تحليق فوق شرفتها
كلما أملكتُ القلم لأكتب، كلما غطتني أعالي الأشجار، وازدحمَت عند باب روحي كائنات العصور المُدْلَهِمة وجِنِّيات الشعراء المفقودين، كلما سجَا الليل وهبطت ضيفًا إلى قارِّتي اللفلى نحو مدرك المحال، وكلما احتاج الكلام إلى المعنى والمعنى إلى كلامه، واهتاجت في الانتشار رغبة البحر، وتضكمت فوق صهوة اللغة الأسماء والأماكن وانكلارات الصهيل، كلما فقَد الشيء ظله، ابتغى الواحد أضعافه، تَكلَّر القلب على صَكرة هواه، عَمَّ التشابه، انْحلَر موج الخلائق أقزامًا، انهمر الدمع رمادًا وحلَّق الوقت سرابًا وسهادًا يزركش وحده شرفة وحيدة مفتوحة على مطلق أناهَا كيلا تلتغيث إلا في وقع الخطو البعيد لقامات أعطت ظهرها لبهرج العالم وتاهت في اللديم؛ أي في متوالية الحياة/الفناء مَلبُوكة في جدل الأضداد اللانهائية، الأجلاد المحترقة، وتباريح اسمها ما بي أكثر مما بي، كلما ركبت هودج أحلامها بعيون مفتحة، لا هي إنلية لا هي جنية وما شُبِّه لي، غضَّ القمر بصري فتَلَلَّلَت على رموش العين نحو أنفاس لا قِبَل لِلَيْل المدن الغافية على مَضَض بهديرها، وعندئذٍ ترفع أشرعة صدرها تلوح باتجاه تلك الفنارات فترى المراكب متدافعة عند اللواحل قفز منها البحارة قبل الرسو، كل يحمل إليها في يده صدفة أو زمردة أو عينا قربانا، وتمنت كل مقطعة يدها لو تبعث تشهدها — كلما حرت في هذه الفتنة واخترقت دماغي جلبة الأرض حتى الدوار ولم يَعُد أناي يكفيني لحمل أوزار أناه، تجتاحني الكتابة، تصبح هي من يقولني ويتكطاني، فأناور بجهد اللعب الفني كي ألاحقها فإذا هي أكبر مِن صنعتي والصناعة، هي الآمرة الناهية المارقة المُتمرِّدة الشاخصة الشاردة اللردانية اللحمية الخضروفية الشجرية الطيفية المقتحمة الهاربة نلغ الحياة منها يُولد نلغى ما يكف ينفلت وهو جلد هام في جلدها ولا يقبل إلا على سؤال بدئه: ما الكتابة؟