تبعات الهوى
(١) لغة المحال
يكفي أن ألتفتَ لأراها عبر زجاج النافذة تسلبني بالنظر، هي حديقة بيتي، بعدها يَمتَد الشارع السيَّار يجري وراءه نهر السين في دورته الأبدية، فجأةً سمعتُ ما يشبه الحزَّ أو آلة تنشر خشبًا.
حين احتدَّ الصوت مِلتُ بجسمي كله جهة الحديقة، بعد أن بدَت سمحاء وقد جاء البستاني أمس وهذَّب عُشبها وشذَّب شجيرات وردها. فوق ترابها تبعثرت أوراق خريف هطلت من شجرة علياء في زاوية الحديقة بدت ممعنة الصفرة، يابسة، في انتظار مطر المساء ولِتَذْرُوها الريح مِثلَما تَذْرُوني أعوام الغربة من فصل لفصل … فجأةً رأيتُهم. إنهم هم، قتلة الأشجار، عند ضفة النهر تَتسلسل الأشجار بفروعها تَمِيس في ارتفاعها مثل أيدٍ متضرِّعة، الغصون منها هشة والأوراق لَهْفَى تُناوِشها ريح رعناء لإسقاطها، بينما يتناوب التماع الأخضر والأصفر تحت شمس حيية على وشك الانسحاب، هنا كان رجال ضئيلو الأجسام قد أحكَمُوا الطوق حول الأشجار بمناشيرهم الكهربائية يعملون بها قطعًا في الفرع وغصنه.
تتوالى اللحظات وها هي الأشجار صلعاء وهُم يقهقهون بين تشابكاتها بغباء، والطيور التي تأوي إليها عادةً تهجر هذا الموسم، أما أنا فباقٍ أشهد المَجزرة ولا قُدْرَة لي على البقاء، بعد أن نَشر الفصل الآخَر أجنحته لنحَلِّق فوق السحاب مُخترقِين سدف الغياب، مشتعلين في حريق، مَن يقول لي اسم ناره؟!
الحاضر يأخذ الآن شكل أشجار مَحزوزة الرأس وفي جنبي يرتعش البَرْد القاضم لفصل يهجم، وفصْلِي الجديد معي، هو نار وبَرْد، حُمَّى ورفيف، الليل مسكون به والنهار منه في ذهول، وأترك الآخَرِين خلفي يَتسقَّطون فُتات الدَّس والإشاعة، يا للبؤس! أما جوهر الحكاية فليس سرد أخبار، إنه السر الضميم لا يشاع إلا في صوفية كتمانه، في سريرة اغتدائه بهمسه.
والحكاية مَجاز، ومن معانيه لغة العبور، نحو خيال، نحو جسد أو كلمة، أقف أمام الكلمة، الكلمات، نختلس النظر لبعضنا. يُدَمْدِم فينا الوجيب مرةً وأبدًا للوجه الرغيب، هي مقبلة وأنا ذاهب وثَمَّة مرج راعف بالنظر مثلما يعتلي الموج البحر فيكون بحره، لو قالها اختفى المرج، ستُقال، ستَتبَدَّد، تُمسي كانت لا كائنة لتكون، أقِف تحت شُرفتها وأنا أُطِل منها لا يدري بصري أين يذهب سوى لسماع انهمارها حين يأتي، أَتلقَّف كل ما ينحدر منها لأصعد بها إلى فوقي، وَيْحِي، أنا الذي يعجز عن قولها؛ إذ كيف تكون توءم الجمر وتَتهَدَّج بلغة المحال؟!
(٢) لون الحريري
السماء فوق الرأس ذات لون رمادي قاتِم، سماء رصاصية مثقلة بالغيم ولا مطر، الصديقان محمد عابد الجابري وإدريس الخوري يُحبان اللون الرمادي هنا وأنا أعشق الأزرق هناك.
هناك لا أفعل شيئًا سوى اختزان الأزرق في عيني، لا بل أحتسيه احتساءً، حين أعود إلى هنا أخفض بصري بحثًا عن الأخضر والحجل يُحلِّق في عيون خفية، لا فكاك لي الآن من هذا التقاطع، هنا وهناك، نحن جميعًا نتراوح بين مكانين بحثًا عن المكان واللون المُفْتقَد.
سأسميه لون عبد الله الحريري، الفنان قادر على اختراع الألوان، فيا عبد الله هَبْ لي لونًا بين الأزرق والرمادي يُخفِّف عني … عنَّا بعض تبعات … هذا الهوى.