طانغو في ليلة حمقاء

(١) حالة مزاج، ليس إلا

من طول العشرة صِرت أعرف حركاته، جلسته وطريقة تنقُّلِه من مكان إلى آخر، كِلانا يستطيب رفقة الآخر؛ فيستأنس الواحد منا بالثاني استئناسًا كبيرًا إلى حد أن غيابه عني، الذي لا يطول عمومًا، بات يسبب لي انزعاجًا خفيًّا أحاول أن أدرأه عن نفسي بالقيام من قعدتي أو الصفير أو بالتفكير في بعض الأشكال البهلوانية التي لا يخلو منها شارع في هذه الأرض المعطاء بالضحك، والأخرى الفَوَّارة بالحزن والبهجة معًا، فلا يفيدني هذا الانشغال المخاتل إلا قليلًا؛ لأن صورة الغائب تظل لها سطوتُها لا أجد عنها فكاكًا إلا أن يعود لي ما فقدتُه من هدوء البال وصفاء الخاطر، وليسود بيننا الأنسُ آنسَ من ذي قبل. وأظن أني دخلت مع زوجتي في لجاج وقد رأيتُه ينتفض في جلسته وينصرف دون سلام أو كلام ولا نظرة يمكن أن تشي بمعنًى من المعاني أو تنقل إليَّ بعض ما يحس به — خاصَّة وهو ذو حساسية مُفرِطة، فسألتُها إن بدر منها شيء أزعجه، فأنتِ تعرفينه، يتأثر لأتفه الأسباب وربما بلا سبب، ومزاجه يتعكر فجأة كمن يتذكر أن عليه دَينًا لا بُدَّ دافعه من يومه قبل غده، فجاء جوابها نظرة مستغربة ومنكِرَة عليَّ ما لا تطيقه هي الأخرى، أوَليست بدورها تستأنس بحضوره وتوسع له في المكان لدرجة أني أعاتبها أحيانًا لما أعتبره مُبالَغة في الترحاب وعندها هي أسلوب تعامُل وسلوك تَمدُّن؟

هي مسألة مزاج، ولأعترف بأن مزاجَيْنا كثيرًا ما يتوافقان في العكرة والانفعال، وبين الاستغراق المؤقَّت في الصفاء والمرح والانتقال سريعًا، ولأسباب نجهلها معًا، إلى حالات تطول من القلق والشرود. وهو ما يجعل العلاقة بيني وبينه غير مضبوطة الميزان، تراني مرة مقبلًا عليه، متألقًا ببشاشة ليُدْبِر هو منكفئًا على نفسه، مُزْوَرًّا عني.

وحين يُقبِل عليَّ من جهته، يجدني في لحظة تَعسٍ طارئة فلا ينال منِّي عندئذٍ الإزْوِرار، إلا وقتًا نصبح فيه وكأننا خرجنا من قالب واحد، فهو التألُّف التام يجمع بيننا ونحن قبالة التلفزيون أو جهاز التسجيل نستمع إلى الموسيقى، وهو يعشق الموسيقى الكلاسيكية، فإما يُرخِي أذنيه إليها منصتًا مثلي بعناية وانصراف تَعبُّدي، أو يُعلِّق بصره بشاشة التلفزيون غير آبهٍ مطلقًا بما دونها، مُركِّزًا على حركات العزف بين العازفين، مستمتعًا في استرخاء كامل بمجال وشموخ ما يسمع. أحيانًا أضجر أنا وهو لا يضجر، فأيقنتُ أنه لا يحب إلا المنسجم من الأصوات، المتناسق من الإيقاع والمُحكَم من اللحن، وعبثًا تغريه بسواها وإلا وقع له ما خِفْت مرة ألَّا تُحْمَد عُقْباه.

