بين بن بركة وفاليري
ما الذي يمكن أن يجمع بين «بول فاليري» والمهدي بن بركة؟ الأول شاعر وفنان، وكائن جُبِل على الاستغراق في الوجود ومحبة البحر، والثاني سياسي وصاحب مشروع ثوري دفَع حياته ثمنًا لأجله، وبسببه تُوِّج شهيدًا في مغرب الاستقلال.
وماذا يمكن أن يجمع بين الاثنين معًا، أو واحدًا واحدًا، وبَيْني، هما بسيرتهما ومناقبهما المعلومة، وأنا بصيرورة وضعي وما لي؟
نحن نتعلم الكتابة الحقيقية، الصِّرْف؛ أي تلك الخالية من الهدف المسبق والمعنى الوارد، نتعلمها من خلال الافتراض والحفر في البنية الخرساء والحجر الأصم، القرائن المطواع ننبذها، ودلائل المحاسن والخيالات المبذولة عنها نشيح، تاريكنها أعطية زهيدة لأفواه مستنفرة للبلع، وأقلام صدئة عبثًا تعاند مع المُحال.
وبالافتراض أيضًا، نصوغ الأسئلة لنخلخل رتابة الجاهز منها هي والأجوبة، وبأداتها نصوغ الوجود الخالص لنا، ونسترجع الوجوه المحبوبة لدينا، فثمَّة وجوه منفردة يا سادة، إذا ظهرت على شاشة التلفزيون نضغط على الزر لنمحوها. وإذا قابلناها صدفة أو عنوة ينبغي أن نتعلم كيف نصفعها، ثِقُوا، العنف هنا ليس ضروريًّا؛ فأيدينا خُلِقَت لغايات أسمى. الوجوه الأنقى التي رَصَّعت ببهائها تاريخنا، مَنحَتْه المعنى، ودبيب الوَلَه، هي الأجدر بالانتشار تُرفرف خفَّاقة، آه، مثل أعلام أقسمنا ذات عُمْر أن نُسْتَشهد فداءً لها … وحَنَثْنا في القسَم.
السؤال باقٍ، هو الجوهر، لا تَعتِبوا على الإبطاء، فالكتابة كذلك تَحايُل ومراوغة، وَعْد جدير تُحقِّقه بالتسويف أولًا موجِب لوجودها إذا شعَّت من أولها بدرًا تمامًا. كنت نازلًا من باريس، آخذًا طريق الشمس السيَّار المُفْضي إلى الساحل اللازوردي، في نهاية أغسطس الماضي، رتَّبتُ لي موعدًا مع الجنوب وقد بَيَّتُّ في النفس ما بَيتُّ، جُلُّه أتكتَّم عليه، فهو زاد المسافر بدونه الهلاك، وبعضه أفصح عنه فأذكر منه نزولي إلى جنوبي على متن السيارة، كما صعدتُ إلى شَمالهم بالسيارة، مشحونًا بالنوايا والرغاب قبل خمسة عشر عامًا خَلتْ «وما تبلى النجوم الطوالع»، في الشهر نفسه، من نهايته، ومن المدينة الموصوفة بسواريها العالية بدأ صعودي وقتئذٍ. مَن منكم قادر على تذكُّر مشاعر يطويها العقد من الزمن وما ينيف … والأحاسيس لا تُسترْجَع إلا على نار الحُرقة أو تحت رماد الحنين أو المَرارة، فما فات ضاع منا أبدًا، والكتابة، في بعض معناها، أقربُ إلى المحاوَلة المازوخية لرغبة الاسترجاع وإلحاق الذات بخلود مستحيل. على كلٍّ، حين غادرتُ طنجة في ذلك العام البعيد، وأنا أجهل أني سأخوضُ في زمن ذي نفَس مديد، لم يكن عندي شيء كثير آسَفُ عليه، كنت ابن جيل أَخفَق في كل شيء إلا في تهشيم مشروع وجود ممكن، صُودِر إما بالقمع أو التَّدجِين أو الأدهى بالسُّعار الأيديولوجي. وهكذا إذا أضمرتَ الأحاسيس المعهودة من وراء طقوس العائلة، واقتدرتَ على حمل شمسك الخاصَّة في صدرك بعد أن بِيعَتْ شمس البلاد، سهل عليك القفز بخفة فوق الباخرة التي تَعبُر البوغاز. ما أظن أنك سَتلتفِت إلى الخلف؛ لترى زَبَد الموج الأول؛ ففي حناياك تصطرع الأمواج.
لعلك ستتنَفَّس بعمق: أوووف. فهو «الماضي البسيط» لإدريس الشرايبي، تَستعيد فيه جَلَدَ ذلك البطل الإشكالي بحق، أو أنت البطل الآخَر الذي عجَنَتْه من جِبلَّة زمانه اليد الصَّنَاع لأحمد عبد السلام البقالي في «قصص من المغرب»، الهارب من محيط أصيلة المسقف بالهراوة، المحبوكة أضلاعه بالأغلال، نحو المحيط الآخَر، الفسيح بالتقدُّم والحرية والرخاء. عجبًا كأن طنجة ليست مدينة، أو كأنها العتبة الأولى التي نضع عليها أقدامنا لنرحل إلى المدن الحقيقية، مثلما تَشكَّلتْ هي منها نواة مصغرة اختزلت في وقت مضى مباهج صعلكات وأسرارًا قلَّ أن تُرَى وتُرْوى، إذا نَفضْنا اليد من كتابة الفولكلور والعباطة.
