في انتظار أفق المحبوب
«أفوس، أفوس … صافي، صافي»
هل هي نهاية المطاف، أم إني أسلك الخطوة الأولى في بداية الطريق؟ هنا، عن قرب، على عَتبة وفي مدخل هذه المدينة، والناس نيام، وأنا وحدي تتبعني نجمة الأماني أو هكذا يُخيَّل إليَّ من شدة وهمي. ما أكثر الشعاب والدروب التي عبرت! ولكن ما غمرني أبدًا هذا الإحساس الطاغي بالرهبة، بكل الزمن الذي عشتُ ومعه تَصلَّبت، يدق حادًّا في القلب تكاد تسمعه قرع أجراس الكنائس أيام الآحاد والأعياد المسيحية.
لا أستطيع الحسم لأقول إن الصورة، بل الصور خلفي أو أمامي، أو لأدرك الفرق الحقيقي في الشكل والمعنى، بين الحقيقي في الشكل والمعنى، بين أزمنة سحيقة وأخرى منتشرة على مدى البصر، بين المسالك ومدارات تلك الأراضي التي سرنا فيها، والتراب وقد شققنا صدورنا أملًا في انعتاقها، ومنها صعدًا نحو البلاد الهامدة أحببناها، نحبها، ونأبى أن تصبح نهبًا للجراد الوليد، المفقوس من بيضة فاسدة، حتى إني ما عدتُ أرى في كل ما يقع عليه بصري من قباب، وقمم جبال، وطوابق عمارات، وحشود بشر في الأسواق، والطوابير، مع الصفوف الأخرى المنحنية كالديدان عند أعتاب القلاع المعلقة؛ لا أرى من هذه الأشكال ونظائرها سوى أعشاش لِبَيض فاسد، وما أريد أن أكون فيه أو يأتيني منه نَسْل.
أنا الآن في خطوة العراء والظلمة المعتقة، وما كان الذي تركته خلفي ضوءًا ولا رءوس مشاعل، وقد مضى عليَّ زمن أبصرتُ فيه الشهاب يسطع تلو الشهاب، وجسدي من وهج النار مُتَّقِد، كلما عبرتُ قرية، مدينة، دواوير، قصَبات، طُرُقات ملفوفة في الغبار، جلسات رجال القبائل حول حطب الشتاء وزوجاتهم يَعْلِكْن اليأس أمام المواقد، خماسين مُتَّهمين بسرقة محصول السادة، كلما عبرت جسدي المتسلسل من وديان السيبة، العطشان أبدًا لفوراتها، وأمسكت نظرتي الشغوف، بالحدس والحس، وللنار والدمار، هتفت لسنوات الجمر خاطت عمري، نسجته على نَولِها وبقيتُ كي أبقى أرى الخيوط تنسلُّ واحدًا واحدًا، والدم الذي فاض من التراب إلى التراب ليس إلا بُقَع عفونة أو يكاد؛ فلا أعرف وأنا على عتبة هذه المدينة إن كنتُ سأسترجع ذكرى ماضي أو غدي الماضي. هي وحشة الديار الممحوة أو الموشومة في سراب تلك الصحراء تعود إليَّ متى تقدَّمتُ في غدٍ ينفلتُ فأحسُّها رعشات تتنمل فوق الجلد، وهو ينكمش تدريجيًّا من أثر الأيام واحتقان الغضب. هي التَّراوُح المُتموِّج بين ما كنت وما أنا عليه وما سأسير نحوه في المجهول. أم تراه المعلوم مكرورًا يُستعاد في ميناء ساعة عَقاربها محكمة الضبط بأيد مُتمرِّسة بلَيِّ الأعناق وقَطْع الأرزاق.
ولذلك لم أحر جوابًا أمام الذي جاءني بعد فوات الأوان ليسألني لماذا لم تَتمنَّ لنا شيئًا، والعام الجديد هلَّت طلعتُه. أردتُ أن أقول له إنني ما تَعوَّدتُ تقديم القرابين لأحد، وأن أعوامكم باتت متشابهةً مثل هذه السحنات التي بلا ملاحة ولا ملامح. ثم ماذا تنفع جميع تَمنِّيات الأرض وبُسطها مسحوبة من تحت أقدامنا فلا نملك إلا ألسنةً مُدلَّاةً من فرط بلاهة أو لُهاث من أجل لا شيء. فقد مر الحصاد باكرًا تحت أبصارنا فلم نقبض عليه، وحين اطمأنُّوا جميعًا، وبلا استثناء، إلى غفلتنا ألقوا القبض بيسر على ألسنتنا، فربطوها إلى صحون مُتْرَعة بالخُطب، والتحليلات، والاستراتيجيات، وأصناف أخرى من الويلات والبلاهات. نحن لم نَلعقْ من تلك الصحون فظنُّوا أننا عِفْناها، فقدَحوا زناد ذكائهم، الخارق طبعًا، إنهم خارقون ونحن مُخترَقون!