فقد اتَّفق أن جمعَتْنا ذات ليلة سبت سهرة تلفزيونية من تلك السهرات التي توصف عادة بعبارات من قبيل أنها «غنية عن التعليق»! وكانت مُقدِّمة السهرة قد بشَّرت النظَّارة الكرام بأنهم سيقضون ليلة ولا ككل الليالي؛ إذ ستُشَنَّف أسماعهم بأصوات وألحان لم يأتِ الزمان بمثلها، وسيشاهدون، وبصفة استثنائية، مسرحيةً من الطراز الشكسبيري الرفيع(!) وفي هذا التقديم طبعًا، ما يُغْري ويُحرِّك في بني آدم وأي مخلوق كان حسَّ الانتباه، خاصَّةً ونحن في بلد، المتعة والذَّوق الرفيع آخِر ما يخطر على البال. وما هي إلا هُنَيْهات وانطلقت الأصوات، ورُفِع الستار وبدأت القفزات، متصاعدةً مع القفشات، مترافقةً بالخبطات، وفيما انتظرنا أن تصدح الحناجر وتتوالى المناظر دافعة الحسرات بالإعجاب والآهات اختنقَتْ أسماعنا بالحشرجات وآ … ه، وآوووه وهاو، هاو وهي، هي هيييي، ثم أوووه، فهاو، ه … أو. للمرة الأولى رأيتُه فيها من جلسته يُنَقِّل النظر بيني وبين الشاشة نقلًا عجيبًا، مُديرًا رأسه كالأُرجوحة. وفهمتُ من نظراته وتحرُّكه القَلِق أنه لا يفهم شيئًا ممَّا يجري أمامه، وأنا أيضًا لا حيلة لي أمام ما يجري ولا أستطيع أن أسعفه. وقد أخافني انتقالُه من حيث يجلس ودُنُوه التدريجي في اقتراب حَذِر من جهاز التلفزيون، مواصلًا تقليب النظر بيني وبينه، وقد تواصَل صرعُنا معا: وا … ه، وآوووه، وهاو، هاو، وهي، هيييي، أوووه.

كنتُ مُوقِنًا أن حيرته أو غضبه أو اشمئزازه أو ما لا أستطيع أن أجد له وصفًا لن تطول الجهاز بالكسر صَنِيعي في مناسبة مماثِلة، ولكني بدأتُ أتحسَّب للعواقب، وقد لاحظتُ الارتعاش يدبُّ إلى أطرافه، وجسمه يتمايل كبندول ساعة كبيرة، وعيناه وقد أصبحَتا جاحظتَين تمامًا، ففكَّرتُ، الله يستر، هل هو ضحية جديدة للصَّرَع وعندنا في هذا البلد ما يكفي ويفيض عن الحاجة من المَصروعين؟!

فجأة اختفى! أجَل، كان هنا واختفى من ناظري كأنه ما وُجِد أبدًا، كأنه كان هنا حقًّا مثل فأر أفلتَ وقد رأى قِطًّا هجم على الغرفة للتو، أو أقرب إلى أرنب تزأبق من بين يديك، بل كقفزة سهمية لسلوقي من الطراز الرفيع باتجاه الطريدة، هل كان هنا حقًّا، أم إني في هلوسة، كعادتي حين أَجدُني أمام ما لا يُسمَّى؟

سمعتُ في الحديقة نباحًا حادًّا ومتقطِّعًا دخلَتْ على إثره زوجتي التي كانت منصرفةً لما هو أهم، وبادرَتْني مستفهِمَةً:

– ما به كلبُك؟ إن نباحه عالٍ هذه الليلة، أم إنك عنَّفْتَه pauvre petit chien.

– كلَّا، أبدًا، أنتِ تعرفين الرئيس «طانغو»، إنه مِزاجِيٌّ!

– لكن غريب نباحُه الساعة ألا تسمع؟ … تقول إنه ذئب يعوي أو كلب مسعور، ثم، إنني رأيتُه ينتفض!

– كلَّا، لا شيء من هذا، كل ما هنالك أنه يحتجُّ … ويقلد، أيضًا، تعالي. اجلسي وانظري وستفهمين كل شيء، وأنا أشير إلى شاشة التلفزيون.

