ضياع في الأندلس

كنا نتحدث عن الموت، كنا بصدد القتل. هكذا ببساطة كما يقال في نشرات الأخبار؛ أي إن الأمر يتعلق بالعثور على عشرات الجثث المثقوبة بالرصاص، والمبتورة الأعضاء، جرَّاء القصف الجوي الذي قامت به طائرات تلك الدولة المسالمة التي تدافع عن حدودها وأَمْن مواطنيها، ولو لم تكن نواياها سليمة لَما رأيتُم لُقَطاء كانوا بالأمس من دمنا يحملون إليها بقية من دمنا، لِتَجِد عذرًا إضافيًّا لتذرف مزيدًا من الدموع أمام حائط مبكاها. طبعًا ليس على دمنا المستباح.

كنا نتحدث، إذن، عن ذلك الشيء، النَّزْر اليسير، الذي لا يساوي مثقال ذرة، وقد آنَ الأوان لِيجِفَّ حِبْر هذا القلم ويركن صاحبه إلى صمت المَقْت بعد أن أُبْرِمَت في جميع أركان المعمور اتفاقيات لا تحتاج إلى توقيع بالأحرف الأولى ولا الأخيرة، فالأبجدية تَبخَّرت، والحروف في «لسان العرب» بهتت، تحتاج فقط إلى وضع بصمات برءوس مَحْنِيَّة ودبر مُعلَّقة في الهواء، وتعميم حملة قومية يقوم الفَعَلة الرئيسيون فيها بإِلْغاء الحسِّ والنَّبض والعبارات والملامح المنفرة، الغاضبة، المطالبة، المُحتَجَّة، الرافضة، المُوَلْوِلة، المُحذِّرة، المُشاكِسة، الموتورة، القَلِقَة، المُتسائِلة الأمَّارة بالسوء. الأصوات الغليظة، المناهضة لاستتباب النعومة، المتمادية في طريق الحشرجة، المُتشبِّثة بخشونة، لا، المجانِبَة لصواب نعم، وللغة الجديدة للفعلة المنعمين … وأخيرًا بصدور بيان ختامي يلغي حرف الضاد في العربية ويسميها لغة نعم.

نعم يا سيدي! نعم يا مولاي! نعم يا سيادة اﻟ… «نعم، أنا مُشتاق وعندي لوعة.» نعيمًا. ألن تَكفَّ يا أنت عن تشاؤمك؟! هكذا خاطبَني رفيقي، ونحن نُغادِر المدينة المثقوبة آخِذِين طريقًا انتشرت على جانبيها الزَّرابي مِن كل رسم ولون: إنك أدمنتَ النظر إلى داخلِك، إلى الخَلْف جدًّا، إلى قاع صَفْصَف اسمه الفوات، وتأكَّد أنك لن تقبض على شيء منه؛ فالحاضر عِوضه، وإذا لم تَتدارك نفسك ضاعَ منك بدوره.

وانظر حولك، ستَرى أن الجميع يمارِس لعبة التَّخلِّي، وفيها فنون وألوان، لا أغويك بدخولها، فسواء فعلتَ أو لم تفعل فهي، بطريقة أو أخرى، قد اكتملَت، ولن يلحقك فيها الدور؛ لأني منذ سنين وأنا أشاهد الصفوف طويلة عند بابها، تصرف مثلي، انْفِض يدَك مطلقًا؛ أي خذ الحياة كما تأتي إليك لا كما تريدها بالضرورة. فإن أحسستَ بالضَّجر فلا أفضل من أن تعالجها بوصفة ناجعة اسمها السخرية.