وقالوا: هؤلاء يهوون الرسوم المتحركة، لنمطرهم، إذن، بوابل من الوجوه والصور والمَشاهد المثيرة من ألوان مختلفة، وسَتَرون أنهم سيلحسونها مثل الكلاب تلحس أيدي سادتها … وكان قد فات الأوان فلم أَقُل شيئًا معولًا على فِعْل آخر من طراز مزاجي، فمثل أي كائن رومانسي، أي مخدوع، جلستُ عشية عامهم الجديد أمام عتبة أوراق بيضاء. كلَّا، لم يَدُر بخلدي نَسْج كلام مما يسمونه «التجربة الإبداعية»، ويَعقدون له مواسم وأسواقًا لتقصِّي ينابيعه، وشرح محاليله. مثل هذا الكلام تركتُه ورائي، مثل مستقبلي، جريًا على سُنَّة حميدة سنَّها قبلي السينمائي الإيطالي فيتوريو غاسمان. استللتُ شعرة من حاجبي وشرعتُ في تسويد مفردات: هواء … بحر … أُفُق … دنيا … أمل … فرح … حلم … سحاب … طريق … لورا … غدًا … لورا … واحدة … قُبلة … دائمًا … موت … أدب … أنا … عند الكلمة الأخيرة حدثَ ما يشبه التشوش الذي يلحق شاشة التلفزيون عند اضطراب الإرسال؛ بدت بعض المفردات مُمطَّطةً، مُنتفِخةً، أخرى مُمدَّدة، نَحيلة. مرَّة أخرى بعضُها يحمل ظهرًا ذا حدبة أو بطنًا منتفخًا، أنا، وحدها برزت دفعة واحدة ملء الشاشة ثم اختفى لها كل أثر، ومن الجائز أني لمحتُ أصابع تمتد إليها مُطوِّقة عنقها، من الجائز أن حروفها لم تتشكل إلا من فيض أنانية زائغة وها قد وجب إنزال العقوبة الصارمة بمحوها، وإلا كيف لي تفسير الامِّحاء المتتالي للمفردات، ومعه الوجوه تتراجع شأن ممثلين مُتعَبِين خلف الستارة أو الكواليس تاركة أقنعتها وحْدَها تخوض اللعبة؟ وحين خططت مفردات يتيمة، عَزْلاء، فوق أوراق بيضاء، اختفَت أوراقي كما يفعل السَّحَرة. أؤكد للسادة الكرام، رعاة حقوق الإنسان والبقر والديدان، أن المفرَدة وهي منفردة مثل صاحبها، واقعة خارج تركيب الجملة لا تؤذي أحدًا، مع اقتراض أن كاتبها سَيِّئ النِّية، عدواني النزعة من الصباح إلى الصباح … فلماذا اختطفتم، إذن، أوراقي وأرسلتم خدامكم، تحت جنح الظلام، إلى صفحات بياضي؟ كنتُ رسمت: أُفق … أمل … حلم … لورا … أنا … دائمًا … وهذا كل ما في الأمر، وهو ما جعلني أنسحب قليلًا، مُؤقَّتًا، إلى صَمْت أعشقُه ولا أجده، ضَيَّعتُه، مُمتنعًا عن التَّمنِّي، مُمتنعًا عن الخوض في اللعبة … الآن، أما وقد اكتمل المشهد، مرسومًا بريشة الخداع والتضليل، والكومبارس بعد التُّخمة هائج باللغو أدعوكم لترددوا مع المغنية المغربية أغنيتها الشهيرة «أفوس، أفوس … صافي، صافي»!!
