«ماذا يقول مولاي؟»
خِلْتُ في ذلك الصباح الباريسي، قريب العهد بي وبه، أن السماء ستسقط فوق رأسي من شدة كثافة الغيم واسوداده الرمادي. الشمس هناك وسماء مصابة بالقبض هنا، يا للمُفارَقة الملحاح تطن في دماغي طنينًا مبرحًا. قصدتُ الجنوب لأبرأ منه فما كان منه إلا أن طوَّح بي ثانية إلى تراب الجغرافيا الباردة، كأني ما أتخمت، أو ما أعلنتُ سماح الفصل مع أرض شُدِّدتُ إليها بألف وثاق.
من شقة في الطابق السابع من عمارة لورا، كنت تسلقتها من جدائل أواخر الخريف، ترعرع في شرفتها الرحبة، المجدولة بعبير ليلة فائتة، صباح ملتبس، لا هو ضوء ولا عتمة في مطلع هذا الأحد النوفمبري، الصاعد على حطام أجساد هدَّها احتلاب اللَّذَّة من ضروع المُحال فتَكشَّفَت وتبدَّدَت، الليل لها ستر والصبح داهمها، كجُند الجبابرة، في العراء، فما باح منها اللسان إلا بفيض العطش، وامتدت يد تزيح الستارة عسى ضوء في الخارج يشيع الدفء في هلكوت جسدها فتنتفض ثانية وأبدًا برغبتها الحَرُون. ويد أخرى، يده، بحديد سياج الشرفة ممسكة خشية الوقوع من دوارها في دوار، لا نجدة إلا أن تشق السماء قميصها ومن انقشاع غيمها تغسل «أدران هذي الأرض» ولكنها، العنيدة، أَمعنَت في الصمت وانطوت في ثنايا الأرصفة والعناوين الحبلى بغياب، كما بأبواب أبقيتها نصف مواربة لكيلا يدخل منها سوى شفيف ضوء قلبي، حين يصطلي تحت انسدال غابة الشعر وفي فلك السُّرَّة البدائية، قادتني إليها أشجار ترافق نهر السين من منبعها إلى مَصبِّه في مجرى الفتحة الفيحاء.
يا وعدي تلك «الفتكة البكر» أين منها ذبول هذه الأيام؟ إلى أن تلفعت من الزمهرير برعشة الرغبة الراغبة، ومن المسام تدفقت جداول الكتب المؤجلة لعهد السراب. ولعلها تَملمَلَت في فراشها وانسرب الإزار كالرمل دون حَلمتَين كحَب الرُّمان، وليس بيننا إلا خطوة من ماء البارحة يمَّمْنا به ليلًا شطر كوكب غارت منه السماء فوق رأسي فحجبته بضغط غيمها النوفمبري. وقلت لا بد أفعل شيئًا، كأن أزيح الغيم طبقة طبقة وأفركها عند ذكرى انسكاب العقيق تدله، تدلع في ظل نظرات هدبية كنت فيها قطبًا وهي رحاي، لعَلَّنا نسترجع ومض ذلك الشفوف.
وماذا لو أطلقتُ صوتي بالعواء في هذا الصباح البهيم، لا يلهمني الصبح عادة، فهو عذاب استقبال عالَم عليَّ أن أصنعه في كل يوم بيدي، تحت طاحونة وقت يسحق جسدي، مُطالب أنا بجمع رُفاته ورمادِه لأصنع منه الجسد المقبل الذي ينبغي أن يقول: صباح الخير، أهلًا وسهلًا، يقتات أو يتبَرَّز، يعكف على الشأن الحياتي اليومي، يذخر من هول الوجود ذبالة لإضاءة غياهب الكوابيس القادمة، أن يكون بمحض الاختيار لا بمقت الضرورة، ماذا لو عويت مستنفرًا المستوحشين الذين تغص بهم جنبات هذه المدينة وتخترق أضلاعهم أنفاقها فنصنع من فصول كابدناها وهجرات متداومة الاحتراق بين الحنين والوصال الهارب سلالم مفتولة بلحمنا، باللحم البارد تطقطق كعوب نسائه الشاحبات فوق ردهات العمر المتراجع، وباللحم الحار، الوحشي، الشهواني، المعجون في قبضة شبق فوار يَتضرَّج نبيذًا في دم وجوههن حين يروننا نحن عرب نهاية سلالة الصعاليك، وبلحم مُعرَّق منقوع في ارتجاف قضاء الوطر-الورطة، نرفع سلالم هي أجسادنا واحدًا واحدًا نحو السماء كي نزيح الغيم، طبقة طبقة، عنها، فنكتشف كالبُلَهاء أن السماء التي فوق مدينة عبدناها غادرت موقعها وشغل موضعها أسقف ألمنيوم صمَّاء وأنجُم كرتونية نخَرها البِلَى فتَبعثَرت كالنفايات، وحزمة ذكريات هي جماع فرح الصُّدفة وديمومة الحُزن، وبقية رغبات ومطامح باهتة نُوهِم أنفسنا أنها تَشفَع لنا حقَّ البقاء لنَمتدَّ في أفق آخَر لِغَدِنا … ها، ها، غَدُنا، هكذا نقول دومًا لنواري مَضاضة اندثارنا، قبل ركوب السحاب إلى سماء منشودة في الجنوب رميتُ الطرف من خلف النافذة إلى شُبَّاك وقتها فما رأيت، إلا رؤيتي لها، وهي في سحيق ذاكرتي موغلة، ومن رفات زمنٍ شَجِي تصدر مِنِّي تنهيدة فأغادر الشرفة، لا نحوها، بل أشرع في فك حديد السياج قائلًا: ربما لو هويتُ من هنا لَهويتُ من جديد.
