لحم أم مجاز؟

(١) يسقط المؤلف يعيش البطل!

ما بال الناس ما عادوا يُصدِّقون شيئًا مما يجري في أيامنا هاته، فإن أنت عرضتَ عليهم الواقع راسمًا بعض وجوهه المشينة، أو سردتَ بعض نوازله المنكَرة، بل إنك ذاهب إلى التحلية والتجميل، رأيتَهم يستكثرون عليك ذلك مُحتجِّين بأن واقعهم لا يحتمل كل هذا التصوير والتشنيع، فضلًا عن أنه دون أي غزَل أو تطريب. أما إن أنت حاولتَ — حاولت فقط — التحليق بأجنحة الخيال، واعتمدتَ في صوغ خطابك سبل المجاز بما يتيسر لك من صوره وألوانه المختلفة، راعَهم منك ذلك واجِدين في نهجك غموضًا وإلغازًا وحياتهم من الوضوح بمكان، وانظر فالشمس هنا ملء السماء يُجلِّي إشراقُها الْخَبِئ والمرموز فلا تدع أمام العين ما تراه غير الأزرق وصِنْوه الأزرق في الأعالي، والتراب وصِنْوه المترب في أرض كانت مِهادًا فصارت مُدبدبة. واعلم أن الناس يريدون اليسر والعسر عندهم منه كفاية وما يفيض، فلماذا لا تتدبر أمرك بطريقة تجعلك في قلب مذهبهم وعن سنتهم لا تحيد، فتضمن عندئذٍ تجنُّب كل استغراب أو تثريب، فهو أَوْلَى بك من زرع الشك في اليقين أو تحريك الخلل في الساكن المكين.

فمتى كانت الضحالة تستدعي الخيال؛ فبالأحرى أن تُنجِبَه، وحسبك أن تُردِّد من الأقوال وتنسج من الصور ما هو متواتر مبذول بل ومبتذَل على شاكلة هذه الأيام.

فإن أنت خاطبتَ القوم بأن الكاتب يَتحرَّك بين حافَّتي الصدق والكذب، ولا يصدع لأي واحد منهما بالخبر اليقين، قالوا هذا ضلال مبين، أجبتَ هو الضلال كله، لا أبغي عنه بديلًا ولي في الكتابة دين، تراك تفهم قَصدَهم فتسير فيه، يفرحون بالقول لحظة لينقلبوا عليه مُنكرِين. فرح الأطفال هُنَيهة بلعبة وتكسيرها للانتقال إلى لعبة أخرى تصنعها لهم مرة أخرى مركَّبة، سحرية، تستدعي اليقظة وتَشحذ المُخيِّلة فيتأففون ويضجرون. ترى القوم يبغون السهل من الأشياء واليسير وأنت تُكلِّف نفسك ما لا يحتاج إلى الكلفة وما تختنق به العبارة.

والشاهد عندنا أنك ودَّعْت رفيقك بوعلام الجيلالي طالبًا منه أن ينصرف إلى حال غربته بعد أن تيقَّن بأن أي حاجة لا تقضى في هذا البلد، على أن تنصرف أنت إلى ما سمَّاه قارئ لبيب ﺑ «خلوتك النَّصِّيَّة»، هي مِهماز وُجودك ليست لك فيها مآرب أخرى، وهي مَلاذ كل غريب.

