نصف واقف، نصف غريق

(١) باب الجنوب

وجدت ميشيل بانتظاري في المطار الذي سَمَّيتُه من قديم «باب الجنوب»؛ حين أصل إليه أحس، دائمًا، بمشاعر متضاربة، ولا أستطيع أبدًا الحسم إن كان ينبغي عليَّ أن أغتبط، أو أحزن، أو أن أترك نفسي تترنَّح متراخيةً كَرِيشة في مهبِّ الريح. هذا الإحساس الأخير ينتابك مع شعور بفراغ العالَم وثقله في آنٍ، حين يصبح ركوب الطائرة جزءًا من دورة الزمن، وأنت تُودِّع في كل رحلة قطعة من تكوينك المركَّب من جسد يتكاثر في أجساد، ووجه ينعكس في مئات المرايا: أين يذهب هؤلاء البشر؟ لماذا يلهثون؟ الوصول والمغادرة دائمًا، أحضان إلى أحضان، دمع على خد، أيادٍ تُلوِّح من قريب، احتمال اللقاء والفراق أبدًا، أجساد وأحلام مُعلَّقة في الهواء، الذكريات حفنة من الأيام والليالي تداولت هذه الديدان، لست أدري، وسواه كثير؟

غير أن «باب الجنوب» هذا، وهو محسوب على هذا العالم — البلد المُتمدِّن لا يقربه بسبب، ولا يشبهه في شيء، هو منه جغرافيا، وخارجه يقع ذاكرةً ووجدانًا، من هنا يُقْلِع أو يَحُط أبناء الجنوب الذين تَضِيق أوطانهم بإطعامهم وصَوْن كرامتهم، فهَرَبوا بما تبقَّى من لحمهم ليرسلوه، حين يفلحون، قِطعًا صغيرة مُقدَّدة إلى المحرومين الذين تركوهم خلفهم. مَن يصل إلى باب يدفعه عادة ويتقدَّم إلى الأمام، أما هذا النوع من البشر، بشرنا، فيدفع هيئتَه فقط، يتنقل بها أعوامًا أو عمرًا ليعيدها أخيرًا إلى روح تظل شاردة بلا قرار.

هو «باب المَنافي» أيضًا، وأنا أُقدِّم «المَنفى» بصيغة الجمع؛ لأنه ليس واحدًا، أبدًا، ولأن لكلٍّ منفاه، ما أعنيه هنا هو المنافي الحقيقية التي يُكابِد فيها الإنسان بحزن وقور، محترق بناره لا يراها أحد سواه، وقد سُلِخ منه البلد والولد، وكل دقيقة يعيشها سَلْخ لحم وخَلْع روح، لكنه لا يَفنى لأن المَنفى عنده أمسى شرط وجود.

الآن فقط أستطيع أن أَسترجِع بعض لحظات ذلك الوجود الرهيب، أقصد لذلك الشخص الأكثر رهبة؛ أعني «آيت» شیخ مَنفانا ومَنارتنا. شد ما كنا قساةً على الرجل، ويا لَبساطة مشاعرنا وسذاجة تعابيرنا وحركاتنا، إزاء ما كان فيه، نصل نحن إلى «باب الجنوب» شغوفين بالتعرُّف على المدينة، وإطلاق سراح مكبوتنا في مدينة الأنوار، يستقبل ويودع بسلوك المغربي الأصيل، لم نفهم أبدًا أنه، وهو يستقبلنا، كان يدفع أنفه عميقًا ليشم رائحة البلاد الممنوعة حتى التراب، فيما نَتلهَّف نحن لشم رائحة الليالي النزقة.

وحين نُشبع رغابا زائلة وتنفد نقودنا لا نعرف له هو شبعًا. يقودنا، بعد أن أكرم مَثوانا، إلى «باب الجنوب» لنطير منه إلى الأرض المحبوسة في حلقه غصة، ويبقى هو حيث لا رغبةَ له بالبقاء في انتظار صدور قرار يرفع الحظر عن الحنين، ويسمح للمغتربين بغربة أشد في أوطانهم أو ما يشبهها.

