يا لسعادتكم، إنكم تحترقون!
يأخذ المكان شكل تفاحة، أو رائحة ذِكرى، أو تاريخ علامات. يَتَّخِذ ما يشاء من الأشكال لينتهي إلى هيئة ترسمها له من خارجه، فتُسبِغها عليه ليكون على ما تريد.
وأنت لا تريد دائمًا بالقصد، كما لا تترك الإرادة خاضعة لمنطق الصُّدفة. هناك تَراوُح مثير بين قرار ثابت، مُعَقْلَن، تَخالُه هو المُنحى السليم وبين انعطافة لا نعيها، إلا بعد أن نقطع في مسارها خطوات، إذا نحن التفتنا إلى الخلف لحظة الوعي بها سَتغزونا الذكريات ومشاعر الأسف؛ فنُضَيِّع، عندئذٍ، طراوة وضْعِنا، وإن تشبَّثنا بمجهول ما نتقدم فيه اعترانا إحساس غامض نَسغَه الخوف، وورَقَتُه النضرة حين تَيْنَع هي الدهشة. سبيلي في هذه الحالة هو القطع بعدم اليقين، تاركًا الطرقات السالكة لمن يَهوى الوصول إلى المراد وحسن الثواب، والاستقرار، إن صح القول، في مساحة لها شكل الوطء على الأديم والقبض على السراب، أنت بينهما مَتأرْجِح مثل العابر في جميع المطارات ترفضه الحدود كلها وهو لا يفهم معنى الحدود. هذا هو المكان الوحيد الممكن لمن امتنع عن دفع عمره أقساطًا لقاء بيت أو جغرافيا مَسكونين بخراب الأرواح. ما أجمل المكان الذي يأخذ شكل نُطفة، ضحكة، لحبيبة غائبة.
هذا المكان، الذي اسمه مَطار أورلي، تَعدَّدت عليَّ أشكاله، وألوانه وروائحه، ولكنه، في مختلف الحالات، ظل يُمثِّل عندي شيئًا واحدًا ربما رغبتُ عمدًا تثبيته فيه، وذلك بعد سنوات طويلة، مديدة، شَددتُ فيها إلى الديار الفرنسية. بدأ العزف في وقت بعيد، ثم قريب، وأخيرًا حاولت عبثًا أن يتلاشى. هذا المطار من حيث آتيه، من «بورت دورليان» هو قبلة الجنوب. أما إن كنت في «النواصر» فستَراه، بل إنك لعابده قبلة للشمال. من في فوق يخفق قلبه حنينًا لتراب «البلدة» وأحضان الوالدة. ومن في تحت، شأن كثير أعرفهم، يُمنِّي النفس بالمَرح والبهجة بين السان جرمان والمونبرناس، فما بالك بشعوب كاملة مرشَّحة للهجرة بعد فوات الأوان. هكذا، وبالرغم من كل المزاعم فالبهجة، إذن، لا تجود إلا وراء الحدود. المُترَفون الذين يختبئون خلف حصونهم، في الدار البيضاء والرباط، وإذا ركبوا الطائرة نظروا إلى باقي المسافرين كالذباب، يخافون أن يحط على جلدهم الناعم. وفي عناوين باريسية مُحدَّدة أراهم يتطاوسون وهم في صخب من أمرهم … إنهم بوجودهم هنا يشعرون بالامتياز المضاعَف، رغم أنهم لا شيء بتاتًا.
قلتُ: إن العزف بدأ من بعيد وقريب، وأردت له أن يتلاشى، فمن عناوين متعددة في هذه المدينة الغانية يرن الهاتف لأحمل السماعة تأتي منها الأصوات متدافعة: أنا جاي أنا جيت، غدًا في أورلي، أنا في أورلي. أسرع من القطار المكوكي لأكون في أورلي أستقبل بالقبل والأحضان، وفي المساء أجمع الإخوان حول الخوان. وبين هذا ذاك يَتعطَّر الجو بريحة البلاد، ونَصْبُوا كما شئنا وشاء لنا الهوى إلى المحبة والنسيان. ذاك الزمن الفريد أين منه غبار ووجوه هذه الأيام. قالت زوجتي، وقد وَطِئْنا أرض المغرب — هي التي خامَرها الشك في أني أصبحت موظفًا في مطار أورلي — «أين الاصدقاء؟ أين أولئك الأصحاب، أعني فلانًا وفلانًا وكذا وكيت؟» وأضافَت بمكر: «… أم إنه غلاء سعر الهاتف» فنصحتُها كي تخرج من حيرتها بمتابَعة النشرة الجوية في التلفزة الوطنية لترى أن البلاد غارقة في الجفاف، غرقها في الفساد برًّا، وبحرًا، وسهلًا وجبلًا، وسكتت شهرزاد.