اضحك ملء شدقيك. ابتسم بمكر أو بخُبْث أمام حلقات الفُرجة المبذولة مجانًا؛ سترى إلى أي حدٍّ أن المشهد مِعطاء بالهزء، بالصغار والغثاثة، القفا الغليظة تُغريك أنت بخبطها، والوجه المُبَهرَج بنزع جلده، ومَن يمشي كالراقص أو يرقص كالماشي، والكذوب المُلتاع بجبنه تَتحرَّق للدغه، فيما مُتعَتي أن أراه متهتكًا في الرقص، عَهورًا في الكذب، وشيخ طريقة بين ما يظهر ويبطن، يسجي جفنيه دون ناظريه لا حِشْمة أو هَيبة، ولكن خشية أن يُضْبَط مُتلبِّسًا بالصفاقة وهو صفيق. نحن لا نعدم الرجال، إنما بينك وبينهم ألْفُ حجاب فَهُم إما يعكفون على صلاة تَخصُّهم أو يَسعَون بحثًا عن ضالَّة المومن، وهذه لا تُحْتَسب بحساب، كما لا يحتاج المُتسنِّم لذُراها استعراض محاسنه أو مباذله، وأصدُقك القول إني أخشى جانِبَ هؤلاء، على نُدْرَتهم، خوفي من نفض اليد دفعةً واحدة من هذه الدنيا والنزوح لشأنك إلى أقاليم الفوات؛ لذا، ودفعًا لكل هذا، تراني كالأبله لا أكفُّ عن الابتسام طاردًا به أشباح الشؤم والتطيُّر، وهذا كل ما في الأمر يا سيدي! نعم يا سيدي! نعم يا مولاي! أما الباقي فإني لا أجد عنه أبلغ من قول الشيخ درويش في رواية «زقاق المدق» لنجيب محفوظ، التي تعرف، حين هتف مُنشِدًا:

وما سُمِّي الإنسان إلا لنسيه
ولا القلب إلا لأنَّه يتقلَّب
هنا أظن أن رفيقي انقطع عن الكلام وأشعل سيجارة سحب منها نفسًا عميقًا، كما نقول في القصص، ثم حاصرني بنظرة مَن يتوقَّع تعليقًا أو مشارَكة في هذه الحِكَم البائرة. بقيتُ مستغرقًا في صمتي أطولَ وقت ممكن، مُرخيًا الطرف بين زرابي الطريق والسيارة، كأنَّها مدفوعة وحدها بريح مُيَسَّرة، إلى أن أحسستُ بإلحاح نظراته، فخاطبتُه بنبرة مَن لا يريد الخوض في أي كلام أو سِجال: لك ما أنتَ فيه، أما عن الباقي فإني بدوري لا أجد أبلغ من قول الشيخ درويش نفسه في خاتمة الرواية المذكورة، وقد وَحْوَح متنهدًا وقائلًا: «یا ست الستات … يا قاضية الحاجات … الرحمة … الرحمة … يا آل البيت، والله لأصبرنَّ ما حَيِيتُ، أليس لكل شيء نهاية؟ بلى لكل شيء نهاية …» ومعناه بالإنجليزية end وتهجيتها end.

وهجم علينا جمال الخارج هُجوم الحرَس، هي ذي الطبيعة ساحرة والربيع حل بفتنة لا تُضاهى، تَتمنَّع عليَّ الكلمات، لا يَتسلَّم الكلام أحيانًا إلا العَجزَة أما البُلَغاء فيفيئون طويلًا في ظل الإشارة، لا أحب البشر الضحوك، المهذار، أو مَن يَتفشَّى حزنه على وجهه كالدمامل، الحزن الأصيل خبيء، مُجهِد للروح، مُلغِز وناطق كالإشارة، هو ذا الربيع اغتنمه أيها الرفيق المُبتَسِم كالعذوبة، خالص الطَّويَّة مثل المُتعبِّد في سحر ما ترى ولسان القلب منك يهتف باشتياق للقاء وشيك يقفز منه منه أسفٌ مُمِضٌّ، مقرور ومُلتَهِب: ليتنا كنا جديرين بهذا البلد!