قبل أعوام، أيضًا، رافقنا عبد الغني إلى الباب نفسه، كان قد أمضى اثني عشر عامًا بعيدًا عن صهريج المنارة، ونهر السين بكامل دفقه لا يرويه من ظمأ، في باريس الغانية ظل مراكشيًّا حتى رماد «الطنجية»، حين تلتقيه تراه «يبكي ويضحك لا حزنًا ولا فرحًا كعاشق خط سهمًا في الهوا ومحا». ويوم أعلن عتق روحه كنا رهطًا من الديناصورات العربية، يَتقدَّمها الشيخ ولد حرمه، نودعه. وساعتها أظن أني رأيتُه، هو يتنقل بين أحضاننا، يبكي ويضحك حزنًا وفرحًا، معًا.

مساء مغادرته، انكببتُ على المنضدة وكتبتُ دفعةً واحدةً قصيدةً لم أستطع نَشْرَها إلى الآن، وأهديتُها كوكبًا يُسمَّى «آن ماري» كان يهتدي به طيلة سنوات المنفى، ذات مساء سلاوي، بعد أن سارت بأعناق المطي الأباطح، الْتَقَينا تحت ضوء الثريا وقرأتُ القصيدة في حضرة فتيان قلَّ أن يجود الزمان بمثلهم. لَيلتَها أدركتُ أن المنفى يمكن أن يرحل عن الجسد، ولكنه لا يستطيع أن يُراوِغ الشِّعر، حيث مُسْتقَرُّه الدائم؛ ولذلك احتفظتُ بالقصيدة.

لا أحد يُودِّع الآن أحدًا، والوجوه التي ودَّعْتها إذا التقيتها تراها إما مُشِيحة عنك، أو مُتكلِّفة الابتسام، أو أفواهًا تَزدَرِد الوقت ازدرادًا؛ استدراكًا للمجد الفائت … يا للمجد! كأنهم ما عاشوا دقيقة واحدة في شِعر المَنافي، فيا للهول!

هنا أدركتُ، أيضًا، أن المنفى ليس المكان الذي نُجْبَر على الإقامة فيه، بل هو ذلك الملاذ الذي ينبغي أن نستحقه … ما أجمل الوصول إلى ذروة أن يستحقنا.

ربما أحتاج القول هنا إلى البرهان لكيلا تلتوي حول عنقه شرنقة الهذيان، وهذا ما يحصل كثيرًا لكلام هذه الأيام. والبرهان الساطع هنا يزجيه الشارع بسخاء وعفوية. افترض أنك جالسٌ في مقهى «القدح وقوفا» بشارع «لي غوبلان» واستعصى عليك القبض على عقد ونيف من الزمن خلفك، فنهضتَ وأطلقتَ قدَمَيك للمشي في ظهيره يوم أحد أبريلي، سماؤه منقبضة، خطى امرأة مُسِنَّة بيدها قُفَّة مفتوحة تقود خطاك إلى حيث ستتوقف، أولًا، عند الخضار لتبتاع كيلو بطاطس، وأمام بائع ورود لاقتناء زنابق. وانتبهتَ أنك تمشي في أثرها في ساحة النافورة مقهى السان ميدار. هنا، قبل خمس عشرة سنة، شعت في روحك منارات سان جون بيرس، وهنا، أيضًا، تشاركتَ خبز الغربة مع حمدات الحميم الذي وَهبك من المودة ما لم تكن تملك … والآن انضمَمتَ معها وسط الحلقة المنعقدة حول عازف الأكورديون يتابع عزفه صوت مشبوب بغناء ليوفيري، وزع علينا المُغنِّي قصائد ليو مستنسخة ولم يطلب شيئًا، وتَبيَّنتَ أن الطلب المُضْمَر هو عُرف المجموعة؛ أي أن نشارك في الغناء.

نحن المُتحلِّقِين جميعًا صِرنا مُغَنِّين وكورسًا في آنٍ واحد. وشدَوْنا، أقصد الحناجر المَبحوحة لشباب آفلين وكهول مُتْعَبين، وأعمار أخرى مُترَدِّية؛ شَدَوْنا أغنية لفيروز أو قصيدته «زمن التانغو Le temps du Tango».
أنا، من زمن التانغو. حيث القساة أنفسهم كانوا مجانين.
 بهذه الوردة العجائبية
 أتلفوا فيها طاقتهم
ذلك أن الإمعان في الحنين
هو مثل الأوبيوم مسمم.