رغم أن صباح الأحد الموصوف لا يغري بمغادرة شغافها فقد كنتُ مضطرًا للخروج لجلب بعض ما يعيد للبدن طراوته، خطوات قليلة بعد العمارة ورأيت في نهاية الزقاق جمع رجال متحلقين وهو ما يُعدُّ استثنائيًّا في هذا اليوم المقفر. سرتُ أقترب منهم على حذر وكأنِّي أتوقع شرًّا أو كَمَن يتجَنَّب الوقوع في مصيدة. أخيرًا أصبحت منهم أنقل بصري في وجوههم، أراها هي الوجوه البيضاء تنطق لغة الجفاف والصُّفرة. عيونهم بدورها تُبحْلِق حول المكان، وشيئًا فشيئًا ترتفع إلى عَلٍ، تتسلق عمارة من سَبْعة طوابق، تحت العمارة سيارة إسعاف المطافئ، قُرْبها شُرطِيَّان، قربهما رجلان يرتديان بذلة بلاستيكية زرقاء، حاجز خشبي يغلق المرور في الزقاق. أطوي عنقي بين كتفي اتِّقاء بردٍ قارس، وسط الزقاق قرب مدخل العمارة ثمة شيء طويل ممدد تغطيه أوراق من النيلون الفِضِّي الذي يستعمل لتغليف المحروقين. لم أشم في الجو رائحة حريق، صباح الأحد هذا بلا دخان، المخبزة الوحيدة في الحي مُغلَقة ولا بُدَّ من الذهاب حتى ساحة «الكونفوسيون» لشراء فطائر حارة. الشيء الممدد بلا حراك، سألتُ فرنسيًّا قميئًا من المُبَحلِقين ما الخبر؟ نظرَتْ نحوي زوجتُه أو أمه الشمطاء شزرًا كأنها تقول: لم يبقَ إلا أنتَ أيها العربي الفضولي! لاحَظَ البقال السوسي ارتباكي فاقترب مني قائلًا: المسكينة، كانت وحيدة، دائمًا وحيدة فألقَتْ بنفسها من الطابق السابع. في المقهى الوحيد المفتوح للعبة «التيرسي» سمعت رواية أخرى وسط أنخاب وصول باكورة نبيذ البوجولي. فجأة ضربتُ رأسي بقبضة يدي، يا لغفلتي، يا لغفلتهم، نسيتُ جسدي وهو يهوي من تلك الشرفة على إثر سقوطها، وأظنه الآن وصل إلى أرضه، سمائه، هذا الشيء الممدد خلف ورق النيلون، هناك، هنا وهم ينظرون إليَّ وقد هويتُ …
فكرتُ أن هذا أفضل؛ إذ أشهد على رحيلي بتدريج وأرى وأنا أنسحب وبشكل ما أنا باقٍ فأوقف، عندئذٍ، النزيف البكائي الاصطناعي لمن يكرهونني كراهية التحريم، وأوفر على أحبائي ذرف دموع هم في حاجة إليها لمستقبل الأحزان، وعلى كلٍّ فأنا لا أريد من أحد أن يَتبتَّل إثر موتي. فقط، تناخَبوا وحيثما عَبرَت غيمة اسَتمْطِروا منها محبةً مَحضتُها لذكرى الأيام الغاربة.
وأنا أغادر، أيضًا، فكَّرتُ في صديقي الراحل، صديقي حقًّا — الشاعر الأستاذ أحمد المجاطي. فماذا تراه فاعلًا لو غادر قبره؟ — صنيع عيسى بن هشام، مثلا — وعكف على قراءة أو سماع بعض ما دُبِّج في حقه من المراثي و«عرائض» تحصيل المناقب. لو حدث شيء من هذا لاستغرب من أين طلع هذا الخلق اللقيط الذي نبذه في حياته وتبادل وإياه كراهية «سامية»؟ عجبًا هذا يقول إنه رآه شهرًا قبل وفاته، ذاك يزايد: بلى زرته قبل، أسبوعين، دعك ممن سجلوا — على الغيب — وصاياه الأخيرة. آخرون عمدوا إلى كلام سابق للراحل، قال فيه ما قال وأصبح في ذمة التاريخ، فشَهَّروا بعِرْض الأحياء والموتى. أولَمْ يَكفِ هؤلاء جميعًا وسواهم أن أحمد المجاطي ودَّع هذا العالم وقد مَقتَ الدَّجَل والدَّجالِين، والكذابين والجبناء، وأشباه الرجال وأقزام الشعراء؟
قبل أسابيع من رحيله الأبدي، طلب المرحوم الشاعر والروائي محمد خير الدين من أصدقائه الخُلَّص، أن يكفوا عن زيارته إشفاقًا بكرامة جسده الذي بدأ يتضاءل من وطأة المرض العضال، ففعلوا مخلصين وتركوه يرتاح موجِّهًا للعالم قهقهته الرائعة. كان خير الدين قد مات قبل جنازته حين كتب قصيدته الممهورة بوحشِيَّة حرب الخليج. لعله أراد، أيضًا، أن يشاهد موته البطيء، وهو في فرجة الخلق اللقيط وكتب:
ألا فموتوا، إن استطعتم إلى ذلك سبيلًا.