قبلات لنهاية العام
(١) كتابة العين
منذ مطالع العقد الستيني، والشاب القادم من درب غلف إلى حي المعاريف البرتغالي في الدار البيضاء، والذي لم يكن قد أصبح كاتبًا بعدُ، يُلقي بجسده النحيل فوق كرسي من كراسي الباحة الخارجية لمقهى «لابريس»، ويرخي عينيه في غير اتجاه. بعد وقت آخر، سينزل إلى وسط المدينة ليستوطن كل عشية مقهى «الأطلس» (عند مدام بوليت) في شارع الحسن الثاني وخلفه المأسوف على عهدها الزاهر سينما فوكس. من هذا المكان، سيتأكد ولد سيدي بن داود بأن الحِرْفة التي تليق به، والتي ستصبح مشروع ومهماز كتابته كلها هي النظر. وسواء جلس بمفرده أو برفقة أصدقاء ذلك الزمن، فإن شغله الشاغل هو النظر: يمينًا، شمالًا، فوق، تحت، في الداخل، في الخارج، أفقيًّا، عموديًّا، وعمومًا في جميع اتجاهات ومكونات الفضاء، فإنها العين تحوم، تجوس، صاعدة، نازلة، نابشة، حافرة، فاركة، مستنفرة، مستفزة، قارصة، واخزة حتى العظم، وإن شاءت، واستغرقها الأسى وفراغ الجيب، صدَّت عن الخارج وأغْلقَت قُفل النظر؛ لتأوي إلى غرفة مؤثَّثة بكُتب مجانين العالم في سطيحة عمارة بزنقة «فوريز»، بالمعاريف دائمًا، تنهبها نهبًا كالأرضة فيما هي تتسع في شساعة أحلام مورقة وأخرى مؤرقة، ويحها، باتت لا تفلتُ منها الشاذَّة والفاذَّة لتدخل في محصلة تسطيرها، المداد كُحْلُها والكلمات ماؤها، فإن شَحَّت لا يدمع صاحبها. هكذا، آلى على نفسه أن يسعى في الدنيا بحزن دفين مُتَّشحًا أمام الآخَرين العابرين، بِحدَّة النظرة الواصفة، الجارحة، المفككة، المفتتة، الراصدة، المتربصة، النفادة لذعًا، الفاتكة نهشًا، المرفرفة فراشًا، المتدفِّقَة نجيعًا، ثم الساجية رِقَّة حتى نفسها ما قبل الأخير هو رمشة الانطفاء المؤجَّلة دومًا بعد عراك عمر طويل.
كذلك وأكثر يطل علينا إدريس الخوري من «شرفة العين»، نحن الذين توهمنا دائمًا أننا نراه قبالتنا مباشرةً بلا تفاصيل. نحن الذين/هم الذين بين عشية وضحاها، حسبوا أن بإمكانهم أن يُطِلُّوا عليه من علٍ راشقينه بنظرات رثاء أو استعلاء ليس منه إلا أحجامهم التي تَكوَّرت بقدرة قادر، وكان هو قد بذَر النواة وصنَع عجينهم الأول، سيتخَمَّر على مهَل لكنه — من أسف — لكنَّهم تعجَّلوا أمْرَهم؛ فجاء فطيرًا، وها هو في إطلالته الجديدة من كتابه «من شرفة العين» الصادر حديثًا، يُذكِّرنا بأن الكاتب ليس «النيف والشلاغم» كما يحلو له أن يمزح، بل هو عين ترى، وهي إذ ترى كأنَّها تصنع العالم من جديد وتتفوَّق عليه، فمرحى بكتابة العين.
