وردة واحدة تكفي

لرحيل ميتران

لو عُدت الآن إلى عنوانك القديم، لوجدتَ شارع الشَّجر الخصيب أشجاره عارية تُنصِت إلى غيابك الدافق يُدفِّئها من قُر ومن وحشة الرحيل يمشي خفية كالخطوة تلامس الأرض ولا. لو دفعت باب الحديقة البرَّاني، اختلست إلى العشب المُترعرِع نظرة، دفعت القدم اليمنى أو اليسرى نحو بَهْو العمارة، لرأيت نهر السين يدخل من الباب الفرعي ويغسل وقت المغرب من لغو العابرين، العائدين من مَحرقة المدينة مغتسلًا عند قدميك، سائلًا من أين لك لون هذا الطين على جبهتك وكأنك عشتَ العمر كله في رائحة هذا التراب؟ هو ترابك فيه من عرقك ودمك. ماء السين فيه ماؤك ومَن كذَّبك ليسأل وجهها الصَّبُوح كيف الْتَمَع فوقه الندى وانتفضَ الندى لمرآها فَهمَى مطرًا.

لو أدرت المفتاح مرَّتين في باب عنوانك القديم، ودخلت توًّا إلى الصالون، لسمعت نوتة موزار في منتصف الكونسرتو تستأنف العزف مُحتجَّة كيف تتركُ تناغم اللحن هنا لترحل نحو تهافُت الإيقاع هناك. لا يفيد الاعتذار؛ لأن الإيقاع سقط فعلًا، ومثل أسى تَجرُّه على مضض، تَنتقل إلى غرفة الخزانة فترى الرفوف التي أفرَغتها تَنبت لها دفعة واحدة عيون جاحظة، وتتدلَّى منها ألسنة ماكرة: هكذا، إذن، لا تَكفيك الكُتب فعدتَ لترعى عُشب الذكريات وأنت اليوم فيها ذكرى! الحيطان ملساء، المسامير التي دُقَّت فوقها في عُمر المَنافي وهي ناتئة مَدقوقة اليوم في جسدك، الإطارات بعدُ معلَّقة وهي فارغة. الصور القديمة فيها نَزعتها ونثرتها كما نَثَر سَمِيُّك وصاحبك الراحل أسماءَ أصدقائه واحدًا، واحدًا، كلما ذكَرَهم، ليلغوا في دمه بعد أن جفَّ في العروق، مُواصِلين المكر والخُبْث مع الموتى، كأن جُثث الأحياء لا تكفيهم لدَفْع المسغبة، ها الصور، من خرائب ظهر المهراز إلى أطلال شالة، مرورًا بأسوار الباستيل الزائلة، حائلة، مائلة، كانت ميساء فصارت مُهلهَلة، تساقطت منها وجوه الرجال تباعًا — إنهم يتسابقون، لعلمكم، في السقوط — قليل منها يعلو فما يلبث أن يَهوِي من شدة زهو، وكثير يتطابق فوقَه غُبار النسيان، وفئة منهم على كبر، لا بكبرياء، كأنَّما يغارون من ماضيهم فتراهم يبيعون حاضرهم برخص في زمن بُخِسَت فيه الأسماء وتَبدَّدتْ تلك الظلال العالية.

