قرنفل بقلب مثقوب
بالأمس البعيد أسماها الروائي الأمريكي الشهير إرنست همنغوي «باريس، عيد دائم»، وهو يطوف بدراجته الهوائية بين شوارعها وميادينها في فترة الشباب الزاهي. وبالأمس القريب جدًّا، على امتداد شهر أغسطس هذا الذي يسلس أيامه للنهاية، عاشت المدينة تحت الوطء الثقيل لقوات الأمن، تزيد وحشة المدينة المقفرة كل صيف وحشة حضورها الكثيف، في الشوارع والمنعطفات، ممعنة في تفتيش العابرين، مترصدة أشباح «الأصوليين الإسلاميين» ومُحتجِزة البشر بالعشرات كل ليلة دفعًا لمحذور إرهاب مفترَض، جاثم بإنذاره أو وهمه على مدينة وقعت خلال ساعات في قبضة وزير الداخلية. في ١٤ يونيو من سنة ١٩٤٠م كان العالم شاهدًا على سقوط باريس في يد قوات الاحتلال الألماني (ويرماخت)، وأعلنتها السُّلطات «مدينة مفتوحة». وفي ٢٥ أغسطس من سنة ١٩٤٤م اصطف الباريسيون عن بَكرة أبيهم على جنبات الشانزليزيه، أجمل جادَّة في العالم، يَهتفون ويصفقون لدخول الجنرال ديغول إلى العاصمة المُحرَّرة ببنادق مُقاوَمتها، ومتاريس أبنائها، وأقلام الكُتَّاب والشعراء.
واليوم تنسحب قوات أمن شارل باسكوا تدريجيًّا، وتنكفئ عيون أجهزته مؤقتًا نحو زنزانة «كارلوس» لتخلي الفضاء للزمن المستحق، تعلو فوق سمائه الرمادية، شبه المزمنة، سماء ذِكرى أبهجَت قلب شعب بأكمله ودقَّت ساعة إضافية في ميلاد تاريخ جدید، سيعنينا نحن المغاربة أيضًا، ويسجل بداية نضال ما يزال مستمرًّا في تاريخنا. تتكلم الذاكرة من الذكرى لتقول إن خمسين سنة مرَّت الآن، بدءًا من هذا الأسبوع على تحرير الحاضرة التي مَجَّدها طه حسين الكفيف باسم «مدينة النور»، ويعود الباريسيون تباعًا من عطلتهم، مُذهَّبي البشرة من الجنوب؛ لِيتطلَّعوا نحو سماء الرماد في الشمال تعلوها شمس تحرير وهَّاجة أشرقَت منذ نصف قرن.
حدث كل شيء في ظرف أسبوع وابتداءً من ١٩ من أغسطس ١٩٤٤م. ولم يكن ما حدث ممكنًا قبل نزول الحلفاء بشاطئ النورماندي في ٦ يونيو ١٩٤٤م؛ أي بداية النهاية للاحتلال النازيِّ لفرنسا، ولانهيار النازية بالتدريج، عُيِّن «روول تانغي» رسميًّا قائدًا للقوات الفرنسية الداخلية، وكان فيلق الجنرال «لوكلير» قد نزل بثقله في النورماندي. في ١٨ أغسطس سيدعو العقيد «تانغي» إلى التعبئة العامَّة في وقت واحد مع توجيه الشيوعيين نداء التمرد في باريس وتُقرِّر النقابات الإضراب العام، وفي اليوم الموالي تنطلق الشرارة الأولى لتحرير المدينة بدل انتظار الأمريكيين، الذين رجَّحوا اختيارات أسبق أظهرها جدل حادٌّ بين ديغول وأيزنهاور. في السابعة صباحًا يحتل ألفان من رجال الشرطة الفرنسية مَقرَّ الولاية وتشتعل النيران حول ساحة سان ميشال، وتستمر المعركة طيلة النهار، إلى حين توقيع هُدنة. في يوم ٢٠ أغسطس تَتمتْرَس فرقة من المُقاوِمين داخل مبنى البلدية، وفي الوقت نفسه يتم احتلال مباني الصحف العميلة.
إنه الجدول الزمني لتسلسل تحرير مدينة باريس، أما الأحداث نفسها فهي ملحمة كاملة عاشها وشارَك فيها السكان، بمختلف أعمارهم، وبمقادير مختلفة، وهي تُمثِّل قسمًا ذهبيًّا من تاريخ المقاوَمة الفرنسية للاحتلال النازي، ما يصعب الوقوف هنا حقًّا على تفاصيله، وهو ما يستعيد الإعلام الفرنسي حاليًّا لحظاته؛ إنعاشًا للذاكرة الوطنية في زمن خفَتَ فيه حِس المواطَنة إلى حدٍّ بعيد، وتذكيرًا بأن ألف قتيل سقط في معركة الأيام الستة التي تقود إلى التحرير.