وقدرت أنك ربما مُستَريح بإعلان هذا الفراق، ولو لزمن مؤقَّت، وكلاكما عائدٌ لشئونه وشجونه والخلق منكما، بعد هذا، يستريح مما لا طائل من ورائه، فأنتما لا تجلبان إلا التنغيص، ولا تجيدان فنَّ السباحة إلا في «الماء العكر»، ثم عدت، وقد كَثُر القَرْع على رأسك سؤالًا عن هوية صاحبك، فأعلنتَ على رءوس الأشهاد، مما هو مدون في قرطاس محفوظ، بأنك اخترعتَ الرجل اختراعًا، ولفَّقْت الحقائق بشأنه تلفيقًا، عسى أن تُخلِّصه من تبعات قولك، وتبعد عن نفسه الشبهات، أنت الذي يَتحرَّك بين حافتين (صدق وكذب) ويرسل الكلام من ضفتين (شمال وجنوب)، فما لبث العجب أن حصل لك على أكثر من وجه، وإذا الراغب في الحقيقة (الصدق) مُستكثِر لها، ومُستكثِر عليَّ أن آكل وثنًا أو حلوى عجنتُها بيدي، وراغب في البقاء، حيث وضعتُ سَردي الأول؛ أي في منطقة إن لم تكن كذبًا كلها، فهي إلى الاحتمال والتذبذب أقرب. هكذا وصلتني الأصوات مُحتجَّة أو مُستنكِرة: بلى، إن بوعلام الجيلالي بشَر من لحم ودم لا من حِبْر ومجاز. فما دمتَ أظهرتَه ووصفتَه بطريقتك تلك، وجعلتَه يعاني أحوالنا متنقلًا في برارينا، متفرِّجًا على تعس أحوالنا، بدءًا من رباط الإغلاق إلى سهول سيد العايدي، فاعلم أن لنا الحق في وجوده، فهو كائن لم يَعُد في ملكك شأن النص يصبح ملكًا للقارئ بعد نشره يَتلقَّاه كما يشاء أو يتلقاه ضربةً على رأسه. وقد سألني فلان العكراشي (نسبة إلى عكراش) ألا خَبِّرْني يا السي فلان، هل صاحِبُك ذاك حقيقة أو خير وسلام جاءك في المنام؟ هنا أحسستُ بأني وضعتُ نفسي في ورطة حين رمت الشخصية/الشخص بالضبط لا سواه، ثم بدأت أشعر بما يشبه الغيرة منه، فها هو يفلت من قبضتي ويُصبح مثار الإعجاب، هكذا ببساطة يموت المؤلِّف ويعلو مقام البطل، أظن أن أصل الالتباس في كل ما حصل لي وللمتسائلين هو أن الغيرة أكلتني إلى حد أني لم أجد بُدًّا من الإجهاز على «مخلوق»، وبما أن الشخص مَحمِيٌّ بقوة، ولا قبل لي بانتهاك قوانين وحقوق الإنسان في فرنسا ولا في غيرها، فإني قَررتُ قتل الشخصية في الورق، كما صنعتُها في الورق. لكن عبثًا فعلتُ، فليس تَصوُّرك الشيء فِعْلًا تحققه، وإزاحة الجبل من مكانه قد تكون أهون من قَتْل البطل. حين يولد البطل ويحقق مَجْده ويشتهر أو ينكسر يصبح ملك نفسه خارج طوق أي إرادة حكائية، وملك الجميع في آنٍ، بما أنه يسلب ألبابهم مُنفِّسًا عن مكبوتاتهم، مُعلِيًا لِقِيَم يعيشونها سافلة في حياتهم، وهو بطريقة ما، أناهم الأعلى أيضًا وقطعة من العجين الذي جبلوا به.

هكذا، أصبحتَ يا بوعلام الجيلالي جِبِلَّة مشترَكة دون قَتْلك خَرْط القتاد أو قَتْل كل الراغبين في التحقق من هُوِيَّتك، والصدع بوجودك يقينًا لا احتمالًا، كائنًا من لحم ودم لا صورة من حبر ومَجاز. سأُسلِّم لك مؤقتًا — ولن أستسلم مثل كثير من الأرذال — وأهتف من أجلك: ليسقط المؤلِّف ويحيا البطل!

كم كنتُ أبغي قول المزيد، لولا متعةٌ غمرتني فأخرجَتْني من هذا الموقف «الإشكالي» لِتَسمو بي إلى موضع إنساني وفَنِّي رفيع أشهد أني أمضيتُ وقتًا في هذا الربع لم يُتَح لي مثله، ويُخيَّل إلي، ومن حسٍّ خَفِي، أني كنتُ وما زلتُ أنشده. فهذا صاحب آخَر يبذل لي، من حيث لم أكن أدري، فتنة غربة يكسوها بسربال من حنين، مُطرَّزة بحنكة الصائغ وخبرة العارف، فيُعَوِّضني عن كل ما لحق بي من ضيم جرَّاء يباس النفوس وضحالة الأخيلة.

