الكتابة بالبندير

(١) لعبة المحو

ما جرى لعلي الجديد يختلف كثيرًا عمَّا جرى لأبيه يوم كان طفلًا، يقرأ نفسه ويرى صورته ونمط حياته هو وفاطمة، كما سجَّلها ذلك الكتاب المدرسي الذي لا يتذكره إلا أبناء جيلنا، وفرضَت علينا صوره فرضًا إلى حد أنَّنا صدَّقنا، أحيانًا، أنَّنا حقًّا على شاكلة ما رسمه الآخرون وقضينا عمرًا كاملًا لا نعبأ بحقيقتنا أو ننبذها نبذًا إذا ظهرت خلافًا.

ذات مساء جاء إلى علي الجديد أبوه، كما اعتاد قبل أن ينام، إما ليطمئن لدفتره المدرسي، أو ليروي له حكاية مُسلِّية أو ذات عبرة. هذا المساء قرَّر الأب أن يقص على ابنه بعض ما جرى ﻟ «علي وفاطمة»١ في الزمن البعيد، وهمُّه تَنبيهُه إلى الفرق بين صور الحاضر والماضي أو ما بينهما من علاقة، كان الأب يَعْلَم أن ابنه فَطِن وإن لم يَخْلُ من رعونة، فأراد له بهذه الرواية أن يزداد فطنة ويتدبَّر ليعقل أكثر، وهذه على كل حال، بغية كل أب.

استمع علي الجديد إلى أبيه وهو يروي له بحَدَب وهدوء سيرة طفولته ويرسم له ملامح وجهه وطباعه، كما صاغتها ورسمَتْها له من قبل يدٌ غير يده. وكان طيلة الجلسة يلتفتُ إليه التفاتة من يريد أن يعرف تأثير حديثه في نفسه. وما مَضت عليه إلا دقائق رأى الأب القديم بعدها ابنه يُسْلِم جَفْنَيه للنوم، لم يَغْتظْ لنومه بل سُرَّ وهو ينوي أن يكمل البقية في مساء الغد، وما كان الابن نائمًا ولكن مسبِلًا جفنيه؛ لِيوُهم بنومه، ويفعل ما يحلو له، وتلك من حيله. وبات ليلته على نِيَّة فعل اعتزم تنفيذه في أول سانحة.

في اليوم التالي ذهب إلى المدرسة، وكانت الحصة الأولى خاصَّة بدرس الرسم طلَب المعلم من الأولاد إخراج الدفاتر بيضاء الورق، وأقلام الرصاص، والأقلام الملونة، والْتفتَ هو إلى السبورة السوداء، وبدأ يرسم: أولًا، حيوانات: أسد، نمر، ذئب. ثانيًا، دواجن: دجاجة، بطة … فأشخاص: دَرَكِي، شرطي، راقص. وأخيرًا أماكن: مدرسة، دُكَّان، حديقة، ورسم عليٌّ الجديد كل ذلك بإتقان في دفتره ولوَّنه أحسن تلوين. وحين عاد إلى البيت أظهر رسومه لوالديه ففَرِحا به، وهنَّأه بشكولاتة الْتَهمها عن آخِرها قبل أن يأوي إلى مضجعه وقد عوَّل على شيء.

بعد ساعة نهض من فراشه مرتعدًا، فقصد حقيبته المدرسية وأخرج منها دفتر الرسم، ومن المقلمة ممحاة. فتح الدفتر فرأى الأسد. خزَرَه جيدًا وتصدَّى له بالمحو، وبعد أن محاه هتف بفرح: أنا الأسد، أنا الأسد. محا النمر: أنا النمر أنا النمر … محا: أنا الذئب. واصل المحو بمثابرة: أنا الشرطي، أنا الراقص … وإذ محا الذئب أنا الذئب. كلما محا من صور في الدفتر برزَت له صورٌ أخرى: المدي: محاه، المعلم: أيضًا، رفقته الصغار: محاهم، أمه: محاها، أبوه محاه أيضًا. وحين أحسَّ بالعياء عاد إلى فِراشه وهو يشعر بمتعة، لكن الممحاة انبرت له تَحُول دونه والفراش. ظهرت له كائنًا ضخمًا وطرحَتْه أرضًا وهي تمحوه. شيئًا فشيئًا مَحت الشَّعر والجبهة والحاجبين، فالعينين. حين اقتربت من الفم أرسل صرخة هرع على إثرها أبوه فوجده يهذي: المِمْحاة تريد أن تمحوني فخَفَّف من روعه ونصَحه ألَّا يلعب هذه اللعبة مرة أخرى، ثم أكمل الأب القديم لعليٍّ الجديد قصة «علي وفاطمة».

(٢) … ولعبة القدر.

