«السين» يخطب وُدَّ أبي رقراق
اعتاد القارئ الكريم أن يلتقي مع كاتب هذه السطور في مقالة أسبوعية انتظم نشرها على امتداد شهور خَلَت تحت العنوان الكبير «من الضفة الأخرى» وتُرسَل تباعًا من باريس، من شمال الضفة المتوسطية التي تُمثِّل بلادنا جنوبها. لم يكن ذلك حَذْلَقة بل تحديدًا لموقع جغرافي مُحدَّد عِشت فيه طويلًا، وكدتُ أستوطن فيه أبدًا لولا أن لي وطنًا لا أبغي عنه بديلًا.
والأمر في الحقيقة أوسع من الجغرافيا وأكبر من تحديد المكان؛ إذ هو، أيضًا، قرين بالفضاء الثقافي والمسار النفسي حيث تهيأ للذات إعادة تكوين، وتجديد وجود قلبًا وقالبًا، واجتراح تجارب ومُخاطرات وأهواء من دونها كانت الحياة، عندي، ستبقى مَجرًى ثابتًا بدون أفق وبلا رواء. وبما أن المرء يعيش مع الآخَرين، ويتحرك في محيط تَتعدَّد فيه الروافد وتتلاقح المكونات والتشخيصات الاجتماعية والحضارية، فإنه يحاول أن يستفيد من ذلك ما أمكن ويفيد، وله في الغربة عزاء أن ينقل لأبناء موطنه بعض ما يَتقلَّب فيه جِلْده من حَر وقُرٍّ، في خطاب هو بغية الوصل لما انفصل.
على أنِّي، وأنا في تلك «الضفة الأخرى» صنعتُ لي ضفتي وسط صخب مدنية الغرب وزحام الأشياء، وتذرر الذوات، ألوذ بها متى احتجتُ لذلك، ليس مطلوبًا منِّي الإدلاء ببطاقة سفر ولا جواز، لا تأشيرة ولا ورقة إقامة، وفيما عدا ذلك فإن وجهي الأسمر، بحكم عروبتي القادحة، ظل ينتقل في عالم الوجوه البيضاء ويرى عجبًا أو غضبًا أو سرابًا، وكان له في الذي رأى حكايات وأوضاعًا مُسطَّرة في البال بحبر الحزن والمَسرَّة في انتظار أن تصبح جديرة بسكنى القرطاس واهتمام القراء.
اليوم لا أعود إلى سالف عهدي ولا أنقطع عنه في آنٍ، فمن حيث لم أبقَ في «الضفة الأخرى» جسدًا يستعصي ويعز عليَّ القول إني سأنفصل عنها. بَيْد أني، بحكم الواقع، بتُّ الآن في ضفة غير تلك التي أَوَتْني سنين عددًا، وهو انتقال يحمل الكائن من مَجرًى إلى آخر، ويدفع به في غمار حياة يفترض سلفًا أن إدراكها سيتبدَّل بالحواس قبل المشاعر، فإن تألَّفَت الأداتان وانتظمَتا في إيقاع غير مسبوق، فهي الجدة عينها يَنطوي بها عمر ويخلفه آخَر أحفل وأبهج، وإلا وقع الامتعاض، وعندئذٍ ينتفي انتقال الكائن ليحل محله اغترابه؛ أي انشداده لما تَصوَّر أنه أفلتَ من جاذبيته، وبلغة هذه الأيام، انزاح عن مداره.
هو بعض ما يدعوني إلى الحديث عن ضفتين؛ واحدة، فيها المقام اكتمل في دورة، حلقة. وثانية، المقام فيها يتَّصل لا وصلًا لما انقطع، فنحن كلنا، الذين هاجرْنا طوعًا أو أُخْرِجنا من ديارنا قسرًا، لا اخترنا مصيرنا دائمًا كما بقينا متجذرين في تربة صِبانا، حاملِين أنفاس الأحياء منا وبقول الموتى حيثما حللنا، مُكوِّنين لأنفسنا وجودًا مضاعفًا يتجاور فوق سحنته انشراح الأسارير وتكاثف الغضون. وإنك لترى الواحد منا، إذا عرف كيف يصعد إحساسه بحدة التباعد أو الجمع بين الأضداد، لا يملك حقًّا التحكم في شعور الانشطار، إذا أفلح في التخفيف من وطأته عصابًا ألفيته يتخبط بين هنا وهناك، عبر تفاصيل اليومي، وتضاعيف الذهني، ومفارقات الحضاري، وما أحسب أن له في النهاية ملاذًا سوى القبض باستماتة على لحظة الإحساس بالحاضر، أو هو الضياع لا محالة في كل هذا الهجير.