(٢) في مطلق أوانها
صديقي الآخر، بل هو الحبيب، بدا مُحرجًا؛ إذ أصدر ديوانه الشعري الجديد، هو الشجاع، الثابت، الصامد وسط الإعصار، الشِّعر في دمه، صِنْو تَنفُّسه، فيه شَدْوه، وهو بعد الله والوطن يقينه، وأحس رغم هذا كله بالحرج وهو يسمي ابنه التاسع، وكان قد أنجب الأول في سلالته الشِّعرية سنة ١٩٦٩م مع «شواطئ لم تعرف الدفء»؛ أي إنه ربع قرن من محبة الكلمة والغناء الغجري واللعب الجدِّي في طفولة الماء هو الذي يفترش التفاعيل ويلهو بالمجاز، كما يشاء بين أعظم نهرين، هو سيد بابل الذي وُلد في بابل يحس بالحرج فيعنون ديوانه الجديد «فوضى في غير أوانها». كأن الشعر لا يليق بالحِصار، كأن الشِّعر تَرَف في زمن الحصار. هذا بعضُ يقين حميد سعيد، وأنا أعرفه على خُلُق عظيم، هو مثل الاعتذار هذا العنوان لأبناء شعبه ووطنه، لبادية ومُصْعَب وحفيده إبراهيم، للفرات وقد جرى ماؤه دمًا، للمحاصَرين والصامدين، حفنة من تراب، حفنة من رز إن وُجِدَت تكفي ليبقى الوطن بجرحها المفتوح البلاد باقية، أبناؤها من فنائهم يتناسلون ولا يُباعُون في نخاسة العملاء.
لا يملك الشاعر إلا شِعْره، دارته البسيطة، الأليفة في حي زيونة البغدادي، نحن نعرفها، حين زارنا قبل أشهر كان يرتدي ثيابه القديمة التي نعرف ووجهه وضَّاح وثَغْره باسم، بغداد كلها، بتاريخها وسلاطينها ومكتباتها وخاناتها وفتنتها وشَدْوها ورَقْرَاق دِجْلَتها أهداها لنا، هو الذي لا يملك منها شَرْوى نقير، وقال امكثوا فيها شهرًا أو دهرًا، فهي دومًا بأعمار الأحبة وتغاريد الشعراء آهلة. أم غِيضَ العِدا من تساقينا الهوى أم نَضِبَت تلك الكأس، شح الرزق فانفض الإخوان عن الخوان، سترون كيف ستمتلئ غدًا، كَرَّة أخرى، حتى الجمام، وَيْحَكُم ستنظرون غدًا إلى وجوهكم في ماء دِجْلة، في وجه الشاعر المُستَحي من جُوع الوطن، فكيف ستبصرون إن أبْقَوا لكم من شَرْوِكم بثمن بخس من عيون؟!
لا تخجل حميد من شعر تنشده في زمن حصارنا، فديوانك فوضى ما أجملها، في مُطلَق أوانها لا في غير الأوان. يا حارس القرنفل صَدِّقْني، فأنا والتي تكتب على دمها، نُجدِّد لك وعدًا بالقيامة، الشِّعر فيها رسول الأبدية. من كل مكانٍ الطوقُ اكتمل وها فوضاك ستُعْتِقنا، أرض العراق، وليس للشِّعر أوان في العراق.
(٣) قبلات
اختارت في ليلة العام الجديدة أن تبقى وحدها. الليلة باردة وهي تتلفَّع بوحدتها، وتَتدفَّأ بحزن أَعدَّت طقوسًا كثيرة لاستحضاره. لم يَبقَ من فرسان ليمرح في بستانها فارس، وحين انتصف الليل انطلقت في بكاء أو هيستيريا ضحك وقبلت ذكرى قبلتها. في مكان آخَر كان هناك عشاء عائلي وأُلْفة وصورة من غياب حين انتصفَ الليل ضَمَّتْها إليها قبل أن تستيقظ في الصباح باكيةً من وحشة، فقبلها، البحر البعيد في الضفة الشرقية تهادى بصوتها، قالت سأحتفظ لك بقُبْلَة العام الجديد حتى تأتي، فمتى ستأتي؟ نساء، أطفال، رجال من كل الأعمار التقينا في ساحة لا نعرفها ولا نعرف لماذا التقينا، ولم نكن متظاهرين ولا غاضبين، ولم يكن أمامنا من سبيل للفرح، بعد أن يَئِسنا من كل شيء فأمطرنا بعضنا بالقُبَل.
السماء أيضًا شاركتنا فرحنا فامطرَتْنا بقُبل رخية، ونحن نُهلِّل أن الحزن ليس مهنتنا، ولا نريد من العَلِي القدير في هذا العام الجديد سوى الفرح، قضينا وقتًا على هذا الحال، ولم نكتشف إلا متأخرين أننا كنا … في العراء.