لو عدت إلى خمسة عشر عامًا إلى الوراء، أو جاءت الضفة الأخرى تَطرُق بابي، تفتح بيتي في المَنافي الجديدة — بات من الصعب أن نقبض على فكرة الوطن في متاهة المناقَصات وسوق النخاسة العلني، إلى حد أن مَن يفتح عينيه حين يفتحهما يرى في ظلامنا هذا أناسًا زعموا يومًا أن الوطن ينبض من قلوبهم، وهم يلعبون الآن دور المؤنس والبهلوان، ألا انظروا معي إلى هذا السيرك الكبير — لو عبرت ضفة السين من جهة كنيسة نوتردام إلى شارع السان جيرمان مخترقًا Rue de Bièvre لرأيتَ في وسطها، من جهة الرصيف الأيمن، دارًا عتيقة ببوابة خشبية غامقة الزرقة، نصف مواربة، إن أنت أطللتَ خلفها رأيتَ حوشًا صغيرًا، مُبلَّطًا، يؤدي إلى دارة أرضية يعلوها طابق وحيد، وفي المكان غرف معدودة مؤثثة بذوق وبساطة ومنها غرفة الكتب عمادها وسقفها وأرضيتها، يؤمها الرجل وحيدًا كلما سَنحَت له فرصة العودة من الحزب أو التجمع أو الضرب في الأرض الفرنسية من أجل القضية الاشتراكية. يدخل ويخرج من هذه الدار واثق الخطوة، بطيء المشية، وبعينين تنظران إلى التاريخ يمشي مثل عابر سبيل بين السين والسان جيرمان، وسكان الدائرة الخامسة جميعًا قابلوه تقريبًا، وما رأَوه عائدًا قطُّ إلى بيته بدون كتاب. قبل خمسة عشر عامًا وصلتُ إلى باريس والرجل ذو الخطوة الواثقة يَتهيَّأ للانقضاض على الحكم فيما جئتُ أنا للانقضاض على الوجود. كان قد بدأ الخطوة العملية الأولى في هذا السبيل بدءًا من سنة ١٩٦٥م. وبالنسبة لأبناء جيلي فهي سنة لا تُنْسى وقد ارتبطَتْ باختطاف المهدي بن بركة وأحداث الدار البيضاء الكبرى، وتلك قصة أخرى. بين مُدرَّجات الجامعة، وفتنة النهار، ودهاليز الليل المعتق، لم أقُل لأحد إنني اشتراكي مثل كثير من الأدعياء — سمعتُ مؤخَّرًا أحدهم يتبجح بأنه اشتراكي فيما هو واقف منذ سنوات في طابور النخاسة ينتظر دوره! — رحت أتعلَّم ثقل الكلمات في الشارع لا في الخطاطات، وبدوا لي زاحفين كالسيل العَرِم في الموجة العالية سنة ١٩٨٠م، وما هي إلا شهور وجاء الربيع. كان الجمر قد اتَّقَد منذ مايو ١٩٦٨م ولكنه ما لبث أن خبا أو علاه رماد الشك والقلق، فليس سهلًا الانقلاب على الزمن وهو ما أراده الستينيون في انتفاضة احتاجت إلى عقد ونيف لِتُوتِي أُكُلها في شهر مايو الرائع من سنة ١٩٨١م.

وكانت أنفاس الربيع قد هبَّت مبكِّرةً في أصوات الفتيان الصادحة بإسقاط اليمين، وفي حماس لاهب انخرطت فيه مختلف فئات الشعب المُصمِّمة على التغيير، وفي عيونها يقيم طيف الرجل. هو لا سواه، بعد أن أقصى جميع الغرماء، يتقدَّم رعيل اتحاد اليسار، اليسار الفرنسي العريق يصب كله في قالب رجل واحد اسمه فرانسوا ميتران: هو ذا قدَر الزعماء بإهابهم الذي يرسم طريق المجد.

أنا ممن يميلون إلى التأريخ بالوجدان، بعبق الوردة، أو غرام البنفسج بذكرى المحبوبة، تاركًا الوثائق والتواريخ — وعندي منها كثير — لمن يستكثرون عليها اسم الوردة؛ ولذلك أقول: إن تاريخ فرنسا الجديد بدأ ليلة العاشر من مايو ١٩٨١م في ساحة الباستيل، وقد تَدفَّقَت إليها أنهار الشباب والكهول والشيوخ، النساء والرجال، بعشرات الآلاف. ونحن العرب ليلتها ماذا دهانا … كنا نحتفل وكأننا مَن حرر الباستيل؟! لم أُحْبِب أمل مثلما أَحبَبْتُها تلك الساعة وهي تبكي مُعوِّضة هزائم العرب بانتصار المرشَّح الاشتراكي في معركة الرئاسة، بوصول ميتران أخيرًا إلى قصر الإليزيه. كنا تناخَبْنا حتى الصباح — أعني عشرات ثم مئات الآلاف — كنا غَنَّينا، رقصنا، نزَقْنا، ولا حرج في نزق الخائبين يفرحون مَرَّة في العمر. وبقينا على تلك الحال إلى يوم ٢١ مايو، وقد استعدنا شوارع باريس وميادينها، مُصطَفِّين في زنقة سوفلو، بالدائرة الخامسة، ونحن نراه يصعد، واثق الخطوة يمشي ميتران. بيدٍ يحمل وردة حمراء ومن الأخرى ترفرف القبلات كالفراشات. الوردة هي ما اتخذه الحزب الاشتراكي، لا أقول شعارًا، ولكن رمزًا وفألًا لحملته الانتخابية، وبقيت كذلك فيما توالى من السنين، ولعمري إنَّ رمزًا كهذا خير من شعارات العالم كلها. قُبالة البانتيون، مقبرة العظماء، وقفنا بأرواح مرحة، وعيون دامعة فرحًا، تحت مزن سكوب، ننظر إلى الرجل في يده وردته وهو يدخل بمفرده إلى المبنى ليضعها على رماد جان جوريس، ملتحقًا، كما ينبغي له، بأقرانه من العظماء.