ثم إني لا أملك ما يكفي من الشجاعة، بديلًا مؤقتًا للمرارة، لأعلن في قول صُراح بأن من يهاجر لا يعود. وقد عرفتُ عديدين قرروا بإرادتهم أو بدونها ربط حلقات ما انفصل مع أوطانهم ولكنهم، بعد وقت وجيز، جمعوا قَشَّهم ليعودوا من حيث أتوا، أو تَراهم وقد مكثوا، أشبه بالذاهلين كلما حاولوا ضبط عقارب الساعة على زمن ومزاج بلدهم، اضطربت أصابعهم وارتَجَّت أمامهم الرؤية، فلا يجدون سبيلًا للخلاص غير التماس أفق الرؤيا أو ما يجوز أن نسميه شرود الألباب. أما أنا — وكم أحب أن يثبت جناني — فلا من أولئك ولا من هؤلاء؛ لأن هجرتي خُضتُها في نفسي قبل أن تتلبسها الأصقاع، فما جمع ولعي يومًا مكان، وعن انتشار جُموحي يضيق كل فضاء، وصرتُ وأنا أضرب في الأرض أحس كأن خطواتي تسير إلى خلف لا أمام؛ فهذه الأرض عرفتها، حفظتها، أنوء بها ولعلها تنوء بأمثالي ممن يضيق بهم الشبر الواحد كما المسافة المحسوبة فينتفضون فيهما كالطائر الجريح، فلا يجد مَن يداوي جرحه إلى أن تنقض عليه الكواسر أو يخفت جناحاه من شدة عياء. والإنسان، في وضع ما، طائر على طريقته، جوَّاب أراضٍ وسموات إلى أن يلهث بآخِر نفس، أو يتصدَّى له من ينتف ريشه نتفًا، هذا إن نما له على الجلد زَغَبٌ وإلا فهو هالك باكرًا، وهو الشائع فينا؛ إذ بتنا نمشي عراة أو شبهه أو مُدثَّرين بأنصاف حقائق، أنصاف أوهام، والمُدَى قدامنا مَدِيٌّ مرتعشة تستبق نزف دمنا، يا لرخص دمنا، وضلال ما سلكنا من طرقات، وخراب ما شيَّدْنا من عمران، وتهافُت ما قدَّسْنا أجيالًا من مُثُل وقِيَم. يا لبخس أرواحنا تتلاشى مثل قشور الفستق، الرمل أثقل منها في انسرابه بين أيدي أطفال عند سواحل طرية يلعبون للمرة الأولى لعبة الحياة. هكذا حين يرحل بيننا قريب أو حبيب يعز في المقلتين الدمع ويشحب في الصدر الحزن. كيف نكون جديرين بالحياة، بوهم الديمومة، إذا جفَّت منا المآقي وأمسى البؤس مرادفًا لوردة الحزن الشذية.
هذا، أيضًا بعض كلام الانشطار، سَری دبیبه قبل عقود لدى تَحميلنا عواقب هزائم، وانكسارات، وخِفَّة عقل، وبهلوانيات حكام وزعماء. وبينما تواصل تداعي الصروح وسقوط الأبطال منا مَن هلك أو يهلك حسرةً، منا مَن يطوف حاملًا كفنه في انتظار رخصة الدفن، دَعْك من موتى بلا قبور تقول عنهم: المأسوف على حياتهم، كما لو قلت عن فقيد: المأسوف على شبابه، ومنا كثير تقاطعت وتقطعت بهم السُّبل بين علو وسفالة، كما أن فينا مَن هاجر عساه ينجو من هذه الأهوال.
قلتُ: إن من يهاجر لا يعود، وأقول الآن: ولكن هل يملك أن يبقى؟ وكيف؟ منذ عقود أضحتْ بعيدة هاجَرْنا من ثقافة وتقاليد راكدة، وطَفِقْنا نلتمس أسباب وأدوات تَمدُّن يضعها في محور زمن يدور بدوننا. غادرْنا بكل ما نملك نحو الشمال؛ بحثًا عن الصحن أو الدِّثار أو الآلة العجيبة أو المنهج الذي يساعدنا على قراءة ركودنا التاريخي واسترداد كرامتنا البشرية. لم يَكْفِنا قرْن كامل لِنَصِل إلى شيء ولا أريد أن أجزم أو تَفْلِت من قلمي أحكام جزافية، فالنظر في هذا الأمر له سجلَّاته المعلومة، حيث التحليل أو التعليل البارد يلجم سَوْرة الذات، فيما الذي يعنيني أكثر من سواه هو هذه السورة تحديدًا. يفقد الكاتب نضارته، وما يبتغيه من وضع خصوصي، حين ينخرط في سباق المُحلِّلِين والمُساجلِين، وإذ لا غنى له عن المعرفة وتملك المفاهيم مع شمولية الرؤية فإنَّ الأجْدَر به هو رؤيته الخاصة. وهذه لا تأتي من تسليم وخنوع واتباع ولا من شمال أو جنوب، إنها لا تأتي إلا من حيث لا يعرف سِرَّ الْتِياعِه ولا موطن استقراره.
إذا اكتمل بين يديه شيء سرعان ما يتبدد قبل أن يفرح به، وكما قال ذلك الشاعر، فالفرح ليس مهنته، والضفة الواحدة أضيق من أن تحوي مداه المنتشر … فخذ مداك يا رجل، ومن ضفة إلى أخرى ارحل وإليها ترجَّل، وشَخِّص في مستقبل الأيام صورة المابين، وتأمَّل هذه المفارَقة الطريفة من أقوام يدقون بعنف أبواب الشمال عبثًا، وفرد من شماله إلى جنوب ذاته يسري، سَلسًا، كنهر السين يحط رأسه عند ضفة أبي رقراق ابتغاء حلم جديد لسليل الضفتين … فترقرق يا وطني.