«… يا مطرا يا شاشا»
ما أنا متأكد منه أن مدينة الضفة الأخرى، وقد حججتُ إليها لاستطلاع أحوال رعِيَّتي القاطنة بدهاليز نفسي، استقبلَتْني بموت دافئ، لم تكن وسائل الإعلام وحْدَها مَن أعلن عنه، ولا واجهات المكتبات، بل الألوان المتخفية في خضاب فصل يعاند في البقاء وهو إلى زوال. كان جيل دولوز أبعد الناس والفلاسفة خوفًا من الموت، ولا كان، أيضًا، أكثرهم تَشبُّثًا بالحياة. وما ذلك إلا لأن فهمه لكِلا الوضعين يقع خارج دائرة التصنيفات المتواضَع عليها.
لم تكن الفلسفة عنده والفكر، وضمنه العلم والفن، عمومًا إنتاجًا نظريًّا، أو منظومة مفاهيم وأطروحات تُنضِّد الوجود وتسقف المعرفة، بل الانخراط في الوجود ذاته بكيفية فلسفية باعتبارها طريقة أو أسلوب حياة. إن بعض وَلَعِه بنيتشه يرجع إلى أننا لا نذهب إلى الفلسفة وإنما نعيشها. لا نعني منها موضوعًا واحدًا نتسلسل في شجرة أنسابه، وفروع مرجعياته لنقيم له، في النهاية، هرمًا من الأفكار. كلَّا، فهذه نزعة أكاديمية عتيقة تنظر إلى الفلسفة وفعل التَّفلسُف مرادفًا للفكر ككل فيما هي ذاتها، وهي الفن والإبداع، وهي العلم، كما تنبثق من الحياة حين نقدر على جوهرتها فترقى إلى صعيد آخَر لم يوجد من قبل وفي الآن عينه، ينعدم فيه اليقين. يقبع دولوز في فسحة مُؤقَّتة، زَلِقة، مُدبَّبة وشديدة الحساسية، هي نقطة التَّمفصُل بين اليقين واللايقين. فهذا هو الخطاب الاستثنائي الذي يُسفِّه يقينيات كِلا النَّسقَين وفيه تصبح الحياة والموت، معًا، موضوعًا نُجرِّده من فتنته ورهبته لنطرحه في صيرورة المحتَمَل واللحظة المنفلتة، إن اللحظة عنده ليست في حركة ولا هي مُتوقِّفة، إنها هنا وهي هاربة.
لا عجب إذا كان من يملك درجة الوعي بالزمن/الزمان هذه لا يهاب الموت ويقعد بإشكاليته فوق إشكالية الحياة، وبطريقة ما يتحكَّم في ميقاتهما. وهكذا بقبضة قوية وهي واهية يضرب على طاولة العمر قائلًا للموت تعالَ. وللعلم، فهذا الفيلسوف الفرنسي — أظنه من بين قلة نادرة جدًّا ممن بقوا في الساحة الفكرية الفرنسية بعد وفاة ميشيل فوكو — والمفكر والفنان والجامعي، وضع حدًّا لحياته في مطلع هذا الشهر. و«ببساطة» فقد انتحر بعد أن أعياه تحمُّل مرض ملازم … وبِبَحْبُوحة قطع تذكرة سفر إلى بلاد اللحظة الهاربة، والحق أنه كان دومًا في سفر؛ أي منقطعًا عن الاستقرار الجماعي، وضجيج الحشد، وطموح المُتسلقِين إلى الطوابق العليا للمؤسَّسة. في أيامنا هذه يطمح المفكر أو الشاعر لأن يصبح نائبًا برلمانيًّا أو عميد كلية، يا للبؤس! — محتفظًا لنفسه، لغروره الضروري، برغبة واحدة هي فِعْل المناوَرة؛ ولذلك وجدنا دولوز من أشد المتآمرين على النصوص. طبعًا الجيد منها حين كانت موجودة، خصبة وتستحق تعبئة مناوَرة القراءة وأدواتها الصارمة. أما وقد آلَت الأمور إلى ما نعرف، فإن قطع تلك التذكرة أفضل من الحرث في أرض يَباب. أجل، بدا دولوز متشائمًا في آخِر أيامه، أو قُل: إنه فقدَ الأمل في مستقبل الفكر والأدب وهو يرى رجالهما يصنعون لهم أعشاشًا تحت كاميرات التلفزيون، وخلف أقلام المقابلات الصحفية المغشوشة. هل هؤلاء مبدِعون أم سماسرة أم بغايا على قارعة الإعلام الورقي، السمعي البصري؟!
في حياته كلها قَبِل إجراء مقابَلة تَلْفَزية واحدة عبارة عن شريط تَلْفَزي، وثائقي، من ساعتين، خُصِّص لحوار معه يستعرض فيه مراحل ومضامين تفكيره، وإبداء الرأي في قضايا العصر، واشترط على القناة الثقافية الفرنسية ألَّا تَبثَّه إلا وقد أصبح من مواطني بلاد اللحظة الهاربة، فوَفَّت القناة بوعدها حين لا وفاء في هذا الميدان. ويحضرني في هذا الشريط الوثائقي الذي فزتُ مؤخرًا بمشاهدته، والإنصات إلى دُرَره، وُقوف الفيلسوف الراحل عند ظاهرة ضحالة الأدب وغيره في فرنسا وخارجها أيضًا، فوجدتُه يعزوها بحق إلى أمور ثلاثة: أولها الدور السلبي للصحافة فيما تنشره من تعليقات يبهت فيها وجه النقد ويتصدَّى له مَن ليس من أهله، فتسفل المعايير، إن لم تنعدم وتعم الفوضى. ومن هذا الباب أيضًا، الصحفيون الذين يُصبِحون كتابًا، وهو يريد، في الواقع، الذين يتطفلون على غير ميدانهم فيختلط الحابل بالنابل. وثاني الأمور، انتشار الكتابة ذات الطابع البيوغرافي — والأوتوبيوغرافي كذلك — إذ من المعلوم أن لكلٍّ منا قِصَّة أو حكاية يمكن أو يريد أن يحكيها، فتكثر الكتب بلا طائل، ويتضخم حجم المكتبة، ولا زاد. وما أكثر ما يَتوهَّم عديمو الموهبة أنهم أمْسَوا في عِداد الروائيين، فترى من تَخلَّف به العمر ولم يفلح في ميدانه، منساقًا إلى التأليف، واجدًا حَواريِّين وزُبَناء يزفونه روائيًّا أو مفكرًا أو ما شئت. وثالثة الأثافي تَسلُّط السوق بمقاييسها وحساباتها أو هيمنة أرباب وزُبَناء نشر الكتاب، فيصبح هؤلاء الزُّبَناء هم من يصنع القراء، ويُحدِّد حاجاتهم ويُكيِّفُها وفق معادلات استهلاكية محض.