في أورلي، الذي نزلتُ به قادمًا من أوهامي، وجدتُ في استقبالي وجهي القديم فرحَّب بي ببشاشة لا تملكها مضيفة التسجيل في مطار سلا، وقادني في مُنعرَجات المطار؛ فهالني أن صادفتُ المكان مزبلًا، سابحًا في أعقاب السجاير والمخلَّفات.
ثم ما لبثتُ أن تداركتُ روعي فهذا دليل حيوية وعنوان بارز للدخول السنوي الجديد: إنهم عمال النظافة مُضْرِبون، ومن حقهم أن يُضْرِبوا؛ دفاعًا عن مَطالبهم ولا يوجد ابن امرأة سيشج رءوسهم ضربًا أو يقطع رزقهم لتركهم المطار في أسوأ حال. في سنة ١٩٨٢م زارني صديق في سلك التعليم فأخذتُه إلى مَقهًى بساحة «لي غوبلان» حيث جلسنا في الباحة ذات صبيحة أمر الله بإشراقها. وبينما نحن في تَطارُح حول شئون تلك البلاد تَقدَّمتْ أمامنا صفوف نساء ورجال يرفعون لافتات انتمائهم إلى سلك التعليم الثانوي، ببساطة كانوا يتظاهرون من أجل حقوق ومطالب محدَّدة، في البداية تبادلت وزائري نظرات مرتبكة، ثم بالأحرى قلقة، ثم مشحونة بالتوقُّع. فكَّرْنا، مثلًا، أن الخبط سيبدأ بعد قليل، أن هؤلاء «البطرين» سيُرْفَسون رفسًا لإخلالهم بالأمن العام لهذه الصبيحة المشرقة. وكاد عقلنا يطير من شدة ما توقَّعْنا دون أن يحدث شيء. حين فكَّرتُ بالانضمام إليهم من باب التنفيس عن المكبوت، كانت مسيرتهم قد بلغت شوارع بعيدة. عاد بعدها الزائر إلى سلكه، وعدتُ من هذه المفارَقة بأول خيط من قصة «المظاهَرة» التي كتبتُها بعد سنوات من هذا الحادث.
إذا غادرتَ المطار فاقفز في أول حافلة أو سيارة أجرة تنزل حيث تركن حقيبتك. تنطلق بعدها لتجديد العهد بشوارع أرصفتها وعناوينها صَنعت لها ثنايا تحت أعطافك. وأنت لا شأن لك بإبرام العقود والصفقات، وتحسس نبض البورصة، ولا طَرْق أبواب المعاهد والمؤسَّسات ومكاتب ما وراء البحار لتقديم الانحناءات المطلوبة، توسُّلًا لدعوات فخرية أو مُجْزِية لهذه الجامعة أو ذلك المنبر. تمسح هذا الفُطر العَفِن عن أهدابك مقتحمًا المكتبة تلو الأخرى: هي غزوتك الأولى والدائمة هنا، في مدينة ترفع المئات من عناوين كتبها الجديدة أعلامًا خفَّاقة بوجودها. تَحار من أين تبدأ. تَحار ماذا تختار. تحار كيف تدفع، ولا بُدَّ أنك مُقْتَنٍ أخيرًا، تدفع نقودك اذخارًا لروحك. عجبًا لهؤلاء الذين ينخر التقتير عظامهم اذخارًا لحياة موءودة في موت مسبق. الكتاب الجديد هو العنوان الأمثل للدخول السنوي الجديد، وبدونه فالحياة هنا، بل في كل مكان، صحراء قاحلة.
هنا جلبة دائمة في حركة الداخلين والخارجين، لكنها من النوع المتشكل في طقس تنتفي بدونه نكهة المكان. نساء ورجال من أعمار مختلفة، رصينة على الأغلب، منقوعة ببعض الصبا والقطا من حين لآخَر، وحسب الفصول. في هذا الفصل، نحن في الخريف المذهل تكون باريس لنفسها وسكانها، والداخلون هنا يحملون أكياس الكتب، يَنكبُّون على جدتها بِوَلَه وهم يرشفون القهوة الزكية أو يحتسون الشراب السائغ. اثنان من عرب الزيت جلَسا يبحلقان ببلاهة في سيدة عجفاء كأنهما في حضرة بلقيس.
خارج المقهى، وبين الرواية والشعر المنسدل ضوء مصابيح على قامَتَينا، تَطلَّعتْ إلى وجهي المُضمَّخ بأريجها، وكالمندهشة هتَفتْ: ياه، إن وجهك ملفوح، فَزَفَرْتُ: طبعًا، أنا قادم من الجنوب، والشمس هناك لنا بالمرصاد. هبَّت ريح باردة انتفض معها شعرُها عاليًا فهتفت ثانية يا لسعادتكم، إنكم تحترقون!