(٢) «حتى الطيور في حيرة»

حسبتُ وقد استسلمتُ للنوم بدماغ مشروخ، أن القضية بما فيها، وما بَترْتُه منها تخفيفًا على القُرَّاء من فداحة الهراء، ستنتهي عند الحد المذكور، لكني ما لبثتُ، وقد انقضى الهزيع الأخير من الليل، أن استيقظتُ على ما حَسبتُه للوهلة الأولى تغريد طيور، وزقزقة عصافير؛ انتشاءً بطراوة الصباح واستهلالًا غنائيًّا بمَقْدم الربيع.

وهذه للمناسبة إيقاعات ولمسات طبيعية لا رومانسية كما يحسب البعض ممن لا يميزون بين النجمة والمصباح والوردة والخشلاع، ودقيقة دقيقة ورأسي يخرج من دُوار أَحسستُ به يدخل في دُوار آخر. فما هو تغريد ما أسمع، ولا هي زقزقة كما تَشرَّبَتْها الأذن بالفِطرة وتمثلتها بعد طول دُرْبة ومِراسٍ، وإذن، ما هذا الذي أسمع يا تُرَى؟ أجدُ فيه خلطًا بين أصوات، وتنافرًا بين الإيقاعات، وانطلاقًا فانحباسًا في الحوصلة لِيعتَريَنِي إثرها خوف من أن الطامَّة الكبرى حدثتْ، فهي العدوى تطول اليوم كل شيء لا تُبقي ولا تذَر. وبعد أن دَبَّت الهُجْنة بين الخلق وانتشر القُبح في العمران بدلَ الجمال والاتساق، وباتَ المطرُ المنذور للرحمة مَجلَبة أهوال وفاضح عورات وطرقات، وبعد هذا وذلك لا تسلم كائنات رفيقة، رقيقة، من داء آدمي عُضال، فإلى أين المفر؟!

خبطتُ رأسي بضربة أردتُها موجعةً كأنني مسطول يريد الصعود من لُجَّته وحين يَستفيق يُلقي نفسه وقد عاد عقودًا مديدة إلى الوراء، وبالضبط إلى العقد الأربعيني ونحن الآن في نهايات القرن، فسبحان مُبدِّل الأحوال أو مُبقِيها على ما هي عليه. ها أنا ذا أعود إلى نَصٍّ قصصي تأسيسي في أدبنا قرأتُه للمرة الأولى في مطالع العقد السبعيني، وكان لي منه وطَر علمي. أعني قصة القاصِّ المغربي الرائد أحمد بناني، والتي استخلصْتُها بنفسي من الأضابير المغبرة للخزانة العامة بالرباط، قبل أن تُنْشَر في المجموعة القصصية المعنوية «فاس في سبع قصص» بتقديم ذي نظر ثاقب لأستاذنا المرحوم علال الفاسي. والقصة المَعْنِيَّة تحمل عنوان «حتى الطيور في حيرة»، وهي تُشخِّص ببساطة، وأسلوب حكائي بدئي، تيمة ظهور جهاز الراديو في مجتمعنا، ومن ثم تأثيره على الأذواق والأسماع، والغناء خاصة، ومنه غناء الطيور التي يربيها الفاسيون المُتذوِّقُون في بيوتهم ولها، أيضًا، محلات تشرف على تثقيفها وتطريب أغاريدها كما هو الشأن مع شخص أو شخصين (أبا مكي) الذي له معهد للطيور تسمع فيه أحسن الشدو، حتى إذا هجم الراديو، ضمن اختراعات جديدة من قَبِيل ما سماه المرحوم الأستاذ عبد الله كنون «تَوافِه المَدنِيَّة الغربية»، تبدَّلَت الأحوال غير ما كانت وساد الهرج، أو كما تقول قصة أحمد بناني:

«أصبح العطَّار (أبا مكي) صاحب المعهد في نَكدٍ، فهذه الأزمة التي عمَّت كل ما حولهم، وتسرَّبت إلى عُقر دورهم لم تنجُ منها حتى هذه الطيور البريئة، فما عادت تثير ذلك النشاط والزَّهْو والانشراح، فما مصيرها؟ الله وحده أعلم بذلك عليم.» ولأولاد القص السهل، هذه الأيام، والذي ليس في أغلبه إلا أمشاجًا من خواطر مُرتَبِكَة وأنصاف جُمَل وعُقَد لم تَجِد طريق تصريفها الصحيح فاندرجَت عنوة في باب الأدب وقد بات بلا رقيب ولا حسيب؛ والحاصل أن لهؤلاء وسواهم أن يعتبروا موضوع القصة المذكورة فولكلورًا أو رومانسية بائسة وإشاحة عن المواضيع «الصحيحة» والرؤى «الباذخة» (كذا). أما أنا فإني لهذه الرومانسية هاوٍ، وبذلك الفولكلور مُحتفٍ، والصدَّاحة «أم الحسن» التي أُغْرِم بها القاصُّ الرائد فيما خلا من زمن هي التي أطربَتْنا، ونحن فتية في عمر البراءة، في ظاهر فاس حين تزدهي الحقول عند مَقْدم الربيع. وبعد أن سِرنَا نخوض في شبابنا المغامر، بقي في نفس فاس شيء من تلك الأغاريد.

خِلتُ لحظة أني بتُ من أولئك الذين لا يصلهم بالزمن والمكان إلا الحنين، لا تفوتهم مناسبة إلا أنْحَوا على الدهر باللائمة لا يملأ عينهم من الدنيا إلا ما فات وتوارى عن الأنظار، والسمع والبصر والذوقُ والسمعُ كله منكفئ إلى وراء بعيدًا عمَّا ليس في نظرهم اليوم إلا مَباذل وشوهات انتظار، المَنِيَّة خير من التماس بها ومُعاشرة أهلها. خلتُ، إذن، أني مُلتحقٌ بهذا الرعيل وإن كنتُ منه غير بعيد، لأسباب لا علاقة لها بِرجْع الذكريات الرخيمة، إلى أن قيَّض لي الله سانحةً اكتشفتُ معها أني لستُ وحدي من المغتربين وهواة السفر بأجنحة الحنين. ففي وسط الهجنة والبذاءات والقبح العارم، وكذلك في غمرة التدافع بالمناكب لتأسيس الجمعيات والإكثار من المنتديات وتفريخ الحلقات والمنشورات وكله طبعًا لإنقاذ البلاد ممَّا يحدق بها من آفات، بين هذا وذاك فاحَ عِطْر وردة ولا ككل الورود.

وما أجملها ويا لشدة خوفي عليها وشَذاها يضوع وسط مزبلة؛ أي والله إنها مزبلة. كالماشي في حلمه عَلمتُ بوجود «الجمعية المغربية للطيور المُغرِّدة»، وسمعتُ عضوًا في الجمعية يَتحدَّث كشاعر عن أهمية حماية الطيور والعصافير التي بدأت تفقد أصواتها وترتَبِك حناجرها، وضرورة الحفاظ على سلالاتها وتلقيحها وتنقيح غنائها، والحرص على تربيتها في أجواء بعيدة عن الضجيج وأشكال التلوث وهي شتَّى، مما لا حاجة إلى الإطناب فيه لإطنابه فينا ولا يزال. وللعلم، فلم يكن العضو المنافِح عن هذه القضية «الشاذَّة» شيخًا ولا شخصًا خَرِفًا لنلحقه بالغابرين، بل هو شاب بسيط، بشوش، مُقبِل على الحياة، وقد اختار هذا الحب فما أجمله من حب في زمن المَقت والرداءة.

وتعجَّبتُ كيف أن خطاب أحمد بناني لم يَطوِه الزمن، لم يَبْلُ مع الأيام، وإني لَبِهذا العجب ماضٍ، وأعجبُ منه ما جرى للرئيس «طانغو» الذي انضم إلى الطيور في حيرة ولا نعرف نحن البشر إلى أين ننضم؟ أم لعل كل هذه الديدان ما عادت في حاجة إلى الضم؟!

٢ / ٣ / ١٩٩٦م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