فقد اتفق لي، وأنا أُودِّع بوعلام الجيلالي قبل أن يركب الكار في كراج علال ليلتحق بخيمتهم في سيد العايدي، أن زُرتُ صديقي جواد بونوار في مكتبة «عمر الخيام» التي يديرها في الدار البيضاء، وبعد فروض التحية وإطعام المودة، قلتُ: يا جواد لعلَّك تسقي أخاك شيئًا من سلسبيل مكتبتك، فوالله إن بنفسي جفافًا لا يعدله إلا جفاف المغرب عامَه الفائت! فأجاب للتو: حاجتك مقضية. ورأيتُه يترجَّل بقامته الفارعة، وبأريحية يضع بين راحتي الكتاب المغيث، وبدأتُ القراءة: اسم المؤلف: عبد الفتاح كيليطو، قلتُ في نفسي هذا فأل حسن، العنوان: La querelle des images خصام الصور، رواية، منشورات ديف، الدار البيضاء، ١٩٩٦م (١٤٣ من القطع المتوسط).

ضممتُ الكتاب إليَّ، فكل ما يُحَب يُضَم، وقلتُ حيَّ على القراءة، حيَّ على المتعة والغيث، وقد عودنا الأستاذ كيليطو أن يقدم لنا دائمًا الممتع، الحلو، والمفيد. والمتعة هي الغالبة لا تقل معها الفائدة، بل تنطوي في ثناياها، وما ذلك إلا لأن هذا الباحث أبعد ما يكون عن التعالم والشقشقة بالمصطلحات أو التنظير بمنهجيات الآخَرين؛ ولأنه شق لنفسه طريقًا في البحث قوامه اطِّرَاح النافل والعَرَضي، والحفر عميقًا، بل الغوص لاستخراج الدُّرر من كل ما يقع بين يديه من تراثنا الحكائي والسردي، وعُدَّتُه ثقافة أدبية ولغوية مُتعدِّدة الآفاق، وحضور بديهة نفاذة أمام النصوص تستقرئها؛ التماسًا للشوارد، وبحثًا عن المفارَقات، فضلًا عن العلامات الفارقة والثوابت المحكمة. ومن جماع هذا وغيره، يتم تنضيد نظام للقراءة والمعرفة لا يَتحمَّل صاحبه في إعطائه أي اسم أو صفة، هو نظام مهموس أكثر منه مُعلَن، وتحسه أسلوبًا وأداة تذوق علاوة على مادته التثقيفية الرصينة، ومن هنا مصدر المتعة، لكن حذار؛ فهي مثل الماء الزُّلال تنهل منه الينابيع، إنما لا ينبغي لعذوبته وصفائه ومروره السريع في الحلق أن ينسيك التجاويف التحتية التي تكون فيها، وما عَبَره من خبايا وتَشرَّبه من مخزون ليصل إليك شربة سائغة.

هي شربة، محلول كيميائي، مُركَّب وسحري نسيج دُرْبَة الباحث، وصَبْر الناسك وألاعيب الحُواة يُزجى جزلًا وجزيلًا ثمرة قراءة في نصوص مُحدَّدة من التراث، معلومة أو مُهمَّشة بين أخبار وشخصيات، رموز ومُعضِلات، جاعلة القديم في صدارة الحديث وبما يسن في البحث نهجًا عزَّ نظيره بين العرب والأجانب على السواء. فما بالك إذا انتقل صاحب هذا النهج من صعيد إلى آخر؛ أي إلى ذاته؟ وما أحسبه غادرها يومًا.