السوق يموج بالباعة والمُشترِين على امتداد زنقة الموفتار صعودًا ونزولًا. مياه النافورة سنابل مُتلاحِقة، فتاة وشاب يغطسان وجهيهما في الماء ويرتشف الواحد منهما من شفَتَي الآخَر، لا حرج في الحب، ونواصل الغناء نحن حلقة الشعراء أو المجانين المفقودين، لا شعر بلا غناء ولا بدون نار مُلتهبة، لن يكون شاعرًا أبدًا من يحس بالاكتفاء التام بذاته. الشِّعر ما يلقي صاحبه وقارئه بالضربة القاضية. الوسط ممكن في كل شيء، إلا في الشعر والحب والجنون، ومَن ضرَبه المنفى والغربة.

تعبَت المرأةُ المُسنَّة من الغناء فناب عنها دمعها مواصلًا. من جهتي، أكملتُ المقطع الثاني من الأغنية مع الكورس:

ينبغي أن أكون قادرًا على الرجوع إلى الوراء
 تمامًا كما نفعل حين نرقص التانغو.

(٢) في خطی دوراس

قال ميشيل: مرحبًا، وها باريس تعود إلى أحبابها. أجَبْتُه: ربما خيَّبت أملك، فلا وطر لي فيها اليوم، سنقصد بحر المانش؛ هناك سنسند رأسينا على الصخور السوداء بين «تروفيل» و«دوفيل»، وفي هذه الأخيرة سنلاحق أعظم جَزر في العالم، وبالمناسبة، هل سبق لك أن شاهدتَ هذا الجَزْر؟ لاحَظ أني مصمم، فاكتفى بالقول: كما تشاء! ركبنا السيارة وانخرطنا في الطريق الوطني A13 الممتدة بين مَدينتَي باريس ولوهافر.

استغرَقْنا في الصمت قبل أن يَمدَّ لي كتابًا طلبته منه قبل وصولي. كان يعنيني كثيرًا الحصول على الترجمة الجديدة لأشعار راینر ماریا ریلكه (دوينو والسونيتات إلى أورفي) كما ترجمها من الألمانية وقدَّم لها جيرار سنيوري (منشورات مشيل دي مول، ١٩٩٦م). قبل سنوات، كنتُ قد ترجمتُ الكُتيِّب البديع لريلكه (رسائل إلى شاعر ناشئ) وأمَلِي أن يهتدي بها كل شاعر ناشئ. وبعد حين من الدهر، اكتشفتُ أن الناشئين بوفرة التراب وأن الشعراء بينهم أندَرُ من التِّبْر.

حين تجتاز النفق الموالي لأعالي «سان كلو» تشرع «غابة دي مورلي» في الانتشار على مد البصر بقامات شجرها السندياني، الأغصان تغادِر نحولها شيئًا فشيئًا، والأوراق فيها بعدُ براعم، وقت تَفتُّحها سِرِّي جدًّا.

نحن في منتصف أبريل، والشمس ما تزال عَصِيَّة. يكفي أن تشرق بإشعاعات قويَّة فيتبدَّد تحتها الرَّمادي أو هذه الكثافة الهلامية من الضباب، تغمض عينيك وتفتحهما، فيذهلك كالمفاجأة أخضر فَتيٌّ، طَري، مُحتَشم. وأنت تتقدم في الطريق الغابوي تاركا «فرساي» بكلمترات خلفك على الجهة اليسرى يبدأ تدرجك في الأخضر النورماندي، تفاصيل وإيقاعات وتَموُّجات … نحن في الربيع إذن، يسبقك ريلكه إلى تحصيل الحاصل، تفتح الكتاب، وتقرأ في القسم الأول من سونيتات إلى أورفي «القصيدة ٢١»:

هو ذا الربيع يعود، والأرض
مثل طفل يتبع الأشعار
 أواه، كَمْ وكَم، وبقدر كبير من الصبر
في هذا التعلُّم سيلتقي المكافأة.

يأخذ الشاعر نفَسًا ويستأنف:

ها الأرض تستعيدُ حريتها، الأرض السعيدة
أراها الآن تلاعب الأطفال ونحن نريد القبض عليها
الأرض الفرحة
الأشد فرحًا، هو من سينجح في القبض.