«ها هي باريس تشعل النار بكل طلقاتها في ليل أغسطس، في هذا الديكور الهائل من الحجارة والمياه، وحول هذا النهر المتدفِّق بثقل التاريخ، مرةً أخرى نصبت متاريس الحرية. مرة أخرى ينبغي شراء العدالة بدم الرجال. سيشهد الزمن أن رجال فرنسا ما أرادوا القتل، وأنهم دخلوا بأيادٍ طاهرة إلى حرب لم يختاروها (…) إن باريس تقاتل اليوم لكي تستطيع فرنسا أن تتكلم غدًا، والشعب مُسلَّح هذا المساء؛ لأنه يأمل في العدالة غدًا (…) إن باريس السوداء والحامية، بالرعد المُدوِّي في المساء والطرقات، لتظهر لنا أكثر إشعاعًا من المدينة المضيئة التي يغبطها عليه العالَم.»
وهذا جان بول سارتر يصف لقطةً مثيرةً في تحقيق أنجزه خلال الأحداث، يُبرِز من خلاله صورةً دمويةً وسلوكًا بشريًّا. وقفَتْ فرقة ألمانية أمام بيت الكاتب وبدأتْ تُطلق النار، ولا خيار أمام الناس إما الفرار أو الرَّدى «وحْدَه، بقي رجل مُسِن عاجز عن الجري، فاتكأ على باب موارب لعمارة مجاوِرة، دقَّ البابَ بِجُمْع يديه ولم يفتح أحد، وأطلق الألمان الرصاص فخَرَّ الرجل صريعًا.» ينصرف القتلة وتُحْمَل جثته «أمام العمارة تبقى لطخة دم شاهدةً كتُهمة، ثم يُفْتَح الباب فجأةً ليطل منه رأس شخص خرع، إنَّه الحارس الذي رفض فتح الباب ينظر إلى اللطخة بإحساس توبيخي ثم يختفي ليعود حاملًا سطلًا ومكنسةً ويشرع في غسل الدم، وهنا ينطلق غضب الحشد، إنها مظاهرته الجماعية الأولى، وهي المرة الأولى منذ الصبح التي سيعي فيها الناس وَضْعَهم، ويهمون بالحارس مُوبِّخِين: آه، تستطيع تنطيف الدم الآن! هذا الدم سال بسببك أنت (…) وقرأتُ الخوف خلال أربعة أيام في عيون كل باريسي.»
بيير سيغرس وكلود روا كانا معًا، مفتونَين بالزهور، وبهذا الافتتان، من وحيه، سجَّلَا في خِضَم المعركة وأوج النصر الذي قادَت إليه شهادتهما التي نَقتَطِف منها، عند الأول: «غدًا سأتحدث عن الزهور، أما الزهور الحقيقية لباريس اليوم فهي التي ستفتحها طلقات البنادق على زجاج الواجهات: القرنفل بقلب مثقوب.» فيما يكتب كلود روا: «أكتب مقالي من متجر بائع ورود، وهذا أجمل من كتابته في قاعة تحرير، وبالطبع فإن الطلقات قد رسمَت في الواجهة دوائر مُحدَّدة تَفرَّعت عنها شروخ، ولم يَخلُ المكان من بضعة نباتات خضراء، بل هناك أص لزهرة الهرطنسية، وأص آخر للزنبق. قالت البائعة: إنه لِساكن في الطابق الثاني، لقد قُتِل صباح البارحة برصاصة ألمانية وهو يفتح شُبَّاك النافذة.»
بعد خمسين سنةً على تحرير باريس رحل أغلب رجال جيل المقاوَمة، وجُل الكُتَّاب والشعراء المناضلين، ومعهم رحَلَت وتَرْحل تباعًا العهود المجيدة لمدينة صنعَت الثوار والفكر الحر والتعبير الطليق والفن المُتفتِّح، وظلَّت لزمن طويل «مربط خيل للعرب» وأبناء العالم الثالث … وتبقى الذكرى ينظر إليها القدامى بحنين وفَخَار، أما الجيل الجديد فهو يحس، تحت هلَع شبح البطالة وضغط الاستهلاك وغموض المستقبل، أن المدينة تُفْلِت منه هو الذي تناسَل من آباء ثورة ٦٨، ويرى الأرض اليوم تميد تحت أيديولوجية اليمين، وهيمنة النظام العالمي الجديد، ومع هذا فلو بُعِث همنغوي لَبَقِي عند قولته: أجل «باريس، عيد دائم».