من تفاصيل الوقت الضائع
الشخص هو هو، لي اليقين أنه لم يتغير، سحنته، على الأقل هي هي، وباستثناء شيب يفضح شبابنا الآفل فالرجل بدا لي هو هو كما عهدته أيام كنا في منافينا. أوه، ربما أكثر وسامة، وأحسن قيافة، وهذا طبيعي، متناسب مع منصبه الجديد، نحن الآن في البهو الخارجي للقاعة الكبرى التي ستشهد حدثًا ما تضطرني لياقة عائلية لحضوره صاحبي القديم هنا، يا للصدفة الجميلة، ومن بعيد هششتُ له وبششتُ، إي والله هو وما عندي شك في أنه سيبتهج ابتهاجي لرؤيته، سيرد لي الابتسامة أولًا، وما أراه إلا معتذرًا للشخص ٢ مؤقتًا ليُقْبِل عليَّ كما تقتضي أعراف الصُّحبة. مَضتْ ثوانٍ ولم يفعل بينما كنتُ أسرفتُ في سذاجتي، مُتقدِّمًا باتجاهه خطوة فارتبك وارتج، واحمر قبل أن يصفو. وفكَّرْت بألَّا مَعرَّة بيننا ولا دَين لينقلبَ إلى هذا الحال بنظرته تزيغ عني لحظة في أرجاء البهو لترتدَّ سريعًا نحو الوجه الملائم قُبالتها والوجه ما أشرح أساريره! بشوش إلا عندما أصبحت لصقه تقريبًا، رأيتُه مُربَدًّا فمُمتَقِعًا. وا عجبا، أهذا صاحبي القديم الذي … لم يَعُد له مفر مني؟ إما أن يحضنني ولا أنكر. الشخص الذي كان في اليسار أمسى في الوسط؛ ولذا ما حضنني ولا أنكر، دفع إليَّ يدًا باردة استلَّها بسرعة من قبضتي الحارَّة كأني سأسرقها منه إلى الأبد، وبتكلُّف شديد، والامتقاع لا يغادره، قدَّم لي الشخص ٢ إلى جانبه: «السيد المحترم، معالي الوزير، وزير اﻟ…» نطق كلماته مموسقة وانتقل ليُقدِّمني بخُفوت وسرعة كأنه خَجِل من وضع ورطته فيه: «الأخ … الأستاذ … الكاتب …» وإذن، هذا كل ما في الأمر. يا لي من مُغفَّل! أم تراه هو المغفل ينسى أن الوزير عابر والكاتب باقٍ؟ … لحظةً وانتبهتُ أنه يمشي خلف وزيره ووِجْهَتُهما معًا القاعة الكبرى، تلك.
الولد الآخَر الذي يعرفني، وقد أصبح — تبارك الله — رجلًا، يعني، في تعاقُب هذه السنوات العجاف — السِّمَان، صادفْتُه يمشي الهُوَيْنى في الشارع الليموني — هذا اسم سأقترحه ذات يوم على إحدى البلديات غير الملوثة — ولم يكن ذلك من طبعه، فما عرفتُه إلا لاهثًا يسعى في أنواع السعي المختلفة، ما يُتْقِنُ منها وما يتعلم، إلى أن فتح الله عليه بكرسي وثير فانتبه إلى أهمية ترويض مِشْيَته لتتناسب، أقصد لتَتناسَق مع «تطلعات» الآخرين إليه، ومع الأطقُم الجديدة المنتقاة لقامة مُرتَّبة بنسب مضبوطة كأنها خارجة توًّا من صناديق الاقتراع. وللحقيقة، ولتاريخه الجديد، أعترف أنه خلافًا للشخص، سلَّم بحرارة وهو يُجيل الطرف بين الأرض وقامتي والمساء، ولستُ أدري لماذا بدا لي كمَن يحاول أن يُثبِّت قدميه في الأرض، ولكن جاذبية خاصَّة لا تُوهَب إلا لأمثاله ترفعه إلى السماء، والحاصل أنه منَّ عليَّ في الأخير بعبارة ثمينة أظن أنه عيَّرَها بميزان الذهب فقال لا فُضَّ فوه: «آه، أوه، لقد قرأنا لك مقالتك الأخيرة …» وإذ سمعتُ عبارته خِفتُ أن تكون غشاوة قد سقطت على عيني، فأنا رأيتُه واحدًا وها هو يصبح جمعًا، ثم إني، بعدها، وبَّختُ نفسي؛ لأني لا أعير اهتمامًا لهذا الصنف من اﻟ… فيما أكتب، بينما هم أيضًا ربما يقرءون، وإذنْ ما دام الشخص رقم ٢ قال عبارته تلك بكل وثوق فأنا، إذنْ أكتب.
انتبهتُ إلى الساعة، انتبهتُ إلى سطور أخشى أن تذهب هباءً، وانتبهتُ إلى أن هناك ما هو أهم من تفاصيل الوقت الضائع. وعندي صفحة واحدة سأتركها بيضاء ليملأها كل قارئ بأفق انتظاره الخاص. أما أنا فسأذهب إلى البحر أو إلى نَفْسِي أسكن إليها قليلًا في انتظار أفق المحبوب.