بدت فاس من مدخلها، وبجبل زلاغ في المدى القَصِيِّ يحنو عليها، جديرة باسم المدينة. لم يكن الوصول إليها عندي قصدًا فهي المقصد دائمًا وإن كنت عنها في غياب وهي معي على عتاب، وما أعرف طبعًا غير هذا يدوم بين الأحباب، أجمل المدن ما تصل إليها استطرادًا لا تسلسلًا، وبالإرادة المحض، مثل كتابة تصل إلى موضوعها وأنت عنه شارد إلى أن يَينع بين أناملك مثل معجزة باهرة، عندئذٍ تقفز من السيارة وتَنضو عنك ثوب الوافد لترفرف فراشة بيضاء بجناحَي طفولة مطلع العقد الستيني، تحط عند مدخل باب أبي الجنود. فكأنك وصلت أمس نازلًا من كار الغزاوي حاملًا حقيبة صغيرة وزوادة بها بقية بيض مسلوق، وبرتقالة، ونصف خُبْزَة من عجين الدار. بالأمس كنت جسدًا يَتكوَّن، ذاكرة تَشحن وأُذنًا تَتعلَّم الإنصات إلى نبض التاريخ، ليس غير فاس توقعه. واليوم حفَرَت الغربةُ أخاديدها على جِلْدك، وشَطَّ المزار فإنك تَحوَّلْت عينًا، إنسان العين تريد أن تلتهم كل ما ترى أو تستعيد من المرئي كل ما لا تراه. يقول الفاسيون إنهم سيحوفون (ينزلون) إلى فاس، أما أنا القادم إليها، نسغها من تيرس الشاوية المنقوع بندى باب أبي عجيسة طرقَه أبي ذات يوم في مطلع الأربعينيات واضعًا هالته المباركة على العتبة فلا تخشع إلا في محراب القرويين، هم ينزلون وأنا إليها صاعدٌ أقبض على الأسوار، وأتطلع إلى الأبراج والقباب العالية، أَطُلُّ من عَلِ فيما يبدو منحدرًا وأنت تضع الخطوة الأولى في «الطالعة الصغيرة»، يقودك الحدس وسلافة الذِّكْرى. على يسارك تبقى «الطالعة الكبيرة» زاوية منحرفة، هامشًا، حوانيت شاي وصحون بيصارة للفقراء، مستورين بسقف ظليل من قصب يحجب عنهم كل شيء إلا رحمة الله.

في الطالعة الأم تسبقك بضع خطوات فإذا بك حاذيت مَتْجر الشاوي بجواره الكتبي يهتف ما إن يراك: أهلًا بأولاد الجامعة القدامى، فمن يا ترى بجواره؟ إنه عادل! لكل مدينة فتاها، وعادل فتى فاس الأزلي، يملك مفاتيحها ومخزون أسرارها. من خابية محبة مُعتَّقة يسقيك باسم مَحتِده ونيابة عن كل الفتيان النجب. من لم يقابله أضاع نصف المدينة، والنصف الآخر يتسلسل فيه من الصعود باتجاه سويقة بن صافي — رغم النزول أنا لا أحوف بل أصعد — وكما تَغمُرك الرؤيا من حيث لا تتوقع ترفع بصرك علوًا إلى اليمين فتقرأ: يان، الزربطان، الزرب، طان، هو ذا الاسم الذي الْتَوى بلسانك طفولة بكاملها، فانَسسَلَلت ذهابًا وإيابًا في هذا الزقاق تستهويك موسيقية الاسم وتَمَوُّجك فيه كالسمك في الماء مخاتلًا ألَّا يراك القهوجي. على الجانب الأيمن من السويقة قُبالته دكان سعيد للكُتب المستعمَلة، فمحاذرًا النظر إلى أفق زقاقهما الذي إن سرتَ فيه لا بُدَّ سيقودك طولًا فطولًا إلى دار المقري، ومنها لا مناص لك من العبور بوادي الصوافين، فتكون من الجاحدين إن لم تخشع أمام بوابة «مدرسة السعادة». فمن أين لكَ الصبر عندئذٍ كيلا تجرفك الذِّكْرى وتغرق في الحنين؟ ليس إلا عقبة الفئران عند ناصية الوادي منه تهبط لسانًا منحدِرًا، وإنما إلى ثانوية البنات، ثاوية في سُرَّة العقبة، فهن البنات، الصاعدات، الهابطات، المترَقْرِقات الضحكات، الفاسيات لا يشبهن إلا أنفسهن يغار منهن كل مُشبه ومُشبَّه به، فطورك مقطوف من غمازة عَين هي حقل وسلسبيل من زُرقتها بصفو الأديم، وعشاؤك تستدرجه من طلاوة خدودهن الرُّمَّانية والبضاضة المأسورة في صرامة اللباس المدرسي. وبتَّ تَحلم إلى أن طلعَت عليك شمس فاس بعد ثلاثين عامًا ونيف سوالفها مُتهدِّلة على فُودَيك الأَشْيَبَيْن، ودلالها سَكُوب بالغواية الدائمة، لا، لن تأخذ الزقاق، إياه وإنما تَتسنَّم سُلَّم «زقاق الحجر»، فهو المدخل الصحيح للمدينة، ومن أخطأه ضاع منه الطريق إلى قلبها، وكل له قلب فيها، فاطلبوا الصبر والسلوان للعاشقين.