«فكنت أقف في انتظار الحافلة (…) وفي يدي صديقي البندير، بل رفيق العمر، ملفوف في كتانة بيضاء.» (ص١٢٨)، واقرأ في مكان آخر «نعم (…)، إن البندير صار قلمي بالفعل … به عشتُ وتزوَّجتُ واكتريتُ واشتريتُ الملابس والسيارة … وركبتُ الطائرة وزُرت بلدان العالم» (ص ١٢٩). من هو قائل هذا الكلام؟ وفي أي سياق؟ وأي أفق؟ أسئلة خفيفة على اللسان، ثقيلة في ميزان «طي الضلوع» وما أدرك ما تطوى الضلوع إذا عرفت أن القائل هو العربي باطما، أوه، إذن هو ذلك الشاب النحيل، كثُّ الشعر، الضارب على البندير في مطلع العقد السبعيني مع وفي قلب فرقة «ناس الغيوان»، الشهيرة والمتميزة، وهو ينشد بلثغة عذبة حرف الراء، أجل هو وآخر، هو، يعني حلقة أساسية من تطُّور حاسم في أغنية المغرب وإنشاده الشعبي، أترك النظر فيه لمن هم أجدَر بهذا الميدان. وآخر يعنيني مباشرة بحكم السياق الذي يندرج فيه الكلام الموضوع بين قوسين أعلاه، وأقصد به كتاب «الرحيل» (سيرة ذاتية - العربي باطما - منشورات الرابطة - ١٧٣ص من القطع الكبير) فالفنان باطما يهل علينا، يفاجئنا، بل ويُدشِّن الموسم الإبداعي الأدبي نيابةً عن جميع الأدباء والكتاب ﺑ «سيرة ذاتية». ينبغي لي أن أترك جميع التحفظات، والاحترازات المعرفية والمفاهيم النقدية، جانبًا؛ لأسجل بأنها سيرة ذاتية أدبية، انطلاقًا من تعريف بسيط، غير ملغز، يفيد أن الأدب تعبير ذاتي صرف (وإلا ما هو طي الضلوع؟!) ويستطيع الإفلات من حدود ذاتية صاحبه ليحرك ذوات الآخَرِين مستدعيًا أشجانهم لتصبح السيرة شجنًا مشتركًا وفق أعراف لغوية وأسلوبية وهيكلية معلومة.

وفي السياق نفسه دائمًا يمكن القول، وبنوع من التخصيص بأن صاحب هذه التجربة — وهي تجربة بحق، لا كلام عن الأنا مُشرع في الهواء — لا يرفع أو يتطلع إلى أي شعار محتمل أو مزعوم. فبما أنه خارج السرب تراه لا يدَّعي لتغريده أي إيقاع أدبي، ولا يتمحل أو يتحسب نشدانًا للطرز الأدبي الخالص، وما هو عنه ببعيد. هي سيرة أو كتابة الفطرة تُجلي العالم في خصائصه الأولى، وفي براءة النَّبْت الطالع شوكًا أو شقائق نعمان أو كيفما اتفق، يدفع القلم داخل الضلوع ليستخرج طيَّاتها حلقات لأعمار الطفولة. والتقلب بين نشأة البادية ووحشية المدينة، بين نزوات الصِّبا وأوضاع الانسان في الزمن الخشن. ومن انسحاق المحروم إلى معارج شقاء المحرومين في مدن للصفيح تقتات منهم وتصدرهم إلى مصائر مجهولة، ليت الموت كان أقربها منالًا «ليس الصعب أن يموت الإنسان … بل هو ألَّا يجد الوسيلة لأن يعيش حياته» (ص ٩٠ من السيرة). أعمار تجترح في عمر واحد، حنيني، مغضن، مترب، عوائي، ذئبي، شبقي، نَدِي طري، هيامي، فاجر، رقیق، ساحق، سلسبیل، غريد، منقوع في الجوع والخمرة الفاسدة واللحم المر. دعك من الشهية العجيبة، وصولًا إلى مدارج الأحلام والطموح البسيط لعتق ذاك الفتى الذي كان يُسمَّى «أبا عروب» هو الفتى «البوزيري» الرومانسي بالفطرة، العوام، التلميذ الخائب في ثانوية، «الأزهر» التي خرَّجَت الأفذاذ، النشال، حارس الدراجات، نباش المزابل، المتقلِّب في مهن الأشقياء، العارف باللصوص واللواطين والمتاجرين في اللحم البشري، الرءوف، الشغوف بالتمثيل، ضارب البندير يفتح له الطيب الصديقي باب الرجاء والشهرة والقصاص من خُبث الحرمان … لكن لينقل جسده الغض دائمًا، ودفعة واحدة إلى المرض الخبيث.