بَلغْنا مَقصدنا في العَشِي، لم تكن هناك شمس لأُسمِّي الوقت غروبًا، ولم أجد أفضل من هذه الساعة لمُلاحقة الجَزْر، البحر بعيد وسيشرع من الآن في الابتعاد، كما أعرف أن مَدَّه محدود. هذه المساحات من الانسحاب، من الفراغ مُغْرِية، مُدوِّخة، مثل سماء ناضجة بالنجوم لا تَنِي تَعدُّها وتعيد العد ولا تظفر بالعدد. هنا آثار خطوات كانت، ورمل تلاشی تحت رمل، وبحر المانش الخافت بلا موج. بحر كأنه على خلاف مع اليابسة؛ ولذا لا يكفُّ عن الهرب بشساعته المنكفئة عليه، ما علاقته بي؟ مرة رأيتها عند صخرة سوداء، من جهة «تروفيل»؛ أي إنك تَعبُر الجسر القصير من «دوفيل» وأنت فيها. هنا حيث تقيم وقتًا من العام، أظن أن هذا حدث قبل عامين من وفاتها القريبة، هي، و«يان أندريا» عشيقها وسكرتيرها ومستودع أسرارها، يان، هذه مرغريت. بيني وبينها المساحة المنسحبة، وعِوَض أن أنظر باتجاهها، رحتُ أُوجِّه بصري حيث نظرَتُها مرمية، التي أقامت سريرها ووضعتْ وسادتها على حافة الماء سيبقى دائمًا على حافة الماء. هذا طراز من العشق المتبادَل لا يكابده إلا العُشَّاق ولا يُقْرَأ في الأوراق مهما عَجَّت بملفق الأخيلة، والكلمات الفقاعات، مثل صياد ماهر وصَبور رمَتْ بقصبتها ونظرتها في الماء وجلست في داخلها تنتظر، كان أندريا إلى جانبها، لا بَل خلْفَها قليلًا، كما ينبغي له أن ينتظر انتظارها، حين تُحرِّك شفتيها: يمسك بأول سمكة – عشيق خرج من البحر عابرًا فراغ الجَزْر ليتحوَّل إلى كلمة اسم معشوق فيُدَون بسرعة، خشية أن يزحف المد بلا توقُّع ويبلع العشيق، تتكرر العملية، وإذا بهم حشد من العُشَّاق، والبحر يزداد ابتعادًا أمشي فيه كأني أريد أن ألحسه عن آخره؛ لأكتشف أخيرًا أن همي العبثي القبض على نظرتها مثل أطفال «ريلكه» يريدون القبض على أرض الربيع الفرحة في وقت آخَر. تبعتها إلى «هونفلور» في الضفة الشمالية للمانش بحجة كاذبة لإعادة تركيب فضائها. دخلت إلى الحي العتيق، وصاعدًا الدَّرَج الصخري، مُتحسِّسًا الجدران الصخرية بحذر مثل مَن يتخبط في مغارة، أعطاني صاحب مطعم «القراصنة» نعت الباب والنوافذ، حين أوشكتُ على طَرْق الباب أطَلَّت من شُبَّاك قريب امرأة مُسِنَّة تشبه امرأة الكورس الغنائي وبادرَتْني بالسؤال: لعلك جئتَ من أجل السيدة دوراس؟

– ربما، أجل، بلى.

– أخشى أن تكون قد جئتَ من بعيد، فهي قد رحلَتْ.

– رحلت؟! ألا تعرفين إلى أين يا سيدتي، ولكِ منِّي مكافأة؟

– ألا تقرأ الصحف، أم إنك تمزح؟!

– الصحف، هذه مشكلة أخرى، ولكني رأيتها البارحة في بحر دوفيل.

– أنت فعلًا إنسان طيِّب، جميع سكان هذا الزقاق يرونها كل مساء تطل في ساعة من الليل، تطل من هذا الشُّبَّاك أو ربما في أي ساعة.

رفعت بصري حيث أشارَتْ، فرأيتُني مباشرة قبالةَ بحر يمعن في البعد، وأنا ألهث خلفه، فما أزداد إلا بُعدًا عنه، والمدى شاسع والأرض تحتي تنسحب، أو شيء مثل قدمي يغُوصان والرمل صاعد فوقي أخيرًا إلى أن أدركني ميشيل يسحبني، وهو يقهقه ويفتي في أمري: أنتَ تُلاحِق الوهم، فالجَزْر هنا بعيد، بعيد. ربما من الأفضل لك أن تعود إلى «باب الجنوب».

– ربما.

دوفيل في ١٦/ ٤ / ١٩٩٦م 

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