رحل جيل دولوز تاركًا لنا كتبًا معدودة في عمر مديد. إذا لم يملك الحق الأول في بدئه، فقد عرف كيف يُمسِك زمامه، وعرف متى ينهيه بإرادته التي شاءت له دائمًا إيثار ظلال فكره العميق على الأضواء التي تحوم حولها تلك الفراشات.
«كين سارو ویوا» الكاتب النيجيري (نيجيريا) فارَق الحياة، بدوره، لكن بدون قرار ولا باختياره؛ فقد أعدمَتْه السلطات النيجيرية، هو وثمانية من المعارِضين المنتمِين معه إلى «حركة بقاء الشعب» الممثِّلة لأقلية في البلاد تحتوي منطقتها على أغنى الثروات. أدانته محكمة خاصة بجريمة لم يرتكبها (قتل أربعة من أعيان — أغوني — الموالين للحكم المركزي)، والحال أنه لم يكن حاضرًا في مكان القتل، وتأكَّد الحكم من طرف المجلس العسكري المؤقت، وهو الهيئة العليا الحاكمة. قامت الدنيا، وشهقت القوى الكبرى وزَفرَت ولم يتزحزح نظام «أبوجا» أمام هياط ومياط وشفاعة شيراك، وجون ميجر، وكلنتون الذي أعطى دليلًا جديًّا على أن العسكر في أفريقيا موجود للقمع والاستبداد والقتل. أما الكاتب فمهما عَظُم شأنه وذاع صيته، مثل «سارو ویوا» فهو زايد ناقص وكل أدب الدنيا لا يعدل عصا الجنرالية وحبل المشنقة.
في الغرب، تحرَّك المجتمع السياسي الغربي بأكمله رغم نفاق سلوكه مع العسكرتارية الاستبدادية في أفريقيا وغيرها. تحرَّك الكُتَّاب والمثقفون، آلاف التوقيعات ونداءات التضامن والتنديد، أما نحن فقد بِتْنا سلالةً للفُرْجة، هكذا، إذن، يا أبناء أرومتي السابقة، العتيقة، الخلقة، حياة كاتب أو إعدامه عندكم سِيَّان. وإذن، ما هم بعد أن نتحسس رءوسنا، لنصطفَّ بها في مواكبهم وهي آيلة للسقوط هاتفين: المجد للجنرالات!
ومن حسن الحظ أن المطر يغيث ليزيح عنَّا قليلًا جثوم القهر فتستبشر النفوس، يَغزوها حبور سحري تنشرح به الأسارير، فإذا جئت سوق العكَّاري الرباطي لتملأ القُفَّة بما تَيسَّر، فإنك سامع لا محالة بائِعي الخُضَر يشهرون عن بضاعتهم بالغناء لا بالنداء، فرحين، راقصين أبناء هذا الشعب البسيط وقد تهاطَل المطر مدرارًا بعد جفاف طال وحسبناه قدرًا عقابًا على ما نحن فيه من ويلات، فرحين، مستبشرين رأيتُهم، وماذا يملكون سوى «عرارم» من بطاطس وبصل ونعنع؟ الله، ما أزكى وأندى رائحة النعنع صبيحة ذلك اليوم الممطر في سوق العكَّاري، لولا خوفي — أقصد ذهولي في تينك العينين — لقُلتُ: إنه يضاهي بهاء بنفسج مراكش، ولكن أنَّى لي ذلك ولقالق قصر البديع شهدت عليَّ أصيلًا وأبدًا.
وبينما أنا بين أريج النعنع في سوق الفرح المطري، وا عجبي، كأني شاهدتُهم سرب ملائكة يُحلِّقون فوقي، أطفال مدينة البصرة وقراها يغنون حين تمطر السماء:
والسَّيَّاب من ورائهم يحدو:
من مرضه في سرير لندن لا يشفى، وأنا بمرض غريب بين باريس والرباط لا أجد له الدواء، فلا أعرف لأهلي في بغداد الطريق، ويزهو المربد الشعري في البصرة، بعد عصف مأكول، ولا أكون ولا هو بالذي يليق بي، بنا جميعا، بعد كل الذي كان. وما هي إلا هُنَيهة استدارت فيها الأرض آخذة وجه بغداد تطل منه عينا «أبو بادية» الحبيب في عتب وحب، فما عرفتُ كيف أداري حزني والطريق إلى «الحلة» دونها مرَضِي، وبُغاة الطير والغربان — سأعود إليكم بعد لَأْيٍ — ولا كيف أُبَرِّد جمرة الشوق إلى «بادية» و«صعُّوبي». آه، هو ذا السيَّاب يسكن جلدي، يدخل عيني: