هي الأرض حول القمر

(١) وصف العبير

إذا أردتَ أن تتكلم، فماذا تفعل؟ ليس اليوم فقط، بل أمس وغدًا، أيضًا، كيف تَكلَّموا؟ أي هم، أصحاب اللسان العاقلون المتدبرون، أصحاب النباهة والوجدان. المتآلفون مع الخلق، المشخصون لسمات الوجود بين الشَّذَى والمدى وسؤال المصير، فهُم مَن أعني وإلا فإن البقر يخور، والنعاج تَثغُو، وللثعابين فَحيح، والكلاب، كما نعلم جميعًا، تنبح، فسبحان الخالق وضَع لكل مخلوق صوتًا يواتيه، يعرف به ولا يمكن أن يحيد عنه. كلٌّ لما يُسِّر له، واللسان أَلْيَق ببني آدم، والشكر للخالق الوهَّاب الذي نزَّهَنا عن النهيق، فأنكر الأصوات صوت الحمير.

أجل، كيف تَتكلَّم إن رُمتَ أبعد من السياق التداولي، النَّفْعي، ذي المرجعية والعلامات المحدَّدة؟ فأنت لا تنسى اللغة، مخزونها، صورها، رموزها ولا إحالاتها العديدة؛ فهي جسد آخَر مركَّب فوق جسدك، قُل: هي روح أخرى تنطق فيك، وقليلًا ما تعي أنها تنوب عنك وبالرغم منك لتتحدث بما تريد ولا تريد، لتنصب لك فخاخًا، أو تنثر أمامك مُروج حلم، أو تُقوِّلُك ما لا تحب، ومنه عثرات اللسان. فكيف إن وعيتَ تمام الوعي أنك أَسيرٌ لها؟ مرامك التخلُّص من شرنقات تركيباتها القبلية، مَبنًى ومعنًى. وكيف بك إن أحببتَ أن تكون أنت حقًّا لا سواك، حوَّلك إلى ببغاء، أو وضَعَك موضع السخرة بلسان مُعار يرميك في حمأة المَعَرَّة، يلبسك جلدك، ويمسي لسانك مبتورًا منك حين تصبح في العراء.

لا عجب إذا كان الصمت ضالة المؤمن، يستغرق فيه كالناسك بما يُصِمُّ سمعه عن لغط القوم حوله وما يأتي نطقه إلا للتبتل والعبادة. والكتابة ضرب من الكلام عدا أنَّ نَهْجَها أوعر، ومشاقَّها تحتاج لطاقة تتحمل وأكثر. وما كل كلام كتابة، ما أوقعنا في خلط بات لغطًا عسيرًا تبديده وقد تفاقمت التسميات والتوصيفات والتذييلات وتشابَهت تشابُه البقر علينا، وما عاد من وسيلة للاهتداء وسط معمه وبين معميات إلا من رُزِق ملكةً صافيةً، وحسًّا مصقولًا، وذائقةً مدرَّبةً، مُحصَّنةً دون هجوم النافر واكتساح الجراد، أو نأى بنفسه إلى خلوة الأصفياء؛ ليحمي طبع التغريد بعيدًا عن النقيق في كل مكان.

فلعلَّك بعد هذا مُخرِج أحشاءك، راغب عن رغاب الكلام الصُّغرى بغية الالتحاق بامتدادات الفناء والغناء في الكلمة، الكلمة تجمع الكون والكائن بين قبل وبعد وقليل من الفيء مأواها. أكيد لهذه الكلمة اسم يراوغك في بحثك، يراودك كلما اشتدَّ قنوط الرتابة خيط ضوء أو فراشة بيضاء تحت شمس يونيو طليقة في النهار، محترقة بالليل في ضرام تخيلاتك. وبين أن يتَّسع الخوف من تدافُع الزمن، وتضيق الأرض هلعًا من ضمور الأخيلة تَستنفر الخيل المُجنَّحة تنشد كبار الخطوب، فالكلمات ما وُجِدَت لمنازلة القراد، ودَعْكَ من وصف تفاصيل صياح الديكة؛ هي لمبايعة موكبها تَأْذَن للصبح بالطلوع من شُرفة البنفسج ولا تغرب الشمس، إلا أن تأذن للغروب بالغروب. ربما كان هذا بعض اسم الكلمة، أو ترامي أعضائي الواحد تلو الآخر أطراف أرض ألُمُّك من شتات.

هكذا يبدأ التكوين الأول. ها أنت تضعين قدميك فوق تراب الحدوس، وبالهدب تبصمين على خريطة الشفوف عسانا نَعْبُر في خِفَّة الملائكة من الطرق التي تبدأ منك ثم نرتمي، إذ نتنكَّب عنك، في كل هذا التيه. الهزيع الأخير طال ولم نهتدِ بعدُ إليك، إننا في مطلع الزوبعة. ها هي الزعانف تتساقط والوقت كعصف مأكول، أما جسدك فشارد كالأثير، فمَن أنت لأحلم بأنِّي سأسميك … أو أتوهم وصف العبير؟!

(٢) اسم القبيلة

حفظته ألف مرة، ثم عدت أنساه ألف مرة لكيلا أستبقي منه شيئًا، ذاك العبير الشارد، المنفلت. فما هذا الذي ينبغي أن يُنْسى ويطوله المحو بإرادة مني؟ وما ذلك إلا لأني لست واضعه، صاحبه، رغم أني أحمله، أحمله. منذ أن نَضوت عني ثيابي للمرة الأولى أمام البحر وتقدَّمتُ نحو الموج رافعًا إلى الماء يدين مُتضرِّعَتين، بدأتُ أنتعش برغبة التجرُّد، أنزع، أنزع حتى لا شيء إلى تُخوم الزَّوال، حتى لا أبقي كل ما هو مُركَّب قبلي لأكونني وأنطقني بفصاحة الهواء، وبعد أن خضتُ في الماء عامًا بعد عام، والبحر لَجَب والموج اصطخاب، صار مركبي يهبط عميقًا دون الزَّبَد، فوقي الطحالب وطريقي معلومة بين المَحار والصَّدَف، عنها تاه القراصنة العميان حين انشقَّت السماء فأصابتهم بشهابي، وانشقَّت الأرض تحتي فإذا البحر خلفي سفر غياب.

حسنًا ما صنعتَ أيها الراحل في نسيان اسم القبيلة، المتكلف عناء إعادة شحذ الفحولة في سلالة «النساءات» الجديدة، هنا حيث لا ذكورة ولا أنوثة، الكلمات خلاسية تخرج من أفواه قردة في شكل مَردَة. ماذا تبقَّى من تاريخ الأسماء بعد غيابك، وجوه من بثور أم ذكرى غابرة لشقائق النعمان؟ بدل البحث عن جواب رحتَ تبحث في اشتقاق الألوان، وتصافيتَ مع سحر الليل وصفاء الماء، كما آخيتَ الأشجار وتباريح الفصول، كلما مرَّ يوم زاد بُعدُك عنهم دهرًا؛ إذ صرتَ تنسى ما لا يُنْسى في عرفهم، له يسجدون وبه يعرفون، وأنت ما همك أن تكون أو لا تكون إلا بيد ممدودة لغير زُلْفى وراحة مبسوطة تحت المطر، حين أنختَ راحلتك عند واحة القوم وقد جاءهم العام صبيبًا، وأنت في لحظة من صحراء العمر، طلبتَ ماء فَشحُّوا به ولو بصُبابة، وقالوا: أَجِب أولًا، ما اسم القبيلة؟

(٣) عشاء القبيلة

فككت الوثاق عن الراحلة، شددت عليك النطاق، وشمَّرْت، فما هؤلاء بشر، وخُضت المفاوز متجمِّلًا، متحمِّلًا عطشك، بعد أن فُتَّهُم بمسيرة يوم صادفت مَن خُيِّل إليك أنك عرفتَه أو ستعرفه، وكان بادي العياء، بلا ركوب وزوادته مخروقة، ومن يده تتدلَّى قربة بها بقية ماء قاسمتها بالقطرات. شَفيتَ الغليل خير من مائهم المغيض، وعالَجْتَه ببقية من رغيف سدَّ فيه جوعًا متضورًا، ثم ساءلته: من أين؟ وإلى أين يا ابن السبيل؟ فبدا كمن يستنكر السؤال، أوَليس حالك من طرز حاله، وها الجوع والعطش لكُما بالمرصاد في هذه المَهْمَه الموحش والبشر العقبان؟! ثم ما لبث وقد خفَت جوعُه وخفَّ وهَنه، أن شرح لك صدره وأرخى خيوط الحكاية:

«إذا كنتَ قاصدًا هذه الجهة من حيث رأيتني جئتُ فأنصحك بالرجوع، وخير لك أن تنحر راحلتك هنا وتَقتات بها على أن تُنْحَر أنت وإياها هناك، فكيف ذلك؟ اعلم أني وقد تَعوَّدتُ على الضرب في الأرض هواي اغترابي وتعسى مقامي. وعندي ما يكفي من الرزق للعيش في كَفاف وعفاف، فأقلُّ الزاد يكفيني، وإذا عسر حالي وأنا في التجوال، لا أعدم الكرام تُرى نارهم عن بُعد يُطْعِمون ويُزوِّدون للطريق. إلى أن اتَّفقَ لي ذات يوم، بعد أن خضتُ جبلًا وسهلًا، ونفد ما كان عندي من طعام، ومن حسن الحظ، كما قَدَّرت، أني وصلتُ إلى بر ظاهر خيره عميم على ما رأيتُ في المشارف، فقلتُ: إني أصبتُ والله باختيار هذه الوجهة. وما هي إلا ساعة أرخى الليل سدوله مع وصولي حين رأيتُ فانوسًا يدلُّ على حانوت في مدخل البلدة فقلتُ أشتري منه شيئًا، فلما بلغته وجدته مغلقًا. وبعد هُنيْهَة لمحتُ ضوءًا قادني إلى مكان كُتِب على لوحة فوقه اسم مطعم، فقلتُ: هنا سأصيب طعامًا، ولكن عبثًا؛ فقد كان بدوره مغلقًا، وهكذا إلى أن أنهيتُ كل ما هو معلوم للقوت. عندئذٍ قلتُ: سأطلب ضيافة الله، دائمًا عبثًا، فما استجاب لطَرْقِي باب، فحصل لي العجب كل العجب، فهل هذه أرض أموات. وبينما أنا كذلك في حيرتي وسط ساحة البلدة اقترب مني رجل كالشبح وبادَر يسألني عن خَطْبي، فأجبتُه كاليائس بأني أبحث عمَّا أسدُّ به الرَّمَق والحال كما ترى! دنا مني حتى صار لصقه فظهرَت لي أنيابه ناتئة، مُدمَّاة. ولما لاحَظ استغرابي بادَر قائلًا: هوِّن عليك فإني الليلة شبعان، ريَّان، فلم أفهم شيئا، فزاد مُوضِّحًا: لا قُوت لك الليلة إلا أن تقصد بيت كبير أهل البلدة؛ فالسُّكان كلهم هناك حول عشاء ميت شريطة أن تكون من أكَلَة لحم الأموات، ولمَّا لاحَظ أني أرتعش سارع يشرح: القوم هنا، على ما يكنزون ويطمرون، دائمًا في مَسغبة، فتراهم إذا زهقت روح أحدهم وارَوْهُ التراب ثم عادوا في اليوم ذاته ليخرجوه من قبره ويُولِمُوا عليه، واجدين في لحمه لذَّة ما بعدها لذَّة، فما لك غير تلك الوليمة إن أردتَ أن تصيب الليلة طعامًا. أما إن كنت تأنف أكل لحم أخيك فإني لك من الناصحين بالرحيل من ليلتك قبل غدك وإلا علموا للتَّوِّ أنك غريب، ولحم الغرباء عندهم أطيبُ من المسك. أدرِكْ نَفْسك قبل أن يُجْهِزوا عليك وأنا غريب مثلك وما عافُوا لحمي إلا لأنهم وجدوه مُرًّا.»

ودَّعتُ الرجل بعد أن شكرتُه على حسن النصيحة، وأطلقتُ ساقي للريح مُفضِّلًا المبيت على الطوى. وكدتُ أنسى هذا كله مع توالي الأيام إلى أن حصل لي أمس وأنا في تجوالي، ما ذَكَّرَني بمأدبة الكواسر. اعلم أني حططتُ رحيلي بسوق عامرة، قُدُورها تغلى وأثافيها كثيرة، والظاهر أن الحجيج إليها من كل فَجٍّ عميق، فقدرتُ أني واجد فيها لا محالة رفدي، وضامن زادي ليومي وغدي. ولكن حصل لي العجب حين رأيتُ سياجًا يقام حول السوق، ورجالًا مثل العسس يدفعون الغرباء مثلي خارجه، فلما استعلَمْتُ أحدهم عن الأمر أجابني بأنها أوامر الشيخ، وقد نَصَب الآن موائده ولا جلوس حولها إلا لمن نال عنده الحظوة، ووصلته خطة الأريحية بالهمس. بالهمس، كيف ذلك؟ هذه تقاليد الضيافة عندنا، أجاب العاسُّ، ثم انصرف عني وأنا أرقبه يقترب من واحد ويهمس في أذنه بشيء، ولما لم أجد حولي حوانيت ولا مطاعم بتُّ ليلتي على الطوى، كسابقتها، وأنا أداري جوعي بالهمس مُتعلِّلًا بقول المتنبي:

إني نزلتُ بكذَّابِين ضيفهم
عن القِرَى وعن الترحال محدود
جودُ الرجال من الأيدي وجُودُهم
من اللسان فلا كانوا ولا الجودُ

جود هو الحال إلى أن قابلتُك وقاسمْتَني رغيفك، بعد أن هجرتهم، لا أعلم لهم في الأرض نظيرًا، ولا أظن مثلهم سيُوجَد إلى يوم الدين.

فقلتُ لرفيق الطريق والتِّيه في نهاية الحكاية: لا نحفل بأولئك وهؤلاء، إني لآخذك معي إلى بلدٍ ما أكرمَ أهله وأبهجَ خلقه والأرض، الأرض، لو عملت دارت، تدور فيه حول القمر، و«إن يَبغِ عليك قومُك لا يبغِ عليك القمر».

 ٢٩/ ٦ / ١٩٩٦م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