمة بشر موكول إليهم تعليم أولاد الناس، صغارًا وكبارًا، عزَفوا عن القراءة منذ أن استقَرَّت أقدامهم على درجات السلالم الوظيفية، نظير استقرار جلوسهم على كراسي باحات المقاهي وفي رأس الزنقة. هي الضحكة ذاتها انتابتني حين صَدرت الصحف هنا في مطلع الصيف بمَلاحق كاملة تُرشد القُرَّاء لمئات العناوين المخصصة للقراءة الصيفية، موزَّعة حسب الأعمال والاهتمامات والميول … عناوين بالمئات للتسرية فقط وكَسْر المَلل بين غطسة في البحر وأخرى في الحبب، وغطسة ثالثة تنتظر ابتداء من الشهر القادم المشغولين جدِّيًّا بالسرد ستتمثل في صدور متعاقب لمائتي رواية بينها خمسون نصًّا روائيًّا لكُتَّاب جُدد، إلى جانبها مائة وإحدى وسبعون روايةً مترجَمة. وأكتفي بهذا القدر لأُجنِّبَني وإياكم الإحساس بالفجيعة.
ولهذا قصته التي لا بُدَّ أن تُحْكى: في سنة ١٨٩٣م سيفقد فرناندو أباه يواكيم بسوا، وبعد سنتين من وفاته ستتزوج أمه مادلين الضابط «ياوو روزا» الذي كان قد عُيِّن لتوه قنصلًا للبرتغال في مدينة دوربان بجنوب أفريقيا حيث ستستقر العائلة بدءًا من ١٨٩٦م وتقيم إلى سنة ١٩٠٥م. هنا سيحس الطفل باغتصاب مزدوج: واحد من جهة أمه التي أصبحَت لرجل غير أبيه، وثانٍ من جهة مدينته لشبونة، مربع طفولته ومرتعها وقد باتت بعيدة جدًّا.
ما من شك أن إقامته في جنوب أفريقيا ستعود عليه بأكبر النَّفع حيث سيتقن الإنجليزية قراءة وكتابة، وسيتَعلَّم بداية درس المحاسَبة والمراسَلة التجارية التي ستصبح مهنته لاحقًا، لكن الحنين إلى مدينة التلال السبعة سيوغل فيه جرحًا مفتوحًا لن يُشفى منه ولن يلتئم حين سيعود إليها وهو ابن السابعة عشرة. في المقدِّمة الوافية التي وضعها للكتاب روجليو أودونيز بلانكو يَلفتُ نظرَنا إلى مقطع شعري من وضع بسوا سنة ١٩٢٤م يقول فيه:
مقطع سيلحقه تعديل سنة ١٩٢٦م يُحوِّر فيه الشاعر كلمة «البعيد» ﺑ «الضائع»، وهو ما يوحي لصاحب المقدِّمة بفهم مفاده أن المدينة هي التي ضاعت تمامًا وليس الطفولة وحدها، غير أن بسوا لا يستسلم تحت وطأة ما ضاع، ومن غيره قال شعرًا:
والعقل ما سيقود الكاتب لاسترجاع فردوسه المفقود، لا بِنزعة ملتون، ولكن بنباهة وحس الصحو المُطلَق لبسوا، رغم الخمرة التي كانت له موطنًا آخر فيما الوطن الأول والأخير هو لشبونة، المدينة التي عاش فيها حياته كلَّها وما غادرها إلا لِمامًا، وتَنقَّل فيها قاطنًا بين عشرات الغرف والأحياء، مُترنِّحًا بين شوارعها وأزِقَّتها يُتَعْتِعه السُّكْر، بعد أن يكون قد صفَّى أعمال المراسَلات التجارية الضرورية لعيشه لمدينة أرادها رمزًا للبرتغال مجتمعًا.
وضع كتابه «لشبونة» فجاء على طراز عجيب من الدِّقَّة والتعريف بها والتكريم لتاريخها ومآثرها. فوالله تحسبه مهندسًا معماريًّا فائق المهارة، وخبيرًا في الطرقات وأرصفة الموانئ، مهندس أشغال عمومية، عالمًا بالآثار، حَفَّاظة للتاريخ ومخزون التراث، عالم اجتماع عارفًا بطباع السكان وتنقلاتهم، هو جزء من هواء المدينة، من ترابها وأقبيتها وكنائسها، يستحضر الشاذَّة والفاذَّة فيها. والحاصل أنه لو اجتمع كل أدِلَّاء السياحة في البرتغال بغية وضع دليل سياحي للشبونة لأعجزهم أن يمهروا صنيع كاتبنا السِّرِّي ومُرافِقي الخَفِي في مصطاف مدينة المانش. والحق أن بسوا ينوب عنهم جميعًا ويُصرِّح علنًا بقصده قائلًا: «ما ينبغي للسائح أن يرى في لشبونة» واصلًا مصنفه الفريد بفصل قصير عن الصحف الصادرة فيها، واصفًا مبانيها ومشيدًا بسمعتها، مشيرًا، ويا للمفارقة، إلى دار النشر التي ستُصدر كتابه المعني والذي لم يرَ النور إلا في ١٩٩٢م بدل سنة إنجازه (١٩٢٥م).
من بداية الكتاب — الدليل — إلى خاتمته يمسك فرناندو بسوا بيدك، وقد فعل معي ذهابًا وإيابًا، طولًا وعرضًا، مَعْلمًا ورُكنًا، كنيسةً، متحفًا وحانةً، أسواقًا ومحطات وأرصفة ميناء، والمدينة من عُلوِّ تلالها السبعة منتشرة على راحة اليد ومد البحر والبصر، ما أخذني إلى اتجاه إلا وغَيَّر طريق العودة، ما أراني بيتًا إلا ووصفه لي الوصف الذي به يبصر الكفيف، وما دخلنا متحفًا أو قصرًا دون أن أخرج منه غزير المعرفة، شديد العرفان. هكذا اكتشفتُ أني أزور لشبونة للمرة الأولى بعد أن وَطِئتْها قدماي من سنين بعيدة. لا، بل هكذا علمتُ بوجود مدينة عظيمة، عريقة، نفض عنها علماء الآثار غبار النسيان حين تعرفوا على مؤسسها الكاتب المحاسب الغفل فرناندو يواكيم بسوا، وهم ينفضون غبارًا آخَر عن أوراق له منسية.
لا أذكر كم مضى عليَّ من الوقت في رحلتي حين باغتني الظلام ولم أنتبِه للشمس تغيب ولا لبحر المانش الذي ينسحب إلى جَزْر بعيد، ولا إلى التي أحببت أن أسميها «تيريزا» وقد وقفَت على رأسي يسبقها سؤالها وتَثِب منها لهفتها: ولكن أين كنتَ طوال هذا الوقت، يا …؟ كم قلقتُ يا … فأجبتُها بهدوء وبساطة: إني وصلتُ، أقصد عدتُ للتوِّ من لشبونة، ماذا؟ تقول إنك عائد مِن …؟ أجَل بكل تأكيد، مِن لشبونة، من التأَ، من … أظن أنها ضربة شمس يا … يجوز، لعلها ضربة بسوا! أنتم الكُتَّاب هذا دَیْدَنكم، تدخلون وتخرجون في الكلام! لا يا تيريزا، هو الكاتب أما أنا فذاهب لغطسة محبوبة، ما رأيكِ أن نغطس معًا وإذا لم نغرق نغادر غدًا إلى ﻟ…ﺶ؟