شُرفة مُطِلَّة على حلم المدن القادمة بدت لي طنجة في الزمن الذي عبَر بي وبحر سيسلمني إلى آخر؛ ولذلك لم أملك نفسي من السؤال وأنا آخُذ طريق الجنوب ثانية: تُرى، هل نِلتَ المراد وآخَيتَ بين الحلم والحقيقة؟ أم إنك أضعتَ السبيل فما ازددتَ إلا صعودًا نحو ذُرى الشوق لما لا يطال، فيا لضياعك؟!
«لقد وُلِدتُ في واحد من هذه الأماكن التي أحببتُ أن أولد فيها.»
هنا، وكما كتب «البحر، البحر طُرًّا، دومًا مُستعاد!» في وقت سابق، زعمتُ أني صنعتُ أمرًا جللًا، حين طلبتُ من نادل المطعم أن يجلب البحر إلى صحن المحبوبة إلى أن باغتني نادل آخر، وفي «سيت» بلغة بسيطة، جمحتُ أبعد من الشعر و«قصيدة النثر»: أنت لا تعلم أن شاعرنا جاءه البحر طوعًا إلى المهد، واستبدل قِمَاطه بموجة؛ ولذلك لم تكن باريس حيث مات، جديرةً بجثمانه، ولا نهر السين ليتسع لشساعة روحه. ولو لم ينقلوه هنا في تلك الربوة العالية لهَبَّت بحار العالم كلها لتسترجع ابنًا، أو إلهًا، لستُ أدري، قمطته من المهد إلى اللحد.
بعد أن زرتُ المعارض المخصصة لتراث الشاعر، وتنقَّلتُ بين الاحتفالات الرصينة والبهيجة المُقامة لذكراه — فالشعر بهجة — أدهشني عدد الزوار الفرنسيين القادمين من مُدن قَصِيَّة للمناسبة الممتدَّة لعِدَّة أشهر (من مايو الماضي إلى نهاية نوفمبر الجاري)، جاءوا جميعًا للتَّبرُّك بالشِّعْر لا بالأضرحة، وبدوا مُتهيِّبين، خاشعين وهم يَضعون الباقات أمام قبر الشاعر، في الربوة العالية، حيث البحر ملء البصر، ملك يديه والبحر له حضن وسرير … والآن تذكر، بل والله ما نسيتُ أبدًا، ولا أسرفتُ في الإطناب وإنما الذِّكْرى بالذكرى تُوجِع فيوغل الألم أبعد من أن يطاق، وأقدر من إرادة النسيان لاحتمال ذلك النزيف كله، الممتد من أعوام الجمر الأولى. تَذكَّرتُ المهدي بن بركة، ووالله ما نسيتُه أبدًا، وهل يُنْسَى من لا قبر له. في كل خطوة، رقعة شبر، سحابة في السماء خلاء شاسع، الجبال بقِمَمها، المساجد بصوامعها، الجموع بهديرها الخافت الآن، ما زفَر من الصدور وجَلجَلت به حناجر الحِرْمان، الوردة إذ تَيْنَع، والطفل حين يَلثغ، بين العُلَّيْق الصاعد في الجدران وعناقيد النجوم دوالي على صدور الغانيات نحورهن مُزدانات بهمس السرائر … في هذا المعمور المنحدر من بدايات العصور إلى نهايات الخلق الآتي له قبر يبحث عن صاحبه.
أذكر أننا كنا وضعْنا الخطوة الأولى على عتبة الجامعة، في سنة ١٩٦٥م، وفي شهر دخولنا الأول، جاء مَن يُدخلنا طوعًا من باب الشعب إلى هذا العالَم الذي كان هو يقيم عمده ويفسح أبهاءه. حين سمعنا خبر الاختطاف، أحسسنا أن يدًا امتدَّتْ من حيث لا ندري واختطفَت أرواحنا. لم نذهب إلى دروسنا ولم تتَّسِع لرَوْعِنا غُرَفُنا المحجوزة في الحي الجامعي، فأرخَيْنا أجسادنا تتلقى الضرب، منذئذٍ، بظهر المهراز، وأَقسَمْنا، منذئذٍ، أيضًا أن نعيد الجسد المخطوف لروح صاحبه، أوسعنا لها بيننا تحل أهلًا وسهلًا، حبًّا وكرامة إلى أن …
واهَ، فاليري ليس هنا، هذا ليس قبره، القبور تهاب الشعراء.
واهَ، بن بركة ليس هنا، وهو بلا قبر، القبور تهاب الشهداء.
إثر ذلك فهمتُ ما ينبغي أن أفعل، ركبتُ الباخرة «مراكش» لا لأذهب إلى مراكش، ولكن إلى مكان الاستدعاء الضروري الوحيد الذي يجب أن أدلي به، واللائق به تقديمه هو قصيدة، وبالأحرى قصيدة لفاليري تلوتُ منها بيتين:
فأخذني البحر بالأحضان، وأشار إلى أعلى فأراني قمرين.