مذ ذاك التحقَتْ فرنسا، بأجيالها المختلفة، والجاليات العديدة المتعايشة فيها، بزمن الحكم الاشتراكي، ومنه بمصير وأفق أحلام ومشاريع سيكون ميتران صانعها وسيدها على امتداد أربعة عشر عامًا، مجموع سُباعِيَّتَي الحكم التي قضاها في قصر الإليزيه على الرغم من فجوات وانكسارات اخترقتها.

لست هنا في مقام التحليل والعرض السياسيين لأتنقل بالقارئ عبر المقامات الغنية، المتعددة، والمعقدة لأطول فترة يقضيها رئيس فرنسي بالحكم في ظل الجمهورية الخامسة، ولا لأستعرض معه مراحل التجربة الاشتراكية في السلطة، سواء بمبادراتها ومشاريعها التغييرية على الأصعدة كافَّة، أو إخفاقاتها والخيبات التي ترتبت عنها، شأن كل تجربة لا تستحق اسمها إلا وهي في مخاض التشكل المادي، بعد النظري-الحلمي، ودخولها مُعترَك الصراع المباشر متنازعة بين الطموح من جهة، وقدرة الواقع بشتَّى معضلاته على لجمه أو تعديل مجراه، من جهة ثانية، والتباعد المختل المشهود في جدول أعمال التجارب اليسارية وممارستها أجهزة وأفرادًا حين تعتلي سُدَّة السلطة، من جهة ثالثة.

أقول: إن هذه العناصر مجتمعة قرينة بعرض خصوصي لصيق بالمفاصل الأساسية للمجتمع الفرنسي في مرحلة من أخصب مراحل تطوره وإعادة تَنَمْذُجه أكثر من أي شيء آخر، في هذا المقام، هو استخلاص الروح الجوهرية للمرحلة في ارتباطها مع الإرادة الخلَّاقة التي رسمَتْها ملامح وجود، وصنعتها هياكل بناء وتثوير، وعندي أن ميتران كان اليد الصَّنَاع لها، وصاحب فلسفتها، والقَيِّم على مكاسبها وإخفاقاتها في آنٍ. ولعل ما هو جدير بالتسجيل، من باب المفارَقة، أن الزعيم الاشتراكي الذي أقام أركان بيته العتيد على أنقاض البيت الديغولي، الذي لم تفارقه روحه رغم كل شيء، كان مدفوعًا في مشروعه الكبير — نستطيع القول الآن بأنه مشروع تاريخي — برغبة قتل الأب، هو الذي تَجنَّب دومًا التلفُّظ باسم الجنرال ديغول، وهو ما تحقق له بالفعل ليخلفه في مخدع فرنسا وجمهوريتها الخامسة زعيما فحلًا سيخصب جيلًا بأكمله، هو الذي يُطْلَق عليه اليوم «جيل ميتران». إن ما أغاظ اليمين حقًّا في تجديد انتخاب الرئيس الراحل لسباعية حكم ثانية (١٩٨٨م) هو إدراكهم بأن الرجل أفلح في انتزاع ثقة الفرنسيين بشخصه هو بالدرجة الأولى، وبضرورة الزعيم الجديد الذي أطاح نهائيًّا بنصب الزعيم القديم الذي تَصوَّرَته النوستالجيا اليمينية دائمًا الواحد الأوحد بلا منازِع. لا عجب إذا كتب الصحفي والروائي فرانسوا جيسبرغ، وهو رئيس تحرير «الفيغارو» الشهيرة — الحصن المنيع للصحافة اليمينية — وبمناسبة هذا الفقد: «إن فرنسا فقدَت جزءًا منها»، وضِمنًا فهي فقدَت جزأها الآخر منذ رحيل الجنرال؛ وبذا فهي تعيش الآن حِدادًا ويُتمًا كاملين. أجل تودع القَرن بإحساس تراجيدي بِيُتم الزعامة التي رحلتْ إلى الأبد لتستسلم إلى حكم الرؤساء العاديين. ما نظن أننا نُبالِغ إن قلنا بأن فرانسوا ميتران هو آخِر غصن في شجرة أنساب الزعماء التي كانت باسقة طيلة قرن. ذاك الإحساس ما يجعل الفرنسيين يبكونه الآن بدمع ساخن؛ لأنهم واثقون، وهم شعب الحب والشعر والجمال، والحزن أيضًا، بأنهم لن يبكوا أحدًا بعده، هو العملاق، القاطع كحد السيف، الرقيق كنسمة، المثقف الكبير، الشاعر بصمت، رجل الحرية والمبادئ العظيمة التي عشنا بها في المَنافي، وباختصار الزعيم حقًّا … فما أحوجنا إلى زعماء نبكي رحيلهم.

١٣/ ١ / ١٩٩٦م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