منهم مَن يقصد الزيارة في مولاي إدريس أو يصلي ركعتين في القرويين، أو يَتذوَّق ذكرى طعم «التحيمضات» في العشابين، أو يحتسي حريرةً لا يعلى عليها في باب السلسلة، ثم يشتهي أن يقتني من أطاييب سوق الرصيف اقتداءً بشيخنا سيدي محمد السرغيني — نفعنا الله بعلمه وبركته، آمين — الذي يَحُوف إليه من دار دبيبغ باكرًا وما إخاله إلا يسترق النظر إلى بكارة المدينة ويستمع إليها بين تلاوتها الصوفية قبل أن تَهج وتعج وتعلو حيطانها وممراتها «سمفونية» البلاك بلاك، بلاك … وصدمني حمل البغلة رغم أن صاحبها لم يَتوقَّف عن التنبيه: بلاك، وما أجملها من صدمة أوقعَتْني فوق نعليها قليلًا عند ساقيها، فَشممتُ مزيجًا من الورد والحِنَّاء والبخور، صحوتُ به من رضة الألم في ظهري الذي استقام صاعدًا. لا أعرف أهو إلى يدين ممدودتين نحوي تُسعفانني من عَثرتي أم صوت ناعس، مستسلم كنهاية موجة: الراجل، ما يكون باس، أنت في عار الله الراجل!

وحين تقابَل وجهانا رأيتُ الأندلس … وضعتُ في الأندلس، ونسيتُ أني بعد سوق الرصيف كنتُ أريد عبور الجسر إلى حي المخفية، ونسيتُ أني لم أَجِد مَن يرشدني إلى ثانوية النهضة … ياه، هكذا ضعتُ يا سيدي محمد الإدريسي — ألف رحمة عليك — وأنت يا الحاج التهامي دُفِنتَ في «دفنا الماضي» ونسيتُ أن شيخًا وقورًا قَبَّلت يده كأنه أبي أدركَني ليدلني على بقايا «النهضة» والمخفية، ولكني لم أجرؤ على اقتحامها؛ لأنه اقتحم سريرتي وهو يسألني: قل لي الحقيقة، عن أي شيء تبحث يا ولدي؟ رفعتُ إلى مهابته عينين بدمع عَصِي، وحين تقابَل وجهانا شُغِفتُ بالأندلس … وضعتُ في الأندلس.

٤ / ٥ / ١٩٩٦م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