هذا المرض هو منبع الكتابة، أو وازعها وأفقها على الوجه الأصح. لولاه لجاز لنا القول بأن العربي باطما ما كتب سيرته الذاتية، لو كتب سيرته الذاتية، ولو كتبت بدونه لما كان لها النكهة التي فيها؛ فمن يكتب ليس هو باطما بالضرورة ولكن أناه الراحلة «أنا الآن شيء ينتظر الموت» (ص٦٢). وبمرارة أفجع: «آه، إني وأنا أودع هاته الدنيا لا أجد شيئًا يداعب نفسي الحزينة، إلا هاته الذكريات البريئة الجميلة …» (ص٣٨). هو يقصد السيرة وهي تُكْتَب على إيقاع الرحيل عساها تتحول إلى ضرب من العلاج Thérapie كل مبدع حقيقي لا يبدع إلا مِن فَقْد أو غياب، من إحساس أو إدراك لجوهر المُفارَقة المأساوية في الوجود. و«ابَّا عروب» استوطن في جسده المرض العُضال، هبَّ كاسحًا، جامحًا، حقيقيًّا لا كأسطورة «لهمام حسام» ليدُق بعنف باب ساكن شقة الحياة. ويطلب منه الإفراغ عنوة وهو الذي لم يعرف في الحياة، رغم كل أوزار الدهر، إلا الحياة، كيف إذن امتلاك شجاعة المُضِيِّ إلى الموت وهذه الحياة كمادة صاعقة، تدب في جسمك؟ بل كيف تستيقظ صباحًا لتشرب قهوتك، تريد رشْفَها على مهل والموت جليسك يستعجلك وهو يمد إليك كفن الرحيل؟! في الحياة الواقعية الحرفية يصبح الموت، هنا، أمنيةً وخلاصًا، أما في حياة مَن يريد مضاهاة الأسطورة فإنه مدفوع – وبغريزية عاتية كأن غابات الأرض كلها ترتعش بعتوها — لأسطرة الأسطورة ذاتها وما ذلك إلا بإرادة بقاء رهيبة، روحها تراجيدية، لمواجهة الفناء فيما هي من صلبه. وما أنا بحاجة إلى أي مرجعية غربية للبحث عن القياس لمثل هذا المصير أو لتوثيقه؛ فها هو جَدِّي العظيم أبو الطيب المتنبي يُسعفني كما يفعل دائمًا، عائدًا إليَّ من ذاكرة حفظي القديم، أراه واقفًا بخيلاء كما يليق بعربي مثله أمام أحمد بن عامر الأنطاكي وهو ينشد:
أطاعن خَيلًا من فوارسها الدهر
وحيدًا وما قولي كذا ومعي الصبر
وأشجع مني كل يوم سلامتي
وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر
تَمرَّست بالآفات حتى تركتها
تقول أَماتَ الموتُ أم ذُعِر الذُّعر
 ذَرِ النفس تأخذ وسعها قبل بَيْنِها
فمفترق جاران دارهما العمر

لا يدير الرأس ويبعث على الإعجاب أكثر مما هو مكتوب على السجية حين يُوهَب حسن السجية، مرسل بلا تكلف يحمل طفولة الفن وشساعة الألم وأنت فيهما سيد فاتن. ألست القائل: «إن الشيء الصعب في كتابة الذكريات، هو أن كل الأشياء تأتي وفي نفس الوقت يصعب تصفيف الأفكار» (ص٢٢). بل إنك تُنبِّهنا من استهلال الكتاب — كالمعتذر — إلى ما هو ألصق بصنعة الكتابة «… إلى أن ابتُلِيتُ بالمرض القاتل فوجدتُ نفسي مدفوعًا بيد خفية إلى الأوراق والقلم، وصممتُ على الكتابة، متلافيًا كل شيء لغوي، أو مقنن من طرف الكتاب …» (ص٧) واضعًا بهذين الصيغتين — الإشعارين على عتبة «الرحيل» والرحيل ميثاقك الخاص تبرمه مع من يشاء اعتناقه. وأعلن لك أني اعتنقته، أُعوِّض لغة الباحث عن الشفيع في بعض هنات قصدك بصدق المقصد أدركته، كتبته بسلاسة الروح وهي تراها تروح فجاء جنائزية مغربية قوامها الأبجدية، والنبض فيها إيقاع الضرب على بندير، وأنت قلت إنه قلمك، وهو لك بلا منازع. وفي أيامنا هذه وقد تعالى صوت الأدعياء والدِّيَكة والصغراء، لَعَمري إن الكتابة بالبندير أجمل.

ضفة أبي رقراق في  ٢٤/ ١ / ١٩٩٦م
١  عنوان كتاب مدرسي كان يُدرَّس بالفرنسية في الصفوف الابتدائية في الخمسينيات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