ما بالك إذ يُقدِّم لنا عبد الفتاح كيليطو اليوم نصًّا – نصوصًا ناطقة بأناه، عارية ومُطرَّزة بأسرار الطفولة وغوايات الصبا ونوستالجيا الوقت الفائت.

ولا تراه يَتخلَّص من نظام الحفر والهمس، والتراوح بين الصريح والمضمر، ورفع الحواجز بين الأجناس الأدبية كلها حتى لا جنس أو هو آخَر غير مسبوق.

لا بأس هنا بقليل من التفاصيل، فالكتاب مَناط التَّذوُّق عندي، كما ذكرتُ هو «خصام الصور» المنوه به أعلاه، يحمل عنوانًا لجنسه الأدبي اسم «رواية»، وفي تقديري أنه ضَرْب من التجنيس «الإجرائي» لإسعاف القارئ وهو على عَتبة القراءة قبل أن يتوصَّل بنفسه إلى إدراك يختلف عندئذٍ فيعيد القراءة على ضوء مُحصِّلة عقد فني جديد، أو يكتفي في قراءة أولى باعتبار ما أمامه مجموعة من اللوحات والحكايات والخطرات والإشارات، لُحْمَتها عالَم الطفولة، ذكرياتها ومَرابع الصِّبا، وما علق في النَّفس والذاكرة مما عِشناه أطفالًا بوتيرة مُشترَكة أو على انفراد فتَفودُنا، وسداها المحاولة الدءوب لاستحضار الصورة – الصور الغائبة، و«الصورة» بوصفها نوعًا من «المحرم» في الثقافة العربية الإسلامية، وإعادة الاعتبار إليها ولو عن طريق الرسم بالكلمات التي هي بديل لها أو الشكل التعبيري الممكن بدونها. سدى المجموعة (الرواية)، أيضًا، النزعة التحليلية، والاستقرائية للمرئي — مرئي الطفولة — بربطه بامتدادات مَعْرِفية وفَنِّيَّة وذَوقية تصنع كثافته التي هي جزء من كثافة وشخصية الطفل — الكاتب الذي أصبح آخَر.

والحق أن الأديب كيليطو لا يخفي التصريح بأن في بعض حلقات «صوره» نبرة شخصية، بل وأوتوبيوغرافية، وما أظنه كان في حاجة ليعلن بأن شخصية «عبد الله» هي عبد الفتاح ذاته، تقول له بأنه حقق الأمنية التي عبَّر عنها بنفسه، أناه، كما يقولها ضمير المتكلم، وتسوغ السرد وتصل كل لوحة، كل صورة، كل ذكرى في زحاماتها واعتراكاتها لتشكِّل في النهاية الرواية المبتغاة، وصولًا منها إلى إحياء الصورة المُحرَّمة. وكما يقول المؤلِّف، فإن الأدب يحتاج إلى ضابط، ومهمَّة الكاتب أن يتخذ له نبرة، وعنده هو، فإن نصوصه توخَّت في إعدادها خلق الاستمرارية والمعنى بالتحديد.

هذا كله وسواه مُجتمِع في نصوص سردية متآزرة مُمتِعة ومفيدة، ومُتبرِّئة من فولكلورية كل أولئك الذين لا أريد أن أسميهم، هي قصة صاحبنا وحكاياتنا، أيضًا، وبذا تكون قد تَخطَّت السياج الأوتوبيوغرافي، وأريد أن أُطَمئِن عبد الله عبد الفتاح كيليطو، وأقول: فلقد عشت هذا المشهد أو ذاك مما كتب وأحسست بذلك الإحساس، وليخيل إليَّ أن ما قرأتُه كُتِب لي أنا بالذات. وعلى لسانه أضيف: «وبكل سذاجة، كان بوسعي أن أكتب هذه الحلقة، هذا الكتاب.» بل إني أُعْرِب لك عن امتناني؛ لأني أنا قارئك البسيط قرأتُ كتابك الجميل والممتع بإحساس أني كاتبه، فهيتَ لك يا أحمد المديني.

 ٢٤/ ٢ / ١٩٩٦م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